120

Albert Camus

ألبير كامي: محاولة لدراسة فكره الفلسفي

Genres

12

بل إننا نستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا، إذا قلنا إن مأساة الوجود الإنساني بوجه عام إنما تكمن عنده في غياب المتعالي من أفق هذا الوجود. ورفضه له يزيد من حدة المأساة ولا يخفف منها. وربما استطعنا أن نفسر موقفه - ولا نقول نبرره - إذا تذكرنا أنه لا يفهم تحت كلمة المتعالي والمطلق ما يتجاوز وجود الإنسان فحسب، بل ما يتسلط فوق هذا الوجود، وكأنه قوة غاشمة تحد من حريته وقد تلغيها إلغاء. وفي هذا الموقف، كما قدمنا من قبل، خلط بين مجالي الفلسفة والسياسية يصل إلى حد الخوف من المتعالي خوفه من دكتاتورية بوليسية.

13

وأما فيما يتصل بالقسم الثاني من المشكلة فإن السؤال عند كامي - كما تعبر عنه شخصيتا تارو والدكتور ريو في رواية الوباء - هو هل يستطيع الإنسان وحده وبغير أن يلجأ إلى وجود أبدي خالد أن يخلق قيمه الخاصة به.

14

هذه القيم لا يمكن أن تكون في رأيه قيما مطلقة ولا مجردة، بل لا بد أن تحتفظ بطابع النسبية، والواقعية ؛ فالقيمة هنا ليست قيمة عمودية ولا هي قيمة أفقية متعالية (إن صح لنا أن نستخدم هذه التشبيهات الرياضية في مجال القيم!) أعني أنها ليست قيمة معلقة فوق رأس الإنسان وكأنها قدر قاس، ولا هي قيمة ينتظر أن تتحقق في مستقبل الأيام، وكأنها حلم غامض؛ فأما القيمة الأولى فكامي مضطر إلى رفضها لكي يكون منطقيا مع نفسه. وأما القيمة الثانية فلا يمكن إلا أن تكون متناقضة مع نفسها؛ لأنها ما بقيت خالية من الشكل فلن تستطيع أن تحدد لنا فعلا من الأفعال، ولا أن تعطينا مبدأ نختار على أساسه.

15

إن كلمة القيمة التي يستخدمها كامي هنا لا تعني إلا الحياة نفسها في امتلائها الخصب المباشر، هذه الحياة التي هي الشيء الوحيد الذي يمتلكه إنسان المحال، والذي لا يكف المتمرد عن تأكيده والدفاع عنه وبذل حياته في سبيله إذا اقتضت الضرورة ذلك. لعل القتلة الأبرياء، كالياييف وأصدقاءه من شعراء الجريمة، الذين يعكسون أصفى صورة للتمرد، هم خير مثل على ما نقول. إنهم وإن لم يسلموا من الانحراف عن التمرد الحق، قد تعذبوا من متناقضات التمرد أقسى عذاب وأعمقه. وإذا كانت القيمة التي أرادوا أن يؤكدوها ويدافعوا عنها قد علت فوق أشخاصهم المحدودين، فإنها لم تعل فوق الحياة والتاريخ.

16

كان احترامهم للحياة فوق كل شيء. لم يلمسوا حياة غيرهم قبل أن يحاسبوا ضميرهم أقسى حساب. واحترام الحياة هو الذي جعل كالياييف يتردد في إلقاء قنبلته على الأمير الروسي الأكبر سيرجي حين لاحظ وجود أطفال في عربته. إنه في مسرحية «العادلون» يقول لستيبان: «... إنني أحب الحياة. لقد انضممت إلى الثورة لأنني أحب الحياة.» ولكن ستيبان، مثال الأيديولوجي الذي يضع القيمة المطلقة المجردة فوق الحياة، يجيبه قائلا: «أما أنا فلا أحب الحياة، بل أحب العدالة، التي تعلو بكثير فوق الحياة.» ويخاطب كالياييف حبيبته دورا قائلا: «لا بد من أن تقوم الثورة حقا،

Unknown page