Al-Wajīz fī fiqh al-Imām al-Shāfiʿī
الوجيز في فقه الإمام الشافعي
Editor
علي معوض وعادل عبد الموجود
Publisher
شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم
Edition Number
الأولى
Publication Year
1418 AH
Publisher Location
بيروت
Genres
الكلام وفاءٌ بهذا المطلب الشريف، ولعلَّ التخبيطَ والتضليلَ فيه أكثرُ من الكشْفِ والتَعْرِيفِ، وهذا إذا سمعتَهُ من مُحَدِّثٍ أو حَشَوِيٍّ، رُبَّما خَطَر ببالِكَ؛ أن الناس أعداءُ ما جَهِلوا، فأسمع هذا ممَّنْ خَبَرَ الكلامَ، ثم قَلاَهُ، بعد حقيقةِ الْخِبْرَة، وبعد التغلْغُل فيه إلَى منتهَى دَرَجَة المتكلِّمين، وجاوز ذلك إلَى التعمُّق في علومٍ أُخَرَ تُنَاسِبُ نوْعَ الكلام، وتَحَقَّقَ أن الطريقَ إلَى حقائق المعْرفَةِ من هذا الوجْهِ مسدودٌ.
نخلُص من هذا إلَىْ أنَّ الغَزَّالِيَّ بَعَثَ رُوحاً جديدةً في علْمِ الكلامِ، ونفَثَ فيه مِنْ وجْدَانِهِ، فأيْقَظَه بعْدَ سُبَاتَه، وأقامَهُ بعد أن كاد أن يهدمَهُ التقليدُ والجمودُ. فَتراه - رَضي الله عنه - يخلِّي جانباً تلْكَ المناقشَاتِ غيْرَ المُفِيدَةِ، ويضعُ للمناظَرَاتِ شُرُوطاً، يجبُ على المتناظِرِيَنْ أَتِّبَاعَها، حتَّى لا يقعوا في هُوَّةِ آلانحِرافِ والزيغ عن السُّلوكِ الدينيِّ القويم.
وسَبَبُ ذلك أنه كانَتْ قد انتشَرَتْ في الأوسَاطِ الإسْلامِيَّةِ، وشاعَتِ المناظراتُ والجَدَلُ بَيْنَ الفقهاءِ والمتكلِّمين، ويوضِّحُ الغَزَّالِيُّ أسبابَ شُيُوعِ هذه المناظراتِ، بقوله في كتابه «إحْيَاءِ عُلُومٍ الدِّين»:
لَمَّا انتقلَ أمْرُ الخلافةِ إلَى من لم يكُونُوا في أنفسِهِمْ فقهاءَ، أحتاجُوا إلَى من يعينهم من الفقهاء ليَوَلُّوهم القَضاءَ والحكوماتِ، فرأىُ أهْلُ تلْكَ الأعْصَارِ عِزَّ العلماء، وإقبالَ الأئمّةِ والوُلاَةِ عَلَيْهِمْ، فَأَشْرَأْبُوا لِطَلَبِ العلْمِ؛ توصُّلاً إلَى دَرْكِ العَزِّ ونَيْلِ الجَاهِ مِنْ قبل الوُلاَةِ، فأكبُوا على الفتاوى وعرضُوا أنفُسَهِمْ على الولاةِ، وتعرَّفوا إلَيْهم وطَلَبُوا الولايَاتِ، والصِّلات، وكان أكثرُ الإقبال في تلك الأعْصَارِ على الفتاوَى والأقْضِيَةِ لشدَّةِ الحاجة إلَيْهما في الولاياتِ والحُكُومَات، ثم ظَهَرَ بعْدَهم من الصُّدُور والأُمَرَاء مَنْ يسمع مقالاتِ النَّاس في قواعدِ العَقَائد، ومالَتْ نفسه إلَى سماع الحُجَجِ فيها، فَعُلِمَتْ رغبتُهُ إلى المناظرة والمجادلَةَ في الكَلَامِ؛ فأكبَّ الناسُ علَى علْمِ الكلامِ، وأكثروا فيه التصانيفَ، ورثَّبوا فيه طُرُق المجادَلاَتِ، وزعَمُوا أَنَّ غرضَهُم الذبُّ عن الدِّين، والنِّضَالُ عن السُّنَّة، وقَمْعُ المبتدعة؛ كما زعَمَ مَنْ قبلهم أنَّ قصْدَهُمْ من الاشتغالِ بالفتاوَى، الدِّينُ، وتقلُّد أحكامِ المسلمينَ؛ إشفافاً على خلق الله، ونصيحةً لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدورِ مَنْ لم يستصوِبِ الخوْضَ في الكلام، وفَتْحَ باب المناظَرَةِ فيه، لَمَّا كان قد تولَّوْا منْ فَتْح بابها من التعصُّبات الفاحشة، والخصوماتِ الفاشيَةِ المغضِبَة؛ إلى إهراق الدِّمَاء، وتخريبِ البلادِ، ومالَتْ نفسُهُ إلَى المناظرة في الفقْهِ وبيانٍ الأُولَىُ من مذهب الشافِيِّ، وأبى حنيفةَ على الخصوصِ وتساهَلُوا في الخلافِ مع مَالِكٍ، وسُفْيَانَ، وأحْمَدَ، وغيرهم، وزعمُوا أن غرضهم استنباطُ دقائِقِ الشَّرْعِ، وتقرير عِلَلِ المذاهِب، وتمهيدِ أصول الفتاوَى، وهم مستمُون عَليْهِ إلى اليوم، ولسنا نذْرِي ما الَّذِي يُحْدِثُ اللَّهُ فيما بعْدَنا من الأعصارِ، فهذا هو الباعثُ على الإكبابِ على الخلافِ والمناظراتِ لا غَيْرُ، ولو مالَتْ نفوسُ أرباب الدنْيَا إلى الخلافِ، مع إمامٍ آخَرَ من الأئمَّة أو إلى علْمٍ آخَرَ من العلومِ، مالُوا أيضاً معهم، ولم يسكنوا عن التعلُّل بأن ما اشتغلُوا به هو علْمُ الدِّين، وأنْ لاَ مَطْلَبَ لهم سوَىَ التقرُّب إلَىَ ربِّ العالمين.
أما الشروطُ والمبادىءُ الَّتي وضعها الإمامُ الغَزَّالِيُّ - رضي الله عنه - لضَبْطِ المناقشاتِ
50