وتم كل شيء يا مولاي كما أرادت الملكة، وردت إلى شعوب الجن حقوقها المغصوبة، وحرياتها المسلوبة، وتأذنت فاتنة في شعبها وفي الشعوب الأخرى بأن أمور الأمم إليها؛ تشرك فيها من الملوك والرؤساء من تشاء وكيف تشاء، وتقيد ملوكها ورؤساءها من القوانين بما تحب، وتشرف على إنفاذ ملوكها ورؤسائها لإنفاذ هذه القوانين، وتتخفف من الملوك والرؤساء إن خالفوا عن هذه القوانين.
وأقامت شعوب الجن يا مولاي لهذا الحدث أعيادا رائعة، وأرخت به منذ كان وما زالت تؤرخ به إلى الآن، وجعل الجن يتنزلون ببعضه إلى الإنس بين حين وحين، فيفهم الناس عنهم ذلك حينا ويخطئون الفهم في أكثر الأحيان، وهذا مصدر ما نرى عن الناس من الاختلاف في نظم الحكم ومن اضطراب العلاقات بين الرعية ورؤسائها وبين الأمم والدول.
ومن يدري يا مولاي؟! لعل عالم الجن أن يصل إلى الناس ذات يوم أو ذات قرن واضحا جليا لا لبس فيه ولا غموض. أو لعل عقول الناس أن ترتقي ذات يوم أو ذات قرن إلى حيث تفهم عن الجن في غير مشقة ولا جهد. يومئذ أو قرنئذ تصلح أمور الإنسان كما صلحت أمور الجان.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
ولم يأو الملك في مضجعه حين عاد إلى غرفته كما كان يقدر أنه سيفعل، ولم يذهب إلى نافذة من نوافذ الغرفة ولا إلى طنف من أطناف القصر؛ ليشرف على الحديقة ويستنشق الهواء الطلق كما تعود أن يفعل من قبل، وإنما عكف على نفسه يتدبر ما سمع ويستحضر ما شهد ويتذكر ما رأى، وكأنه أنسي نفسه في هذا العكوف، حتى أقبلت شهرزاد وقد ارتفع النهار، فلما أحس مقدمها رفع رأسه إليها دهشا وهم أن يتكلم، ولكنه رأى في وجهها الجد، وسمعها تقول في صوت حازم باسم معا: «لشد ما هانت عليك أمور الملك يا مولاي! ها أنت ذا تخلو إلى نفسك في زاوية من زوايا غرفتك، كأنك فرد من أفراد الناس قد فرغ للفلسفة والتفكير. ألم تحاسب نفسك على هذا الوقت الطويل الذي أنفقته في غير شئون الملك؟ ألم يخطر لك أن للشعب حقوقا يجب أن تؤدى إليه، وأن أوقات الملوك ليست خالصة لهم من دون الرعية؟!»
قال الملك دهشا في صوت كأنه يأتي من بعيد: «يا عجبا! كأنما أسمع حديث فاتنة.»
قالت شهرزاد ذاهلة: «فاتنة! فاتنة! ليس هذا الاسم علي غريبا، وأحسب أن لي به عهدا قريبا.»
القدس سبتمبر سنة 1942
الإسكندرية يناير سنة 1943
Unknown page