Albert Camus
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
ونسأل أنفسنا: لماذا كانت هذه المشكلة هي أخطر المشكلات جميعا وأكثرها جدية؟ ويجيبنا كامي: لخطورة الأفعال التي تلزم الإنسان بها، والسلوك الذي يترتب عليها. إن كل ما عداها من مشكلات، مثل البحث عن صواب الدليل الأنطولوجي على وجود الله أو خطئه، والسؤال عما إذا كانت الأرض تدور حول الشمس أو الشمس حول الأرض، وعما إذا كان عدد المقولات خمسة أو ستة، كل هذه مشكلات باطلة لا تستحق السؤال عنها، ولا تعنينا الإجابة عليها في قليل ولا كثير: «لست أعرف أحدا مات في سبيل الدليل الأنطولوجي.»
62
إنها جميعا لا تتصل بالسؤال الرئيسي: هل تستحق الحياة أو لا تستحق أن نحياها؟
إن كامي يرفض أن يضع أسئلة ميتافيزيقية خالصة؛ فهي في رأيه أسئلة لا حل لها ولا سبيل للإجابة عليها، كما أنها لا تتعدى اللعب بالألفاظ، على الأقل من حيث إنها لا تهدد وجود سائلها؛ ومن ثم كان احتقاره لجماعة من الفلاسفة والشعراء الذين يمتدحون الانتحار أو يمجدون القتل، ولكنهم أجبن أو أرفع من أن يحولوا أفكارهم إلى أفعال.
السؤال عن معنى الحياة سؤال مأساوي وجاد في الوقت نفسه. ولو أننا وقفنا عند جانب المأساة فيه، لكنا في ذلك مثل شوبنهور الذي كان يمتدح الانتحار وهو يجلس إلى مائدته الحافلة بأشهى ألوان الطعام والشراب، ولو اقتصرنا على جانب الحد منه لكنا في ذلك مثل كيركجارد وشيستوف وكافكا ممن يشغلون أنفسهم بالأمل، والأمل قد حرمه على نفسه إنسان المحال. إذن فلا بد لنا من أن نحتفظ بالجانبين معا، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ (ب) الانتحار الفلسفي
في استطاعتنا أن نحتفظ بهما معا، بغير أن نتخلى عن الأمل في حقيقة متعالية أو كائن أخير، وهذا في رأي كامي هو موقف الفلاسفة الوجوديين، ولكن هذا معناه الإقدام على الانتحار
63 (وإن كان الانتحار في هذه المرة انتحارا فلسفيا)، فإذا سأله سائل عن السبب أجاب بأن هؤلاء الفلاسفة يقفزون «القفزة» التي تنفي الفكر نفسه. حقا إن تفكيرهم تفكير محالي، لكن الأمل الذي يبحثون فيه عن ملجئهم الأخير يلغي هذه المحالية أو يرفعها كما يقول المناطقة.
الحق أن كامي لا يتعرض لهؤلاء الفلاسفة والكتاب إلا لأنهم يهاجمون العقل، ولا يوافق على أفكارهم إلا بقدر ما تفتحه من آفاق الفكر المحال وما تعالجه من قضاياه المعذبة؛ فهذه العقول كلها، من ياسبرز إلى هيدجر، ومن كيركجارد الي شيستوف، ومن فلاسفة الظاهرية وفي مقدمتهم هسرل إلى ماكس شيلر وتلاميذهما يؤلف بينها شوق مشترك، على الرغم من أنها تناقض بعضها البعض في المناهج والأهداف. إنها جميعا تسعى بكل جهدها لسد «الطريق الملوكي» للعقل، والعثور من جديد على الدرب الأصيل الذي يمكن أن يؤدي إلى الحقيقة. وكيركجارد في مقدمة فلاسفة الوجود الذين يخصهم كامي بالحب والتقدير. إنه في رأيه أشدهم إثارة وعمقا؛ فهو لم يكتف باكتشاف المحال بل عاشه وعاناه، ولم يرد أن يلطف من طعنته الدامية في وجوده، بل إنه على حد قوله يوقظ المحال من سباته ويتلذذ به قطعة فقطعة تلذذ من يصلب نفسه باختياره. كان كيركجارد أول من أحس بالفزع أمام محالية الوجود وأول من عاشها وعبر عنها. إنه يقول في مذكراته اليومية لعام 1839م: إن الوجود كله يفزعني بالقلق، ويملؤني، من أضأل ذبابة إلى أسرار التجسد. ولكنه يستخدم كلمة المحال بمعنى ديني يختلف كل الاختلاف عن معناها عند كامي، وإن اشترك معه فيما ينطوي عليه من قلق وارتعاش، ويأس وسخط، ورهبة وعذاب؛ فالمحال عند كيركجارد يدل على تلك العلاقة العجيبة التي تربط بين الأبدي وبين التاريخي، بين الإلهي والزماني: «ما من معرفة يمكنها أن تتخذ من هذا المحال موضوعا لها، هذا المحال، الذي يقول (في قصة يسوع المسيح): إن الأبدي هو في الوقت نفسه التاريخي.»
64
فالمحال عند كيركجارد هو في أن الحقيقة الأبدية الخالدة قد نشأت في الزمان، أن الله قد ولد وشب ونشأ تماما كما ينشأ الواحد من بني الإنسان، وأنه لا يمكن التفرقة بينه وبين واحد من البشر.
Unknown page