وكذلك نرى ڤولتير في هذه القصة يعطينا صورا ثلاثا من المرأة؛ فأما إحداها فهي هذه الفتاة التي تصلح موضوعا لمأساة رائعة، وأما الأخريان فهما هاتان المرأتان اللتان يلقاهما الناس في الحياة الواقعة؛ إحداهما كريمة لأنها قنعت بما قسم لها من الحياة، والأخرى متكرمة لأنها خضعت لما في الحياة من ضرورات.
وما دمنا نتحدث عن هذه النماذج الفرنسية فلنمض في الحديث عن نماذج فرنسية أخرى التمسها ڤولتير في أعماق إيران وفي أعماق التاريخ القديم، فقد ارتفعت الشكوى إلى السماء من هذا الفساد العظيم الذي ملأ مدينة برسيبوليس، وأمر ملك من الملائكة عونا من أعوانه أن يذهب إلى هذه المدينة ليستقصي أمرها، ويرفع إليه تقريرا عنها، فإن كان الفساد أغلب عليها من الصلاح دمرها تدميرا، وإن كان الصلاح أدنى إليها من الفساد خلى بينها وبين البقاء.
وقد ذهب هذا العون إلى المدينة فاختبر أمرها كله، فكان يسخط أحيانا حتى يرى فيما بينه وبين نفسه أن هذه المدينة يجب أن تمحق محقا، وكان يرضى أحيانا أخرى فيرى أن هذه المدينة يجب أن تستمتع بالبقاء، وواضح جدا أن مدينة برسيبوليس هي في أكبر الظن باريس، فأكثر محاسنها هي الخصال التي كانت باريس تمتاز بها، بل التي كانت فرنسا كلها تمتاز بها في عصر ڤولتير، وقد عرض علينا ڤولتير فيما عرض من شئون هذه المدينة، شئون السيدات الحسان اللاتي كن يستقبلن في دورهن، ويذهبن إلى الملاهي والمسارح، ويختلفن إلى المعابد والحدائق والمتنزهات، ويجمعن إلى جمال الخلق وحسن الشارة والبراعة في الزينة، رقة القلب وعذوبة الحديث، ودقة الإحساس، والتسامح فيما يتصل بالسيرة والأخلاق، ويظفرن مع ذلك بسماحة الأزواج وتلطفهم وإغضائهم حين يحسن الإغضاء، وربما كان أصدق تصوير لهؤلاء النساء قول إحداهن لهذا العون، وقد أظهر الخوف والجزع حين رآها تسرف في خيانة زوجها: إني لا أحب أحدا كما أحب زوجي، وإنه لا يحب أحدا كما يحبني، وإني أضحي في سبيله بكل شيء إلا بخليلي، وإنه يضحي في سبيلي بكل شيء إلا بخليلته، وأظنك قد عرفت أني أشير إلى تلك القصة الرائعة التي سماها ڤولتير «الدنيا على علاتها » -
Le monde comme il va - على أن هذه النماذج من المرأة الباريسية لم تصور في هذه القصة وحدها، وإنما صورت في قصة زاديج، فالبابليات اللاتي يختلفن على القصر ويحاصرن مكتب الوزير، ويتناجين ويتناغين ويتساعين بالكيد والنميمة فيما يتبادلن من زيارات، لسن في حقيقة الأمر إلا نساء الطبقة الممتازة في باريس وفي عواصم الأقاليم.
وأريد الآن أن أعود إلى أميرة بابل تلك التي تركها تجوب أقطار الأرض ساعية في أثر عاشقها ذاك الجميل، فقد صورت بعض شخصيتها ولم أصور بعضها الآخر؛ لأني كنت أتحدث عن هذه القصة أثناء العرض العام لمذهب ڤولتير في القصص، وأحب الآن أن أصور لك هذه الفتاة كما عرضها علينا ڤولتير، فهي محبة صادقة الحب، جريئة بعيدة الجراءة، مغامرة شديدة المغامرة، تشبه في ذلك الآنسة سانت إيف في قصة البريء، ولكنها أميرة سيئول إليها ملك عظيم هو ملك بابل، فقد نشئت إذن كما ينشأ الأميرات، فيها إترافهن وما يستتبعه الإتراف من الرقة واللين، ومن الضعف والفتور، ولكن فيها مع ذلك طموح ساذج إلى إرضاء هذا الحب الذي ألقاه الفتى في قلبها، وهي تريد أن ترضي هذا الحب لأنها تعودت أن ترضي كل حاجاتها، وأن تبلغ كل ما تريد، ولكنها على ذلك مترددة ما دامت في ظل أبيها الملك، وما دامت خاضعة لنظم القصر وتقاليده ، فكل خصالها كامنة في قلبها كما تكمن النار في العود أو كما يكمن الرحيق في العنقود، فيما يقول ابن الرومي، فإذا أذن لها الملك في الحج إلى معبد البصرة، وإذا خرجت من المدينة ومعها طائرها ظهرت هذه الخصال كلها، وإذا الفتاة محبة لا تعرف إلا الحب، عاشقة لا تعرف إلا العشق، مفتونة لا تفكر إلا في صاحبها، وفي أن من حقها ومن الحق عليها أن تراه، ولكن الظروف لا تواتيها، وإنما تخلق لها مشكلة يسيرة غريبة في وقت واحد، وهذه المشكلة هي التي ستدور عليها القصة كلها.
فقد انصرف الملوك من بابل مغضبين، فأما فرعون وملك الهند فقد تحالفا، وتم الاتفاق بينهما على أن يعودا إلى بابل غازيين كلاهما يقود جيشا قوامه ثلاثمائة ألف من الجند، حتى إذا تم لهما النصر اقترعا أيهما يظفر بالأميرة، وأما ملك السيتيين فقد اختطف ابنة عم الأميرة ومضى بها تحت الليل إلى مملكته فاتخذها لنفسه زوجا، وأزمع أن يعود إلى بابل غازيا ليرد إلى زوجه عرش بابل الذي غصب منها غصبا، وكذلك أراد ملك بابل أن يزوج ابنته الأميرة فورموزنت، فجر على نفسه وعلى ملكه شرا مستطيرا، وقد مضت الأميرة فورموزنت مع طائرها، ونزلت في طريقها إلى البصرة بفندق من الفنادق، وإذا فرعون قد نزل في هذا الفندق نفسه، وإذا هو يتعجل الفوز وينتهز الفرصة ويدخل على الأميرة في غرفتها، فيعلن إليها في صلف وغلظة أنها قد أهانته في قصر أبيها، وأنه قد ظفر بها الآن فسينزلها على حكمه وسيكرهها على أن تشهد معه مائدة الغداء، وهنا تظهر مهارة الأمير وسعة حيلتها، فتظهر لفرعون أنها لم تحب أحدا غيره، وأن الحياء والخوف هما اللذان منعاها من إظهار حبها، وأنها حين تقبل دعوة الملك إلى الغداء لا تنزل على حكمه وإنما تنزل على حكم الحب الذي ملأ قلبها فتونا، وهي بهذا الحديث قد فتنت فرعون وأنزلته هو على حكمها، وقد اتفقت معه على الغداء ورغبت إليه في أن يمنحها ساعة أو ساعتين لتصلح من شأنها استعدادا لهذه السعادة، ولم تكد تخلو إلى نفسها حتى دعت وصيفتها وطبيبها وتقدمت إليهما في أن يسقيا الملك وأعوانه وجنده إذا كان الغداء من نبيذ شيراز على أن يدسا في هذا النبيذ مخدرا يدعو إلى النوم فلا يرد النوم له دعاء، ولم يكد القوم يمضون في غدائهم وفرعون يداعب الأميرة حتى كانوا قد شربوا فأسرفوا في الشراب، وحتى كان نبيذ شيراز قد أغرقهم وأغرق الجند معهم في نوم عميق، هنالك انسلت الفتاة وحاشيتها، ولكنها لم تمض إلى البصرة لتنفذ أمر أبيها، فقد نسيت أباها وأمره والبصرة، وإنما مضت إلى أقصى الهند لتلتمس عشيقها أمازان، وقد بلغت أقصى الهند، ولكنها لم تلق الفتى وإنما لقيت أمه محزونة بائسة، وعرفت منها أن طائرا ماكرا قد شهد غداءها مع فرعون وأنبأ به الأمير فرآه خيانة بغضت إليه الحياة، فأزمع أن يطوف في أقطار الأرض، يلتمس العزاء عن حب هذه الخائنة، وشرط على نفسه أن يكون وفيا لهذه الخائنة إلى آخر الدهر، وكذلك نشأت العقدة، فالفتاة بريئة أمام نفسها وأمام الحق، ولكنها خائنة في رأي حبيبها، وهي تريد أن تطلبه حيثما كان لتظهره على براءتها من هذه الخيانة، ولتستأنف معه هذا الحب السعيد، وقد تبعته إلى الصين فعرفت أنه أقام في قصر الملك أياما، وكاد يطيل الإقامة لولا أن أميرة من أهل القصر فتنت به وراودته عن نفسه، فأبى عليها وفر منها وترك لها كتابا رقيقا يعتذر فيه من هذه الغلظة؛ لأنه يحب أميرة بابل، وقد أقسم أن يظل وفيا لها إلى آخر الدهر، فلا تكاد الأميرة تقرأ هذا الكتاب حتى يجن جنونها، وحتى تلاحق حبيبها في كل مكان، وهي لا تصل إلى مدينة إلا عرفت أن الفتى قد تركها رافضا حبا يعرض عليه، حتى طوفت في أثره أوروبا كلها وكادت تلحقه في إنجلترا، ولكنه عاد في الوقت الذي كانت تعبر فيه البحر من هولندا إلى بلاد الإنجليز.
على أنها أدركته آخر الأمر في باريس، ولكنها أدركته على شر حال، فهذا الفتى المتيم الذي قاوم الأميرات في جميع قصور الأرض لم يستطع أن يقاوم باريسية، وأي باريسية؟ ممثلة من ممثلات الأوبرا. رأى تمثيلها وسمع غناءها وأحب أن يقدم إليها، فلما عرفها وقع في الشرك، وتأتي أميرة بابل فترى هذا الفتى وهذه الممثلة على شر حال، وقد ضاعت الآمال، وانهارت قصور الأماني، واشتعلت الغيرة حتى حرقت قلب الفتاة وعقلها تحريقا، فهي تهجر باريس مصممة ألا ترى هذا الخائن، وهي تذكر أباها الآن وتذكر أنها خالفت عن أمره، وتريد أن تعود إليه وتعتذر وتتوب وتثوب إلى الطاعة والخضوع، وتتعزى عن هذا الحب الذي جابت من أجله الدنيا كلها ثم آبت منه بالخيبة والحرمان، والفتى في أثرها يطلبها بعد أن كانت تطلبه، ويلاحقها بعد أن كانت تلاحقه ، وقد أدركها آخر الأمر في إسبانيا وأنقذها من محكمة التفتيش، فكفر بذلك عن خطيئته وعادا معا إلى بابل، وكان الزواج وارتقى إلى العرش في خطوب لست في حاجة إلى تفصيلها، وبمقدار ما ترى عند هذه الفتاة من الإقدام والعزم ومن الجراءة والمغامرة ترى عند أميرة أخرى مصرية ما يناقض كل هذه الخصال، بحيث لا تشبه إحدى الأميرتين صاحبتها إلا في شيء واحد هو هذا الحب الملح الذي يضطر صاحبته إلى الصبر والوفاء واحتمال الخطوب، ولكن الأميرة المصرية صابرة وفية، لا تصنع شيئا وإنما تتلقى ما يصب عليها من المحن في سبيل هذا الحب، وأنت تستطيع أن ترى صبر هذه الأميرة وشجاعتها السلبية وتعرضها للموت في قصة الثور الأبيض.
وأعتقد أني قد عرضت عليك من نماذج المرأة عند ڤولتير ألوانا تعطيك منها صورا واضحة دقيقة، وأنا لم أعرض عليك مع ذلك نماذج أخرى أهملتها عن عمد لأنها تشبه هذه النماذج التي عرضتها من قريب أو بعيد.
وهناك أسئلة يمكن أن تخطر للذين يقرءون قصص ڤولتير وللذين يقرءون هذا الحديث؛ فهل بين هذه النماذج كلها وبين السيدات اللاتي اتصل بهن ڤولتير اتصال حب أو اتصال مجون من علاقة بحيث يمكن أن نستدل بهذا النموذج أو ذاك على هذه السيدة أو تلك من صواحبات ڤولتير؟ وهل هناك صلة بين هذه النماذج وبين السيدات الكثيرات اللاتي عرفهن ڤولتير في فرنسا وألمانيا وإنجلترا وسويسرا وإيطاليا بحيث يستطيع الباحث أن يقول: إن ڤولتير قد صور هذه السيدة أو تلك من السيدات الممتازات اللاتي عرفهن في حياته المضطربة الطويلة؟ وهل بين ألوان الحب التي عرضها ڤولتير في قصصه هذه ما يشبه من قريب أو بعيد حب ڤولتير حين كان يحب، وهيام ڤولتير حين كان يهيم، واضطراب ڤولتير بين اليأس والرجاء حين كان يضطرب في الحب بين اليأس والرجاء؟
أسئلة لا أستطيع أن أجيب عنها، ولا أريد أن أجيب عنها؛ لأني لست إخصائيا في أدب ڤولتير، بل لست إخصائيا في الأدب الفرنسي، ولأني لم أرد أن أقدم إليك بحثا في التاريخ الأدبي وإنما أردت أن أقدم إليك حديثا من هذه الأحاديث التي تدعو إلى التفكير وترغب في القراءة، وإذا كنت قد وفقت في هذا الحديث إلى أن أرغبك في قراءة هذا القصص الرائع الذي تركه لنا ڤولتير، وفي تعمق البحث عن صور المرأة في هذا القصص فأنا راض كل الرضا إلا عن شيئين اثنين؛ أحدهما أني لم أحسن البحث والاستقصاء، والثاني أني كنت أريد الإيجاز فاضطررت إلى الإطالة فأثقلت بذلك على القارئ وعلى المجلة، وشجعت بذلك الكتاب على أن يرسلوا إلينا فصولا طوالا كهذا الفصل الطويل، وأي بأس على الكتاب إذا ذهبوا في الثرثرة مذهب رئيس التحرير.
Unknown page