وذلك هو موضوع العبرة التي تنطوي على عظات كثيرة للعقول، فإن توكيد السلطة في المذاهب الجرمانية، وتوكيد الإلهية «الدستورية» في البلاد الإنجليزية لم يأت من مجرد اتفاق.
وموضع العبرة هنا أن الفلاسفة المحدثين يأخذون على المتدينين أنهم يدخلون المشابه الآدمية في فهم الحقائق المجردة، فينسبون إلى الله صفات وأعمالا لا تصدر إلا من الإنسان، ويتخذون ملك الأرض نموذجا يقيسون عليه ملك الوجود، ويفخر أولئك الفلاسفة بالترفع عن هذه «العادة الذهنية» والتخلص من هذا الخلط بين المحسوس والمفهوم، أو بين المجسمات والمجردات، ولكنهم كما رأينا لا يخلصون من أسر المشابه، ولا يسلمون من الخلط بين «الحكم الأرضي» كما يحسونه «والتدبير الكوني» كما يتخيلونه وهم يحاولون التجرد عن ضلالات الحس والخيال، فالإرادة في المذاهب الألمانية هي كل شيء بين الأرض والسماء! وهي الله أو هي القوة المسيطرة على الوجود، وهي أحيانا قوة عمياء غير واعية ولا شاعرة بما تعمل وما تريد؛ لأن السلطة الغاشمة قوة عمياء.
أما هذه «الإرادة» فلا إطلاق لها في المذاهب الإنجليزية الحديثة؛ لأن إرادة الحاكم لا تنطلق من جميع القيود في الحكومة الدستورية، فهي عند فلاسفتهم مشمولة بنظام واحد يسري على سائر الموجودات.
فالمشابه الآدمية لا تفارق هؤلاء الفلاسفة الذين يفخرون بالتجريد والتنزيه، ولا نظن أن الإرادة العمياء تظفر بكل هذا التوكيد في المذاهب الجرمانية وتلقى كل ذلك التقييد في المذاهب الإنجليزية والفرنسية لو كان فلاسفة الفريقين قد تجردوا حقا من وحي المشابهات والملابسات. •••
وبين العدوتين مع ذلك برزخ التقاء تتماثل فيه مذاهب الفريقين؛ فإن النزعة الغالبة في الدراسة النفسية بين الألمان والإنجليز هي نزعة القول «بالتركيب» أو بالتركيبة الكاملة التي تتقدم في الاعتبار على الأجزاء والمفردات.
ومدرسة الجستالت
Gestalt
الألمانية، أو مدرسة الشكل المركب، أروج المدارس العصرية بين النفسانيين في القارة الأوربية، وهي معنية بعلم النفس في المنزلة الأولى، ثم يشتق منها المشتقون ما يخطر لهم من التطبيقات في باب الحكمة الإلهية وفي مباحث الطبيعة وما بعد الطبيعة.
وخلاصة هذا المذهب أن «الكل» سابق على الأجزاء في تلقي المحسوسات، وأن علم الإنسان بالكون لا يأتي من جمع المفردات بل من وعي المركبات، وما من مركب في قولهم إلا وهو مجموعة من مركبات أخرى يقسمونها إلى خمسة أقسام تختلف في الدقة والإحكام.
فمنها المركبات المادية «غير العضوية» كالحجارة وفقاقيع الصابون، ومنها المركبات الصناعية كالآلات وقطع الأثاث وأعشاش الطيور، ومنها المركبات العضوية وتشمل كل بنية ذات حياة، ومنها المركبات المتداخلة كاللحن الموسيقي الذي يتألف من نغمات أو كالعبارة المفهومة التي تتألف من كلمات، ومنها المركبات الجماعية كالأمم والقطعان والأسراب.
Unknown page