Albert Camus
ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي
Genres
هذا العجز من جانبي عن الشك في الشك يجعل من فعل الفكر السالب معرفة إيجابية موضوعية يعبر عنها الشطر الثاني من جملة أنا أفكر فأنا إذن موجود؛ فالبداية السلبية النافية التي ابتدأ منها التفلسف؛ أعني الشك القاطع في كل شيء لا أجد أنه بلغ من اليقين مبلغا مطلقا، هو الذي يمهد لي الطريق إلى يقين إيجابي لا يتزعزع، وأعني به أنني لا أستطيع أن أشك في شكي. وإذن فيقين الكوجيتو الذي لا يتزعزع لا يمكن فهمه إلا من الشك الشامل في كل شيء، وهو الذي لا يمكنه أن يشك في نفسه. وإذن فلا بد من أن نفهم هذا الفعل الفكري الفريد المباشر فهما ديالكتيكيا. بحيث نستطيع أن نعبر عنه على هذا النحو: «أنا أشك في كل شيء، أنا لا أستطيع أن أشك في كل شيء.»
88
ومعنى هذا أن النظر في الكوجيتو - أنا أفكر، إذن فأنا موجود - نظرة مستقلة عن دليل الشك يؤدي إلى اعتباره صياغة مختلطة يمكن أن تحمل على أكثر من معنى، وربما فهم على أنه قياس من النوع الذي يسمى في المنطق باسم قياس تحصيل الحاصل، كما فعل كانت بالفعل.
89
ويهمنا الآن أن نسأل إلى أي حد يشبه المحال الشك المنهجي؟ وهل يمكن أن نقارن بين تفكير المحال وبين شك ديكارت؟
حقا إن كامي يعلن في بداية كتابه «أسطورة سيزيف» أن تأملاته عن «مرض العصر» خطوة مؤقتة، وأنه لا يصح أن يتعجل القارئ بالحكم على وجهة النظر التي تعرضها. وإذن فوصف المحال أو مرض العصر، الذي يسميه بالتأمل المحال، نقطة ابتداء أولية ضرورية، مهمتها أن تمهد الطريق لشفاء هذا المرض والتغلب عليه. حتى إذا جاءت مرحلة التمرد، وجدناه في الصفحات الأولى من كتاب «التمرد» يشبه المحال بالشك المنهجي عند ديكارت ويضعه معه على قدم المساواة، ولكننا لو أمعنا النظر قليلا لوجدناه يختلف عن الشك المنهجي اختلافا أساسيا.
الواقع أننا نستطيع أن نتحدث عن «كوجيتو المحال» عند كامي، ولكننا مضطرون إلى التفرقة بينه وبين الكوجيتو الديكارتي؛ فالتحليل الدقيق الذي يقوم به لمرض العصر لا يمكن أن يطابق الشك المنهجي مطابقة تامة؛ فهو من ناحية يفوق في تطرفه الشك الديكارتي، حتى لنستطيع أن نقول إنه في وصفه للمحال يغالي في الشك، بل في الرفض والإنكار، مغالاة تسد عليه طريق التغلب عليه فيما بعد. ولعلنا قد لاحظنا من الصفحات السابقة أن النفي في التأمل المحال أقوى وأبعد بكثير من النفي في الشك المنهجي الذي يظل على الرغم من كل ما يزعمه ديكارت شكا مؤقتا؛ ذلك أن الشك عند كامي - وكلمة الشك كلمة مخففة بغير نزاع للرفض المطلق الذي ينطوي عليه المحال - لا يمتد إلى الحقائق اليقينية التقليدية فحسب، بل إنه يستبعد كل إمكانية في بلوغ اليقين بما هو كذلك، كما ينكر أن تكون ثمة حقيقة على وجه الإطلاق، ولكن التأمل المحال من ناحية أخرى - وفي هذا يكمن التناقض الحقيقي الذي ينطوي عليه المحال الذي يضم اللحظتين المتضادتين في بنائه الديالكتيكي، ونعني بهما اللا والنعم، أو النفي والتأكيد - يسمح منذ البداية بوجود يقين لا يمسه، ونعني به الوعي؛
90
فالنفي في المحال يمتد إلى كل شيء، ما خلا هذا اليقين الأول البين بنفسه، بل إننا لنستطيع أن نضيف إلى هذا أن الوعي يزداد تماسكا مع كل فعل من أفعال النفي، ويزيد في تأكيد يقينه وحقيقته.
فإذا كان ديكارت قد بدأ من الشك المنهجي الشامل الذي لا يلبث أن يتعرف على وجود الأنا الشاكة في فعل الشك نفسه، فإن كامي يبدأ من الوعي، أو الأنا المسلم بوجودها لكي يشك بعد ذلك شكا شاملا في كل شيء (ما خلا هذه الأنا نفسها!) بذلك لا ينقلب الشك عنده إلى زعم ميتافيزيقي شامل. إنه يؤكد وجود «أنا» تضع كل شيء ما عداها موضع الشك، وتزهد في قيمة العالم، ولكنها لا تقبل لقيمتها هي أن تمس؛
Unknown page