جلت قدرة الله، ونفذت مشيئته، وغلب قدره. وعلت كلمته. لا ينفع من قدره حذر، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر. فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده، جاور ضده. فهذا عبد الحميد وأعوانه، وقرناؤه وخصيانه، وجواريه وغلمانه، قد بغوا في الأرض، واستبدوا بجميع العثمانيين، وجمعوا القناطير المقنطرة من الأموال، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال، وأقاموا حولهم المعاقل والحصون، ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليهم المظلومون، راعه أن يكون بشرا، متصفا بصفات البشر، وأن يكون رعيته من جنسه لا من الغنم والبقر. فلجأ إلى الكيد والاحتيال، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال، فألف بها الجمعية المحمدية، وبث دعاتها يوسوسون لعامة المسلمين أن الدستور مناف للدين. بل بثوا فتنتهم في الجيش فشقوه نصفين، فقتل الثائرون بعض أعضاء النواب، كر الفاروفي بجيشه، وزحف على الاستانة، سقطت يلدز، بعد أن قطع عنها الماء والزاد والنور. ولما صار عبد الحميد بلا نصير، أمر بالتسليم مدعيا إيثار السلام، وأن العسكر المهاجم كالحرس من أولاده. فسلم من كان فيها من الجيش سلاحه وذخائره. ثم خرج منها، وخرج وراءه رؤساء الموظفين، فالخصيان، والخدم، فالنساء. فكان عسكر الدستور، يخرج كل فريق، فيعرف غير النساء فردا فردا، وهو يحصيهم على الجداول التي بيده، ثم يرسلهم محفوظين إلى المواضع التي أعد لهم.
غلب على هذا المخلوع الجبن. ثم طلب أن يبقوا عليه، كما أبقى على أخيه مراد. ويحسنوا إليه لأنه بريء مما وقع من الفساد بعد أسبوعين من خلع عبد الحميد، أنفذ الأمر بنفيه إلى سلانيك، وجيء به إلى محطة سكة الحديد، تخفر مركبته مركبة الجنود، ولما وصل إلى محطة سلانيك، اختار ركوب مركبات الأجرة، إلى أن وصل الدار التي أعدت له. وأحضر له ولمن معه طعام ذلك المساء من أحد مطاعم السوق. وطلب قميصا فاشتريت له من السوق. وقد تضرع إلى القائد الذي استقبله، بأن يضمن له حياته، فهدأ القائد اضطرابه، وسكن روعه، إلى آخر المقالة المتضمنة خلع عبد الحميد ونفيه، وضبط أمواله وذخائره وعقاره، وإباحة قصر يلدز للأمة..إلخ.
Page 186