Albert Camus
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
وهذا هو نفس الموقف الذي يأخذه كامي على كافكا في مقاله الذي يختتم به أسطورة سيزيف؛ ذلك لأن الطريق الذي يقطعه البطل عند كافكا هو الطريق الذي يسير من الحب الواثق إلى تأليه المحال. وفي ذلك يقتفي كافكا أثر كيركجارد، ولا يستطيع مثله أن يحيا بغير أمل.
أما الفيلسوف المتصوف الروسي الوجودي ليون شيستوف - وقد أثر بكتابه الهام كيركجارد والفلسفة الوجودية
69
على تفكير كامي - فهو أيضا يجعل المحال معبرا إلى الله. وإذا كان الله عند شيستوف يحف به التناقض ويبعد به الغموض، فذلك هو الدليل على أنه يتجاوز كل المقاييس العقلية المحدودة. وموقف التسليم بالمحال من جانب شيستوف وكيركجارد يحمل البرهان على التنكر لحقيقة المحال؛ إذ يجعلان منه نقطة يقفزان منها إلى الأبدية، وجسرا يعبران عليه إلى العقيدة، والأمل، والعلو (ترانسندنس).
ويستطرد كامي بعد مناقشته لهذين المفكرين الدينيين فيشتد في هجومه على فيلسوفي الوجود الحقيقيين، ونعني بهما ياسبرز وهيدجر؛ فتأثره بهما ضئيل، وموقفه منهما هو موقف النقد والرفض؛ فهو يحتد في هجومه على ياسبرز، ولا يختص هيدجر إلا بنظرة جانبية عابرة؛ فهو عنده «أستاذ الفلسفة» الذي «مذهب» الوجود وبناه على مقولات محددة كالقلق والهم والوجود للموت، والوجود في العالم ... إلخ، في لغة شاقة معقدة باردة. ومع ذلك فقد وجد الشعور بالمحال في أستاذ الفلسفة هذا من يعبر عنه لأول مرة تعبيرا محددا في بناء تصوري شامخ. والواضح من حديث كامي أنه توقف عند هيدجر في مرحلته الأولى (التي يمثلها على الأخص كتاباه، الوجود والزمان، وكانت ومشكلة الميتافيزيقا) ولم يجد عنده الصبر الكافي لتتبعه في مرحلته الأخيرة (التي تمثلها تحليلاته لأشعار من هولدرلين وتفسيره لفلسفة نيتشه واشتغاله بفلسفة اللغة)، التي اقترب فيها من الشاعر والفنان، وراح يدخل شيئا فشيئا في عالم صوفي متدثر بالضباب، ويسير على طريقته في الدرب الموصل إلى المتعالي أو الوجود
Das Sein
كما يحب أن يسميه. إن الوجود عند هيدجر هو العلو. والإنسان كما تقول عبارته المشهورة، هو راعي الوجود الذي يتخفى حينا ويتكشف حينا آخر. وكل محاولات هيدجر ل «تحطيم» تاريخ الميتافيزيقا الغربية التي أرادت على اختلاف مراحلها أن تفسر العالم والإنسان عن طريق ماهية أو مبدأ ثابت (قد يكون هو الواحد أو المتعدد، وقد يكون هو المثال أو الطاقة، وربما كان هو الأنا المطلقة أو الروح المطلق أو إرادة القوة ... إلخ). نقول إن محاولات هيدجر هذه تنتهي بقفزة إلى ما يسميه بالوجود.
هناك الليل الكوني الذي ينتظر فيه الإنسان أن يتفتح الوجود ويتجلى له من جديد؛ أي ينتظر من العالي أن يكشف عن وجهه ويمزق أستار الظلام.
والحقيقة أن فلسفة ياسبرز التي تضرب بجذورها في فلسفة نيتشه وكيركجارد، وتقوم على أساس من نظرية المعرفة عند كانت لا بد أن تثير الحيرة في نفس كاتب فنان مثل كامي.
والمحال يقابلنا في مواضع كثيرة من كتابات ياسبرز. إنه يحدد موقفه اللاعقلي حين يقول مثلا إن الوجود هو ما يوجد في علاقة مع نفسه وعن طريق ذلك مع العلو أو المتعالي. وليس في استطاعة الإنسان أن يتحدث عن الوجود في عبارات موضوعية محددة، بل أقصى ما يستطيعه هو التعبير عنه بإشارات ذات دلالات متعددة، لا نتبين حقيقتها إلا في التحقق الوجودي المعين. ووجودنا يتميز بالموقف الحدي أو النهائي
Unknown page