ما إن يطرق التساؤل الرءوس حتى تنتفض رافضة مستبشعة؛ فمصيبة كبرى بل فاجعة الفواجع لو صح القول ... هذه السنين التي قضاها يعامل معاملة الكائن المكاني الذي لا يرى ولا يسمع ولا يعقل، جعلته يرى من كل قاطن في القرية أحوالا وأسرارا لم تطلع عليها عين بشر. كل إنسان في البلدة يحيا كالسفينة، جزء منه فوق الماء ظاهر للعيان، وجزء تحت الماء لا يراه أحد. وحتى لو شاهد أقوياء الأبصار ما قرب منه إلى السطح، فمن المحال أن يروا الأجزاء الخافية العميقة التي لا يمكن أن تصلها يد أو عين أو أذن ... لا تصلها إلا إذا أخرجها صاحبها، فهو وحده العليم بها ... وإذا كان الإنسان كائنا له أسرار، ومن خواصه كإنسان أن يخفي في نفسه أجزاء ويحكم إخفاءها؛ فكذلك من خواصه الأزلية أنه يخفيها رغما عن نفسه وتحت مقاومته، ويضطر بين كل حين وحين للإذعان فيخرجها ويظهرها ويتفحصها، ربما بعد فوات سنين، ولكن لا بد أن يخرجها لنفسه مثلا إذا كتبها، أو لأقرب الناس إليه أو أحيانا أبعدهم منه ... ولكن لا بد أن يتوسم فيه القدرة على حفظ سره ... والشيخ شيخة كان يمثل هذا الدور في أحيان لبعض الناس. وفي أغلب الأحيان رأى ما لم يره أحد، وسمع ما لم يسمعه أحد بحكم أنه لم يكن أحدا. كان كالحيوان المستأنس ... كقطط البيوت مثلا وكلابها. وما أمنع ما رأت قطط البيوت وكلابها! وآه لو تكلمت قطط البيوت وكلابها! ربما لما استطاع أحد العيش؛ فهو لكي يعيش كفرد يضطر لإحاطة نفسه بجلباب وملابس تحفظ جسده وأسراره، ولكي يعيش كفرد في مجموعة يضطر لإحاطة بعض نفسه بأسوار ... ويسمي هذا البعض أسراره، ففيها كيانه وفيها مفاتيحه ونواياه الداخلية التي تفرقه عن الآخرين وتحفظ استقلاله ... والعائلة المكونة من أفراد تضطر لإحاطة نفسها ببيت ذي جدران بالغة السمك، فيكون لها هي الأخرى كيانها وذاتها واستقلالها ... والبلدة تضطر هي الأخرى لإحاطة نفسها بسور مفترض وحدود وجنسية، وكلمة «بلدي» و«بلدياتي» لتحفظ كيانها من الضياع والذوبان.
كارثة كبرى لو صح الخبر، أو حتى لو كانت هناك شبهة في صحته، فقد لا يعد هذا هدما لكل الجدران الداخلية التي تحيطهم وتقسمهم، ولكنه على الأقل فرجة صنعت في كل جدار، فرجة من الممكن أن ينتقل منها للغير كل ما يحويه الداخل، فيقوم حينئذ يوم الفوضى الذي هو أفظع وأبشع من يوم القيامة.
بدءوا يرمقون الشيخ شيخة إذن بنظرات مرعوبة حيرى، تطوف حوله وحمى الشك تعشيها، والشيخ شيخة على ما هو عليه ... رقبته مثنية وجلبابه الأزرق ممزق متسخ، إذا وقف ظل واقفا، وإذا جلس لا يتحرك، وعينه على ربع إغماضها لم تتغير، والأخرى على إغلاقها، وملامحه مثلما رأوها دائما صلبة متجمدة لا تنفك، وواضح جدا أنها ما انفكت طول عمرها. حتى والشك يدفعهم للدوار حوله واستيقافه ومخاطبته، وتوجيه الأسئلة إليه لا تصدر عنه حركة، ولا بارقة انفعال لمحها أحد تطفو على سطح هذه الكتلة المدكوكة من اللحم والعظم والشحم.
وكان أن بدأت الزوابع التي هاجت للخبر تهدأ وتئوب إلى رضا واقتناع، والرعب الذي اكتسح كلا منهم حين أدرك أنه من الممكن جدا أن تكون فرجة صغيرة قد صنعت في حائطه، وامتدت منها عين واعية، وعرفت كل ما بداخله. هذا الرعب بدأ يتحول إلى اطمئنان وما صاحبه من شك يتجمد على هيئة يقين. •••
وكاد يصبح لما حدث نفس المصير الذي كانت تلقاه الشائعات لولا حادث آخر وقع. وهذه المرة لم يردده خائف أو ولد، ولكن رجالا كبارا شهدوه بأعينهم، وسمعوه بآذانهم، وكانوا يقسمون على ما يقولون ... ففي ظليلة السعدني التي تحتل بطن الجسر، ويصنع للوافدين عليها القهوة والشاي ويرص المعسل. كان الحديث يدور يوم السوق عن الحادثة التي رواها ابن العبايدة، وكان الشيخ شيخة واقفا في الشمس فوق الجسر لا يتزحزح من مكانه، وعرق كثير يكسوه، حين جاءت بالطبع سيرة نعسة العرجة، وانبرى أكثر من واحد يغمزها ويلمزها، ويروي الهواجس على أنها وقائع وأخبار، حتى دفعت المزايدة الدائرة أحدهم لأن يقسم أنها راودته ذات يوم عن نفسه. وهنا فوجئ الجميع بصرخة، أو على الأصح شيء كالصرخة، فلم تكن صرخة تلك التي سمعوها، ولا استغاثة، ولا عويلا، وإنما انفجار كالهدير أو كالجمل حين يضرب بالقلة، ثم آهة. ثم الأهم من هذا كله كلمة سمعها البعض «أعوذ بالله»، وبعض آخر «منك لله». وأقسم هؤلاء وهؤلاء، ولكن الشيء المؤكد أنهم جميعا سمعوا كلاما بشريا يتصاعد قربهم، وحين تلفتوا، رأوا الشيخ شيخة يترك مكانه تحت الشمس ويتحرك بأسرع مما اعتاد، ولا يلبث أن يختفي في حقل الأذرة القريب ولا يظهر.
ورغم كل ما دار، وكل ما أجمع عليه الحاضرون واتفقوا، فبعد يوم أو يومين كانت تلح على بعضهم كفرادى، وتضيق الخناق وتستحلفه، فيقول: الحقيقة ما اقدرش أحلف ... الله أعلم ... إنما إن ما كانش هو حيكون مين؟ الجسر؟
وياما أقسمت أيمان، ورميت طلاقات، وهاجت البلدة بالجدل! وقسم كبير يؤكد أنهم خدعوا في الشيخ شيخة أكبر خديعة، وأنه ظل سنين يمثل عليهم دور الأصم الأبكم؛ ليعرف أحوالهم وأسرارهم ويسرق مخبآتهم، وقسم كبير آخر أهون عنده أن يصدق أن الجسر قد نطق وتكلم من أن يصدق أن الشيخ شيخة هو الذي فعل ... ولكن هذا الجدل والخلاف كان يجري على أسطح الألسنة فقط، ففي أعماق الكل كان خوف حاد قد بدأ يتراكم. وكلما راجع أحدهم نفسه ليتذكر ما قاله في حضرة الشيخ شيخة وما فعله، ووجد أن ما قاله كثير وما فعله أكثر، انقلب خوفه إلى هوس ورعب، وازداد قلبا للبلدة رأسا على عقب، باحثا عنه محاولا أن يراه؛ إذ ربما تعيد رؤيته، مجرد رؤيته الطمأنينة إلى نفسه، ويصبح كل ما قيل ويقال كذبا في كذب وكابوسا رهيبا مزعجا غمر البلدة ومن فيها.
غير أن الشيخ شيخة رغم كثرة الباحثين عنه لم يعثر له أحد على أثر؛ مما كان له أسوأ الوقع ... إذ تراه أين ذهب؟ وإلى من يحكي الآن ويعدد؟
ولكن اختفاءه على أية حال لم يطل، فبعد أيام قليلة وجدوه عائدا من البندر. وأغرب شيء أن نعسة كانت تسحبه من يده! وما كاد الخبر ينتشر حتى كانت البلدة كلها بكبارها وصغارها، وبالأخص نساؤها اللاتي كن يبدون هالعات يرتجفن من الغضب والذعر، ويكون بقعة كبيرة سوداء في الدائرة الآدمية المحكمة التي ضربت حول نعسة والشيخ شيخة. ومضت أعينها تمتد إليهما وتتفحصهما بحدة وشراهة ... ولم يكن شيء قد تغير في الشيخ شيخة ... شواله الأزرق على حاله، وشعره على قصره. كل ما في الأمر أن رقبته المثنية كانت قد بدأت تعتدل. والأمر المحير كانت هذه الضحكات التي تصدر عنه كلما سأله أحدهم سؤالا، أو وجه إليه كلمة. ضحكة غريبة تبدو كما لو كان يتكلمها ولا يضحكها.
أما نعسة فقد ظلت ساكتة لفترة، ثم وكأنها ضاقت فجأة، انفجرت تسألهم عن سر تجمعهم وتشتمهم، وتلعن آباءهم جميعا من أكبر كبير لأصغر صغير، يا غجر يا لمامة عايزين إيه؟ ابني ولا مش ابني ما لكم وما لنا؟ ... أخرس ولا بيتكلم عايزين منه إيه؟ كان عيان وداويته يا ناس إيه الجناية في كده؟ وحتى لو ما كانش عيان، لو كان سليم وسمع وشاف ... يعني حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ما الحال من بعضه ... واللي بيقول في حق الناس كلام بطال بيتقال عليه كلام بطال ... واللي بيخبي العيب عن جاره حيلاقي جاره بيخبي عنه نفس العيب ... حيكون شاف إيه وسمع إيه؟ ... اوع كده أنت وهو لحسن وحياة مقصوصي ده اللي حاطوله منكم، حاطبق زمارة رقبته، ماني سيباها إلا بطلوع الروح. •••
Unknown page