أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
تأليف
طه حسين
أحلام شهرزاد
1
فلما كانت الليلة التاسعة بعد الألف أفاق شهريار من نومه مذعورا، وجعل يتسمع لعله يجد ذلك الصوت الذي أيقظه، فلم يسمع شيئا، وجعل يمد يده عن يمين ويمد يده عن شمال ليتبين أينكر من مضجعه شيئا، فلم ينكر شيئا، ثم استوى جالسا في سريره، وجعل يدير رأسه عن يمين وعن شمال ويمد بصره في الظلمة المتكاثفة من حوله كما يمد سمعه في الصمت المنعقد في غرفته، فلا يقع بصره على شيء، ولا ينتهي سمعه إلى شيء، ولا تصل نفسه إلى شيء، فلم يشك في أن طائفا قد ألم به أثناء النوم فرده إلى اليقظة ردا لم يخل من بعض العنف، وما أكثر ما تهيم في ظلمات الليل هذه الأرواح المشردة التي تنطق في لغاتها الخفية بألفاظ تصل إلى نفوس الرقود أحيانا كما تصل إلى نفوس الأيقاظ أحيانا أخرى، فيفهمون عنها مرة ويخطئون الفهم مرات، ويكون لهذه الألفاظ الغريبة المبهمة في حياة الناس آثار غريبة مختلطة؛ منها الخير ومنها الشر، ومهما يكن من شيء فقد عاد شهريار إلى نفسه وارتسمت على ثغره ابتسامة سريعة لم تلبث أن مرت كأنها البرق، وثارت في نفسه عاطفة ضئيلة ولكنها حادة، فيها شيء من حسرة، وفيها شيء من يأس، وفيها شيء من حزن على عهد قد انقضى وليس إلى رجوعه من سبيل.
ثم ثاب إلى الملك رشده فتمكن في مضجعه وأغمض عينيه وضم يديه إلى صدره ودعا النوم إلى نفسه دعاء قويا، وكأن النوم كان ينتظر أن يبلغه هذا الدعاء، فما أسرع ما مد ذراعيه فطوق بهما عنق الملك الحزين في كثير من الرأفة والرحمة والحنان، وإذا الملك ينسى نفسه ويمعن في هذا الرقاد الحلو الهادئ المطمئن، ولم يدرك الملك أطال هذا الرقاد أم قصر، ولكنه أفاق مرة أخرى مذعورا ومد بصره في الظلمة المتكاثفة، ومد سمعه في الصمت المنعقد، وتحسس بيديه عن يمين وشمال، فلما لم ير شيئا، ولم يسمع شيئا ، ولم ينكر شيئا؛ أنكر نفسه كلها، ونهض من مضجعه متثاقلا، فجعل يمشي في غرفته على غير هدى، حتى انتهى إلى نافذة من نوافذ الغرفة ففتحها، وكان ذلك إذنا لضوء القمر في أن ينسل في هذه الغرفة، ولكنه لم ينسل، وإنما اندفع إلى الغرفة اندفاعا أضاء له كل ما في الغرفة من فضاء ومن أثاث. هنالك أدار الملك بصره في الغرفة فلم ينكر من أمرها شيئا، ثم أشرف من النافذة فاستنشق الهواء الطلق، ومد بصره في الفضاء العريض المنبسط أمامه، فلم ير إلا هذه الأشجار الباسقة الشاهقة في السماء، وقد لبست من ضوء القمر أردية نقية ناصعة، وامتدت غصونها تضطرب في الهواء اضطرابا خفيفا، كأنها ترغب في النوم هذه الطير التي أوت إليها حين ولى النهار، وكأن هذه الطير قد سكنت إلى حركاتها الخفيفة المنتظمة فنامت مطمئنة وادعة، لولا أحلام خفيفة خفية كانت تمر بنفوسها الضئيلة الوادعة، فتبعث من أفواهها أصواتا قصيرة حلوة، وتبعث في أجنحتها خفقات يسيرة لا تكاد تبدأ حتى تنقطع، وقد أطال شهريار وقوفه أمام هذه النافذة مادا بصره في هذا الفضاء العريض، ومادا سمعه في هذا الصمت الجاثم عليه، وممتعا نفسه بهذا الضوء الرقيق الذي يترقرق بينهما، وبهذه الأصوات الرشيقة التي تبلغه من حين إلى حين، حتى إذا ثاب إليه الهدوء، وامتلأ قلبه سكينة، وآنست نفسه أمنا ودعة تراجع متثاقلا، ولكنه لم يذهب إلى مضجعه، وإنما ذهب إلى مجلس من مجالسه في الغرفة، فترامى عليه متهالكا، وقد أزمع أن ينتظر مطلع الصبح يقظان؛ فقد كره مضجعه، وكره النوم، وكره هذا الطائف الذي أخذ يزعجه منذ الليلة.
ولكنه لم يكاد يطمئن في مجلسه حتى غاب عن نفسه، أو غابت عنه نفسه، وكأن النوم كان ينتظره خلف هذا المجلس، فلم يكد يستقر فيه حتى مد إليه ذراعيه فطوق بهما عنقه في رأفة ورحمة وحنان، وإذا هو مغرق في رقاد عميق لذيذ لا يدري الملك أطال أم قصر، ولكنه أفاق مذعورا للمرة الثالثة، فمد بصره ومد سمعه، ثم لم يلبث أن ضرب إحدى يديه بالأخرى، ففتح الباب، وأسرع الحرس وفي أيديهم المصابيح، قال الملك: «هل أنكرتم شيئا؟» قال قائد الحرس: «لم ننكر شيئا يا مولاي.» قال الملك في صوت فاتر متكسر: «هذا غريب! إني لمؤرق منذ الليلة.»
ثم نهض ومضى متثاقلا حتى خرج من غرفته والحرس يتقدمونه ويتبعونه، وهو يسعى هادئا لا يقول شيئا ولا يلتفت إلى شيء، حتى بلغ ذلك الجناح من القصر حيث كانت غرفات الملكة، فمضى أمامه وعاد حراسه إلى أماكنهم، وانتهى شهريار إلى غرفة الملكة، فدخل دون أن يلتفت إلى هؤلاء الأحراس الذين أدهشهم مقدم الملك في هذه الساعة المتأخرة من الليل، ولكنهم لم يقولوا شيئا، وما كان لهم أن يقولوا شيئا، وأكبر الظن أن شيئا من العجب قد ظهر على وجوههم، وفي النظرات القصيرة السريعة التي كانوا يتراشقون بها ويختلسونها إلى الملك اختلاسا.
وأغلق الملك من ورائه باب الغرفة في رفق شديد، وسعى في هدوء أي هدوء إلى سرير الملكة يمشي على أطراف قدميه، فلما بلغه نظر إلى الملكة نظرة طويلة؛ فإذا هي مغرقة في نوم حلو، واستمع إلى تنفسها فإذا هو منتظم هادئ، وإذا الملكة لم تحس شيئا ولم تشعر بمقدم هذا الشخص الذي انسل إلى غرفتها في رفق كما تنسل الأفعى، على غير ما جرت به تقاليد القصر، ثم تراجع الملك شيئا حتى انتهى إلى مجلس من مجالس الغرفة، فأهوى إليه رفيقا حريصا على ألا يحدث حسا ما، وعلى ألا يزعج الملكة عن نومها، فلما اطمأن به مجلسه أطرق كأنما ينتظر شيئا، ولكن انتظاره لم يكن طويلا؛ فهذا صوت شهرزاد يبلغ أذنيه فيملؤه رعبا وفرقا ويكاد يخرجه عن طوره، لولا أنه يذكر شيئا فيثوب إلى نفسه في اللحظة الأخيرة ويطمئن في مجلسه مادا عينيه في الفضاء مصغيا إلى هذا الصوت الذي يسعى إليه من قبل شهرزاد صافيا نقيا، كأنه صوت ذلك الغدير الذي أحب الملك أن يجلس إليه حين تؤذن الشمس بالغروب، فيسمع إلى غنائه العذب وهو يداعب الحصى، وكأنما أسكره هذا العرف الذي تهديه إليه من شاطئيه جميعا أنفاس الورد والنرجس والياسمين.
2
وكان هذا الصوت الحلو يقول في نغمات موسيقية نفاذة إلى القلوب أخاذة للنفوس لم يعرفها الملك حين كانت شهرزاد تقص عليه أحاديثها مستيقظة: بلغني أيها الملك السعيد أن طهمان بن زهمان ملك الجن في حضرموت كانت له فتاة حسناء رائعة الحسن بارعة الجمال، لا تثبت القلوب للحظاتها إذا نظرت، ولا تثبت النفوس لصوتها إذا تكلمت، وكانت على حسنها الرائع وجمالها البارع ذكية القلب نافذة البصيرة، قد قرأت كتب الأولين وعرفت حكمة المحدثين؛ فلم يكن شيء يستغلق عليها، ولم يكن حكيم يثبت لحديثها أو يقدر على مناظرتها، وكان ملوك الجن في أطراف الأرض التي يسكنها الناس وفي أطراف الأرضين التي ليس للناس بها عهد، قد تسامعوا بجمالها وذكائها وما أتيح لها من فطنة وفتنة، وتسارعوا إلى أبيها الملك طهمان يخطبونها إليه ويحكمونه فيما يخضع لهم من الممالك والأقاليم: هذا يقدم إليه أقاليم البحر، وهذا يقدم إليه أقاليم البر، وهذا يقدم إليه أقاليم الجو إلى قريب من مواقع النجوم، ولكن طهمان بن زهمان كان يجيب هؤلاء الملوك جميعا بجواب واحد لا يتغير: «ما كان لي أن أقضي في أمر فاتنة بغير ما تريد! فأمر فاتنة إلى فاتنة، فأيكم أراد أن يتخذها لنفسه زوجا فليخطبها إلى نفسها. وأيكم ظفر منها بالرضا فله ملك أبيها مهرا.»
ولكن فاتنة كانت غريبة الأطوار، بعيدة الآمال، عظيمة الأطماع، قد زهدت في ملوك الجن جميعا واستيأست من حياة الجن جميعا، فردت خطابها مخذولين مدحورين، لم تمنح واحدا منهم ابتسامة، ولم تهد إلى واحد منهم نظرة فيها شيء من الرفق، وإنما كان ردها لهم عنيفا يملؤه السخط والازدراء، ويصدر عن نفس شديدة الكبرياء، لا تؤمن بأحد ولا تطمئن لأحد ولا تستريح إلى أحد، نافرة دائما، جامحة دائما، ساخرة إلى حين كانت تتحدث إلى أبيها، فهو وحده الذي كان يظفر منها بالوجه المشرق والثغر الباسم والنفس الراضية، وكان أبوها أول الأمر معجبا بهذه الكبرياء، فخورا بهذا الإباء، محبا لهذا الامتناع ؛ لأنه كان يرفعه فوق ملوك الجن درجات، ولأنه كان يمسك عليه ابنته في قصره، وكان يؤثر ابنته بحب لم يجده أب لابنته قط، وكان يؤثر نفسه بقرب هذه الفتاة الفاتنة، وكان يرى في امتناعها على الخاطبين فسحة في الوقت الذي أتيح له فيه أن ينعم بقرب ابنته، والأوقات عند الجن - أيها الملك السعيد - لا تحسب بالساعات والأيام، ولا تحسب بالشهور والأعوام، وإنما تحسب بالقرون المتتابعة والأحقاب المتلاحقة. فلما مضت آلاف السنين على فاتنة وهي تمتنع على ملوك الجن وأولي البأس منهم في البر والبحر والجو، وكانت كلما تتابعت القرون ازدادت حسنا إلى حسن، وجمالا إلى جمال، وفتنة إلى فتنة؛ أقبل عليها أبوها ذات يوم أو ذات قرن فقال لها: «يا ابنتي، إنك تعلمين أن أبا من الآباء لم يحبب قط ابنته كما أحببتك، كما أني أعلم أن فتاة من الفتيات لم تحبب قط أباها كما أحببتني، وأنك لتعلمين أني سعيد بامتناعك على خطابك من ملوك الجن؛ أرى في ذلك تعاليا عليهم وإرضاء لكبريائي، وأرى في ذلك - قبل كل شيء - حبا منك لي وإيثارا منك لأبيك بالمودة والحب، ولو استطعت لمضيت في تشجيعك على هذا الامتناع وإغرائك بهذا الإباء؛ ذلك أحرى أن يكفل لي السعادة وأن يضمن لي النعيم إلى آخر الدهر، ولكن لكل شيء يا ابنتي غاية يقف عندها وأمدا ينتهي إليه، وقد بلغت سعادتي بقربك أقصاها وانتهت إلى غايتها، وآن لنا أن نفترق، فقد علمت يا ابنتي أن أحدنا من أجيال الجن إذا أتم من عمره خمسة عشر ألفا من السنين وجب عليه أن يستعد لفراق الأحياء، وأن ينتظر هذه اللحظة الرهيبة التي يستحيل فيها إلى قبس من نار يمتزج بهذه الجذوة الهائلة التي يدور عليها الكون والتي تنضج حياة الأحياء، وقد بلغت يا ابنتي ستة عشر ألفا من العمر، وأخذت أحس أني أتحول نارا شيئا فشيئا، وما أحب أن أتركك وحيدة؛ فاختاري لنفسك أحب هؤلاء الملوك إليك أو أقلهم إلى نفسك بغضا.»
قالت فاتنة: «فإني لا أحب منهم أحدا، ولا أبغض منهم أحدا، وإنما أزدريهم جميعا، وإذا فلن أختار منهم أحدا.»
قال طمهان بن زهمان: «فإني لا أكره يا ابنتي أن تمتنعي عليهم وأن تعيشي وحيدة، تدبرين أمر هذا الملك بحكمتك وفطنتك لولا أني قد علمت الآن ما يملأ نفسي قلقا وخوفا على قلة ما يعتادني القلق ويبلغني الخوف.»
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، وهم الملك شهريار أن يتكلم، وهم أن يأتي من الحركات ما كان خليقا أن ينبه النائمة، ولكنه ذكر شيئا في اللحظة الأخيرة، فانسل من الغرفة في هدوء كما انسل إليها.
ولم يكد ينتهي إلى غرفته حتى دعا إليه قواد الحرس الذين يقومون دون غرفته ودون غرفة شهرزاد، فلما مثلوا بين يديه قال لهم في صوت مهيب رهيب: «إن بقاء رءوسكم في أماكنها رهين بأن يجهل الناس جميعا، والملكة في أولهم، ما كان منذ الليلة، فلا أعلمن أن أحدا قد عرف خروجي من هذه الغرفة والرجوع إليها، وإني أقسم لا ينتهي إلي ما يدل على ذلك أو يشير إليه إلا ضربت أعناقكم جميعا، وقد تعلمون أني لا أوعد إلا تحقق الوعيد.» قالوا جميعا: «فإنا لا نعلم أن مولانا قد خرج من غرفته أو عاد إليها، وما نكاد نفهم من حديث مولانا شيئا، ولولا أن علينا أن نأتمر وليس لنا أن نسأل لاستوضحنا مولانا بعض ما يقول!» قال الملك: «أرى أنكم قد فهمتم عني ما أريد، فانصرفوا راشدين.»
ثم أوى إلى سريره فاستمتع بنوم لذيذ طويل، لا تروعه فيه الأحلام، ولا تزعجه عنه أحاديث تلك الأرواح الهائمة التي تنطلق في الفضاء، وهي تجمجم ببعض الألفاظ، فيفهم عنها الناس أحيانا ولا يفهمون عنها في أكثر الأحيان، وكان الملك خليقا أن يمضي في نومه هذا الهادئ اللذيذ، لولا أن أحس على جبهته شيئا يشبه ما تعود أن يجد حين يستقبل نسيم الصباح حين تدبر النجوم ويبتسم الليل عن كوكب النهار، فلما أحس هذا الروح أفاق من نومه هادئا موفورا، وفتح عينيه فرأى شهرزاد قائمة إزاءه وقد وضعت يدها الرخصة على جبهته وهي تمد إليه نظرة غامضة أحبها ولم يفهم منها شيئا.
قالت شهرزاد: «أفق أيها الملك السعيد غير مأمور! فقد ارتفع النهار، وأوشكت الشمس أن تزول، وإن وزراءك لينتظرون مقدمك الميمون عليهم. ألم تتأذن فيهم أمس بأنك ستستقبلهم متى أشرقت الأرض بنور ربها!»
قال الملك: «هو ذاك يا أحب الناس إلي وآثرهم عندي، ولكني أرقت منذ الليلة أرقا طويلا، ولم أطعم النوم إلا حين كادت ظلمة الليل أن تنجلي.» قالت شهرزاد: «أرقت يا مولاي؟! وما أرقك؟» قال الملك: «تسألين ما أرقني؟!» ثم سكت لحظة هم في أثنائها أن ينبئ شهرزاد ببعض الأمر، ولكنه ذكر شيئا فرد نفسه إلى رشدها وقال مبتسما: «أرقني الشوق إلى قصصك العذب الجميل.»
وكان الواقع من شهريار أن نفسه لم تسل عن قصص شهرزاد منذ انتهى في الليلة الواحدة بعد الألف، وإنما كانت تتحرق شوقا إليه إذا أقبل ميعاده المعهود من الليل، وتتحرق شوقا إليه إذا أقبل النهار، وكانت تشتغل بما تشتغل به من شئون الملك والقصر، ولكنها كانت تحس دائما كأنها فقدت شيئا، وكأنها لا تستطيع عنه صبرا، وكأن الأمور لن تستقيم لها إلا أن تجد هذا الشيء الذي فقدته، وكان هذا الشعور الغامض يصحب الملك في جميع لحظاته، وحين كان يأتي ما يأتي من الأمر، وحين يدع ما كان يدع منه، وكان الملك من أجل ذلك منغص الحياة دائما، ولكنه كان يجاهد نفسه ويخفي أمره ويتكلف الرضا ويتكلف الابتسام، وربما تكلف الضحك أحيانا، وربما أقبل على اللهو فأسرف على نفسه وعلى حاشيته فيه يريد أن ينسى، ولكنه لا يبلغ من ذلك شيئا، فيمضي في اللهو ليخيل إلى من حوله أنه سعيد موفور.
وقد بلغ الملك من ذلك ما أراد، فخدع حاشيته كلها، خدع أهل دولته جميعا، وخيل إلى الذين يقربون منه أو يبعدون عنه أنه أرضى الناس عن الحياة وأسعدهم بها، إلا اثنين لم يستطع أن يخدعهما ولا أن يغرهما؛ وهما شهريار نفسه، وشهرزاد تلك الساحرة الماهرة الماكرة التي كانت تعلم حق العلم بما يضرب في نفس الملك من قلق وما يملأ قلبه من حزن، فترثي له حينا وتشمت به أحيانا، وتختلس إليه بين وقت ووقت نظرات كأنها السهام فيها كثير من العطف، وفيها كثير من القسوة، وفيها كثير من الإغراء الذي يثير الطمع، وفيها كثير من الإباء الذي يملأ النفس يأسا وقنوطا، ولكنها على ذلك كله لم تبادل الملك بشيء مما كانت تعلم، وإنما عاشت معه حفية به متلطفة له غامضة مع ذلك أشد الغموض.
فلما كان من تلك الليلة أقبل الملك على غرفته، كئيب النفس، مريض القلب، قد امتلأ رأسه بخواطر أقل ما توصف به أنها كانت قاتمة شديدة القتمة، ولكنها كانت ربما احمرت لحظة قصيرة ثم عادت إلى ظلمتها المظلمة وسوادها المشتق من سواد الليل، فقد كان الملك يائسا أشد اليأس من شهرزاد، قد عجز عن فهمها، وكان ضيقا أشد الضيق بشهرزاد، قد كل عن احتمال عشرتها، فكان عليها ساخطا أشد السخط، وكان لها محبا أشد الحب، وكان يهم أحيانا بأن يتقاضاها شيئا من الوضوح والجلاء في سيرتها وفي لفظها ولحظها، ويهم أحيانا أخرى أن يتقدم إليها في أن تستأنف ذلك القصص الذي لا يستطيع عنه صبرا، ولكنه كان واثقا بأنه يستطيع أن يتقاضاها ما شاء فلن يظفر منها إلا بما تشاء هي، ولن تشاء هي إلا هذا الغموض الذي أصبح لا يطيق له احتمالا.
هنالك كانت خواطر نفسه تصطبغ بحمرة الدم، فقد كان يرى نفسه مقبلا على شهرزاد يضمها إليه ضما شديدا عنيفا، ويهدي إليها قبلات محرقة ملتهبة، حتى إذا بلغ به الحب والهيام أقصاه أغمد خنجره هذا الدقيق في صدرها هذا الناصع الجميل، وتلقى ما يفيض به هذا الينبوع من دمها الحار، فلعله أن يشفي ما كان يجد من هذا الظمأ الذي لا شفاء له. على أنه كان لا يكاد يلم بهذا الخاطر الأحمر، أو كان هذا الخاطر الأحمر لا يكاد يلم به، حتى تأخذه رعدة عنيفة؛ فقد كان ضيقا بشهرزاد أشد الضيق، ولكنه كان يجد سعادته في هذا الضيق، ولذته في هذا الألم، وراحة نفسه في تعبها من هذا الغموض، ومن يدري! لعله لو انجلت له نفس شهرزاد وألغيت بينه وبينها الحجب، فرآها واضحة ناصعة كأنها فلق الصبح، لامتلأت نفسه حزنا وحسرة؛ فإن العشاق لا يكرهون شيئا كما يكرهون الراحة المطردة، ولا يضيقون بشيء كما يضيقون بهذا الوضوح الجلي، هم في حاجة دائما إلى أن يشكوا، فهم في حاجة دائما إلى أن يجدوا مصدرا للشكوى، هم كطلاب المثل العليا، لا يقربون منها إلا لتبعد عنهم، ولو قد بلغوها وانتهوا منها إلى ما يرضيهم لكانوا أشقى الناس بذلك وأشدهم عليه سخطا؛ فسعادتهم في الطموح المستمر والجهاد المتصل، لا في بلوغ الغاية والانتهاء إلى الأمد.
بهذا كله وبأكثر من هذا كله كانت نفس شهريار تضطرب حين أوى إلى سريره من تلك الليلة، وقد أرقته هذه الخواطر شيئا، ولكن النوم لم يلبث أن أسرع إليه واشتمل عليه، ثم سمع فيما يسمع النائمون حين يلم بهم طائف الحلم كأن قائلا يقول له: «إنك لضعيف مغرور، تعني نفسك في غير عناء، وتشق عليها في غير مصدر للمشقة. أنت مشوق إلى قصص شهرزاد لا تستطيع عنه صبرا، فهل علمت أنها هي أيضا مشوقة إلى هذا القصص لا تستطيع عنه إعراضا؟ أنت ضيق بغموض شهرزاد لا تستطيع له احتمالا، فهل علمت أنها هي أيضا ضيقة بوضوحك لا تستطيع له استقبالا؟ أنت تريد أن تلهو عن غموض شهرزاد بما تقص عليك من حديث، وهي أيضا تريد أن تلهو عن وضوحك بما تقص عليك من أخبار. أنت ترى فيها المرأة الماكرة التي لا تؤتمن والتي لا تحتمل عشرتها إلا أن يستعان عليها بما يلهي عنها، وهي ترى فيك الرجل القاتل الغادر الذي يلتمس لذته حتى إذا ظفر بها ألغى مصدرها إلغاء، فلا سبيل إلى اتقاء شره إلا بتلهيته والتلهي عنه. أنت مشوق إلى أن تسمع منها وإلا قتلتها، وهي مشوقة إلى أن تتحدث إليك وإلا قتلتك، وقد انتهت أحاديثها إليك في اليقظة، ولتبدأن أحاديثها إليك في النوم، وستجد أنت لذة في هذه الأحاديث، وستجد هي راحة في هذه الأحلام. أفق إذا من نومك واذهب إلى غرفتها متلطفا مترفقا، فإذا بلغتها فاجلس من سريرها غير بعيد وانتظر، فستسمع منها ما يرضيك.»
وقد خيل إلى شهريار أن طائفه ذاك قد ألقى إليه حديثه هذا الطويل في وقت يعد له طولا كما تعود الناس أن يتحدث بعضهم إلى بعض، ولكنه لو اطلع لرأى أن طائفه ذاك لم يلم به إلا لحظة قصيرة جدا ألقى إليه حديثه فيها جملة، وآية ذلك أنه أفاق فأنكر هذا الطائف مرة ومرة. ولكنه كان كلما عاد إلى النوم وعاد النوم إليه، سمع هذا الحديث كله من طائفه فأفاق منكرا لما سمع. يرى أنه لم ينم وإنما أغفى إغفاءة قصيرة أقصر من أن تطول لهذا الحديث، فلما ألح عليه الطائف بحديثه لم ير إلا أن يجرب الأمر ويعبر الرؤيا ويختبر صدق هذا الحلم، فسعى إلى غرفة شهرزاد فرأى فيها ما رأى وسمع فيها ما سمع، وأمر أحراسه وأحراس الملكة بما أمر، ثم أسلم نفسه إلى النوم واطمأن إلى صدره الوثير حتى استلته منه شهرزاد بيدها الرخصة الناعمة وصوتها العذب الجميل، ووجهها المشرق الوضاء، ونظرتها تلك الغامضة أشد الغموض.
ومع ذلك فقد أنفق شهريار نهاره هادئا مطمئن النفس رضي البال متصرفا في أموره، كما تعود أن يفعل قبل أن يعتريه هذا القلق، لا يحس خوفا ولا إشفاقا، ولا يشعر أنه فقد شيئا ولا يجد في التماس هذا الشيء، ولا يضيق بعشرة شهرزاد، ولا يكره ما كان يحس فيها من هذه الكبرياء البغيضة التي هي مزاج من الرثاء له والقسوة عليه.
ولم يتغير من سيرة شهرزاد شيء؛ فقد كانت كعهد الملك بها غامضة دائما حرة اللفظ واللحظ، ولكنها كانت تشيع من حولها شيئا غريبا لا يعرف كنهه، ولكنه كان يبعث الأمن والأمل والاطمئنان.
3
فلما كانت الليلة العاشرة بعد الألف أنفق الملك شطرا من الليل بين وزرائه وندمائه، يخوض معهم في ألوان من الحديث، ويجاذبهم أطرافا من اللهو، ثم صرفهم حين تقدم الليل كعادته، وخلا إلى الملكة بعد ذلك فقضى معها شطرا آخر من الليل، ذاق فيه من النعيم ما شاء حبه لشهرزاد وما شاءت قدرة شهرزاد على فتنة المحبين وإمتاعهم بنعماء الحب وبأسائه جميعا.
ثم افترق العاشقان بعد أن كاد الليل يبلغ ثلثيه، وثاب الملك إلى غرفته، ولكنه لم يأو إلى سريره، وإنما لبث ساعة يتردد أينكر ما كان في الليلة البارحة ويقبل على النوم كأن لم يكن شيء وكأن لم ير شيئا، أم ينتظر حتى إذا استيقن أن شهرزاد قد اشتمل عليها الرقاد سعى إلى غرفتها واتخذ من سريرها مجلسه ذاك، لعله يسمع منها تتمة ذلك الحديث، وكان إلى تتمة ذلك الحديث مشوقا أشد الشوق، وكان في الوقت نفسه عظيم الشك في أن تستقيم له الأمور من ليلته هذه كما استقامت له من ليلته تلك.
وإنه لفي هذا التردد لا يدري أيقدم أم يحجم، وإذا النوم يأخذه في مجلسه وقتا لا يدري أكان طويلا أم قصيرا، ولكنه يسمع في آخره طائفه ذاك يقول بصوته الهادئ المطمئن: «لن يهلك الإنسان إلا إسرافه على نفسه بالشك والارتياب. إن كنت في حاجة إلى أن تسمع حديث شهرزاد، فأسرع إلى مجلسك من سريرها، فقد آن لها أن تأخذ في الحديث، وما أراك تحب أن تقص بقية خبرها على غرفتها تلك وما فيها من الأثاث.»
هنالك أفاق شهريار مرتاعا مذعورا، ولكنه لم يفكر في شيء ولم يسأل نفسه ولا حرسه عن شيء، وإنما انسل مسرعا حتى دخل غرفة الملكة واطمأن في مجلسه غير بعيد من تلك النائمة الهائمة التي لم يصدر عنها ما يدل على أنها قد أحست مقدمه، ولم يمض غير قليل من الوقت حتى انتهت إلى سمعه تلك النغمات الحلوة الرشيقة الأنيقة تحمل إليه صوت شهرزاد وهي تقول: «بلغني أيها الملك السعيد أن الملك طهمان بن زهمان قال لابنته فاتنة وهو يحاورها: إنني قد علمت الآن ما يملأ نفسي قلقا وخوفا على قلة ما يعتادني القلق ويبلغني الخوف.»
قالت فاتنة وقد ترددت في عينيها دموع حائرة تدفعها الرحمة لأبيها ويمسكها الإشفاق عليه، أن يزداد حزنا إلى حزن واكتئابا إلى اكتئاب: «ويحي عليك يا أبت! ما عرفتك قبل اليوم حافلا بالقلق أو معنيا بالخوف، وما أرى إلا أنك تفكر في ابنتك فتكثر التفكير، ويسوءك أنك حين تفارق هذه الحياة لن تترك لها أخا ولا نصيرا، ولكني أحب أن تطيب نفسا وتقر عينا؛ فإن ابنتك قد تعلمت منك كيف تواجه الحياة وتثبت لخطوبها وتنفذ من مشكلاتها، وإني منبئتك الآن بما يثير في نفسك القلق ويبعث في قلبك الخوف.» قال أبوها: «وما أنت وذاك يا ابنتي! ومن أين لك العلم بما لم ترتفع به الأنباء إلا إلي! ولم ترتفع به الأنباء إلي إلا الساعة قبل أن ألقاك بلحظات!» قالت فاتنة: «فاسمع مني قبل كل شيء، فإن يكن ما أنبئك به صحيحا كان ذلك خليقا أن يرد الراحة إلى نفسك والأمن إلى قلبك، وإن يكن ذلك غير صحيح رددتني إلى الصواب ووجهتني من أمري حيث تحب، فلن أعصي لك أمرا، ولن أرد عليك قولا.» قال الملك: «فهات ما عندك يا ابنتي.»
قالت فاتنة: «لقد ارتفعت إليك الأنباء الساعة بأن هؤلاء الخاطبين الخائبين من ملوك الجن في البر والبحر والجو، قد ساءتهم الخيبة وأسخطهم ردي لهم وإعراضي عنهم، ووقع في نفوسهم أني أزدريهم ولا أقدر مراتبهم حق قدرها، فاستحال حبهم لي بغضا وتنافسهم في تظاهرا علي، وقد سعى بينهم السفراء، ثم كان بينهم الاتفاق، فأجمعوا رأيهم على أن ينتظروا بك ما بقي من عمرك، وهم يرونه قصيرا وأراه طويلا، وقد أزمعوا إذا تركت هذه الحياة أن ينصبوا لي الحرب مؤتلفين لا مختلفين، ومتظاهرين لا متدابرين، وألا يكفوا عن هذه الحرب حتى يدمروا ملكي تدميرا، وأيهم ظفر بي فأنا أسيرته، يمسكني في قصره كما تمسك الإماء؛ لا يكرمني بالزواج ولا يؤثرني بالحب، وإنما يصب علي من العذاب ألوانا ويسومني من الضيم فنونا، وقد تقاسموا على ذلك بأغلظ الأيمان وأشدها إحراجا، وكتبوا بذلك وثيقة أودعوها مكانا أمينا حصينا، هناك في قاع البحر المحيط وراء أعمدة هرقل، وإني لأنظر إلى صحيفتهم هذه كما أنظر إلى وجهك الآن، وإني لأقرأ ما كتب فيها كما أتبين ملامح وجهك، وإني لقادرة - إن شئت - على أن آتيك بها قبل أن تقوم من مقامك، ولكن على أن تأخذها بيدك وتقرأها، ثم تعيدها إلي لأردها إلى مكانها؛ فقد سبق القضاء بأحداث لا بد أن تقع، وجرى القدر بأمور لا بد من أن تكون.»
قال الملك وقد اضطرب اضطرابا شديدا، وظهرت على وجهه أمارات الرضا والدهش جميعا: «قد كنت أعلم يا ابنتي أن لك كما لأترابك من بنات الجن علما بالسحر ونفاذا فيه وتصرفا في دقائقه، وكنت أعلم أنك قد تفوقت عليهن في ذلك تفوقا ظاهرا كما تفوقت عليهن في كل شيء، ولكني لم أكن أقدر أنك قد بلغت من ذلك هذا المبلغ الذي أراه! فمن أين لك يا ابنتي هذا العلم؟ وكيف انتهيت من السحر إلى هذه المنزلة التي لم يبلغها قط أحد من فتياننا ولا من فتياتنا؟» قالت: «ذلك خليق أن يرد نفسك إلى الراحة وقلبك إلى الاطمئنان، فلا تحسب لما دبر هؤلاء الملوك حسابا، ولا تخش علي منهم غائلة.» قال الملك: «هو ذاك يا ابنتي، ولكني أريد أن أعرف كيف انتهيت إلى هذه المنزلة من العلم بالسحر والنفوذ إلى أسرار الكون؟» قالت فاتنة: «إنما انتهيت إلى هذه المنزلة لأني صرفت عن هذه الحياة الباطلة التي يحياها بنات الملوك في ظل آبائهن ناعمات بالعيش الرخي، طامعات فيما تتكشف لهن عنه الأيام، مفكرات فيمن يسعى إليهن محبا أو متملقا أو خاطبا. صرفت عن هذا كله وعن أشباهه إلى النظر في حكمة الأولين والمحدثين، وإلى كثير من التجربة والاختبار، ما أعرف أن أحدا عني بمثلها، ولكن أتريد أن تنظر في صحيفة هؤلاء الملوك؟» قال الملك: «وإنك لقادرة على أن تأتي بها؟» قالت فاتنة: «قبل أن يرتد إليك طرفك.» ثم مدت يدها في الهواء وردتها فإذا فيها علبة صغيرة مربعة من معدن تحمل أختاما كثيرة، فوضعتها بين يدي الملك، ثم أشارت إليها فإذا هي تفتح دون أن تمس أختامها بفساد ما، ثم تخرج منها قطعة رقيقة من رصاص فتدفعها إلى الملك، وينظر فيها ثم يردها إليها وقد بلغ منه الدهش مبلغه وانتهى السرور به إلى أقصاه، وهو يقول لابنته: «لا بأس عليك من هؤلاء الملوك مهما يدبروا ويقدروا، فما أرى إلا أنك ستردين كيدهم في نحورهم وستلقينهم بشر مما يلقونك به.»
قالت وقد ردت الصحيفة إلى مكانها من العلبة، وأشارت إليها فعادت كهيئتها حين جاءت بها، ثم أخذتها ومدت يدها بها في الفضاء ثم ردت يدها فارغة كأن لم تمسك شيئا قالت: «ولأرينك من أمرهم ما تحب وما يكرهون.» قال الملك: «وما ذاك يا ابنتي؟» قالت: «إنهم يأتمرون بهذا الملك ليدمروه، وبصاحبته ليستذلوها، وهم من أجل ذلك يهيئون للحرب ويجهزون لها جهازا لم يجهزه أحد من قبل؛ فإن الحرب لا يقتلها إلا الحرب، وإن الكيد لا يفسده إلا الكيد، وإن الحديد لا يفله إلا الحديد كما يقول هؤلاء الجيل من الناس الذين يعيشون حولنا فيما يقولون من حماقاتهم.» قال الملك: «وإنك إذا لتريدين أن تسبقيهم إلى الحرب، وما أنت وذاك وهم متفوقون في أقطار الأرض والبحر والجو، ولا قبل لك بغزوهم جميعا في مستقرهم؟» قالت: «لن أغزو أحدا في مستقره، ولكني سأغزوهم حول هذه المدينة. سأثيرهم إلى الحرب، حتى إذا ثاروا إليها واندفعوا فيها وألقوا بكل ما أعدوا من عدة وما حشدوا من جند، رأيت كيف يكون إفناء القوة، وكيف يكون دحر الأعداء.»
وهم الملك أن يتكلم، ولكن فاتنة لم تمهله، وإنما قالت: «هون عليك، فلن أعلن على أحد حربا، بل لن أسوء أحدا منهم، ولكني معلنة إليهم جميعا أني قد أزمعت أن أتخذ لي من بينهم زوجا، وأني مختارة من بينهم من استطاع أن يقهر هذه المدينة بما عنده من عدة وعدد، فستراهم يومئذ وقد جمعوا جموعهم وحشدوا قواهم وأقبلوا يريدون أن يدكوا هذا الملك دكا، منهم من لا يريد إلا النصر الذي يتيح له الظفر بي، ومنهم من يريد أبعد من ذلك وأنأى مراما، يريد التدمير الذي لا تدمير بعده ليخلص من قوة طالما فكر في أن يخلص منها.» قال الملك: «وإنك لفاعلة هذا؟» قالت: «ما أريد أن تفارقني وفي نفسك ظل من خوف علي أو إشفاق مما قد يدبر هؤلاء الملوك لي من كيد.»
ثم أشارت بيدها إشارة خفيفة، فما أسرع ما فتحت الأبواب، وأقبل الوزراء ورجال القصر، فأعلنت إلى أبيها بين أيديهم أنها قد غيرت من رأيها، وعدلت عن سيرتها الأولى، وفكرت في أن تتخذ لنفسها زوجا، ولكنها لا تريد أن يكون زوجها ضعيفا أو متسلطا على دولة ضعيفة؛ إنما تريد أن تقترن بأقوى ملوك الجن قوة، وأشدهم أيدا، وأعظمهم بأسا، وأبعدهم صوتا، وتريد أن تختبر ذلك بنفسها، وأي ملوك الجن استطاع أن يقهر مدينتنا هذه ويدخلها عنوة، فأنا له زوج وملكي لملكه تبع.
وقد اضطربت نفوس الوزراء ورجال القصر لهذا الحديث حين سمعوه؛ فقد رأوا أهوال الحرب تصب على بلادهم صبا، وأشفقوا مما تجره الحرب عليهم وعلى الرعية من مكروه، وهم غير واحد منهم أن يراجع الأميرة فيما قالت، ولكنها أشارت إشارة خفيفة فانعقدت الألسنة وغضت الأبصار، وانحنت الرءوس، وخرج رجال القصر وقد أذعنوا للأمر، وقال وزير الملك: إنه مبلغ تحدي الأميرة لملوك الجن جميعا من فوره، وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وعاد شهريار إلى غرفته ناعم البال بما سمع، ولكنه كان مضطرب النفس أشد الاضطراب، فلم يكن شهريار كعهد الناس به حين كانت تقص عليه أحاديث «ألف ليلة وليلة» ثائر النفس، جامح الشهوة، سيئ الظن بالمرأة، مستجيبا لغرائزه حين تدعوه إلى ما تدعوه إليه من الخير والشر، إلا أن يلهى عنها بفنون الحديث، وإنما كان رجلا آخر قد خلقته شهرزاد خلقا جديدا.
كان كثير التفكير متصل التروية، لا يرى شيئا إلا اجتهد في أن يعرف مصدره وغايته، ولا يسمع شيئا إلا جد في أن يفهم ظاهره وتأويله، وكان هذا الجهد العقلي الطارئ عليه يعنيه أول الأمر، ولكنه اتصل حتى أصبح عادة لشهريار، وإذا هو مفكر دائما، مقدر دائما، منفق وقته وجهده في التحليل والتعليل، لا ينصرف عن ذلك إلا حين تشغله شهرزاد بجدها قليلا وبدعابتها كثيرا، وفي الحق أن شهرزاد لم تكن تشغله عن التفكير، وإنما كانت تريحه منه وقتا ما، حتى إذا انصرفت عنه ردته إلى التفكير، وإلى التفكير الذي يزداد شدة وعنفا كلما لقي شهرزاد وانصرف، وقد تركت في نفسه وأمام عقله من الألغاز والأسرار ما يكلفه الجهد المضني دون أن ينفذ إلى أعماقه.
وكان أمر شهريار قد شق على الناس جميعا؛ فوزراؤه ورجال حاشيته قد أنكروا منه هذا الهدوء الذي لا عهد لهم به، وهذه الدقة في القول والعمل جميعا، وهذه الدقة فيما كان يوجه إليهم من حديث، وقلة الرضا بما كانوا يقدمون إليه من رد؛ لأنه كان يريدهم على أن يصطنعوا الدقة كما يصطنعها، ويمعنوا في التفكير كما يمعن فيه.
وإنما كانت شهرزاد وحدها هي التي لم تنكر من الملك شيئا، ولم ينكر منها الملك شيئا. كانت تلقى هدوءه بهدوء مثله وتفكيره بتفكير أشد منه تعمقا، وكانت تسمع أحاديثه الدقيقة فترد عليه بأحاديث أشد منها دقة، حتى استعجمت أحاديثهما أو كادت تستعجم على الذين كانوا يحضرون مجالسهما من أهل القصر ورجال الدولة، وقد شاع بين أولئك وهؤلاء أن طائفا غريبا قد ألم بالقصر فأفسد على هذين العاشقين أمرهما، فهما يقولان ما لا يفهم، ويتناجيان بما لا يدرك، والغريب أن الملكة تفهم عن زوجها كل ما يقول، وأن الملك لا يفهم عنها إلا قليلا! تلك كانت حال شهريار، فليس غريبا إذا أن يعود إلى غرفته بعد أن أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، هادئا مضطربا معا، تجيش في رأسه خواطر غريبة عن حديث فاتنة هذا الذي استأنفته شهرزاد منذ ليلتين.
وقد كان شهريار فيما مضى يسمع قصص شهرزاد فيفهمه ويرضى عنه ويلهو بظاهره، لا يتكلف له تأويلا ولا تعليلا، ولا يلتمس لألفاظه الواضحة السهلة معاني ملتوية معقدة، ولكنه الآن يسأل عن فاتنة هذه من تكون وما تكون؟ وهل هناك سبب بينها وبين شهرزاد؟ وهل هناك صلة بين قوتها الجامحة الثائرة وبين هذه القوة الهائلة التي تتسلط بها شهرزاد على كل من دنا منها أو نأى عنها؟ وهل هناك صلة بين ازدراء فاتنة لملوك الجن وازدراء شهرزاد لملوك الإنس، فما من شك في أن شهرزاد لا تزدري ملوك الإنس وحدهم، ولكنها تزدري الملوك والرعية جميعا، وما من شك في أن شهرزاد تزدري شهريار نفسه، وإلا لتلقته بنفس مشرقة مسفرة، ولجنبته هذه السيرة الغامضة وهذه الأحاديث الملتوية.
وهنا كان الدم يغلي في عروق شهريار، وتعود إليه غريزته الأولى عنيفة طاغية، فينهض واقفا وقد جاشت في نفسه عواطفه الثائرة، واضطربت في رأسه خواطره الحمراء، ولكنه لا يلبث أن تتمثل له ابتسامة حلوة أهدتها إليه شهرزاد في بعض الحديث، أو دعابة ظريفة ساقتها إليه شهرزاد في ساعة من ساعات اللهو، أو نظرة رحيمة نظرتها إليه شهرزاد في لحظة من لحظات الحنان، وإذا هو يثوب إلى نفسه هادئا وادعا كأنه الطفل، نادما على ما قدم من سوء الظن بهذه التي لا ينبغي أن تساء بها الظنون.
وكذلك أنفق الملك السعيد بقية ليله شقيا محزونا مضطرب النفس مختلط الأمر، لا يستقر في مجلسه إلا لينهض منه ويمضي في غرفته ذاهبا آئبا، وربما أشرف من النافذة فملأ صدره من نسيم الليل بما يحمل من عطر رطب لذيذ، وملأ عينيه من ظلمة الليل بما يضطرب فيها من ضوء ضئيل نحيل، ولكن الشيء المحقق أنه لم يأو إلى سريره ولم يفكر في أن يأوي إليه، إنما قضى بقية ليله سائرا حائرا، وكان خليقا أن يقضيها هادئا راضيا بعد ما سمع من قصص شهرزاد، وقد كان يسأل نفسه عن مصدر هذه الحيرة وعن علة هذا السهاد، وكان يقدر أنه يجد في قصص شهرزاد ما كان في حاجة إليه من نسيان نفسه ونسيان الناس والتجرد من هذا العالم الثقيل عليه البغيض إليه، كما كان ذلك شأنه حين كانت شهرزاد تمتعه بقصصها اليقظان، فأما هذا القصص النائم فإنه لا ينقع له غلة ولا يشفي له صدى، وإنما يزيده ظمأ إلى ظمأ وتحرقا إلى تحرق؛ فهو أشبه شيء بهذه الأشربة الحادة التي يظمأ إليها الراغبون في السكر، يظنون أنها ستبرد أكبادهم وتطفئ ما في أحشائهم من لهب، ولكنهم لا يتجرعون كئوسها حتى تزداد أكبادهم احتراقا ويزداد اللهب في أجوافهم تلظيا واضطراما، فهم يتداوون منها بها؛ كما يقول الأعشى، ويتخذون داءها دواء؛ كما يقول أبو نواس، ولو قد استطاع شهريار أن يجعل ليل شهرزاد كله حلما ينطق بهذا الحديث العذب والقصص الجميل لفعل، ولكن من له بذلك وقد قدرت له أحلام صاحبته تقديرا، وقطرت له أحاديثها تقطيرا؛ فهي تبدأ في موعد موقوت لا تستطيع أن تسبقه، وتنتهي عند أجل محدود لا تستطيع أن تتجاوزه، وقد كان قادرا على أن يستزيد شهرزاد حين كانت تحدثه مستيقظة، وكان قادرا أن يستوضحها إن أشكل عليه بعض الحديث، فأما الآن فهو لا يستطيع أن يستزيدها ولا أن يستوضحها؛ لأنها لا تعرف أنها تقص عليه شيئا، ولا تعقل مما تقص عليه شيئا. بل هو لا يستطيع أن يشير إلى هذه الأحاديث التي تلقيها إليه أحلام شهرزاد، فقد قال له طائفه فيما قال: «احذر أن تنبهها من قريب أو بعيد إلى هذا القصص؛ فإنك إن تفعل لم تزد على أن ترد عنها الأحلام وتحرم نفسك ما بقي لها من هذه اللذة المختلسة.»
وكان الضيق قد بلغ بشهريار غايته حين بلغت أذنيه أصوات الطير المستيقظة وهي تستقبل النهار فرحة مرحة، وتتلقى ضوء الشمس مبتهجة به أعظم الابتهاج نشيطة له أشد النشاط، وقد وقعت هذه الأصوات العذبة المختلفة من نفس الملك أحسن وقع، فثاب إلى قلبه المذعور شيء من أمن وإلى نفسه اليائسة شيء من رجاء، وإذا هو يجد حاجة قوية إلى أن يغتدي مع الطير، ويسلم نفسه إلى هذه الطبيعة الحرة المرحة المبتهجة، فيفنى فيها ويصبح جزءا من أجزائها وعنصرا من عناصرها ساعة أو ساعات، وها هو ذا يسعى إلى طنف من أطناف الغرفة، فيشرف منه على هذه الجنة المطيفة بالقصر، والتي لا يبلغ الطرف أرجاءها مهما يمتد ومن أي ناحية يمتد، وإذا هو يفتح صدره للنسيم العذب، وعينه للضوء المشرق، وسمعه للأصوات التي يتغنى بها الفضاء العريض، وإذا هو ينسى نفسه أو يكاد ينساها، لا يكاد يشعر إلا بأنه يخطو خطوات متثاقلة يتبع بعضها بعضا في أناة وبطء، وقد ذهل عما حوله وذهل عنه ما حوله، وهو يهبط درجات السلم رزينا متثاقلا يكاد يترنح ترنح الثمل السكران، وهو يسعى لا يكاد يحس خطاه لأن قدميه لا تمسان الأرض، وإنما تتنقلان على هذا البساط الكثيف الذي نسجته الطبيعة ونسجه معها البستانيون من سندس العشب، وما يزال كذلك يسعى أمامه لا يلوي على شيء حتى يحس في مثل الحلم كأنه ينعطف عن غير إرادة إلى اليمين؛ لأن طريقه كانت تقتضي الانعطاف إلى يمين، فيمضي ويمضي، وهو يحس في نفسه حسرة ضئيلة خفية؛ لأنه لا يستطيع أن يستمتع بما حوله من فنون الزهر والشجر، وقد تعود حين كان يسعى في جنته هذه ألا يتقدم إلا ليتأخر وألا يمضي إلا ليقف، وكانت له وقفات طويلة عند هذه الألوان من الزهر الذي نسق أجمل تنسيق وأروعه، يحدق في هذه الزهرة ويمتحن هذا النجم، وربما تحدث إلى هذا البستاني أو ذاك سائلا حينا وآمرا حينا آخر، ولكنه في هذا اليوم يمضي أمامه لا يلوي على شيء ولا يفكر في شيء ولا يقف عند شيء.
وليس من المحقق أنه كان يرى هؤلاء البستانيين الذين كانوا ينهضون إذا رأوه مقبلا من بعيد، فيحيون وينتظرون أن يلقي إليهم السؤال أو يصدر إليهم الأمر، يبتهجون بذلك في دخائل ضمائرهم ويتمنون به الأماني.
ولكن الملك كان يمر بهم ذاهلا عنهم، أو كان ينظر إليهم نظره إلى التماثيل القائمة التي لم يكن ينتظر أن تسمع منه كلاما أو ترد عليه رجع حديث، وكان هؤلاء البستانيون يسقط في أيديهم إذا مر بهم الملك غافلا عنهم غير مكترث بهم، فيردون أنفسهم إلى التعزي عن هذه الابتسامة التي كانوا ينتظرونها، وعن هذا الأمل الذي كانوا يداعبونه، ويقول بعضهم لبعض: «ما بال مليكنا كئيبا محزونا منذ اليوم؟»
ولكن ملكهم لم يكن كئيبا ولا محزونا، وإنما كان نشوان ثملا قد صرفته الحياة عن الأحياء وصرفته الطبيعة عن الناس والأشياء؛ فهو يمضي أمامهم لا يلوي على شيء، حتى إذا بلغ من جنته مكانا بعينه انحرف إلى شماله فمضى في ممر ضيق ضئيل تحف به من جانبيه أشجار ضخام في الفضاء طوال في السماء، قد تضامت غصونها واختلطت أوراقها حتى انعقد منها سقف كثيف لا ينفذ منه ضوء الشمس إلا ضئيلا هزيلا بعد مشقة شاقة وجهد جهيد، والملك يمضي أمامه في هذا الممر الضيق كأنه النفق، حتى إذا مشى غير قليل انفرجت هذه الشجرات الملتفة المتكاثفة قليلا قليلا، حتى جعلت بينها مكانا رحبا فسيحا قد فرش بالعشب المتكاثف، وقامت في أطرافه نجوم وأزهار لاذت بهذه الأشجار الضخام الطوال كأنما تحتمي بضخامتها وطولها من العاديات. هنالك وقف الملك فأطال الوقوف، وتنفس هذا الهواء العذب الرطب فأطال التنفس، ثم جلس على الأرض متهالكا متثاقلا، ثم أسلم نفسه إلى ما حوله، فلم يشعر بشيء ولم يحس شيئا، ولكنه يفيق من نومه مذعورا أو كالمذعور؛ فقد سمع صوتا حلوا يشبه صوت الماء وهو يتحدر في غديره ذاك بين النرجس والياسمين، لولا أن في هذا الصوت حياة لم يتعود أن يجدها في خرير الغدير، ولولا أن في هذا الصوت تقطعا وتكسرا وتهالكا، لم يتعود أن يجد مثله في تحدر الماء بين النرجس والياسمين، ويفتح الملك عينيه، فيرى فتنة لا تلبث أن تملك عليه سمعه وبصره وقلبه وعقله جميعا.
هذه شهرزاد قائمة منه غير بعيد، تنظر إليه نظرات فيها الحنان والمكر، وهي مغرقة في ضحك هادئ عذب يرتفع له صدرها وينخفض، ويغشي وجهها بغشاء من الجمال الرائع ليس إلى تصويره من سبيل، وهذا الملك ينظر إليها مسحورا مبهورا، وهي تضحك من ذهوله وحيرته، ولكنه ينهض خفيفا ويسعى سريعا، حتى إذا بلغها أو كاد جثا أمامها غاضا بصره إلى الأرض رافعا يديه إلى السماء كأنه المؤمن الذي يتقرب إلى التمثال، وهي تضع يدها على رأسه ضاحكة كأنها تبارك عليه، ولكنها لا تلبث أن تستحيل إلى حنان خالص، وإذا هي تميل إليه مترفقة فتضع على جبهته قبلة حلوة حارة طويلة، ولو أنها تحدثت في تلك اللحظة لأحس شهريار في صوتها تهدج العبرات التي تريد أن تندفع من العيون، ولكنها الإرادة القوية تمسكها فيظهر أثر هذا الصراع في الصوت المحتبس والألفاظ التي لا تبين، ولكنها لم تقل شيئا، وإنما استقام قدها المعتدل وامتدت يدها الرخصة إلى الملك فأنهضته صامتة، واستجاب لها الملك صامتا طيعا، فمضت به خطوات إلى نشز من الأرض قريب يكسوه العشب فأجلسته وجلست إلى جانبه، وأحاطت عنقه بيدها ثم أمالته في رفق حتى وضعت رأسه على كتفها، وظلت تنظر إليه، وظل ينظر إليها وهما مغرقان في صمت عميق، ثم يسمعها شهريار تتحدث إليه في صوت هادئ وادع وهي تقول له: «ألم يأن لنا بعد أن نهبط من السماء وأن ننزل إلى الأرض فنعيش فيها مع الناس؟»
ولكن شهريار لا يجيبها، وإنما تنحدر من عينيه دمعتان هادئتان تمسحهما شهرزاد في رفق، ثم تنعطف إلى الملك فتقبل جبهته مرة أخرى، ثم تقيمه حتى إذا استوى في مجلسه جعلت تمر أصابعها في شعره رفيقة به باسمة له مطيلة النظر إليه صامتة مع ذلك لا تقول شيئا، وكأن هذا العطف الصامت الحار قد بعث الحياة والنشاط في قلب الملك وجسمه وفي عقل الملك وإرادته؛ فهو يرفع رأسه إلى شهرزاد ويسألها في صوت كأنه يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر: من أنت؟ وماذا تريدين؟» قالت وقد استردت نشاطها ومرحها وانحسر عنها العطف والحنان كما ينحسر البحر عن الساحل ساعة الجزر وبدت مداعبة شموسا: «من أنا؟! أنا شهرزاد التي أمتعتك بقصصها أعواما لأنها كانت خائفة منك، والتي تمتعك بحبها الآن لأنها واثقة بك مطمئنة إليك، وماذا أريد؟! أريد أن أرى مولاي الملك راضيا سعيدا ناعم البال رخي العيش مبتسما للحياة كما تبتسم له الحياة.»
ولم يكد شهريار يسمع هذا الصوت الحلو يحمل إليه هذه الألفاظ الساحرة حتى أطرق إلى الأرض غاضا بصره متهالكا، كأنه الطائر القوي، هم أن يرتفع في أجواء السماء فأثقلته قوة قاهرة لم يستطع لها مقاومة، فارتد إلى الأرض وجثم عليها مذعنا مقهورا، وتدنو منه شهرزاد فتمسح على رأسه وتنظر في وجهه وترسل إليه هذه الابتسامة الغامضة، فيتلقاها مشفقا مغيظا في وقت واحد، ثم يظلان على هذا الوضع لحظات، وإذا هو يسألها: «ألا تجلسين!» فتستجيب له كما تستجيب الأمة الخاضعة للسيد المتسلط، فلا يزيده هذا إلا حيرة وغيظا، وهو يعيد سؤاله في صوته الهادئ الذي كأنه يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت؟! وماذا تريدين؟» فتجيبه هذه المرة في صوت جاد فيه كثير من الرحمة والحنان: «من أنا؟! أنا شهرزاد التي أحبتك قبل أن تعرفك كما لم تحب فتاة رجلا قط، والتي خافتك حين عرفتك خوفا لم يخفه إنسان إنسانا قط، والتي زفت إليك تتحدى الموت وتتحدى السلطان وتتحدى الحب والبغض جميعا، فبلغت من نفسك هذه المنزلة التي تراها أو التي لا تراها، ثم أصبحت الآن وهي لا تفكر إلا فيك ولا تفكر إلا بك ولا تفكر إلا لك. ماذا أريد؟! أريد أن تكون سعيدا موفورا، ولكني لا أعرف كيف أجعلك سعيدا موفورا. من أنا؟! أنا من تحب أن ترى في أي ساعة من ساعات النهار، وفي أي ساعة من ساعات الليل. أنا أمك حين تحتاج إلى حنان الأم، وأنا أختك حين تحتاج إلى مودة الأخت، وأنا ابنتك حين تحتاج إلى بر البنت، وأنا زوجك حين تحتاج إلى عطف الزوج، وأنا خليلتك حين تحتاج إلى مرح الخليلة، أنا كل هذا، وماذا أريد؟! أريد ما تريده الأم لابنها، وما تريده الأخت لأخيها، وما تريده البنت لأبيها، وما تريده الزوج لزوجها الوفي، وما تريده العشيقة لعشيقها المفتون، وقد سألتني فألحفت علي في السؤال، أفتأذن لي في أن أسألك؟» فيرفع الملك إليها بصره كالمنكر لما تقول، ولكنها تتضاحك وتتماجن وتسأله: «كيف أراك في هذا المكان من جنة القصر حين كان ينبغي أن أراك في غرفتك تتهيأ للخروج إلى حيث تستقبل وزراءك وتصرف أمور ملكك، أو أراك قد خرجت مبكرا فأقبلت على شئون الدولة تصرفها حفيا بها مكبا عليها. وكيف أذنت لنفسك في أن تنسل من غرفتك على هذا النحو الذي لم يعتده الملوك، وعلى هذا النحو الذي لم يألفه المحبون؟ فأنت لم تؤذن أحدا من رجال حاشيتك بأنك مقبل على هذا المكان القصي. ولولا أنك مراقب في قصرك كما يراقب أشد الناس عداء للدولة وخطرا عليها، لوجدت مشقة كل المشقة في الاهتداء إلى مكانك هذا، ثم أنت لم تؤذني ولم تؤذن أحدا من وصائفي بسعيك إلى هذا المكان، وقد كنت خليقا أن تذكر أني لا أكاد أنهض من مضجعي وأفرغ من زينتي حتى أسعى إلى غرفتك لتكون أول من يراني ولأكون أول من يراك. أترى إلى ذنوبك يا مولاي! إنها عظيمة جسيمة، وإنك خليق أن تستغفر منها إلى أمتك هذه التي تعفيك من الاعتذار وتستغفرك من تحدثها إليك في هذه اللهجة القاسية التي إن صورت شيئا فإنما تصور الحب والإشفاق والحنان.»
ثم تضمه إليها وهي تقول: «حدثني الآن كيف انتهيت إلى هذا المكان؟! أم تريد أن أحدثك أنا بهذا الحديث؟» قال شهريار: «وإنك لتعلمين كيف انتهيت إلى هذا المكان؟» قالت وقد عادت إلى ابتسامها الغامض وصوتها الغريب: «إنك يا مولاي ملك عظيم، ولكنك على ذلك تمر بأطوار الطفل الصغير، وأي عسر في أن أقص عليك بدء حديثك؟ لقد أيقظتك أمس حين أوشكت الشمس أن تزول، وأنبأتني بأنك قضيت الليل مؤرقا مسهدا، ولقد اجتهدت في أن أسري عنك وأردك إلى ما ينبغي لك من الدعة والرضا، وخيل إلي أني تركتك أمس راضيا محبورا، ولكني استيقظت مبكرة وأسرعت إلى غرفتك، فلما لم أرك فيها ورأيت بابها إلى الطنف مفتوحا، استيقنت أنك قد أرقت من ليلتك هذه أكثر مما أرقت في ليلتك تلك، واستيقنت أنك قد ضقت بغرفتك فخرجت منها مع الصبح وأخذت طريقك إلى مكان عزلتك هذا، فتبعتك حتى ألفيتك مغرقا في هذا النوم الذي أغراه بك الجهد والإعياء. أليس هذا كل حديثك يا مولاي؟! أمحتاجة أنا إلى ذكاء الرجال أو إلى كيد النساء لأعلم علمه ثم لأعيده عليك كما كان؟»
وانتظرت أن يجيبها شهريار، ولكنه لم يحر جوابا، فعادت إليه تسأله متلطفة: أمستخذون نحن من هذه القصة؟ إنها لا تدل على براعة ولا على مهارة ولا على قوة وأيد، وإنما تدل على ضعف وتهالك وانحلال في الأعصاب، ومن أجل ذلك فكرت في أن أطب لك حتى أشفيك من هذه العلة التي لا أعرفها وما أراك تعرفها، ولكني سأبرئك منها على كل حال.» قال مبتسما: «وكيف تبرئينني من داء لا تعرفينه؟» قالت في صوت المرحة المتمردة: «فإني طبيبة لا كالأطباء، أداوي ما أجهل وأداوي ما أعرف، وربما كنت على علاج الداء المجهول أقدر مني على علاج الداء المعروف.» قال وقد اتسع ابتسامه وأوشك أن يكون ضحكا: «وكيف ذاك؟» قالت: «ذاك أني سأقلب نفسك على جميع وجوهها، وسأرسل عليها من نفسي قوة لا تعرفها ولا تقدرها، وسأرد عليك ما فقدت من بأس وأيد. إنك لا تعرفني. ألست تقول لي ذلك في كل وقت؟ قال شهريار حازما: «فهذه علتي.» قالت: «سأبرئك منها.» قال: «ستعرفينني نفسك إذا؟» قالت في كثير من الدل: «سأعرفك منها ما ينبغي أن تعرف لتسترد قوتك ونشاطك؛ ولتعنى برعيتك هذه التي أخذت تهملها منذ حين. على أني لا أدري لماذا تريد أن تعرفني! أضقت بحبي إلى هذا الحد؟»
فنظر إليها حائرا كأنه لم يفهم عنها. قالت في دلال وحدة: «لا تنظر إلي هذه النظرات الحائرة! إنك ملك عظيم تدبر أمور رعية لا تكاد تحصى، وقد بلغت سنك هذه التي لا يبلغها الرجل حتى يكون قد خبر الدهر وانتفع بتجاربه. ألم تعلم بعد أن الحب لا يقتله شيء كما تقتله المعرفة؟ إن كنت زاهدا في حبي ضيقا به، فإني أستطيع أن أشفيك من علتك فأظهرك من نفسي على جميع أثنائها وأحنائها، ويومئذ تنصرف عني وتزهد في، ومن يدري؟! لعلك تلحقني بأولئك النساء اللاتي أرسلتهن إلى العالم الآخر، ولكني أنا لم أزهد في حبك ولم أزهد في الحياة بعد، وإذا فلن أمكنك من الانصراف عني والزهد في، وإذا فستسعى دائما إلى أن تعرفني، وسيخفى دائما عليك مني بعض الشيء، وستحبني ما دمت تجهلني، وستجد من هذه الحرب بين الحب والمعرفة قوة تحبب إليك الحياة وترغبك فيها، ولكن أين نحن الآن من النهار؟ وأين نحن الآن من شئون الملك؟ وأين نحن الآن من شئون أنفسنا؟ ألا تحس ألم الجوع؟ إني لا أكاد أستقر من شدة ما أجد من هذا الألم، ولكن انتظر قليلا.» ثم تضرب إحدى يديها بالأخرى مرة ومرة، وإذا الخدم يسعون وهم يحملون إلى الملك والملكة ما يحتاجان إليه من طعام وشراب، ويهم أن يتكلم ولكنها تسبقه إلى الكلام، فتقول ضاحكة: «أنت أسيري منذ الآن يا مولاي، لن أفارقك حتى تفارقك علتك. إن غرفتك حرام عليك، ستنفق الليل في غرفتي، سأسلمك إلى النوم وديعة محفوظة، وسأستردك من النوم كما يسترد المودع وديعته، وسألزمك حتى تضرع إلي في أن أريحك من نفسي ساعة أو بعض ساعة.» قالت ذلك وانحنت إليه فقبلت بين عينيه والخدم ينظرون وينظمون المائدة، ولكن شهريار لم يقل شيئا، ولو كشف لنا عن نفسه لما عرفنا أكان سعيدا أم كان شقيا، فقد كان أحب شيء إليه أن يكون أسير شهرزاد، ولكنه كان يشفق أن تسلمه شهرزاد إلى النوم وأن تأمر النوم فيحتفظ به حتى يرده إليها وتفوته بذلك أحلام شهرزاد.
على أنه لم يكد يعود إلى طبيعته المألوفة التي رده إليها إقدامه على الطعام والشراب والحديث حتى نسي الليل وسهوده وهجوده ووطن نفسه مسرورا محبورا، على أن ساعة مع شهرزاد خير من كل أيامه تلك التي كان يحياها منفردا أو كالمنفرد، لا يلقى زوجه إلا بمقدار وعلى ميعاد، حسب ما تقتضيه ظروف الحياة للملوك الذين أثقلت قصورهم التقاليد التي تراكم بعضها فوق بعض على ممر الدهور واختلاف الأجيال ، وما يمنعه وقد فتحت له شهرزاد هذا الباب الذي لم يكن ينتظر أن يفتح له، ما يمنعه أن يتمارض ويتكلف العلة ويلقي إلى وزيره مقاليد الدولة يدبرها كما يشاء أو كما يستطيع، حتى يبل هو من مرضه أو من تمارضه! ما يمنعه أن يتكلف العلة ليخلص لشهرزاد ما دامت هي تريد أن تخلص له! ولكن ما الذي حملها على أن تلقاه بهذا العطف الذي لم يتعوده، وبهذا الحنان الذي لم يألفه! أتراها صادقة فيما تظهر من ذلك أم تراها متكلفة؟! وما الذي يدعوها إلى هذا التكلف، وهي تعلم حق العلم أنها مستأثرة بقلب الملك وعقله تأمرهما بما تشاء دون أن تخشى منهما امتناعا عليها، وتنهاهما عما تشاء دون أن تخشى منهما خلافا، وهي أكرم على نفسها وأرفع في نفسها من أن تتملق رجلا أو تتلطف له مهما يكن؟! هي إذا لا تتكلف هذه العواطف، ولكنها مع ذلك لم تألف هذه العواطف ولم يألفها منها شهريار! وإنما هي غامضة دائما، مدلة دائما، لا تدنيه إلا لتقصيه، ولا تلطف به إلا لتعنف عليه، أفتراها قد وصلت إلى دخيلة نفسه، ووقفت على جلية أمره، وعرفت أنه مريض حقا، وأشفقت عليه من هذا المرض؛ فهي تريد صادقة أن تبره وترفق به وتطب علته حتى يبرأ.
كل ذلك ممكن وغير ذلك ممكن، سواء منه ما عرفه شهريار وما لم يعرفه، فقد استقر في نفسه أن صاحبته بحر لا يسبر غوره، وليل لا تنجلي ظلمه، ولغز لا تحل مشكلاته، وهو على ذلك ناعم بعشرتها سعيد بما تحمله عليه من الرضا والسخط، ومن اللذة والألم، ومن النعيم والبؤس، ومن الظفر والحرمان. فلينتهز إذا هذه الفرصة التي هيئت له، ولينعم بهذه السعادة التي تعرض عليه، وليعش في ظل شهرزاد ناعما بائسا وسعيدا شقيا كما تعيش رعيته في ظله هو ناعمة بائسة وسعيدة شقية. وقد كان يظن أنه الملك، وأن كلمته هي العليا، وأن أمره هو المطاع الذي لا معقب له، فقد ظهر له الآن أن هناك ملكا أقوى منه وأعظم سلطانا، وأنه هو الرعية لهذا الملك، وهل شهرزاد آخر الأمر إلا قوة متسلطة عليه تصرفه كما تريد وتدبر أمره كما تهوى دون أن يستطيع امتناعا عليها أو إباء؟!
وكذلك أنفق شهريار نهاره الأول كالطفل خاضعا لسلطان أمه الحنون، تأمره فيأتمر وتنهاه فينتهي، واجدا في ذلك اللذة كل اللذة والنعيم كل النعيم، وكانت شهرزاد رفيقة به إلى أقصى غايات الرفق، محبة له إلى أبعد آماد الحب، تصرفه في فنون الهزل والجد، وتنقله في أطوار المرح والهدوء، حتى إذا ضرب الليل سرادقه المظلم الكثيف على الكون أوت به إلى غرفة من غرفاتها، فتحدثت إليه فنونا من الحديث، وأسمعته ألوانا من الغناء وضروبا من الموسيقى، ثم أقبلت إليه آخر الأمر باسمة هادئة وقالت له في صوت متكسر بعض التكسر فاتر بعض الفتور: «قد آن للطفل أن يستريح إلى النوم فيما أظن، هلم إلى مضجعك يا مولاي.» ثم أخذت بيده ومضت وهو يتبعها مستسلما محبا لهذا الاستسلام منكرا له في قرارة نفسه، سائلا عن إرادته أين ندت، وعن قوته أين شردت، راجيا ألا تعود إليه هذه الإرادة وألا ترد إليه هذه القوة، فمن الخير أن ينعم الإنسان «بإجازة» يستريح فيها من إرادته وقوته ومن ملكات نفسه كلها، وقد أذن لشهرزاد بهذه الإجازة، فهو ينعم بها غارقا في لذاتها إلى أذنيه، وها هو ذا قد أوى إلى سريره، وها هي هذه شهرزاد تسوي له الوسائد حتى تطمئن إلى أنه قد استراح في مضجعه، ثم تنصرف عنه لنفسها شيئا، ثم تعود إلى الغرفة فتمضي فيها ذاهبة آئبة مختلسة نظرة بين حين وحين إلى طفلها هذا الكبير. حتى إذا رأته قد اطمأن إلى النوم ومضى معه في طرقه المجهولة، أوت هي إلى سريرها فغاصت فيه غوصا ودعت النوم، فما أسرع ما استجاب لها وشمل الغرفة هدوء متصل.
أطال هذا الهدوء أم قصر؟ لا سبيل إلى معرفة ذلك؛ فقد كان الليل قد قطع في طريقه شوطا بعيدا قبل أن ينام العاشقان، ولكن شهريار يتنبه من نومه هادئا مطمئنا لا يقول شيئا ولا يأتي حركة، وإنما يمد سمعه نحو سرير شهرزاد فقد ألم به طائفه ذاك فمس كتفه مسا رفيقا وألقى في روعه هذه الجملة: «أفق ولا تحدث حسا، فقد آن أن تستمع لحديث شهرزاد.»
4
ولا يطول انتظار الملك، لكنه يسمع قائلا يقول: «فلما كانت الليلة الحادية عشرة بعد الألف قالت شهرزاد ...» ثم ينقطع هذا الصوت، ويبلغ أذن الملك صوت شهرزاد رقيقا رشيقا وهي تقول: «بلغني أيها الملك السعيد أن وزير الملك طهمان بن زهمان اضطر إلى إخفاء ما في نفسه من الخوف على المدينة وأهلها مما أزمعت فاتنة، وخرج وهو يقول للملك: «إنه مبلغ تحدي الأميرة لملوك الجن جميعا.»
فلما خلا الملك إلى ابنته قال لها في صوت باسم يملؤه الحنان: «فستأذنين لي في أن أحدثك بما أبيت أن تسمعيه من الوزراء ورجال القصر؛ فإنهم يا ابنتي قد أشفقوا على أنفسهم ومدينتهم وأهل المملكة جميعا من هول هذه الحرب التي تتعجلينها، وهم يعلمون أن أهوال الحرب لن تبلغك ولن تبلغني، فإن لك ولي من ملكنا عصمة ووزرا، ولكنها ستبلغهم هم، ستعرض شبابهم للموت، وستعرض أطفالهم لليتم، وستعرض شيوخهم للبؤس والثكل، وستعرض نساءهم للتأيم والشقاء، وستعرض أموالهم للفناء، ستصب عليهم البؤس صبا في ألوانه المختلفة التي لم نذقها ولا ينتظر أن نذوقها، ولكننا نعلم ما نعلم من أمرها بما نقرأ في الكتب وما نسمع في الأحاديث، وقلما نراها رأي العين أو نحسها إحساسا مباشرا، فنحن لا نتنزل إلى مخالطة الرعية لنشهدها حين تبتهج وحين تبتئس وحين يمسها جناح من لين أو يصيبها عارض من شدة، فلهم العذر يا ابنتي إن ارتاعوا أو التاعوا أو أشفقوا من هذا المكروه الذي يوشك أن يلم بهم فلا يبقي عليهم، وفي قلوبنا نحن الرجال قسوة، وفي أكبادنا غلظ، وفي طبائعنا شدة وعنف، ولكن قلوب النساء رحيمة، وأكبادهن رقيقة، وطباعهن لينة صافية، فإذا دبر ملوك الجن ما دبروا وقدروا أن ينصبوا لنا الحرب، فقد كنت أنا خليقا أن ألقاهم بهذه الشدة، وأن أنصب لهم حربا كالتي يريدون أن ينصبوها لي، وأن أكيد لهم كما يكيدون لي، وكنت أنت خليقة يا ابنتي أن تشفقي من هذا الهول، وأن ترفقي بالرعية، وأن تقترحي علي وعلى الوزراء من وسائل السلم ما يرد عن الناس هذا المكروه، ولكنهم يا ابنتي قد رأوني صامتا لا آمر ولا أنهى، ورأوك مقدمة على هذا الأمر العظيم لا تحسبين حسابا لنعيمهم الضائع وبؤسهم الواقع، فأنكروا في نفوسهم وهموا أن يجهروا بما أضمرت قلوبهم، ولكنهم خافوك وخافوني، فأذعنوا للأمر على كره منهم ولم يقولوا شيئا، أو هم خافوك أنت ولم يخافوني أنا! فقد أصبحت شيئا لا يخاف، وإنما أنا هامة اليوم أو غد كما يقول حمقى الناس من حولنا، وجذوة اليوم أو غد كما ينبغي أن نقول نحن في لغتنا، ومهما يكن من شيء فإنهم خافوك يا ابنتي؛ لأن أمرهم إليك غدا أو بعد غد، ولم يخافوني أنا لأني متصل بالماضي الذي ليس إلى رجوعه من سبيل.»
وهمت فاتنة أن ترد على أبيها، ولكنه مضى في حديثه مترفقا فقال: «ويظهر يا ابنتي أن الشيخوخة تدنينا من العقل أو تدنينا من الجنون أو تدنينا منهما جميعا، ولست أدري أحزم ما يضطرب في نفسي من الخواطر أم حمق؟ ولكني ملقيه إليك على علاته، فخذيه مني كما هو، وافعلي به بعد ذلك ما تريدين؛ فقد وصلت إلى السن التي لا أستطيع أو لا أريد أن أبرم فيها أمرا، فيم يدبر ملوك الجن لنا هذا الكيد؟ وفيم ينصبون لنا هذه الحرب؟ وفيم تلقين كيدهم بمثله وتهيئين لحربهم حربا مثلها؟ في شيء لا يعني رعاياهم ولا رعيتنا من قريب أو بعيد. هم يحبونك ويتنافسون فيك، وأنت تزدرينهم وتترفعين عنهم وتمتنعين عليهم، وماذا يعني رعايانا البائسين مما نجد من الحب والبغض، وما نحس من العشق والهيام! إنهم لا ينعمون حين ننعم، ولا يبتئسون حين نبتئس؛ وإنما تجري حظوظهم من النعيم والبؤس على قوانين لا صلة بينها وبين ما نستمتع به من سعادة، أو نرزح تحته من شقاء ، ومن القسوة يا ابنتي أن ننعم وهم بائسون، وأن نقوى وهم ضعفاء، ونثري وهم فقراء، نستمد من بؤسهم نعيما، ومن ضعفهم قوة، ومن فقرهم ثراء، فكيف نضحي بهم في سبيل أهوائنا وشهواتنا وعواطف قلوبنا، ونزعات نفوسنا! لو رفقت بهم يا ابنتي لجنبتهم هذه الحرب التي يدبرها عشاقك، وهذه الحرب التي تدبرينها أنت لهؤلاء العشاق، ولاخترت لنفسك من بين هؤلاء الملوك زوجا تنعمين بعشرته وينعم بعشرتك، ومن يدري لعل رعيتكما أن تصيب أطرافا من هذا النعيم، ولكنك يا ابنتي لا تجنبينهم حربا، وإنما تدفعينهم إليها دفعا كما تدفع الوقود إلى النار المضطرمة التي لا تشبع مهما يقدم لها من الحطب، وأمرك في ذلك كأمر عشاقك جميعا، كلكم يتبع هواه الجامح، ويركب شهوته المندفعة، ويضحي في سبيل نفسه بكل شيء وبكل حي. ليس هذا حقا، وليس هذا عدلا، وقد كنت أعجب آنفا بما أوتيت من العلم وما بلغت من الحكمة يا ابنتي، ولكني أجد الآن حزنا لاذعا يؤذي شيخوختي المتهالكة؛ لأن ما أوتيت من العلم وما بلغت من الحكمة لم يهيئ لك وسيلة تسعدين بها غيرك كما هيأ لك هذه الوسائل التي ترضين بها هواك، وتحققين بها مآربك، وتظهرين بها على عدوك، وقد يكون كلامي هذا ثقيلا عليك يا ابنتي؛ فإني جربت الملك من قبلك، وعرفت أن الحق لا يبلغ من المرارة في نفس أحد ما يبلغه في نفوس الملوك، وعرفت أن النصح لا يثقل على أحد كما يثقل عليهم، فلكل امرئ من نفسه ما تعود، كما سيقول شاعر من الناس فيما يقبل من الزمان، ونحن قد تعودنا أن تستقيم لنا الأمور، وأن تجري لنا على ما نريد لا على ما يريد غيرنا، ونحن قد ألفنا أن نأمر ولا نأتمر، وأن ننهى ولا ننتهي، وأن نطاع ولا نطيع؛ فأصبح الشذوذ لنا طبيعة، والجموح لنا فطرة، والاستبداد بالحياة والأحياء لنا قانونا، فإذا تحدث إلينا متحدث بالحق، أو دعانا داع إلى العدل، أو رغبنا مرغب في أن ننصف من أنفسنا كما ننتصف لها، ضقنا بذلك أشد الضيق، وكرهناه أعظم الكره، ونكلنا بمن يدعونا إليه أو يرغبنا فيه تنكيلا، ولو أن وزيرنا قال لك بعض ما قلته الآن لأرسلته إلى الموت، أو لألقيته في غيابات السجن؛ وهو من أجل ذلك لم يقل لك شيئا، ولكنه قدر في نفسه كل ما قلت لك.
ففكري يا ابنتي في رعيتك وارفقي بها، بل فكري في رعايا عشاقك وارفقي بهم؛ فإن نعيم ساعة أو نعيم عام أو نعيم الدهر كله - إن ظفرت به - لا يعدل نفسا من هذه النفوس الكثيرة التي ستزهق ولا قطرة من هذه الدماء الغزيرة التي ستراق، أتسمعين لي يا ابنتي أم أنت ذاهلة عني مشغولة بتدبير أمرك هذا الذي تقدمين عليه!»
قالت فاتنة وقد غشي وجهها شيء من كآبة لم يلبث أن جلته ابتسامة حلوة: «لقد استمعت لك يا أبت فأحسنت الاستماع، وما ينبغي أن أذهل عما تقول أو ما تعمل، ومنك تعلمت أدب الحديث وأدب الاستماع وآداب الملك كلها، وما قلت لي يا أبت إلا الحق وما دعوتني إلا إلى الرشد، ولكن أمن الحق أن أكره على ما لا أريد؟! إن هؤلاء الذين يخطبونني إليك يعلمون حق العلم أني لا أحب منهم أحدا، ولا أبغض منهم أحدا، ولن أتزوج منهم أحدا، أفإن نصبوا لي الحرب ليكرهوني على ما لا أحب ويحملوني على ما لا أرضى، فلقيت كيدهم بكيد مثله، ودفعتهم عن نفسي بما تعودنا أن ندفع به عن أنفسنا، أكون ظالمة آثمة؟! فالتمس لي إذا يا أبت فرجا من هذا الحرج، ومخرجا من هذا المأزق، وهل يقصر إثم الحرب على هذه الحرب التي نحن مقدمون عليها؟! ومتى رأيت الملوك يقدمون على حرب لا تدفعهم إليها شهواتهم الجامحة وعواطفهم الجائرة؟! ومتى رأيت الشعوب تجنب هذه الأهوال وتعصم من الحرب لغير مصالحها المؤكدة ومنافعها المحققة؟! إن أثرة الملوك والسادة والزعماء، هي التي تثير الحرب دائما، وهي التي ترهق الشعوب دائما، وأكاد أعتقد أن الشعوب إنما خلقت ليرهقها الملوك والزعماء بالحرب والسلم جميعا، فليست الشعوب أعظم حظا من السعادة أثناء السلم منها أثناء الحرب. إنا ندفعها إلى الموت حين نحارب، وندفعها إلى البؤس والشقاء حين نسالم، فهي ضحية لنا على كل حال.»
قال الملك: «فقد كنت أرجو أن يهيئ لك علمك وحكمتك ابتكار لون من ألوان الحياة لا تشقى فيه الشعوب بسعادة الملوك والزعماء، ولكني أراك تسيرين في الطريق التي سار فيها الملوك من قبلك، وقد كنت أنتظر غير هذا؛ ولكن الظنون تكذب والآمال تخيب.»
قالت فاتنة: «صدقت يا أبت! إن الظنون تكذب وإن الآمال تخيب، وما أكثر ما كذبت ظنوني وخابت آمالي! وإنك لترى وجهي مشرقا وثغري باسما وعيني تفيضان بهجة وبشرا، ولو اطلعت على ضميري وقرأت دخيلة نفسي لرأيت حزنا أي حزن، وشقاء، وشعورا هو أقرب إلى اليأس والقنوط منه إلى أي شيء آخر، وإني لأحدثك بهذا كله كارهة، وما كنت أريد أن أظهرك منه على شيء؛ فأنا شديدة الحرص على ألا ترى مني ولا ترى عندي إلا ما تحب، ولكنك قد باديتني بما تجد محسنا بذلك إلي، فلا بد من أن أباديك بما أجد مسيئة بذلك إليك، وليست هذه أول مرة آذيت فيها نفسك الكريمة، وشققت فيها عليك بما يعتادني من هم ثقيل. إنك يا أبت مستيئس مني لأني أسلك الطريق التي سلكها الملوك والأمراء من قبل، فأحيا لنفسي لا لغيري، ولا أرفق بهذه الرعية التي لم يرفق بها أحد قط، وهذا نفسه هو مصدر شقائي ويأسي، فأنبئني يا أبت ما بال هذه الرعية لا ترفق بنفسها ولا تعنى بأمرها ولا تفكر في مصالحها، وإنما ندعوها فتجيب، ونأمرها فتطيع، ونوجهها إلى حيث تشاء فتتجه إلى حيث نشاء، لا يخطر لها أن تأبى إذا بلغها الدعاء، ولا أن تعصي إذا صدر إليها الأمر، ولا أن تمتنع إذا وجهت إلى حيث لا تحب؟! أفنكون أرفق بها من نفسها، وأحرص على مصالحها وكرامتها مما تحرص هي على مصالحها وكرامتها؟!
ومع ذلك فأين يكون الفرق بينها وبيننا؟! أليس الرجال منها والنساء والشباب منها والشيوخ، يشعرون كما نشعر، ويحسون كما نحس، ويجدون اللذة والألم كما نجد نحن اللذة والألم، ويحبون الخير ويكرهون الشر، كما نحب نحن الخير ونكره الشر؟! فما طاعتها لنا في غير روية ولا تفكير، بل في غير فهم لما تؤمر به وتقدير لما تدعى إليه؟! أترى أنا خلقنا من عنصر غير عنصرها، أو أنها خلقت من نار غير التي خلقنا منها؟!
لقد كنت أفهم أن نتسلط على الناس، فلا يستطيعون لنا مقاومة ولا يحاولون علينا امتناعا؛ فنحن من نار وهم من طين، فأما أن نتسلط على الجن الذين خلقوا من عنصرنا فلا نجد منهم إلا الإذعان والاستسلام، كما يتسلط ملوك الناس على الناس فلا يجدون منهم إلا الإذعان والاستسلام، فهذا هو الذي يحير عقلي ويذهل لبي ويكل خاطري ويدفعني إلى اليأس ويحملني على أن أسلك الطريق التي سلكها الملوك من قبلي.»
قال الملك: «فإن قلبك في حاجة إلى الرحمة يا ابنتي، وعقلك في حاجة إلى أن يكون أقوم تقديرا للأمور؛ لقد نشأت على السلطان وتعودت حقوقه وواجباته. هيئت لذلك منذ درجت، وهيئ له من قبلك آباؤك وأمهاتك، ونشأت الرعية على عكس ما نشأت أنت عليه، وعودت غير ما عودت، وهيئت لغير ما هيئت له منذ الزمان القديم الذي لا نعرف له أولا، وكان هذا التفريق بين السيد والمسود خطأ، أفينبغي أن يستمر الخطأ؟! أليس من الممكن وقد ارتقت عقولنا ونفذت أبصارنا إلى كثير من حقائق الأشياء، وعلمنا أن هذه الفروق بيننا وبين الرعية مصطنعة لم تأت من الطبيعة، وإنما جاءت من الحضارة. أفليس من الممكن أن نصلح أغلاطنا ونقوم اعوجاجنا؟! بل أليس من الممكن أن نصلح أغلاط الطبيعة إن كانت هذه الفروق قد جاءت من الطبيعة؟! بلى! هذا ممكن، هذا واجب يا ابنتي، ولكن لا بد للنهوض بهذا الواجب من أن نشعر قلوبنا الرحمة والإحسان، ومن أن نؤمن بأن حياة الملوك ليست حقوقا كلها، ولكنها واجبات أيضا، وربما كان نصيب الواجب فيها أعظم من نصيب الحق. ما الذي يمنعنا أن نشعر الرعية بنفسها ونبصرها بحقها كما بصرناها بواجبها، ونهيئها لا أقول لتستأثر من دوننا بالأمر، ولكن لتشاركنا في الأمر وتعيننا على احتمال أعبائه الثقال؟!»
قالت فاتنة: «ومن أجل ذلك أنشأت المدارس يا أبت وأذعت العلم وقد كان سرا مكتوما، ومن أجل ذلك رفعت إليك بعض النابهين من الدهماء، فكلفتهم ما كلفتهم من أعمال الدولة، وقد كانت أعمال الدولة مقصورة على أفراد أسرتنا، ومن أجل ذلك عرضت نفسك لسخط الأمراء وكيد الشيوخ من رؤساء العشائر، وقد وصلت إلى كثير مما كنت تريد، فلولا هذه السيرة التي سرتها في الرعية لما ثار الاعتراض في نفوس الوزراء ورجال الحاشية حين أمرتهم أمري فأذعنوا له كارهين. هم الآن يضمرون الاعتراض وقد كانوا لا يشعرون به من قبل. أفهذا هو الذي أردت إليه؟»
قال الملك: «هو هذا يا ابنتي.»
قالت فاتنة، وقد وثبت إلى أبيها فضمته في رشاقة وقبلته في عنف: «وهو ما أريد إليه أيضا. ولتطب نفسك ولتقر عينك، فلن يصيب الرعية من هذه الحرب التي أثيرها سوء.»
قال الملك وهو يتضاحك: «ماذا تقولين يا ابنتي؟! حرب لا يصيب الرعية منها سوء؟! أحرب هي أم لعب؟!» قالت: «بل هي الحرب كل الحرب.» قال: «أوضحي يا ابنتي عما تريدين؛ فإني لا أفهم عنك شيئا.» قالت: «ذلك سري الذي ستفهمه حين أزيل عنه الستار.» وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وهم شهريار حين انقطع حديث النائمة أن يفكر فيما سمع، ولكن النوم لم يمهله كما كان يمهله من قبل، وإنما سعى إليه حثيثا، وسمع الملك صوت طائفه ذاك يقول: «كلا، لا تفكير الآن ولا يقظة. لقد أودعتك شهرزاد إلى النوم! وردك النوم إليها حينا، فستعود إلى النوم حتى تستردك منه شهرزاد كما تقدم إليك وعدها أمس.»
وأكبر الظن أن شهريار لم يسمع هذه الكلمات الأخيرة، وإنما أغرق في نوم هادئ لا تروعه الأحلام ولا يقطعه الأرق، ويفتح عينيه بعد وقت طويل أو قصير، فيرى الغرفة وقد أذن لضوء الشمس المشرقة أن يغمرها، فظهرت جميلة رائعة متألقة، ورأى شهرزاد قائمة من سريره غير بعيد وهي تمد إليه بصرها حلوا مداعبا كأنها تدعوه إلى أن يستيقظ، وهي مع ذلك صامتة لا تقول شيئا، ولكن وجهها يزدان بابتسامة حلوة تبعث الأمل وتدعو إلى النشاط، فلما رآها الملك ابتسم لها، وهم أن يسألها كيف قضت الليل، ولكنها ابتدرته بالسؤال فقالت: «كيف يجد مولاي نفسه؟» قال: «على خير ما أحب أن أكون ما دمت أنعم بقربك وأسعد منك بهذه النظرات الحلوة وبهذه النغمات الساحرة.» قالت: «لقد استيقظ مولاي غزلا، وأحسب أنه قد قضى ليلة هادئة.» قال: «كل الهدوء.» قالت: «ولكني أسأل مولاي، أيجد نفسه من القوة والنشاط والصحة خيرا مما كان أمس؟» فتردد الملك قبل أن يجيب، ولكنها لم تخل بينه وبين الجواب، وإنما قالت: «سأجيب عنك يا مولاي، وسأعفيك من هذه الحيرة، وسأريحك من كذب لا تحبه ومن صدق لا تجد الشجاعة عليه. فأنت بخير ما في ذلك شك، وأنت اليوم خير منك أمس ما في ذلك شك أيضا، ولكنك تخشى إن أنبأتني بذلك أن أخلي بينك وبين العمل وتكاليف الملك، وإن أنبأتني بغير ذلك لتستبقي هذه الراحة التي أخلدت إليها أن تقول غير الحق، وأنت لا تريد أن تكذب لأنك لا تحب الكذب أو لأنك تشفق ألا أومن لك. أليس هذا كله حقا يا مولاي؟!»
قال وهو يضحك، وقد أخذ يستوي جالسا في سريره: «هو كل الحق يا أحب الناس إلي.»
قالت في صوت العاتبة، وقد مالت إليه تقبله وتلاطفه: «إنك لأشبه شيء بالطفل الذي يداور أمه أو معلمه الحازم. لا بأس عليك، فلن يخلى بينك وبين العمل، ولن تحرم جوار شهرزاد. أليس هذا كل ما تريد؟» ثم جلست إلى جانبه، وأدارت ذراعها حول عنقه، وأخذت تنظر إليه نظرات ملحة كادت ترده من الذهول إلى مثل ما كان فيه من أمسه. لولا أنها نهضت ثم أنهضته وانصرفت به إلى حيث يستنشقان هواء الصباح مشرفين على جنة القصر من بعض الأطناف.
وقد أنفق الملك يوما من أسعد أيامه، لم يعرف فيه ألما ولا حزنا، ولم يحس فيه حسرة على ما مضى ولا استطلاعا لما هو مقبل، وإنما كان يعيش للساعات التي كان فيها مستمتعا بهذه اللذات الهادئة المختلفة التي كانت تقدمها إليه شهرزاد في غير تكلف وفي غير جهد ظاهر، فأما وجه النهار فقد أنفقاه متروضين في حدائق القصر، يقفان حينا ويسعيان حينا آخر، ويجلسان حين يحتاجان إلى الجلوس أو حين يعجبهما هذا الموضع أو ذاك من الحديقة، فيحبان أن يطيلا البقاء فيه. أحاديثهما أثناء هذه الرياضة هادئة كنفسيهما لا حوار فيها ولا جدال ولا تعمق فيها لشيء، وإنما هي أحاديث تجري على رسلها كما كانت حياتهما تجري على رسلها، وكما كان النسيم من حولهما يجري على رسله رخاء، وكما كانت الغصون تضطرب على رسلها في الهواء، وكما كانت الطير تتغنى على رسلها كذلك، وكما كانت الأزهار تتنفس على رسلها عما تنشر في الجو من عبير.
وكان شهريار قد انغمس في هذه الحياة الحلوة الهادئة، فنسي نفسه ونسي ملكه ونسي خواطره التي كانت تعتاده أثناء النهار وخواطره التي كانت تلم به أثناء الليل، بل نسي شهرزاد نفسها، ولم يقدر أنها كانت معه تسليه وتلهيه وتأسو جراح نفسه، وأن هذا النعيم الذي كان يستمتع به إنما هو من صنعها ليس غير، ولكن شهرزاد كانت بارعة في العناية به والتلطف له، حتى أنسته أنه موضوع العناية والرعاية. سحرته عن نفسه وعما حوله بسيرتها، كما كانت تسحره عن نفسه وعما حوله بقصصها، ويظهر أنه تنبه لذلك فجأة فقطع ما كان يمضي فيه من حديث عادي، ورفع رأسه كالواجم ونظر إليها محدقا فيها، ثم قال لها بصوته الهادئ الذي كأنه يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!»
قالت وهي تضحك ضحكا ينم عن بعض القلق: «أيكون الملك قد عاد إلى طوره الأول من الاضطراب والذهول؟ أو يعود إلى هذا السؤال الذي لا يغني شيئا ولا يدل على شيء؟! أنا من ترى ومن تسمع، ومن تحس قربها منك، وحبها لك، وفناءها فيك، وحرصها على أن تملأ نفسك غبطة، وضميرك بهجة، وقلبك أمنا وسرورا. إنك لا تسأل هذه الشجرة ولا هذه الزهرة ما هي ولا ماذا تريد، وإنما تنظر إليها وترضى عنها وتعجب بها، وتحمد الله على ما أنعم عليك من الاستمتاع بها. فانظر إلي كما تنظر إلى هذه الشجرة أو إلى هذه الزهرة، وخذ مني ما أعطيك وأعطني ما أسألك إن استطعت، ولا تكلف نفسك أكثر من هذا. عش بحسك وقلبك وضميرك، وتخفف من عقلك بين حين وحين. عش عيشة الإنسان الحي لا عيشة العالم الباحث؛ فإن للعلم والبحث وقتا مقسوما من حياة الناس، وما ينبغي أن تكون حياتهم كلها علما وبحثا وتعليلا وتحليلا.»
قال وقد أدار ذراعه حول خصرها اللطيف الرخص: «فإني لا أسألك الآن سؤال الباحث المستقصي، وإنما أسألك سؤال المحب المدنف، فقد عرفتك.»
قالت: «قد عرفتني! واحرباه! ستزهد في إذا قبل أن يتقدم النهار»، ثم أغرقت في ضحك غامض طويل.
قال: «قد عرفتك ولن أزهد فيك! لأن معرفتي إياك تدفعني على الاستزادة منك؛ فأنت قصص دائم لأنك سحر دائم، أخص ما تمتازين به أنك تشغلينني عن نفسي وعن ملكي وعما حولي وعمن حولي، بل تشغلينني عنك أيضا.»
قالت وقد أغرقت في الضحك: «إن كنت أشغلك حتى عن نفسي، فما أدري كيف تفكر في أو تسأل عني. ألا يمكن ألا أكون شيئا ما دمت أشغلك عن كل شيء؟! ألا يمكن أن أكون شيئا غيرك، فأنت تشغل بنفسك عن كل شيء وعن كل إنسان؟! ولكنك أنبأتني بأني أشغلك عن نفسك. صدقني إني لا أفهم عنك، وما أرى إلا أنك تمعن في فلسفة أشد مني غموضا وأعظم مني استعصاء على الفهم. دع الفلسفة ودع التفكير، وتعال ننعم بهذه الساعات الحلوة التي تتاح لنا والتي نختلسها أو أختلسها أنا لك ولي من تكاليف الحياة. إني أشغلك عن نفسك وأشغلك عن نفسي وأشغلك عن كل شيء. ولكن ما رأيك في أن شيئا لم يشغلني عن أن النهار يتقدم، وعن أننا نوشك أن نجد لذع الجوع، وعن أن من الحق علينا أن نتهيأ للغداء؛ ذلك أحرى أن يتيح لنا الإغراق في الفلسفة والإمعان في البحث عما وراء الطبيعة. هلم يا مولاي، فسترى أن هذا النعيم الحلو الذي استمتعنا به الآن ليس شيئا بالقياس إلى ما هيأت لك شهرزاد هذه التي لا تعرف من هي ولا تدري ماذا تريد.»
وكانت شهرزاد قد هيأت للملك نعيما لم يكن يقدر أنه سيتاح له في يوم من الأيام، منذ حمرة الدماء تلك التي كانت تصبغ في نفسه أعقاب الليل ووجه النهار من كل يوم، فقد كان منذ تلك الأيام السود والليالي البيض قد ألف الحزن حتى لا يفلت منه إلا الحين بعد الحين، حين كانت شهرزاد تقص عليه بعض أحاديثها أو تمتعه ببعض ما كانت تهدي إليه من سعادة حينا بعد حين. فأما نعمة البال ورخاء العيش وراحة الضمير وهدوء النفس المتصل، فقد كانت أشياء حرمت على شهريار وقطعت بينه وبينها الأسباب، فلما تقدم النهار وكاد أن ينتهي أقبلت شهرزاد بالملك على غرفة من غرفاتها في القصر وهي تقول له عابثة به: «ستعلم يا مولاي أنك لا تعرف من قصرك هذا إلا أقل ما فيه، وإني لأرجو أن يدعوك ذلك إلى التفكير فيما تعرف من أمور الملك والرعية؛ فإنك إن جهلت أمر قصرك وحاشيتك أيسره كنت خليقا أن تجهل من أمر ملكك ورعيتك أكثر مما تعلم، وكان الحكماء يقولون في قديم الزمان وسالف العصر والأوان: إن من أراد أن ينهض بالواجب في أي أمر من الأمور، خليق به أن يعرف ما هو مقدم عليه ويتبين دقائق ما هو ناهض به وحقائق ما هو مدبر له، وألا يقدم إلا عن بصيرة، ولا يعمل إلا عن علم، وما أعرف يا مولاي غرورا كغرور الذين ينهضون بتدبير أمور الناس وهم لا يعرفون من دخائل هؤلاء الناس شيئا، أو هم لا يعرفون منها إلا أقلها وأيسرها. إنهم يأمرون دون أن يقدروا مقدار احتمال الرعية لما يصدرون إليها من أمر، وإنهم ينهون دون أن يعرفوا إلى أي حد تطيق الرعية أو لا تطيق أن تنأى عما تنهى عنه؛ لأنهم لا يعرفون نفوس الرعية ولا يبلون طاقتها ولا يقدرون حاجتها، ولكني كنت أنهاك صباح اليوم عن الفلسفة فيما بعد الطبيعة، وها أنا ذي أخوض بك مساء اليوم في فلسفة الحكم وتدبير أمور الرعية كأني حديثة عهد بقراءة أفلاطون وأرسطاطليس، فلنعد إلى ما كنا فيه يا مولاي، فإني أريد أن أظهرك من قصرك على أشياء لم تكن تعرفها ولم تكن تقدر أنك ستعرفها.»
قال الملك وقد اشتدت حاجته إلى الاستطلاع: «فأظهريني إذا على ما تريدين أن تظهريني عليه.»
فقالت: «على رسلك يا مولاي، فما ينبغي أن تجري الأمور على ما تحب دائما، والعلم لا يبلغ إلا بعد الجهد في طلبه واحتمال العناء في تحصيله، وإني مدخلتك في هذه الغرفة وتاركة لك البحث في أنحائها وأرجائها ما وجدت إلى البحث سبيلا، فإذا أعياك البحث وأضناك الجهد فإني مشترطة عليك بعض الشروط لأريك ما لم تكن تتصور أنك ستراه.» ثم دفعت باب الغرفة فاندفع، ونظر الملك فلم ينكر في الغرفة شيئا ولم ير فيها شيئا خليقا بالالتفات، ولكنه مع ذلك جعل يجيل طرفه هنا وهناك، ويطيل النظر إلى بعض ما في الغرفة من أداة وأثاث يريد أن يخيل إلى شهرزاد أنه يبحث ويستقصي ويجد في البحث والاستقصاء، ثم يعترف لها بعد ذلك بأنه لم يصل إلى شيء، وإنما كان في هذا كله مخادعا يريد أن يتعجل العلم بما أعدت له شهرزاد من أسرارها المخبأة.
ولكن شهرزاد ضحكت للملك ضحكة فاترة لا تخلو من بعض الغيظ وقالت: «لست جادا يا مولاي، وإنك لتعرف أني لا أخدع ولا يغرر بي، وإنك لتعرف أني لا أكره شيئا كما أكره الكسل العقلي، وهذا الطور الذي يحصل عليه المترفون من أطوار الحياة حين ينتظرون أن يقدم إليهم الهين واليسير مما يريدون، لا يتكلفون فيه جهدا ولا يحتملون فيه عناء، فقد أنبأتك يا مولاي بأني سأقوم منك الآن مقام الساحرة الماهرة التي ستظهرك على الأعاجيب؛ فلا تتعجل هذه الأعاجيب، ولكن خذها بحقها، وأبلغها من طريقها، واحتمل في سبيلها ما ينبغي أن تحتمل من جهد، فإن لم تفعل خرجنا من هذه الغرفة كما دخلناها، وانصرفت بك إلى غير ذلك من فنون اللهو والمتاع، فما أكثر ما في القصر من فنون اللهو والمتاع!»
قالت ذلك ثم ضربت إحدى يديها بالأخرى فأقبلت الوصائف مسرعات يستبقن، كأن وجوههن فلق الصبح، وكأنهن لخفتهن ورشاقتهن لا يسعين على الأرض وإنما يسعين في الهواء، فلما رآهن الملك مقبلات سيء بهن وضاق بهن ذرعا، وكاد بعض ذلك يظهر في وجهه لولا فضل من حياء فرضه عليه أدب الملوك، فقد كان في جمالهن البارع وحسنهن الرائع منظر أنيق للعين وفتنة خلابة للنفس، ولكن محضرهن كان خليقا أن يصرف الملك عن شهرزاد أو يصرف عن الملك شهرزاد، وكان أبغض شيء إلى الملك وأشقه على نفسه أن ينصرف عن فتنته أو أن تنصرف عنه فتنته، فلما رأى الوصائف مقبلات لم يرتح لمقدمهن، ولكنه أمسك نفسه على ما لا تحب وانتظر حائرا أو كالحائر.
على أن انتظاره لم يطل؛ فقد أقبلت إليه رئيسة الوصائف، فحيت وقالت في صوت عذب: «أيأذن مولاي في أن يبدأ الحفل؟»
قال الملك دهشا متمالكا مع ذلك: «أي حفل يا ابنتي؟»
قالت الوصيفة: «كنت أظن أن مولاتنا قد آذنت الملك بما هيأت له.»
قالت شهرزاد في شيء من الغضب: «فإني لم أوذن الملك بشيء، فأمضين ما أمرتن به.»
منذ هذه اللحظة نقل الملك من حياة إلى حياة، ومن عالم إلى عالم، لم يدر كيف كان ذلك، ولم يستطع فيما استقبل من أيامه أن يصور لنفسه أو لغيره كيف كان هذا الانتقال، وإنما ذكر إلى آخر أيامه أن صوت شهرزاد لم يكد ينقطع بهذه الجملة المغضبة حتى شاع في الغرفة جو غريب قوامه أنغام موسيقية عذبة نفاذة إلى أعماق الضمائر أخاذة بمجامع القلوب.
وقد حاول الملك أول الأمر أن يتعرف مصدر هذه الأنغام، فنظر إلى الوصائف فإذا هن قائمات في أماكنهن لا يأتين حركة ولا يحدثن حسا ، وليس في أيديهن أداة موسيقية أو ما يشبه الأداة الموسيقية من قريب أو بعيد، ونظر إلى شهرزاد فإذا هي قائمة في مكانها وعلى وجهها ابتسامتها الغامضة التي لا تقول شيئا، والتي تقول كل شيء، والتي لا تخلو مع ذلك من سخرية تحفظ وتهيج، وأدار الملك بصره في الغرفة ينظر في كل مكان يريد أن يتبين لهذه الأنغام الساحرة مصدرا فلا يرى شيئا، وإنما يخيل إليه أن هذا الجو الموسيقي الذي أحاط به وأحاط بمن حوله أشبه شيء بالجو الذي يعيش فيه أثناء أوقاته العادية، لا يعرف أين يبتدئ ولا أين ينتهي.
وكان أغرب ما في هذا الجو الموسيقي الرائع اختلاف أنغامه وائتلافها في وقت واحد، بل اختلاف الأصوات التي كانت تحمل هذه الأنغام وائتلافها، فكان هذا كله يلقي في روع الملك أن هناك أدوات موسيقية مختلفة لا تحصى تصدر عنها أصوات وأنغام متباينة، ولكن قوة بارعة ساحرة قد أشرفت عليها ودبرت ما بينها من اختلاف حتى أحالته إلى ائتلاف.
ولم يمض على إحساس الملك هذا الجو من حوله وقت طويل حتى أحس الملك أنه يغرق في هذا الجو وينسى نفسه قليلا قليلا، كأنما كانت الحياة الشاعرة تنساب من نفسه ومن جسمه شيئا فشيئا، وإذا هو يفنى في هذا الجو المحيط به فيصبح صوتا من أصواته أو نغمة من أنغامه، أو يصبح جزءا شائعا في كل صوت من هذه الأصوات، وحظا مفرقا في كل نغمة من هذه الأنغام، وقد نسي كيف ابتدأ هذا الجو، ولم يسأل نفسه كيف ينتهي، وإنما استسلم لهذا البحر الموسيقي الذي غمره كما يستسلم الغريق بعد أن يبذل آخر جهده في المقاومة، وبقي له مع ذلك شعور واحد، وهو أنه في حضرة شهرزاد، وأنها تنظر إليه ساخرة منه راثية له، وتبسم له ابتسامتها الغامضة كأنها تقول له: «ألم أنبئك أني سأظهرك من الأمر على ما لم تكن تقدر أنك ستظهر عليه، وأني سأطلعك في قصرك على ما لم تكن تظن أن قصرك يحتويه، وأني سأسحرك وأبهرك وأضطرك إلى هذا الاستسلام الذي انتهيت إليه، ومع ذلك فقد كنت تخيل إلى نفسك أنك بدأت تعرفني! فذق الآن هذه المعرفة، وتبين أنك لم تجهلني قط كما تجهلني الآن.»
وينظر الملك إلى شهرزاد واجما مبهوتا، ويريد أن يتكلم فلا يطاوعه لسانه، ويريد أن يتقدم فلا تطاوعه قدماه؛ ولكن شهرزاد تسعى إليه هادئة كأنها الحياة تسعى إلى الجسم الهامد، أو كأنها اليقظة تسعى إلى النائم المغرق في النوم، حتى إذا بلغته وضعت يدها على كتفه وقالت له في صوت لم يستطع أن يفرق بينه وبين هذا الجو الموسيقي المحيط به، وإنما خيل إليه أن الغرفة كلها تكلمه بهذا الصوت، قالت له: «لا ترع يا مولاي، فليس عليك من بأس»، ثم أخذت ذراعه ومضت به إلى مجلس من مجالس الغرفة فأجلسته رفيقة به وجلست إلى جانبه عطوفا عليه، وقالت له في صوتها هذا الجديد الغريب: «ألم أنبئ مولاي بأني سأذيقه من نعيم الحياة ألوانا لم يذقها قط، بل لم يذقها إنسان قبله قط! أفيرى مولاي أني قد وفيت بالوعد أو بدأت بالوفاء!»
قال الملك في صوته الخافت الذي كان كأنما يأتي من بعيد: «ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!»
قالت متهالكة: «ألا يشغلك ما تسمع عن هذه الفكرة الملحة عليك المضنية لك؟! أليس خيرا من ذلك أن تسأل عن هذه الموسيقى من أين تأتي وإلى أين تمضي؟!» قال: «فإنها تأتي منك وإليك تعود.»
قالت: «فإذا لم يستطع سمعك أن يشغلك عني وعما أريد، فستشغلك عيناك يا مولاي. انظر!»
ونظر الملك من وله فرأى عجبا، لقد كان يعلم أن شهرزاد قد أقبلت به منذ حين على غرفة من غرفات القصر لها جدران تحدها وباب يغلق من دونها، ومن هذا الباب قد دخلت الوصائف آنفا، ومن هذه الجدران قد نبعت أنغام الموسيقى كما ينساب الماء من العيون الجارية، لكنه الآن ينظر فلا يرى جدران الغرفة، وينظر فلا يرى للغرفة سقفا ولا بابا، وإنما يرى نفسه في مكان متباعد الأرجاء مترامي الأطراف، قد زين أحسن زينة وأروعها وأعظمها تأنقا ورشاقة، وقد تقدم هذا المكان في بحيرة تحيط به من جهاته الثلاث، واتصل بالقصر من جهته الرابعة، فكأنه يد قد مدها القصر في هذه البحيرة لتأخذ منها شيئا، وهذا المكان الواسع الرائع يغمره الجو الموسيقي ذاك كما كان يغمر تلك الغرفة الضيقة الساذجة، ولكن شيئا آخر قد ظهر في هذا المكان، فهؤلاء أزواج من الفتيات والفتيان قد حسنت وجوههم واعتدلت قدودهم وغمرهم بشر عجيب وهم فرحون مرحون، يعبثون هنا ويجدون ويتراقصون في هذه الناحية ويسمرون في تلك الناحية، والملك مسحور مبهور يرى كل شيء ولا يحقق في نفسه مما يرى شيئا، وشهرزاد تقول له في صوتها الهادئ الذي يقع في نفسه كأنه قطعة من هذا الجو الفرح المرح: «لا بأس عليك يا مولاي! فإنك ترى هؤلاء الأزواج من الفتيان والفتيات، وتسمع لأصواتهم الجادة والعابثة، ولكنهم لا يرونك ولا يسمعون لنا حين نتحدث؛ لأنهم لم يخلقوا بعد، ولكنهم سيخلقون في يوم من الأيام. ألم أحدثك بأني ساحرة؟! فقد قصصت عليك العجب من أنباء الماضي، فأنا أقص عليك العجب من أنباء المستقبل، ولكنك يا مولاي لا تؤمن بالقصص، وإنما تتلهى به كما يتلهى به عامة الناس، ولو قد آمنت بالقصص كما تؤمن به شهرزاد، لما رأيت فيما تشهد الآن سحرا ولا فتنة، ولرأيت في هذا العالم الذي يبتدعه القصص ملجأ تأوي إليه ووزرا تعتصم به إذا ضاقت نفسك بهذه الحياة الراكدة التي يحياها الناس حين ينامون وحين يستيقظون وحين يضطربون في أمورهم اليومية. هلم يا مولاي، فقد بدأنا رحلة لم نتقدم فيها إلا قليلا.»
ثم تنهض متثاقلة، وتنهض الملك متلطفة، وتمضي به أمامها وقتا لا يدري الملك أطال أم قصر. ولكنها قد انتهت به إلى حافة البحيرة، فوقفت وأشارت بيدها في الفضاء أمامها، وقالت للملك: «انظر يا مولاي! ألا يشوقك أن تستمتع بما يستمتع به هؤلاء من النعيم!»
وينظر الملك فيرى أسرابا لا تحصى من الزوارق قد ملأت البحيرة مختلفة ألوانها مزدانة أجمل زينة وأروعها، يغمرها الضوء فكأنها تسبح فيه كما تسبح في الماء، تصدر عن بعضها الموسيقى، ويصدر عن بعضها الغناء، وكلها يصور الفتنة والسحر والجمال.
ويهم الملك أن يقول شيئا، ولكن شهرزاد تضمه إليها رفيقة به وتقول له في صوت فاتر ساحر: «لا تقل شيئا يا مولاي! فقد خلصت نفسك لي كما خلصت نفسي لك منذ الليلة. انظر إلى هذا الزورق يا مولاي! إنه يدعونا فلنجب دعوته. إنك لن تستجيب له حتى تنحسر عنك أيامك المثقلة بالهموم والأحزان والتجارب، وإني لن أستجيب له حتى أعود كما كنت قبل أن أتحداك وأتحدى عندك الملك والموت والحب جميعا. هلم يا مولاي لنعد إلى شبابنا القديم النقي الذي لا يدنسه إثم ولا تشوبه فتنة ولا تثقله تجربة، وإنما هو ناصع كضوء الشمس، رقيق كضوء القمر، حلو كابتسامة العذراء.»
ويرى الملك نفسه مع شهرزاد في زورق من هذه الزوارق الرائعة التي تسبح في الماء والضوء والموسيقى والغناء جميعا، ولكن ماذا؟ هذه يد تمس كتف الملك، وهذا الملك يثوب إلى نفسه فجاءة، وإذا هو نائم في مكانه من زورقه ذاك قد غلبه النوم على شعوره المستمتع بما كان يجد من لذة ونعيم، ثم ردته اليقظة لا إلى شعوره ذاك، ولكن إلى صوت يعرفه لأنه سمعه قبل ذلك، وإذا هذا الصوت يقول: «فلما كانت الليلة الثانية عشرة بعد الألف قالت شهرزاد.»
ثم ينقطع الصوت، ويمد الملك عينه ويمد سمعه، فيرى شهرزاد مغرقة في نوم هادئ، ويسمعها تقول في صوتها الرائع الحلو: «بلغني أيها الملك السعيد أن فاتنة قالت لأبيها: ذلك سري الذي ستفهمه حين أزيل عنه الستار.»
5
وملوك الجن يا مولاي لا يحتاجون إلى ما يحتاج إليه ملوك الناس حين يكتب بعضهم إلى بعض من قطع الآماد البعيدة في الأوقات الطويلة؛ ليظهر بعضهم على رسائل بعض، ولكن لهم فنونا من الحيلة يقطعون بها أبعد الآماد في أقصر الأوقات، يكون أحدهم في أقصى الشرق فيبلغ ما يريد لصاحبه في أقصى الغرب قبل أن يرتد إليه طرفه، لا تعوقه مسافة، ولا تصده أمواج البحر ولا عقاب البر ولا عواصف الجو، كأن لهم أرواحا تسعى بينهم بالرسائل؛ فكلهم بعيد من صاحبه إلى أقصى غايات البعد، وكلهم قريب من صاحبه إلى أدنى آماد القرب.
وما أكثر ما يأخذ الناس عن الجن! ولكن ذلك لا يتأتى لهم إلا بعد الجهد والمشقة، وحين يخطر لروح من أرواح الجن أن يتألف فردا من أفراد الناس، ومن يدري يا مولاي! لعل الناس فيما يستقبل من الأيام أن يتعلموا من الجن وسائلهم هذه في استخدام الأرواح، يتواصلون بها على بعد الشقة وتنائي الآماد.
ومهما يكن من شيء يا مولاي، فقد أقبل وزير الملك طهمان بن زهمان قبل أن يفرغ الملك من حديثه إلى ابنته، وجلا يخفي وجله في كثير من الجهد، ومذعورا يسر ذعره في كثير من العناء.
فلما مثل بين يدي الملك والأميرة قال في صوت متهدج مضطرب: «لقد أبلغت تحدي مولاتنا إلى ملوك الجن جميعا في البر والبحر والجو؛ فكلهم قبل التحدي، وكلهم أنذرنا بحرب تبدأ الآن، ولكنها لن تنتهي فيما يقولون إلا حين تستأسر مولاتنا للمنتصر.» ثم وقف واجما ذاهلا لا يكاد يعقل شيئا، بل لا يكاد يأتي حركة.
فنظرت إليه الأميرة باسمة ساخرة، وقالت في صوت المتضاحكة: «ثم ماذا أيها الوزير؟»
قال مضطربا متلعثما: «ثم إني أقبلت يا مولاتي أرفع الأمر إلى مولانا وإليك وأتلقى أمركما.»
قالت: «فأي أمر تريد أن تتلقى؟»
فوجم الوزير، ونظر أمامه والتفت عن يمين وشمال، كأنه يتلمس من يلهمه الرد على الأميرة. فلما لم ير أحدا قال في صوته المتهدج: «فهل يأذن مولانا في أن نجمع مجلس الحرب؟»
قال الملك: «هو ذاك.»
قالت الأميرة: «وما عسى أن يصنع مجلس الحرب؟»
قال الملك: «يصنع يا ابنتي ما تصنع مجالس الحرب في مثل الحال التي اضطررنا إليها، فهناك أوامر يجب أن تصدر، وجنود يجب أن تعبأ، وأمور يجب أن تهيأ.»
قالت فاتنة: «فأرح نفسك يا أبت من مجلس الحرب، فلسنا في حاجة إليه. لن تصدر الأوامر، ولن تعبأ الجنود، ولن يهيأ لهذه الحرب شيء. اذهب أيها الوزير فأذن في الجن ألا يراعوا؛ فليس عليهم من بأس، وإن هذه الحرب التي بدأت منذ الآن ستنتهي دون أن يصيبهم منها مكروه، بل أنا أرجو أن يصيبهم منها خير كثير.»
هنالك وثب الملك وقد ثاب إليه حزمه وعزمه وعاد إليه حده وجده، كأنما هب من نوم عميق طويل فاستقبل يقظة حافلة بجلائل الأعمال وعظائم الخطوب، فقال: «اعبثي يا ابنتي ما شئت أن تعبثي، وجربي ما أحببت أن تجربي، وتهيئي لهذه الحرب الغريبة التي دفعتنا إليها كما تريدين؛ ولكن دعينا نعد للحرب عدتها ونستقبلها كما تعودنا استقبالها؛ فإن تنجح وسائلك لم يكن في استعدادنا شر ولا في احتياطنا ضرر، وإن تخفق تجاربك لا تؤخذ الرعية والمملكة من تقصير الساسة وإهمال القادة.» ثم التفت إلى وزيره قائلا: «ادع لنا مجلس الحرب، وما أرى إلا أنك قد فعلت.»
قال الوزير: «فإن قادة الجند وساسة الملك بباب مولانا ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول.»
قال الملك: «فأدخلهم إذا.»
وأقبل القواد والحكام والمشيرون، فحيا كل منهم وأخذ مجلسه حيث ينبغي له أن يجلس، ثم أخذوا يتدبرون ويفكرون ويتشاورون، ولم تكن عنايتهم بحماية الأمن الخارجي أشد من عنايتهم بحماية الأمن الداخلي؛ فقد تسامع أفراد الرعية وجماعاتها بهذه الحرب في أقل من طرفة عين، فبعضهم أشفق منها فأخذ يحتاط للمستقبل، وبعضهم أدركه الذعر فأخرجه عن صوابه وتجاوز به القصد فيما ينبغي أن يعمل أو يقال، وبعضهم انتهز فرصة كان ينتظرها فإذا هو يكيد ويمكر ويتربص الدوائر بالدولة القائمة أو بالحكومة العاملة لهذه الدولة، وبعضهم كان أقرب من هذا همة وأقصر نظرا وأشد إيثارا لنفسه بالخير وأحرص على تحقيق منافعه العاجلة، فأخذ يقامر ويغامر ويجمع المال ويكنز الذهب والفضة ويدخر المؤن، غير حافل بما سيكون لذلك من أثر في حياة من حوله من الأفراد والجماعات، وإنما ركب شهوته واتبع هواه لم يفكر إلا في إرضاء مطامعه وتحقيق منافعه. ولم يكن بد من الاحتياط لهذا كله والضرب على أيدي هؤلاء جميعا، ولم يكن بد من أن يأمن الخائف، ويطمئن المذعور، ويحمى من لا حامي له إلا النظام والقانون، ولم يكن بد لتحقيق هذا كله من أن تصدر الأوامر وتتخذ الأهبة، ولكن ملوك الجن يا مولاي ليسوا كملوك الناس؛ لا يتعرضون للإهمال ولا يوصمون بالتقصير ولا ينتظرون أن تلم بهم الكوارث وتفاجئهم الحوادث، ولكنهم يستعدون لكل حادثة، ويتأهبون لكل كارثة، ويسبقون الخطوب بالاستعداد لدرئها، تنفذ بصائرهم إلى ما وراء الحاضر كما تنفذ أبصارهم إلى ما وراء الجو الذي يعيشون فيه، وهم من أجل ذلك لا تدهمهم داهمة، ولا تلم بهم ملمة إلا استخرجوا قوانين قد هيئت، وأوامر قد أعدت، وكلفوا تنفيذ القوانين وإجراء الأوامر جماعات من أعوانهم قد أعدوا لهذا كله من قبل، ولم يعرف أحد أنهم أعدوا له أو كلفوا القيام عليه.
ومن يدري يا مولاي! لعل ملوك الناس يعرفون من هذا بعض ما يجهلون، ويتهيئون منه لمثل ما يتهيأ له ملوك الجن، فلا تؤخذ دولهم على غرة، ولا تفجؤها الحوادث على غير تهيؤ ولا استعداد.
ومن أجل هذا كله يا مولاي لم يحتج طهمان بن زهمان ووزراؤه وأعوانه إلى وقت طويل ليحزموا أمرهم ويفرغوا من تدبير الأمن الداخلي؛ وإنما مروا بذلك مرا سريعا، واستقامت لهم أمورهم في ذلك على خير ما أحبوا.
وكانت فاتنة تسمع وترى وتبتسم غير حافلة بما تسمع ولا آبهة لما ترى، ولكنها مع ذلك كانت تجد شيئا من الرضا والغبطة؛ لأنها كانت ترى أباها حازما عازما يدبر الأمر وينفذ القضاء كعهده حين كان قويا جلدا نفاذا غير متهالك ولا مستيئس.
فلما فرغ القوم من تدبير أمور الرعية، أخذوا يعرضون أمور الحرب ويهيئون لاستقبال العدو المغير، ولم يكن الأمر هينا ولا ميسورا؛ فهم قد كانوا تعودوا أن يحاربوا هذا الملك أو ذاك من ملوك الجن، ولم يكونوا ينتظرون أن يحاربوا ملوك الجن جميعا، وهم كانوا قد ألفوا أن يستعدوا للشر يأتيهم من الجو أو يأتيهم من البر أو يخرج لهم من البحر أو ينجم لهم من الأرض، ولكنهم لم يألفوا أن يأتيهم الشر من هذه الوجوه كلها في وقت واحد؛ فلم يكن أمرهم سهلا ولا تشاورهم رفيقا.
وكانت فاتنة مع ذلك تنظر إليهم وتسمع منهم غير حافلة ولا مكترثة. على أن شيئا من الرثاء بلغ نفسها القاسية آخر الأمر فقالت لأبيها: «ارفق بنفسك وبهؤلاء القادة والساسة يا أبت، فلستم في حاجة إلى كل هذه الخطط التي تدبرونها وتقدرونها وتديرون فيها الحوار. إن مملكتنا معرضة لشر لا قبل لها به، فإما أن تنجح خطتي التي رسمتها والتي لا تعلمون منها شيئا، وإما أن نهلك جميعا دون أن تبقى لنا باقية.»
قال الملك وعلى ثغره ابتسامة مرة خير منها العبوس: «هو ذاك يا ابنتي؛ فإنك لا تنبئينني بشيء أجهله، ولكني لا أحب أن أوخذ على غرة أو أن أوتى من تقصير، فلأجاهد ما استطعت إلى الجهاد سبيلا، ولأعذر ما وجدت إلى الإعذار طريقا، وليجر القضاء بعد ذلك بما شاء!»
وما كاد الملك يفرغ من كلامه هذا حتى تغير من حوله كل شيء، فإذا الأرض تميد، وإذا الجو يكفهر، وإذا ظلمة قاتمة تريد أن تأخذ المدينة من جميع أقطارها، وإذا سحب متراكمة متراكبة تظهر في السماء مرسلة في الجو بروقا خاطفة ورعودا قاصفة، وإذا الوزراء والساسة يذهلون عما حولهم، وإذا القادة ينصرفون كل إلى موضعه من قيادة الجيش، لعله يعمل عملا أو يبلي بلاء. والملك ثابت مكانه لا يريم، ناظر أمامه لا يحول طرفه إلى يمين وشمال، وقد جمدت على ثغره ابتسامة كانت حائرة فاستقرت في مكانها، كأن نفس الملك لم تجد قوة ولا وقتا للتفكير أو التقدير فضلا عن الابتسام أو العبوس.
وفاتنة باسمة كأن شيئا لم يتغير من حولها، وكأن حدثا لم يحدث، وإنما هي قائمة كعهدها آنفا حين كانت تنظر إلى مجلس الحرب في كثير من السخرية وفي كثير من الرثاء، وحين كانت تنظر إلى أبيها في كثير من الرحمة والحب وفي كثير من الإكبار والإجلال.
على أن صوتا هائلا يملأ ما بين الأرض والسماء فجأة، فتهتز له جنبات القصر، ويثب له الملك ومن معه من أصحابه كأنما دفعتهم اللوالب في الفضاء، وإذا هم يسرعون إلى الأطناف يشرفون منها لا يدرون كيف أسرعوا ولا كيف دفعوا، وإنما يرون أنفسهم مشرفين ينظرون وكأنهم لا يرون، ويصغون وكأنهم لا يسمعون لكثرة هذه الجماهير التي أقبلت إلى القصر فزعة جزعة تجأر بالاستغاثة وتمعن في الضراعة، وقد استيقنت مخطئة أو مصيبة أنها ستجد عند الملك أمنا من هذا الخوف ووزرا من هذا الفزع.
والملك قائم مكانه ينظر ويصغى، ولا يزيد على النظر والإصغاء، وماذا يستطيع الملك أن يفعل وقد زلزلت الأرض زلزالها، ولبست السماء أبشع ثوب رآه سكان الأرض والجو، فالظلام يتكاثف، والسحاب يتراكم ويتدافع، والبرق يغمر المدينة بضوء مخيف لا يكاد ينصب عليها حتى ينقشع عنها، والرعد يتجاوب في الجو بأصوات متهدجة كأنها أصوات الجبال، والبحر من بعيد هائج مائج تصطخب أمواجه اصطخابا لا عهد لأحد به، وترتفع إلى السحاب فتتصل به لا يدرى أبلغته لأنها ارتفعت حتى انتهت إليه، أم بلغها لأنه انخفض حتى انتهى إليها، أم صعدت هي في السماء ما وسعها الصعود وهبط هو إلى الماء ما وسعه الهبوط حتى التقت السماء والماء شر لقاء.
وفاتنة قائمة باسمة لا تقول شيئا، ولا تأتي حركة، ولا يظهر على وجهها الروع أو ما يصور الروع من قريب أو بعيد. على أنها تسعى رفيقة رشيقة محتفظة بابتسامتها الحلوة حتى تبلغ أباها الملك، فتمس كتفه في خفة وسرعة، وتقول له في صوت هامس عذب: «منظر رائع يا أبت!»
ويهم الملك أن يقول شيئا، ولكنه يرد عن القول؛ فهذه المناظر الرائعة المروعة الهائلة ثابتة لا تتحول مرسلة للروع والروعة جميعا دون أن يصيب المدينة منها شر أو ينال أهل المدينة منها مكروه. هذا البحر قد بلغ من الهياج أقصاه، وانتهى من الثورة إلى غايتها، حتى لا يشك من يراه أنه متجاوز حدوده، فغامر ما وراءها لا يدع شيئا أتى عليه إلا ازدرده ازدرادا وعفى على آثاره تعفية كأن لم يغن بالأمس، وهو على ذلك واقف عند حدوده لا يتجاوزها، بل لا يكاد يبلغها، كأن سدودا خفية قامت بينه وبين هذه الحدود ترده عنها وتمنعه أن يبلغها فضلا عن أن يجوزها، وهو يثور ويمور ويهيج ويموج ويرسل في الفضاء أصواتا منكرة، كأنما تتمزق عنها أمواجه تمزقا، ولكنه على ذلك لا يبلغ شيئا، ولا يستطيع أن يمس الأرض بأذى.
وهذه قطع السحاب تزدحم وتصطدم، وتحدث ما تحدث من بروق ورعود، وترسل ما ترسل من الصواعق المهلكة، ولكنها على ذلك لا تصيب أحدا بما يحب ولا تصيب أحدا بما يكره، وإنما هي تأتي ما تأتي من الأمر وتحدث ما تحدث من الهول كأنها تلعب فيما بينها تريد أن تظهر أهل الأرض على فنون من اللعب ليس لهم بها عهد من قبل.
وهذه الرياح تتناوح، منها ما يقبل ومنها ما يدبر، ومنها ما ييامن ومنها ما يشائم، ولها أحيانا هفيف كهفيف الأغصان، وأحيانا أخرى فحيح كفحيح الحيات، وأحيانا أخرى صفير مخيف، وأحيانا أخرى زئير مزعج، ولكنها على ذلك لا تصنع شيئا ولا تؤذي أحدا.
وهذه قطع من الجبال مختلفة ألوانها متباينة أحجامها، قد أقبلت من بعيد، كأنما قذفتها المجانيق تريد أن تدمر بها المدينة تدميرا، وهي تمضي في الفضاء مسرعة على ضخامتها كأنها السهام الرقاق حتى لا يشك من يراها في أنها تحمل الموت والدمار، وفي أن قطعة منها يكفي أن تهوي إلى الأرض فتسحقها سحقا، وتمحق ما عليها ومن عليها محقا، ولكنها على ذلك لا تكاد تدنو من المدينة حتى تجمد في مكانها من الجو كأنها قد شدت إلى السماء بأمراس الكتان كما يقول الشاعر القديم؛ فهي لا تقبل ولا تدبر ولا ترتفع ولا تنخفض، وإنما تظل معلقة مكانها كأن كل قطعة منها ظلة هائلة قد علقت في الجو لترد عن أهل الأرض حر الشمس.
وهذه الأرض تنشق عما أضمرت، وتنفجر فيها ينابيع من اللهب هنا ومن الماء هناك، وترتفع هذه الينابيع المحرقة وتلك الينابيع السائلة في السماء إلى حيث لا يستطيع البصر أن يتابعها في الارتفاع، وإنما يرتد عنها خاسئا وهو حسير، ولكنها على ذلك لا تحرق شيئا ولا تغرق شيئا؛ وإنما تمضي وتمضي في ارتفاعها، وتمضي وتمضي في اتساعها، ثم تتضاءل قليلا قليلا، وإذا هي تهبط ثم تهبط، وتضيق ثم تضيق حتى تعود هزيلة نحيلة إلى فوهتها التي خرجت منها، ثم تنضم عليها الأرض كأن لم تكن شيئا لتنشق عن مثلها في مكان آخر.
وعلى هذا النحو يضطرب الجو والبر والبحر أروع اضطراب وأشده هولا، دون أن يحدث عن ذلك ما يؤذي أو يسوء.
وهذه جماعات الرعية من الجن كان يملؤها الروع منذ حين فجعلت تملؤها الروعة الآن. كانت تجأر بالاستغاثة والضراعة آنفا، فهي تجأر بالرضا والإعجاب والافتتان الآن.
وهذا الملك ينظر إلى ابنته نظرات إن صورت شيئا فإنما تصور ذهول الحائر الواجم الذي عجزت نفسه عن التفكير وانعقد لسانه عن القول؛ فهو قائم مبهوت في مكانه ومن حوله وزراؤه في مثل حاله كأنهم التماثيل.
وهؤلاء قادة الجيش قد أقبلوا لا يدرون أيرضون أم يسخطون، فهم يرون ما يرون من الهول، ويحسون أنهم لا يلقون منه كيدا، وفيهم مع ذلك حماسة الجند المستبسلين؛ فكلهم كان يود لو يبلي بلاء ويسجل لنفسه بالانتصار أو الموت فخرا يتحدث به أعقابه بعد آلاف السنين، ولكنهم مع ذلك قد وجدوا أنفسهم وجنودهم عاجزين كل العجز عن أن يقدموا حين كان يجب الإقدام؛ يريدون أن يتقدموا إلى أمام فلا يجدون إلى ذلك سبيلا كأنهم قد ثبتوا في الأرض تثبيتا، فإذا أرادوا أن يتراجعوا إلى وراء وجدوا ذلك هينا ميسورا.
وهم قد أقبلوا حائرين ثائرين يقولون بصوت واحد ولسان واحد: «هذا هو السحر أيها الملك! هذا هو السحر الذي لم يعرفه قبل اليوم أحد من الجن ولم يعرفه قبل اليوم أحد من الناس.»
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وهم شهريار أن يفكر فيما سمع من هذا القصص الغريب، ولكنه لم يصل إلى ما أراد من ذلك؛ فقد أحس نفسه ثقيلة عليه لا يستطيع تحريكها إلى التفكير، وأحس جسمه ثقيلا عليه لا يستطيع دفعه إلى النشاط، وأحس كأن نفسه قد ثبتت في مكان بعينه لا تستطيع أن تجوزه، وكأن جسمه قد ثبت في مضجعه فهو لا يستطيع أن يأتي فيه حراكا، وأحس مع ذلك زورقه ذاك يضطرب به اضطرابا خفيفا هينا على الماء، كأنه أرجوحة الطفل تضطرب به اضطرابا خفيفا لتدفعه إلى النوم. وأحس مع هذا كله ذلك الجو الموسيقي الغريب هادئا حلوا رفيقا يدنو منه هونا ما، وينأى عنه هونا ما، كأنه النسيم الهادئ يداعب صفحة البحيرة في تأنق وترفق وظرف، ثم ينأى الملك من نفسه أو تنأى عن الملك نفسه، ويخيل إليه على هذا كله كأنه يرى فيما يرى النائم أنه في زورق جميل خفيف يسبح به وبشهرزاد النائمة منه غير بعيد في الماء والضوء والموسيقى والغناء جميعا.
6
على أن غناء عذبا يبلغ سمعه كأنه ترتيل الملائكة - لو أن للناس أن يسمعوا ترتيل الملائكة - فلا يكاد يمس سمعه حتى ينتهي إلى نفسه الشاعرة فيوقظها في أناة ويستلها من النوم في لطف، كما كان أبو نواس يستل من الدن روحه في لطف، وإذا الملك يفيق من نومه، ولكنه يمسك نفسه في هذا السكون الذي كان فيه قبل أن يخرج من النوم، كأنه كان يريد أن يستبقي حلاوة هذا الغناء.
وكان يظن، كما يظن الحالم حين يستيقظ، أنه يغالط نفسه ويغالط النوم، وأن اليقظة ذاهبة بلذة أحلامه لا محالة، ولكنه مع ذلك يسمع هذا الغناء العذب، ويحس موقعه من قلبه، ويتبين الأصوات التي تحمله والألفاظ التي تحويه، وكأن هذه الأصوات كانت تصدر عن هذه الأمواج الصغيرة التي كانت تصطفق من حوله وتداعب زورقه هذا الغريب، وكأن هذه الأمواج كانت تدعوه بصوتها ذلك العذب قائلة في لغة فارسية رقيقة حلوة: «أفق أيها الإنسان السعيد لتستمتع باليقظة كما استمتعت بالنوم، ولتنعم بالشعور كما نعمت باللاشعور. أفق أيها الإنسان السعيد؛ فما أقل الذين تتاح لهم السعادة في حياتهم هذه القصيرة! خذ حظك منها حريصا عليه كلفا به؛ فإنك لا تدري متى تفارقك أو متى تفارقها ؛ كما أنك لم تدر كيف لقيتها أو كيف لقيتك. أفق أيها الإنسان السعيد؛ فإن أخص ما تمتاز به السعادة أن الذين ينعمون بها لا يدرون أأيقاظ هم أم نيام.»
ثم يبعد الصوت، ويتضاءل الغناء، ويتسمع الملك؛ فلا يسمع إلا اصطفاق الأمواج هادئا ناعما رفيقا، كأنه صوت الحرير يمس الحرير، ثم ينظر الملك فيرى شهرزاد في سريرها غير بعيد وعلى وجهها ابتسامة حلوة وإشراق رائق وغبطة لا سبيل إلى وصفها، وهي تمد إليه عينيها كما يمد إليها عينيه، تريد أن تقول له صامتة ما كان يريد أن يقول لها صامتا: ما أعذب هذا الصوت وما أجمل هذا الغناء! ولكنها لا تقول شيئا، كما أنه هو لم يقل شيئا، وإنما تركت عينيها ممدودتين إليه كما ترك هو عينيه ممدودتين إليها.
ثم نمضي لحظات طوال أو قصار، وإذا الملك يستوي جالسا في نفس الوقت الذي تستوي فيه شهرزاد جالسة، وإذا الملك ينهض قائما في نفس الوقت الذي تنهض فيه شهرزاد قائمة، وإذا الملك يسعى خطوات قصارا كما تسعى شهرزاد خطوات قصارا، وإذا العاشقان يلتقيان فيتعانقان، فيغيبان في قبلة عرفا أولها ولم يعرفا آخرها، ثم يفيقان، وإذا الزورق ينساب بهما في نهر ضيق هادئ كأن مياهه قد ثبتت في مجراها، وقد كسي شاطئاه عن يمين وشمال عشبا أخضر كثيفا كأنه السندس. وينظران فإذا جماعات من الفتيات ينحدرن مسرعات عن يمين وشمال إلى النهر يحيين بالزهر النضر والأغصان الخضر ويدعون العاشقين أن هلم فقد بلغتما جزيرة النعيم.
ويرسو الزورق في مرسى قد هيئ له، ويصعد منه العاشقان صامتين، ولكن البهجة تغمر وجهيهما وتنطق عن قلبيهما بما لا تستطيع أن تنطق به الألسنة أو يصوره البيان المبين، وقل ما شئت والتمس عند القائلين ما أحببت من وصف الجنات الرائعة والرياض البارعة والحدائق الملتفة والغابات المتكاثفة والأزهار المنسقة والغدران المصفقة، فلن تبلغ مهما يكن حظك من ذلك وصف هذه الجزيرة التي ارتقى إليها العاشقان حين صعدا من زورقهما ذاك صامتين لا يقولان شيئا.
وكيف تريدني على أن أصف لك ما لا يوصف، أو أن أصور لك ما لا سبيل إلى تصويره. لقد انعقد لسان شهريار لأنه أحس وعجز عن تصوير حسه، وانعقد لسان شهرزاد لأنها شعرت وعجزت عن تصوير شعورها، ومع ذلك فما أكثر ما قال الملك بعينيه لشهرزاد! وما أكثر ما قالت شهرزاد بعينيها للملك!
ويخيل إلي أن لو أتيح لكاتب أن يترجم بعض ما كانت تقوله هذه الأعين، لزعم أن شهرزاد كانت تقول للملك: أترى إلى هذا النعيم! لقد وعدتك به، وكنت أظن أني سأكون أقدر منك على احتماله، وأني سأكون منك مكان الترجمان يدلك عليه ويمتعك به ويصف لك دقائقه، ولكني مع ذلك لم أستطع أن أثبت لقوته ولا لرقته ولا لسحره، فانتهيت إلى مثل ما انتهيت أنت إليه من العجز والاستسلام.
وكأن شهريار يقول لشهرزاد: نعم! لقد قهر هذا النعيم قوتك الثائرة ونفسك الجامحة، كما قهر قوتي المتهالكة ونفسي المستسلمة، ولقد سوى بيننا في هذا الضعف الحلو وهذه الراحة الممتعة أو هذا المتاع المريح: لقد أنزلك إلى حيث أنا، أو رفعني إلى حيث أنت، فأنا أراك الآن رأي العين، وأنا أعرفك الآن حق المعرفة، وأنا لا أدري بأي الأمرين أنا أسعد حظا: أبهذا النعيم الذي يغمرك ويغمرني، أم بهذه المعرفة التي جلت لي نفسك الغامضة وكشفت لي سرك المكنون.
وكانت شهرزاد ترسل إلى الملك من عينيها وشفتيها ابتسامات ساحرة لم تخل من سخرية، ولكنها كانت سخرية واضحة يملؤها الحب والحنان، وليس لها حظ من قسوة أو مرارة، وكانت هذه السخرية تلقي في روع الملك أن استمتع بهذا النعيم الذي يغمرك ويغمرني، واستمتع بهذا النعيم الذي تجده من جلاء نفسي الغامضة وانكشاف سري المكنون، وخذ من هذين النعيمين أكثر ما تستطيع أن تأخذ؛ فإنك لا تدري متى ينحسران عنك، كما أنك لا تدري متى يسرا لك ولا كيف يسرا لك. والشيء الذي ليس فيه شك، هو أنك ستعود ملكا تدبر أمور الناس وتصرفها كما تريد، وأنك ستعود رعية تدبر أمورك شهرزاد وتصرفها كما تحب ، ولكن أرجو ألا يشق عليك تدبير الملك، وألا يثقل عليك غموض شهرزاد.
وبعد وقت لا أدري أطال أم قصر أحس الملك لسانه ينطلق وصوته يبلغ أذنيه، وإذا هو يقول: «أين نحن؟ وماذا نرى؟ وماذا نسمع؟ ألا تنبئيني آخر الأمر من أنت؟ وماذا تريدين؟!»
قالت شهرزاد متضاحكة: «ماذا؟! ألم تقل عيناك منذ حين إنك قد عرفتني حق معرفتي، وإنك تنعم بهذه المعرفة؟! فما سؤالك عما تعرف؟ أين نحن؟ لقد سمعنا أننا في جزيرة النعيم. ماذا نرى؟ إنما نرى أشجارا وأزهارا ورياضا وأنهارا، بذلك تسميها اللغة؛ لأنها تشبه من قريب أو بعيد ما تعودنا أن نرى في مملكتك تلك التي تركناها أمس، والتي لو أردنا أن نرجع إليها دون أن يعيننا قصص شهرزاد لما بلغناها قبل أن ينتهي ما قدر لنا من عمر. ماذا نسمع؟ نسمع غناء تحمله إلينا أصوات هؤلاء الفتيات اللاتي نراهن ولا يريننا. أتعرف من هؤلاء الفتيات؟!»
قال الملك: «ومن أين لي أن أعرفهن ...؟! وهل عرفت شيئا، أو هل عرفت أحدا مما رأيت وممن رأيت منذ أمس؟!»
قالت شهرزاد: «قد عرفتهن، فأما هؤلاء الفتيات فإني أعرفك بهن إن شئت، ولكن أمسك عليك نفسك وأمسك عليك راحتك وأمسك عليك ما يملأ قلبك من غبطة وبهجة ونعيم. هؤلاء الفتيات هن اللاتي لم ترسلهن إلى الموت؛ لأن شهرزاد شغلتك عنهن بما قصت عليك من أنباء الماضي، وبما تقص عليك الآن من أنباء المستقبل، وستشغلك عنهن بما تعرف فيها وما تنكر منها من وضوح وغموض، فهن فرحات مرحات، تراهن الآن يصورن النعيم كل النعيم، ومنهن الراضية كل الرضا، ومنهن الساخطة كل السخط، ومنهن المترددة بين ذلك، ولكنهن على هذا فرحات مرحات فيما ترى؛ لأن حياتهن لم تقتضب في غير إبانها، ولأن شبابهن لم يرد عنهن ردا عنيفا.»
وكانت هذه الألفاظ التي كانت شهرزاد تنطق بها متقطعة متفرقة تبلغ أذن الملك لاذعة، وتنتهي إلى قلبه موجعة، ولم تتمها شهرزاد حتى كان الملك قد ثاب إلى نفسه واستجمع شعوره كله، وأخذ يعرض ما رأى يقظا ونائما، ولكنه ينظر فيرى نفسه في زورقه ذاك، ويرى الزورق ينحدر به في النهر متجها صوب البحيرة التي جاء منها، وعن يمينه وشماله تلك الجماعات من الفتيات يحيين بالأزهار والغصون والغناء، ولكن في تحيتهن حزنا أشبه بهذا الحزن الذي تصوره تحية الوداع.
وينظر الملك إلى شهرزاد فيراها جالسة منه غير بعيد معرضة عنه وعن الزورق وعن شاطئ النهر الجميلين وعن جماعات الفتيات وما يحيين به أزهار وغصون وغناء، وقد أطرقت تنظر في كتاب.
قال الملك دهشا: «تقرئين! يا عجبا! أنى لك هذا الكتاب؟!»
قالت شهرزاد في لهجة التي لا تكترث بما تسمع ولا تهتم لما تقول: «يا عجبا! أنى لنا هذا الزورق، وأنى لنا هذا النهر الذي ننحدر فيه، وأنى لنا هذه البحيرة التي نقبل عليها؟! انظر أيها الملك السعيد»، قالت ذلك وأشارت أمامها بيدها، ونظر الملك فلم تبتهج نفسه لما رأى، وإن امتلأت إعجابا به وعجبا له.
فقد رأى النهر يتسع من ضيق، وينفرج من تقارب، ويشتد البعد بين شاطئيه حتى يمتزج بالبحيرة امتزاجا، ورأى وجه النهار قد امتقع وأسبغ عليه شحوب عجيب يشيع في النفس ألما هادئا وحزنا فاترا، ولكنهما على ذلك يؤذيان النفوس، وأحس كأن كل شيء من حوله قد أدركه شيء من ذبول؛ فالنسيم فاتر فيه شيء من حرارة مؤذية، والأمواج متضائلة تصطفق اصطفاقا خفيفا كأنما تحاول أن تشكو آلاما خفية، فلا تستطيع الجهر بما تجد إلا في مشقة شاقة وعسر عسير، والطير تحاول أن تتغنى صافات في السماء أو راقصات على الغصون، ولكنها تتغنى فاترة حتى كأن غناءها أشبه شيء بالأنين أو الشكاة، وأشعة الشمس هادئة ذابلة تمس ما حولها في فتور كأنها تصدر عن جذوة أوشكت أن تنطفئ، وهي من ذلك تحمل حرا رطبا ثقيلا تندى له الجباه ويتصبب له العرق أحيانا.
كل شيء هامد خامد، وكل شيء جامد راكد، وفي الجو فتور لا يحتمل وثقل لا يطاق، وإذا نفس الملك تمتزج بهذا كله، وإذا قلبه يخفق في صدره خفقا ضئيلا ثقيلا، وإذا نفسه تصطبغ بحزن شاحب ممض، وإذا هو يصبح كله حزنا وركودا كما أن ما حوله حزن وركود، وشهرزاد أمامه مطرقة مغرقة في القراءة كأنها لا ترى شيئا ولا تحس شيئا، وهي مع ذلك تختلس النظرة إلى الملك بين حين وحين تمد إليه طرفها لترده عنه، كأنما تراقبه حريصة على ألا يشعر أنها تراقبه.
وقد أخذ ضوء الشمس يضعف شيئا فشيئا، وكأن النهار أحس برد الموت يتمشى فيه، فجعل يرتدي من الظلمة معطفا فاحما قاتما ثقيلا؛ ثم يجمد كل شيء ويخمد كل شيء، ويقف الزورق في مكانه كأنما شد إلى قاع البحيرة بسلاسل غلاظ ثقال.
وتنهض شهرزاد فاترة متثاقلة، وتقول في صوت هادئ متكسر: «انظر أيها الملك السعيد فإن النعيم والبؤس دولة بين الناس، ينعم بعضهم ويشقى بعضهم الآخر، وينعم الرجال منهم أياما أو ليالي من الدهر، ثم يشقى أياما وليالي أخرى، وينعم الرجل منهم ساعة من نهار أو ساعة من ليل، ثم يشقى سائر ساعات النهار أو سائر ساعات الليل، وقد أخذت بحظك من النعيم، وأخذت بحظي منه؛ فلنأخذ الآن بحظنا من البؤس، ولنستقبل الآن نصيبنا من الحزن، ولنحتمل الآن عبأنا من الشقاء.»
وينظر الملك فيرى - ويا هول ما يرى! - يرى على شاطئ البحيرة من يمين وشمال شيئا يشبه الرياض والجنات وما هو من الرياض والجنات في شيء، شيئا يشبه أن يكون أشجارا باسقة في السماء وما هي من الأشجار في شيء، إنما هي أشياء يخيل إلى الملك مرة أنها الشجرة ومرة أنها العمد قد ثبتت في الأرض وطالت في السماء وامتدت لها فروع تشبه أن تكون الغصون، ونبتت في هذه الفروع زوائد تشبه أن تكون الورق، وقامت على هذه الغصون وفي أثناء هذه الزوائد كائنات تشبه أن تكون الطير، وأسبغ على هذا كله ضوء ذابل فاتر شاحب يشبه أن يكون الظلمة لولا أن العين تنفذ منه إلى ما وراءه في كثير من المشقة والجهد والإعياء، وخرجت من أفواه هذه الكائنات التي تشبه الطير أصوات تريد أن تكون غناء؛ ولكنها لا تبلغ الجو حتى يكون بعضها بكاء وبعضها أنينا وبعضها حشرجة كحشرجة الصريع المحتضر. هنالك يذعر الملك أشد الذعر، ولكنه لا يستطيع أن يترجم عما يجد، وإنما هي الرعدة تتمشى في جسمه كله فيضطرب اضطرابا عنيفا، ثم تستقر لتأخذ الملك بين حين وحين، وقد انعقد لسانه واحتبس صوته وجعلت قطرات من الدمع تساقط على وجهه بين حين وحين، وهو مقبل على شهرزاد يريد أن يسألها أين هو؟ وماذا يرى؟ وماذا يسمع؟ وماذا يجد؟ ولكنه ليس في حاجة إلى هذا السؤال، فقد خلصت نفسه لشهرزاد، وخلصت له نفس شهرزاد منذ وقفا معا على شاطئ تلك البحيرة في ذلك الجو الموسيقي الرائع وأمام تلك الأسراب من الزوارق البديعة.
لقد فهمت عنه شهرزاد، وهي تجيبه بلسان لم ينعقد، وصوت لم يحتبس، ووجه يستطيع أن يبين عما يجده قلبها من حزن لاذع وغيظ يملؤه الحنق ورحمة مع ذلك يملؤها الحنان: «انظر يا مولاي! هؤلاء ضحاياك! هذه الكائنات التي تشبه الطير وما هي بالطير، أتعرفها؟! إنها نفوس أولئك الفتيات اللاتي أرسلتهن إلى الموت منذ ثرت ثورتك المنكرة بالنساء فاتخذتهن أداة للهوك ووسيلة إلى إرضاء ما أفسد قلبك من غضب وما أفسد نفسك من انتقام.»
تستطيع أن تحصي هذه الكائنات فسترى عددها مطابقا لعدد أولئك الفتيات اللاتي أهدرت كرامتهن في غير حب، ثم أزهقت نفوسهن في غير إشفاق، فهذه النفوس قائمة في هذه الجنة التي تشبه الجحيم، أو في هذا الجحيم الذي يريد أن يكون جنة فلا يستطيع. إنها بائسة، إنها يائسة، إنها شاكية، إنها باكية، إن هذه الأصوات التي تسمعها تنطلق بالبؤس واليأس والبكاء والشكاة منذ أرسلتها إلى هذا المكان حتى تؤدي عنها حسابا يوميا ما، فاذرف ما تستطيع أن تذرف من دموع، واحمل ما تستطيع أن تحمل من حزن، واعمل ما تستطيع أن تعمل من خير، وتجرع ما تستطيع أن تتجرع من ندم، وأقم على هذا كله عمرك وأعمارا كثيرة تعدله طولا، فلن تغسل قطرة من تلك الدماء التي سفكتها، ولن ترضي نفسا من هذه النفوس التي أزهقتها، ولن تمحو سيئة من هذه السيئات التي اقترفتها إلا أن يمسك جناح من رحمة الله، وينالك فضل من عفوه؛ فإن لله في الناس حكمة هو بالغها، وأمرا هو منفذه.
ثم يرق صوت شهرزاد ويلين حتى كأنه رحمة كله، وإذا هي تقول: «ومع ذلك - بل من أجل ذلك - قد أحببتك أيها الملك، وتحديت عندك الحب والملك والموت جميعا، وما أدري كيف أعلل هذا الحب أو كيف أفهمه؟ فقد كنت أظن أني أبغضك أشد البغض، ولو لم أزف إليك لقتلت نفسي جزعا ويأسا، وقد كنت أظن أني أستطيع أن أردك عن ذلك الإثم المنكر الذي كنت غارقا فيه، وما كان أحب إلي مع ذلك أن أنعم بحبك ليلة ثم أذوق الموت بيدك وآتي إلى حيث أشارك هذه الطير فيما تعلن من بؤس ويأس وبكاء وشكاة، وقد كنت أقدر بعد أن ذقت حبك ونعمت بقربك أني سأرد الموت عن نفسي وعن أمثالي من فتيات الدولة بما ألهيك به من قصص، وقلبي يشهد ونفسي تعلم أني ما ألهيتك بالقصص إلا لأستأنف النعيم بحبك وأطيل السعادة بقربك؛ فقد كنت أثرة أظهر الإيثار، وكنت محبة لنفسي أزعم فداء غيري من النساء، وكنت كلفة بإثمك البشع أريد أن أشرب كأسه من يدك وأؤخر شرب هذه الكأس ما وجدت إلى تأخيره سبيلا.
وقد ظفرت منك بما أردت، وبلغت من حبك ما أحببت، فشاركتك في سعادتك، وشاركتك في شقائك، وقاسمتك ما أتيح لك من نعيم، وشاطرتك ما قضي عليك من بؤس، وعصمت منك نساء الدولة على غير إرادة مني، ومن يدري؟! لعلي آثرت نفسي من دونهن بخير كن يطمعن فيه ويطمحن إليه، ففي نفوس الناس - وفي نفوس النساء خاصة - فساد كثير وشر عظيم تخفيه صروف الحياة وخطوبها، وتظهره محن الحياة وتجاربها، ومن يدري؟! لعل إثمك ذلك المنكر قد جعلك فتنة للعذارى كما جعلك فتنة لي، ومن يدري؟! لعل اللاتي رددت عنهن الموت قد كن يحسدنني على هذا الموت، ولعلهن أن يحسدنني الآن على الحياة! بل من يدري؟! لعل هذه الأصوات المهيبة الرهيبة التي تسمعها الآن لا تشكو منك، وإنما تشكو البعد عنك والشوق إليك، ومن يدري؟! لعل هذه الشكاة الملحة المؤذية أن تكون عفوا عنك واستغفارا لك، فنفوس الناس عامة - ونفوس النساء خاصة - ألغاز مشكلة معضلة قد عجزت عن حلها حتى فطنة شهرزاد. إن هذه النفس الغامضة التي نغصت أيامك وأرقت لياليك لا تمتاز بشيء، وإنما هي نفس امرأة لا أكثر ولا أقل.
املأ نفسك إذا أيها الملك من هذا الشقاء الذي تشهده الآن، كما ملأتها آنفا من تلك السعادة التي شهدتها في جزيرة النعيم، واستقبل ليلك وقد ملأت نفسك من البؤس والنعيم جميعا! فإنك لا تدري أين يجدك الغد، ولا عم يبتسم لك الصبح، ولا ماذا تضمر لك الأحداث.»
ويحس الملك كأن يد شهرزاد تمضي رفيقة في شعر رأسه فتبعث في جسمه طمأنينة وهدوءا، وفي نفسه أمنا وراحة وروحا، ثم ينسى الملك نفسه أو تنساه نفسه، ولكنه يفيق وقد تقدم الليل وأطبقت الظلمة من حوله على كل شيء إلا ذبالة ضئيلة في ناحية من نواحي الزورق تنشر ضوءا هادئا غريبا، وصوت يعرفه ويألفه يقول: «فلما كانت الليلة الثالثة عشرة بعد الألف قالت شهرزاد.»
ثم ينقطع هذا الصوت المعروف المألوف ويصل إلى الملك صوت شهرزاد فاترا أول الأمر، نشيطا بعد ذلك قليلا قليلا وهو يقول: بلغني أيها الملك السعيد أن قادة الملك طهمان بن زهمان أقبلوا عليه حائرين ثائرين يقولون: «إنه السحر أيها الملك! إنه السحر الذي لا عهد به من قبل لأحد من الإنس أو من الجن!»
قال الملك: «نعم، إن السحر الذي لا أعرف له مبدأ ولا منتهى.»
ثم التفت إلى ابنته فاتنة كأنه ينتظر منها أن تجيب على ما قال هو وما قال القواد، ولكن فاتنة ظلت قائمة باسمة، في وجهها إشراق يصور نفسا فرحة مستريحة، ويصور شيئا من الإعجاب والرضا، ويصور كثيرا من الأمل والثقة والفوز.
فلما سمعت مقال أبيها ورأت التفاته إليها، قالت في طمأنينة وهدوء: «إنه السحر لأنه غير مفهوم ، وسيظل سحرا ما دام سرا مكتوما، فإذا أزيلت عنه الأستار وفهمت مخبآته أصبح علما شائعا يشارك فيه القادرون على فهمه والنهوض بأعبائه.»
قال الملك: «ومتى يمكن أن يفهم، وأن يكشف عن مخبآته؟!»
قالت فاتنة: «بينا وبين ذلك آماد يا أبت، فيجب قبل كل شيء أن تنجلي الغمرة، وتكشف الغمة، ويرد المغيرون إلى أوطانهم مقهورين. ماذا أقول؟! بل يجب أن يستسلم المغيرون، وأن ينزلوا من هذا القصر نفس المنزلة التي كان كل واحد منهم يريد أن أنزلها من قصره.»
قال الملك: «فأنت تريدين إذا أن يستأسروا.»
قالت فاتنة: «ما من ذلك بد. يجب أن يستأسروا، ثم يجب أن يذعنوا ويؤمنوا ويتلقوا ما يملى عليهم من أصول الصلح التي يقوم عليها نظام الحكم عندهم وعندنا، فليست المسألة أن تثار الحرب ثم تخمد نارها، وإنما المسألة أن تمنع الحرب من أن تثار أو أن تمنع الحرب إذا أثيرت من أن تصيب الأبرياء بما لا ذنب لهم فيه ولا حق لأحد أن يصبه عليهم من الموت والدمار.»
قال الملك وقد أخذ الرضا يعود إلى قلبه، وجعل البشر يفيض من وجهه: «هذا كثير يا ابنتي! هذا أكثر مما كنت أرجو! هذا أكثر مما كنت أنتظر! هذا أكثر مما كنت أظن! إنك لتكلفيننا أعظم مما نستطيع أن نحتمل، وتتنقلين بنا بين اليأس والأمل وبين الخوف والأمن في سرعة ولباقة لا قبل لنا بهما، ولكن أبيني يا ابنتي كيف السبيل إلى أن تبلغي من خصومك ما تريدين، وهؤلاء قوادنا يريدون أن يقدموا فلا يتاح لهم الإقدام؟ لقد وقف خصمك عن الهجوم ومنعتهم أن ينالوا منا ما يحبون، فأبلغينا منهم ما نحب، وخلي بين جيوشنا وبين الهجوم، فلما أظن أنك تريدين أن تتواقف الجيوش على هذا النحو دون أن يستطيع فريق أن يبلغ من عدوه شيئا.»
قالت: «بل أنا لا أريد غير هذا يا أبت.»
ثم ابتسمت له ابتسامة ملؤها الحنان والبر وقالت: «ألم تكن تذكرني منذ حين يما يجب أن يستشعر قلبي من الرحمة والرفق، لا برعيتنا وحدها ولكن برعية هؤلاء المعتدين أيضا؟! فإن هذه الحرب، كما كنت تقول، لا تعني رعيتنا ولا رعاياهم من قريب أو بعيد؛ وإنما هي شهوة جامحة دفعتهم إلى الشر والكيد، فأردت أن ألقي شرهم بمثله، وأن أدبر لكيدهم كيدا مثله؛ فما ينبغي أن نغامر نحن ويشقى الأبرياء، وما ينبغي أن يمس رعيتنا أو رعية أعدائنا سوء، وإنما الحرب بيننا وبينهم تنافس في قوة الإرادة، وتسابق إلى الصبر على المكروه، فأينا ثبت حتى يستسلم خصمه فهو المنتصر، وأينا سئم قبل أن يسأم عدوه فهو المهزوم، وما على الرعية إلا أن تشهد هذا الصراع الذي تجري أحداثه بين سادتها وقادتها، لتعجب بهم إن شاءت، فقد يكون من بينهم من هو خليق بالإعجاب، ولتسخر منهم إن أحبت، فقد يكون من بينهم من هو جدير بالسخرية، ولكن لتأمن على أنفسها ودمائها وأموالها ومرافقها على كل حال.»
قال الملك: «مرحى يا ابنتي! ما أحسن وقع ما تقولين في نفسي! وما أحبه إلى قلبي! وما أدناه إلى المثل الأعلى الذي طالما أملته وسموت إليه دون أن أبلغه! أيمكن يا ابنتي أن تبلغيه؟! أيمكن أن تبلغيه وأنا حاضر أشهد فوز الخير على الشر وانتصار الرحمة على القسوة؟»
قالت فاتنة: «فإنك تشهد هذا كله يا أبت. لن ينالنا أعداؤنا بما نكره، ولن ننال أعداءنا بما يكرهون، ولكنهم سيفنون قوتهم في غير طائل، وسيكسرون حدتهم في غير غناء، وسيضيعون ما ادخروا من عدة وما هيئوا للحرب من أداة دون أن يحصلوا من وراء ذلك شيئا، وسيفقدون سمعتهم فيما بينهم، وسيفقدون سلطانهم على رعاياهم، وسينقلب بعضهم لبعض عدوا، وسيصبح بأسهم بينهم شديدا.»
قال أحد القواد: «ونحن أيتها الأميرة ماذا نصنع؟ وما حاجة الدولة إلينا منذ اليوم؟ وما قيمة جيوش لا تخوض غمار الحرب ولا ترد عدوان المعتدي ولا تدفع غارة المغير؟»
قالت فاتنة: «فإن الجيوش وسيلة لاتقاء الحرب لا لابتغائها، وأداة لدفع الشر لا لاجتلابه. أفإن جنبتكم الحرب وضمنت لكم السلم والعافية تضجون وتعجون؟! من شاء منكم أن يغامر فليغامر بنفسه لا بالأبرياء من جنده. أفضمنتم أن يقبل جنودكم على الحرب محبين لها راغبين فيها! ألستم تعلمون فيما بينكم وبين أنفسكم أن كل واحد منهم يؤثر أن يفرغ لحياته وعمله وأهله، وأن يأخذ نصيبه من الدنيا دون أن يعجله عنه هذا الموت الذي تقضونه عليه لا لشيء إلا لهذه المغامرة التي تجري مع دمائكم وتدفعكم إلى هذه الأهوال التي تحبونها لأنكم بمأمن من آثارها؟!»
قال القواد: «فهل نفهم من ذلك أن الأميرة تعفينا من أعبائنا، وتردنا إلى حياتنا الخاصة، وتسرح الجيوش، وتفرق الجند؟»
قالت فاتنة: «لا تفهموا من هذا شيئا، فلا أملك أن أعفي منكم أحدا، ولا أشير على الملك بأن يعفي منكم أحدا، ولا بأن يسر الجيش ولا بأن يفرق الجند؛ فالحرب محتملة دائما، والشر متوقع أبدا، وخير أن نحتاط للكوارث قبل أن تقع، فلعل ذلك أن يمنع وقوعها، فعودوا إلى مواضعكم من قيادة الجيش واثبتوا، فمن يدري؟! لعل الملك يحتاج إليكم.»
وانصرف القواد وهم إلى السخط أقرب منهم إلى الرضا، وإلى المعصية أدنى منهم إلى الطاعة. فلما تفرقوا قالت فاتنة لأبيها: «لقد انصرفوا، وإن قلوبهم لمطوية على غير الوفاء والولاء. ولكن التي عرفت كيف ترد عدوان المغير الخارجي تعرف كيف تكبح ثورة الثائرين في داخل الوطن.»
قال الملك: «ألم يأن لك يا ابنتي أن تكاشفي أباك بشيء من هذه الأسرار التي عميت عليه وعلى أهل المملكة جميعا؟! وما أرى إلا أنها معماة على أعدائنا، فانظري إليهم حائرين ينفقون جهودا لا تحصى، ويحتملون أثقالا لا تستقصى، ويرون مع ذلك أنهم ثابتون في أمكانهم التي كانوا يريدون أن يغيروا علينا منها.»
ولم يكن الملك يقول إلا حقا! فقد كانت تلك المناظر التي وصفناها آنفا قائمة كما هي لم تتبدل: بحر مضطرب مصطخب تكاد أمواجه تبلغ السماء، ولكنها لا تكاد تبلغ الساحل، ورياح متناوحة متصايحة، وسحاب متراكم متراكب، وقطع من الجبال تدور في الجو تلتقي لتفرق وتفترق لتلتقي، ورعية الملك طهمان بن زهمان قد ثاب إليها الأمن وعادت إليها الطمأنينة، وجعلت تشهد هذه المناظر الرائعة معجبة بها راضية عنها، متسلية بما تشهد منها، كأنها في ملعب من ملاعب التمثيل، أو في ميدان من هذه الميادين التي تعرض فيها الأعاجيب.
وقد أخذ أفراد الرعية يتحدث بعضهم إلى بعض عن بدائع هذا السر وروائعه، ويسأل بعضهم بعضا عن مصدره ومدبره، وقد سرى فيهم سريان البرق أن الأميرة هي مصدر هذا السحر وهي التي دبرته وقدرته، وردت ملوك الجن مدحورين في البر والبحر والجو جميعا.
وكان أفراد الرعية يسمعون عن الأميرة أحاديث مختلطة مضطربة، يعرفون جمالها الرائع وحسنها البارع، ويعرفون فتنتها وفطنتها، ويعرفون ذكاءها ونفاذ بصيرتها إلى ما لم تنفذ إليه قط بصائر الملوك والملكات، ولكن هذا كله كان يلقى إليهم إلقاء، فيصدق حينا ويرفض حينا آخر، ويسمع في غير اكتراث أكثر الأحيان، فأما الآن وقد رأت الرعية ما رأت وشهدت ما شهدت، فأما الآن وقد كان الهول منها قيد إصبع ثم رد عنها ردا عنيفا، فأما الآن وهي ترى الهول قريبا منها بعيدا عنها، محدقا بها عاجزا عن أن يصيبها؛ فقد أصبح إيمانها بالأميرة فتنة لا تشبهها فتنة، وأصبح اسم الأميرة في كل فرد من أفراد الرعية لفظا يدل على حقيقة واقعة لا على لون من ألوان المجاز؛ فكل فرد من أفراد الرعية مفتون بالأميرة مشغوف بحبها هائم بقدرتها على ابتكار الأعاجيب، وربما كان الملك أعظم من أفراد رعيته جميعا افتتانا بابنته وإعجابا ببراعتها وإكبارا لسحرها هذا الذي ظن به الظنون، ثم تبين أنه لم يوجه إلى الشر كما تعود السحرة من الجن والإنس أن يوجهوا سحرهم، وإنما هو موجه إلى الخير كل الخير، موجه إلى عصمة النفوس وحقن الدماء وإقرار الأمن وحماية الصلات التي تقوم بين الدول على المودة والمعروف. وهو من أجل ذلك يلح على ابنته في عطف مرة وفي استعطاف مرة أخرى أن تكشف له عن أسرار هذا السحر، وأن تبين له دخائل هذه المعجزات، وابنته تطاوله وتماطله، تلطف به حينا وتعنف عليه حينا آخر، والعدو من حول المملكة والمدينة ماض في جهاده العنيف السخيف الذي يكلفه كل جهد، ولا يبلغه من وراء هذه الجهود شيئا.
وتمضي على ذلك الأيام تتلوها الأيام، والليالي تتبعها الليالي، حتى انصرفت رعية طهمان بن زهمان عما كانت ترى، وأعرضت عما كانت تشهد، وأهملت ما كانت تخافه كل الخوف، وازدرت ما كانت تعجب به كل الإعجاب، ومضت تضطرب في حياتها تستأنف منها ما كانت قد تركته حين ألمت بها نذر الحرب، وكان الواحد من الجن من أهل المملكة يغدو على عمله ويروح إلى أهله ويتصرف في أمره كأن وطنه لم يتعرض لمحنة ولم يلم به مكروه، وكأن جند العدو لا يملأ من حوله البر والبحر والجو، وما يعنيه من عدو يفني قوته دون أن يبلغ منه شيئا؟
فلما كان ذات يوم جلس الملك يحاور ابنته ويداورها، يريد أن يعرف منها جلية هذا الأمر الغريب، وهي تلقاه بالإباء حينا وبالدل والدعابة حينا آخر، ولكن وزيره يدخل سعيدا متهللا، فيحيي ثم يؤذن الملك بأن سفراء العدو قد أقبلوا يلقون بأيديهم ويسألون السلم.
قال الملك: «فوجه هذا الحديث إلى التي حاربتهم فحربتهم، فأما أنا فلست لكم بملك منذ اليوم؛ لقد أخذت نصيبي من الملك وتركت ما بقي منه لابنتي هذه؛ فهي ملكتكم منذ الآن، وهي التي ستلقى السفراء وستملي عليهم شروط السلم كما تشاؤها هي لا كما أشاؤها أنا.»
ثم نهض الشيخ متثاقلا فضم ابنته إليه ضما طويلا، ثم أجلسها مكانه وقدم إليها تحية الملوك. هنالك تقدم الوزير إلى الملكة فحياها تحية الملك، ثم خرج فأذن في القصر والمدينة والمملكة بما كان من ارتقائها إلى العرش ونهوضها بأعباء السلطان، وبأنها هي التي ستلقى السفراء وستملي عليهم شروط السلم كما تشاء.
وما أكثر ما وصفت لك يا مولاي ابتهاج المدن والممالك حين ينزل ملك عن العرش ويرقى إليه ملك آخر! فقد ابتهج قصر فاتنة ومدينتها ومملكتها بارتقائها إلى عرش آبائها كما تعودوا أن يبتهجوا كلما تخلى عن عرشهم ملك وارتقى إليه ملك، ولكن ابتهاجهم في هذه المرة كان خالصا صفوا لا يخالطه حزن ولا يشوبه أسى.
فقد كان طهمان بن زهمان حيا بينهم ينتظرون أن يروه لم يفارقهم إلى غير رجعة، وكان حبهم له يزيد في ابتهاجهم بابنته، وكان إعجابهم بفاتنة يخرج بابتهاجهم عن الأطوار المألوفة، ولو أن رعية عبدت ملكا لعبدت رعية فاتنة ملكتها.
وكان طهمان بن زهمان نفسه أسعد الجن بهذا الحدث العظيم؛ فقد كان يحب ابنته ويعجب بها ويفتتن ببراعتها كما قلت، وكان يرى ارتقاءها إلى العرش حقا وعدلا قد رد السلطان إلى أهله ووكل الأمر إلى من ينبغي أن يوكل إليه الأمر، وكان يرى نفسه أسعد من تقدمه من ملوك الجن، فقد ختم ملكه عصرا قديما مضى بحسناته القليلة وسيئاته الكثيرة، وبدأ ملك ابنته عصرا جديدا يظهر أن الحسنات فيه ستكون أكثر جدا من السيئات، ومن يدري؟! لعله أن يكون خيرا كله، وكان طهمان بن زهمان ناعم البال قرير العين مبتهج النفس؛ لأنه يشهد هذه النقلة الخطيرة في حياة الجن، ويشهدها تتم على يد ابنته التي يؤثرها بالحب والعطف والحنان، وكان يقدر أنه قد أنفق ما أنفق من آلاف السنين، وأنه قد أشرف من حياته على آخرها، ولكنه مع ذلك يأنس في نفسه قوة وأيدا، ويحس أن سيمد له في العمر حتى يرى ابنته وهي تدبر أمور الملك، ولا يشك في أنه سيرى من تدبيرها العجب العجاب.
وانتهت أعياد المملكة، وآن للسفراء أن تستقبلهم الملكة، فاستقبلتهم في حفل ساذج يسير لم يتعوده القصر ولم تتعوده الرعية، فلم تقم زينات ولم يصطف الجند ولم تجلس الملكة للناس في ذلك البهو العظيم من أبهاء القصر، وإنما خلت إلى أبيها في غرفته تلك التي كانت تخلو فيها إليه، وأذنت للوزراء وقادة الجند وساسة الملك، فلما أخذ كل منهم مجلسه أذنت للسفراء؛ فلما أدخلوا عليها وتقدموا بتحية ملوكهم وسادتهم وهموا أن يطلبوا إليها السلم، أشارت بيدها فاستمعوا لها، فألقت إليهم هذه الكلمات في صوت هادئ ملأ قلوبهم رهبا ورعبا. قالت: «تعلمون أن هذه الحرب لم تثر بين دولنا وإنما أثارها أشخاص ملوككم على شخصي، فلا سفارة في هذه الحرب ولا سفارة في هذا الصلح؛ فعودوا إلى ملوككم موفورين، وأبلغوهم أن من أراد منهم صلحا فليلتمسه بنفسه ساعيا إليه لا مسفرا فيه.»
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
وامتنع النوم على شهريار هذه المرة بعد أن انقطع حديث شهرزاد، ولكن أرقه لم يكن ثقيلا عليه ولا بغيضا إليه في هذه الليلة؛ فلم يحتج إلى أن ينهض من مضجعه، ولم يشعر بالحاجة إلى النشاط الذي يذهله عن نفسه ويشغله عن خواطره، وإنما كان حريصا أشد الحرص على أن يخلو إلى نفسه ويفرغ لخواطره بعد أن شغل عنها وقتا طويلا، بما مر به من الأحداث وما ألقي إليه من الأحاديث، وكان كل همه أن يخطئ النوم طريقه إليه، وأن يبقى هو في مضجعه وادعا مطمئنا يستعرض حياته هذه المعقدة أشد التعقيد الملتوية أشد الالتواء، يستحضر ماضيه البعيد والقريب، ويحاول أن يتصور حياته فيما يستقبل من الأيام، وكذلك أنفق بقية الليل مع نفسه ناظرا بين حين وحين إلى شهرزاد، وهي مغرقة في نومها الهادئ كأنها لم تقص عليه شيئا ولم تتحدث إليه بشيء، وكان يذكر أيامه تلك السود حين كانت امرأته تلك تخدعه عن نفسه وعن حبه وعن شرفه وتزدريه فيما بينها وبين نفسها أشد الازدراء، تستعين على ذلك بوصائفها وجواريها، غير حافلة بما أعطت على نفسها من عهد، ولا آبهة لجلال الملك ولا مقدرة لعواقب الخيانة والغدر، وكان يذكر مرارة الانتقام وحلاوته، ونار الغيرة تلك التي كانت تتأجج في صدره فتحرق قلبه تحريقا، وكانت مع ذلك بردا وسلاما على نفسه الجريحة الثائرة.
ثم كان يذكر تلك الأيام السود التي أنفقها بعد مصرع نساء القصر نهبا مقسما بين لذة الحب وشهوة الانتقام، يقبل على اللهو بقلب يظهر الفرح والمرح والابتهاج والغبطة، وفي ضميره الغيظ والحنق والبغض الذي لا يطفئ جذوته إلا الدم المسفوك. أكانت أياما يشرق فيها ضوء النهار، أم كانت ليالي مظلمة لا يهتدي الضوء فيها إلى سبيل؟!
أكان في تلك الأيام إنسانا يحس ويشعر ويفكر ويقدر، أم كان قوة مدمرة لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم؟!
ثم كان يذكر شهرزاد حين عرضها عليه أبوها الوزير وفي نفسه كثير من خوف وقليل من رجاء، وحين أقبلت إليه مع الليل تظهر حبا وثقة وتضمر بغضا وخوفا، ومن وراء ما تظهر وما تضمر حيلة واسعة وذكاء عجيب نفاذ.
ثم يذكر هذه الليالي المتتابعة التي شغلته فيها شهرزاد بنفسها وقصصها عن الحب والبغض، وعن الغيرة والانتقام، وعن نفسه وملكه؛ حتى إذا انقضى القصص ورد إلى نفسه ملكا كما كان في تلك الأيام السود، ردت إلى نفسه خواطرها الحمر وعواطفها الثائرة وشهواتها المضطربة المختلطة، ورد إليها قبل كل شيء هذا القلق المتصل الذي يفسد الحياة على الأحياء، ونظر فإذا هو بين نفسه هذه المضطربة القلقة الثائرة التي لا يستطيع أن يخلو إليها، وبين شهرزاد هذه المحبة المبغضة الرحيمة القاسية الفاتنة المفتونة الواضحة الغامضة، التي لا يعرف لها كنها ولا يطمئن منها إلى حال، وهو مقسم بين هذين النوعين من العذاب، يخلو إلى نفسه فيشقيه القلق والخوف، ويخلو إلى زوجه فيشقيه الحب والشوق إلى المعرفة واليأس من إرضاء الحب ومن إرضاء الشوق إلى المعرفة.
ثم يذكر تلك الليلة التي آذنه فيها طائفه ذاك بأن شهرزاد ستستأنف الطب لنفسه نائمة بعد أن كانت تطب لها يقظة، وإذا هو يسمع من هذا القصص ما يسمع، فينعم بشهرزاد نائمة ويشقى بها مستيقظة.
وتشعر هي بذلك فتريد أن تطب له في الحالين، فتخلط يقظته بنومه وتجعله يحلم نائما ويقظان. وإلا فأين هو الآن؟! أين هو من قصره ومدينة ملكه؟! أين هو من جنده وحاشيته؟! أين هو من غرفته وأحراسه؟! ما هذا الزورق؟! وما هذه البحيرة التي يسبح فيها الزورق على غير هدى؟! كيف انتهى إليها! كيف حمل عليها؟! ماذا رأى فيها؟! ماذا عرف منها وماذا جهل؟! أنائم هو أم يقظان؟ أحالم هو أم عالم؟ أعاقل هو أم مجنون؟ ولكن ماذا؟ هذا صوت حلو يبلغ سمعه، إنه صوت شهرزاد ، إنها تتحدث إليه، لقد أفاقت من نومها، إذا أين هو من الزمن؟ أفي الليل هو أم في النهار؟! إنه يفتح عينيه ويقلبهما في كل وجه فيرى نورا لا يشبه النور وظلمة لا تشبه الظلمة. أنائم هو أم يقظان؟ أحالم هو أم عالم؟ أعاقل هو أم مجنون؟ ولكن حديث شهرزاد يصل إلى أذنه، ما في ذلك شك، إنها تدعوه وتلح في الدعاء، إن صوتها لا يخلو من دعابتها الساخرة الساحرة، إنها تنبئه بأنه ليس نائما ولا حالما ولا مجنونا، ولكنه يقظان عالم عاقل، يحس نفسه كما هي، ويحس الأشياء من حوله كما هي، ويسمع صوت شهرزاد التي تتحدث إليه ويفهم عنها حديثها حق الفهم، ولكنه لا يكاد يطمئن إلى هذا الحديث. إنه ينكر هذا الطور من أطوار الزمن الذي لا يشبه النهار كما عرفه ولا يشبه الليل كما ألفه؛ لأنه ليس في عالم الليل والنهار، وإنما هو في عالم غريب من عوالم القصص. أفق يا مولاي من نومك إن كنت نائما، ومن يقظتك إن كنت مستيقظا؛ فلست في عالم الليل والنهار، ولست في عالم النوم واليقظة، ولست في عالم الحلم والعلم، وإنما أنت في عالم يختلط فيه هذا كله، ويشتبه فيه هذا كله، ولا تميز فيه إلا نفسك وإلا حبيبتك، شهرزاد. أفق يا مولاي أو لا تفق؛ فإن كلا الأمرين سواء. اسمع مني وتحدث إلي أو لا تسمع مني ولا تتحدث إلي! فقد خلصت نفسك لي كما خلصت نفسي لك، فليفرغ كل منا لصاحبه، فقد غفل عنا كل شيء لأننا خرجنا من كل شيء وبعدنا عن كل شيء. افهم يا مولاي أو لا تفهم؛ فليس من المهم أن تفهم أو لا تفهم، وإنما المهم أن تتحدث نفسك إلى نفسي، وأن يصل إلى نفسي حديث نفسك سواء أحمله إلي الصوت أم انتهت به إلي نجوى الضمير.
وأنفق الملك ما شاء أن ينفق من الوقت غائبا عن نفسه وشاهدا لها، يحس في قوة لذة مؤلمة أو ألما لذيذا، قد فني في شهرزاد وفنيت فيه شهرزاد، فعرف الحب حين يبلغ أشد أطواره عنفا، وعرف الحب حين يبلغ أعظم أطواره رقة ولينا ولطفا. يجد ذلك كله في نفسه، ولكنه لا يحسن تصوره ولا تصويره ولا وصفه ولا التعبير عنه. إنما امتزجت نفسه بنفس حبيبته، فأصبحا حبا خالصا يسبح بهما زورق غريب في بحيرة غريبة وفي عالم ليس إلى تصوره ولا إلى تصويره من سبيل. عالم كان يقرأ عنه في الكتب حين كان المتصوفة يعرضون ما يعرضون من تلك الأطوار الغريبة التي لم يكن يتصورها ولم يكن يصدق أن إنسانا يستطيع أن يبلغها. أتكون شهرزاد هاديته إلى التصوف ومرشدته إلى الحقائق العليا وإلى عالم المعرفة الذي تطمح إليه نفس الإنسان طموحا غامضا وتشقى لأنها لا تبلغ منه ما تريد!
ومهما يكن من شيء، فقد أخذ الملك يثوب إلى نفسه قليلا قليلا، ويجد في هذا ألما ممضا، ويحس كأنه يدفع إلى عالم لا عهد له به، وكأن نفسه قد أصبحت غريبة في هذا الجسم الذي ترد إليه، وكأنه قد ارتقى في الجو إلى أبعد ما يمكن أن يرتقي، ثم أهبط فجأة إلى الأرض، فكاد يختنق من سرعة الهبوط، وكادت نياط قلبه أن تتقطع من شدة ما حبس عنه الهواء.
وأخذ الملك يحس كأن شهرزاد إلى جانبه تجد مثل ما يجد، وتألم مثل ما يألم، ويعاودها الشقاء كما يعاوده الشقاء، ثم ينظر فإذا هو إلى جانب شهرزاد قد وضع يده في يدها ينظر إليها دهشا وتنظر إليه دهشة، والزورق يسبح بهما دائما في الماء والضوء والموسيقى والغناء. هنالك يسمع الملك صوت نفسه وهو يسأل شهرزاد وكأنه يأتي من بعيد: «أين نحن؟! ماذا نسمع؟! وماذا نرى؟! ألا تنبئينني آخر الأمر من أنت وماذا تريدين؟!» ثم يسمع ضحك شهرزاد ساخرا ساحرا وصوتها مداعبا ملاعبا وهو يقول: «لقد رجعت إلي مولاي ورجعت إليك بعد غيبة طويلة.»
انظر! هذه شهرزاد تتحدث إلى شهريار في زورق من زوارق القصر على تلك البحيرة التي أشرف عليها القصر يوما ما، ومد إليها وما زال يمد إليها يدا كأنه يريد أن يهوي إليها أو أن يأخذ منها شيئا. «انظر يا مولاي! أترى إلى هذه الأسراب من الزوارق تزينها الغصون الخضر والورق النضر والزهر البهيج! إنها تسبح فيها كما يسبح هذا الزورق، وفيها أزواج من الفتيات والفتيان قد نعموا كما نعمنا وألموا كما ألمنا، وهم يعودون إلى حياتهم الهامدة الجامدة الراكدة كما نعود إليها، وفي نفوسهم مثل ما في نفوسنا من الحزن، وفي قلوبهم مثل ما في قلوبنا من الأسى. انظر يا مولاي! املأ عينيك مما ترى، وأذنك مما تسمع، ونفسك مما تشهد، فلن يبقى لك من هذا كله إلا الذكرى. انظر يا مولاي! بحيرة من ماء يغمرها بحر من ضياء، وبحر من موسيقى، وبحر من غناء، ويقوم عليها إلى حين قصر ملك من الملوك شقي فيه وسعد، ونعم فيه وابتأس، ثم خرج منه فخرج من سعادة الناس وشقائهم، ومن نعيم الناس وبؤسهم حينا طويلا أو قصيرا، ثم هو يعود إليه ليستأنف فيه حظه من سعادة الناس وشقائهم ومن نعيم الناس وبؤسهم.»
قال الملك في صوت حزين كأنما يأتي من بعيد: «أليس يمكن أن ننأى عن هذا القصر إلى آخر الدهر؟!»
قال شهرزاد: «ليس ذلك في طاقة القصص يا مولاي؛ وإنما القصص فرجة من حياة الناس تطل على عالم المثل العليا، يخرج الناس منها ليعودوا إليها. هلم يا مولاي! ألا ترى أن الزورق قد انتهى بنا إلى حيث دعانا إلى نفسه منذ حين؟! ألا تسمع دعاء القصر؟! إنه يلح علينا في أن نصعد لننعم كما كنا ننعم، ونأسى كما كنا نأسى.»
وتنهض شهرزاد وتأخذ بيد الملك، وإذا هما في ذلك البهو الذي تناءت أرجاؤه، وتباعدت أطرافه، وأحاطت به البحيرة من جهاته الثلاث، وغمره ذلك الجو الغريب من الموسيقى والغناء، وإذا شهرزاد قد أجلست الملك في مجلسه ذاك وجلست إلى جانبه رفيقة به عطوفة عليه، تسأله بصوتها الهادئ العذب الذي يمتزج بما حوله من الموسيقى: «أيرى مولاي أن شهرزاد قد وفت بما قدمت له من وعد؟»
ثم ينظر الملك فلا يملك أن يدفع صيحة منكرة ملؤها الدهش والحنق والغيظ: «ماذا؟ أين أنا؟» ولكن رئيسة الوصائف تتقدم إليه فتحييه ثم تقول: «أرجو أن يكون مولانا قد أنفق وقتا سعيدا.»
7
وأوى الملك إلى مضجعه من ليلته تلك، وأحب شيء إليه أن يعود إلى ليل الناس، فينام كما ينامون، لا يعتاده الأرق ولا يوقظه الطيف ولا يسليه القصص النائم أو القصص المستيقظ، فنفس الإنسان سئوم، وقدرتها على احتمال الأعاجيب محدودة، وقد احتملت نفس شهريار من الأعاجيب أكثر مما كانت تطيق، فليعد رجلا من الناس، وليحي بغرائزه الجامحة وعقله المتواضع الضئيل كما يحيون، من له بذلك؟! وما سبيله على النوم؟! وما سلطانه على الأطياف؟! إنه لمغرق في نومه، قد فقد فسه وفقدته نفسه، ولكن هذا صوت الطائف يبلغ أذنيه، وهذا شيء كأنه يد الطائف يمس كتفه، وهذه الكلمة تلقى في روعه: ما أسرع ما سئمت قصص شهرزاد! أسرع فإنها توشك أن تتحدث إلى نفسها، وينهض الملك مسرعا لا يلوي على شيء، فيسعى من غرفته إلى غرفة الملكة، ويمر بأحراسه وبأحراس الملكة غير ملتفت إليهم ولا حافل بهم، وينسل إلى غرفة الملكة رفيقا رشيقا حتى يأخذ مجلسه ذاك الذي تعود أن يأخذه كأن العهد به لم ينقطع، وإذا هو مصغ قد جمع نفسه كلها وضم بعض أجزائها إلى بعض، كما تنضم أوراق الزهرة التي تنتظر لتتفتح أن تمسها قطرة الندى. وهذه قطرة الندى تمس نفس شهريار؛ فهذا الصوت المعروف المألوف يقول: «فلما كانت الليلة الرابعة عشرة بعد الألف قالت شهرزاد.»
ثم ينقطع الصوت وتستأنف شهرزاد حديثها قائلة: «بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة فاتنة ردت على ملوك الجن سفراءهم، وأبت أن تسمع طلب السلم إلا من الذين شبوا نار الحرب، وقد عاد السفراء إلى سادتهم مخذولين مدحورين، ولكن وزراء الملكة ورجال حاشيتها أنكروا في أنفسهم صنيع مولاتهم بالسفراء ومن أرسلوهم، ولم يستطيعوا مع ذلك أن يجهروا بما أضمروا أو أن يعلنوا ما أسروا، وعرفت الملكة ذلك، فلم تسألهم عنه ولم تبادلهم بشيء منه . على أن أباها طهمان بن زهمان هو الذي اجترأ عليها هذه المرة كما اجترأ عليها حين تحدت ملوك الجن ودعتهم إلى الحرب.»
قال طهمان بن زهمان: «لم يبق لي من الأمر شيء يا ابنتي يبيح لي أن أتحدث إليك فيما تبرمين أو تنقضين، بل لم يكن لي من الأمر شيء قبل أن أنزل لك عن هذا الملك الذي أنت أحق به مني، وأقدر بشبابك وحكمتك وفطنتك على تدبيره وتصريف أموره من هذا الشيخ الفاني الضعيف، فلست أتحدث إليك الآن؛ لأن لي في الحديث حقا يبيحه لي القانون أو تخولني إياه مراسم الملك، وإنما أنا أب يتحدث إلى ابنته، ومن حق الآباء يا ابنتي، بل من الحق عليهم، أن ينصحوا لأبنائهم، وإن كان من العسير على الشباب الذين يستقبلون الحياة واثقين بأنفسهم وبالحياة أن يسمعوا لنصح الشيوخ الذين يستدبرون العيش شاكين في أنفسهم وفي العيش، فهبيني أريد أن أريح نفسي حين أراجعك فيما أصدرت من أمر، إنك ملكة يا ابنتي، وللملوك حرمة وقدس، وما أرى إلا أنك حريصة على أن ترعى حرمتك ويوقر لك ما أنت جديرة به من الإكبار، وأحسب أن أول ما يجب عليك في ذلك هو أن تؤدي إلى الغير ما تحبين أن يؤديه غيرك إليك، وقد كانت بينك وبين هؤلاء الملوك حرب أعلنها السفراء، ويراد أن يكون بينك وبين هؤلاء الملوك سلم يطلبها السفراء ويقررونها. فما عدولك عن هذه الطريق المألوفة؟ وما ابتداعك سنة لم يعرفها ملوك الجن فيما توارثوا من السنن والتقاليد؟!
وسيقول بعض شعراء الناس في يوم قريب أو بعيد:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
وهذا اليوم لك يا ابنتي، فلا تبطري ولا تأشري، ولا تسرفي على عدوك المنهزمين، وخصمك المقهورين؛ فقد يكون يوم آخر عليك فيأشر عدوك كما أشرت، ويبطر خصمك كما بطرت، ويسرفون عليك كما أسرفت عليهم، ويردون سفراءك مهينين كما رددت سفراءهم مهينين.
وشيء آخر يا ابنتي وددت لو قدرته وفكرت فيه؛ فقد كان هؤلاء الملوك يستطيعون أن يرجعوا عن حربك كما أقدموا عليها دون أن يسفروا إليك أو يعرضوا عليك صلحا، ينتظرون أن تدور الأيام لهم بعد أن دارت عليهم؛ ولكنهم قبلوا الأمر الواقع ومضوا على سنة الملوك من قبلهم، فاعترفوا لك بالغلب وألقوا إليك السلم وطلبوا منك الصلح، فاحذري وقد لقيتهم هذا اللقاء ورددت مجاملتهم هذا الرد، أن يعودوا أدراجهم، وأن يطاولوا ويماطلوا وينتظروا معاودة الحظ لهم، وأن يبقى الأمر بينك وبينهم مختلطا مضطربا، لا هو بالسلم التي تستأنف فيها الصلات بين الأمم والشعوب، ولا هو بالحرب التي يكون فيها الغالب والمغلوب، وما أظن يا ابنتي أنك تريدين أن تغيري على هؤلاء الملوك في ممالكهم، ولا أن تغزو جيوشك كل واحد منهم في عقر داره؛ فقوتك لا تبلغ هذا، وحبك للرعية يأبى عليك أن تعرضيها لحرب الهجوم بعد أن عصمتها من حرب الدفاع. وإذا فسيبقى الأمر معلقا بينك وبين أعدائك حتى يستأنفوا الحرب أو تزهدي أنت هذه الحال المعلقة فتطلبي إليهم السلم، ويوشك كل واحد منهم أن يرد عليك سفراءك كما رددت عليه سفراءه. وبعد؛ فإن الملوك لا يعاملون أنفسهم هذه المعاملة، ولا يطلب أحدهم إلى الآخر أن يذل ويستكين ويسعى طالبا للصلح ومعطيا بيده. كان ذلك يجري في الزمن القديم قبل أن تتحضر الجن وتقرر القواعد التي تنظم العلاقات بين الأمم والشعوب وبين الدول والملوك، فأما الآن فإن نظام السفراء لم يخترع عبثا، وإنما أنشئ لمثل هذا الأمر الذي أنتم فيه.»
قالت الملكة باسمة: «أحبب إلي بكل ما تأمرني به يا أبت وبكل ما تشير به علي؛ فأنت الملك وستظل الملك دائما، وإنما أنا رعية لك، وإذا نهضت بالأمر فإنما أنهض به؛ لأن طاعتك علي واجبة، ولأن شبابي وقاء لشيخوختك، وكل ما قلته لي حق لا غموض فيه ولا غبار عليه لولا أني ضامنة أن هؤلاء الملوك الذين أثاروا حربهم ظالمين لن يستطيعوا أن يعودوا إلى ممالكهم حتى آذن لهم بهذه العودة؛ فإن السر الذي أتاح لي أن أحول بينهم وبين الفوز يتيح لي أن أحول بينهم وبين الإياب إلى أوطانهم، فهم معلقون بأمري بين النصر والهزيمة: لن ينصروا لأني لا أريد لهم أن ينصروا، ولن يرجعوا لأني آبى عليهم أن يرجعوا.»
قال طهمان بن زهمان: «ويحك يا ابنتي! أتستطيعين ذلك؟»
قالت: «كما استطعت أن أقفهم موقفهم هذا لا يتقدمون خطوة.»
قال طهمان بن زهمان: «إن كل أمرك غير مفهوم يا ابنتي، ويظهر أنك لا تريدين أن أفهم منه شيئا.»
قالت الملكة باسمة: «من يدري؟! لعلك تفهم منه كل شيء في وقت قريب أقرب جدا مما تظن، ولكنك تنكر علي ردي للسفراء ومعاملتي للملوك بغير ما جرى به العرف، وحملي إياهم على ما لا ينبغي لهم من الذلة والهوان، وقد كان هذا حقا لو أني أثرت عليهم حربا ظالمة، وقد كان هذا حقا لو أنهم أثاروا علي حربا دعا إليها اختلاف مصالح الشعوب وتباين منافعهم وتقديرهم لهذه المصالح والمنافع، سواء أكان هذا التقدير خطأ أم صوابا، ولكنهم أثاروا حربا ظالمة لم تقتضها مصلحة عامة ولم تدع إليها منفعة عاجلة أو آجلة لأمة من أممهم أو شعب من شعوبهم؛ إنما اتبع كل منهم هواه وركب رأسه وانقاد لشهوته الجامحة.
وقد كنت تذكرني يا أبت بأن هذه الحرب إنما أثيرت لأن هؤلاء الملوك يحبونني ويخطبونني، وأنا لا أحب منهم أحدا ولا أرضى لنفسي من بينهم زوجا، وكنت تذكرني بأن هذا الأمر لا يعني رعيتنا ولا رعايانا من قريب أو بعيد، فهذا الظلم الصارخ، وهذا العدوان المنكر، وهذا الإهدار لحقوق الشعوب، وهذه التضحية الآثمة بالنفوس التي أمر الله أن تعصم والدماء التي أمر الله أن تحقن والحرمات التي أمر الله أن ترعى، في سبيل شهوة فردية لا تعتمد على ما يشبه الحق أو العدل؛ كل هذا خليق أن يهدر حق مقترفيه في طاعة الشعوب، وكل هذا خليق أن يلغي حق مقترفيه في النهوض بأمر السلطان.
فهؤلاء المعتدون عندي ليسوا ملوكا ولا أشباه ملوك، وإنما هم عندي طغاة ظالمون، فإن للملك حقوقه، ما في ذلك شك؛ ولكن هذه الحقوق رهينة بواجبات ينبغي أن تؤدى؛ فإذا ضيعت الواجبات أهدرت الحقوق.
فالسفراء الذين أقبلوا علي ثم ردوا مخذولين على سادتهم، لم يكونوا سفراء ملوك يأخذون الملك بحقه، وإنما كانوا سفراء طغاة قد فقدوا حقوقهم على رعيتهم كما فقدوا حقوقهم على نظائرهم، وما أكره أن تدور الأيام علي بمثل ما دارت به عليهم إن اقترفت من الإثم مثل ما اقترفوا، واجترحت من الذنب مثل ما اجترحوا، وجنيت من السيئات ما يجعلني لذلك أهلا.
وقد تعلمت منك يا أبت أكثر مما تظن أني تعلمت، وأول ما تعلمت منك أن آخذ ملكي بحقه، وأن أنهض بما علي من واجب قبل أن أطلب ما لي من حق، وأن أبيح للشعب معصيتي والخروج علي وإهدار سلطاني عليه، إذا لم أعرف له حقه، ولم أؤد إليه ما ينتظر أن أؤدي إليه، فلا بأس عليك، ولا بأس علي، ولا بأس على رعيتنا من هذه الخطة التي اتخذتها، وانظر! فهذا وزيرنا قد أقبل ينبئنا بأن عدونا قد قبلوا ما فرضنا عليهم من شرط، وهم يريدون أن ننظم وفودهم علينا واستقبالنا لهم.»
وكان الوزير قد دخل أثناء حديث الملكة، فلما سمع آخر هذا الحديث حيا وقال: «إن الأمر كما ترين يا مولاتي، وإن عدوك يطلبون كيف يكون وفودهم عليك وكيف يكون استقبالك لهم؟»
قالت الملكة: «فكيف ترى أن يكون ذلك أيها الوزير؟»
قال الوزير: «ملوك يا مولاتي، فيجب أن يستقبلوا كما يستقبل الملوك، ومراسم ذلك معروفة مقررة.»
قالت الملكة وهي تضحك: «بل طغاة بغاة يا سيدي، فيجب أن يستقبلوا كما يستقبل الطغاة البغاة. تلقهم أنت إن شئت. أما أنا فلن ألقاهم، ولك أن توكل بلقائهم من أحببت، فإذا مثلوا بين يديك، أو بين يدي وكلائك؛ فخيرهم بين الموت وبين أن يشهدوا على أنفسهم بالطغيان وإهدار حقوق الشعوب، فأيهم اختار الموت فجرعه كأسه، وأيهم اختار الحياة - وكلهم سيختارها - وأشهد على نفسه أنه طاغية مهدر لحق شعبه، فليخلع نفسه من الملك وليلق إلينا بيده، ونحن نسلمه بعد ذلك إلى وطنه يصنع به ما يشاء، ثم لا تراجعني في أمرهم بشيء قبل أن تنفذ ما قدمت إليك.»
وتم كل شيء يا مولاي كما أرادت الملكة، وردت إلى شعوب الجن حقوقها المغصوبة، وحرياتها المسلوبة، وتأذنت فاتنة في شعبها وفي الشعوب الأخرى بأن أمور الأمم إليها؛ تشرك فيها من الملوك والرؤساء من تشاء وكيف تشاء، وتقيد ملوكها ورؤساءها من القوانين بما تحب، وتشرف على إنفاذ ملوكها ورؤسائها لإنفاذ هذه القوانين، وتتخفف من الملوك والرؤساء إن خالفوا عن هذه القوانين.
وأقامت شعوب الجن يا مولاي لهذا الحدث أعيادا رائعة، وأرخت به منذ كان وما زالت تؤرخ به إلى الآن، وجعل الجن يتنزلون ببعضه إلى الإنس بين حين وحين، فيفهم الناس عنهم ذلك حينا ويخطئون الفهم في أكثر الأحيان، وهذا مصدر ما نرى عن الناس من الاختلاف في نظم الحكم ومن اضطراب العلاقات بين الرعية ورؤسائها وبين الأمم والدول.
ومن يدري يا مولاي؟! لعل عالم الجن أن يصل إلى الناس ذات يوم أو ذات قرن واضحا جليا لا لبس فيه ولا غموض. أو لعل عقول الناس أن ترتقي ذات يوم أو ذات قرن إلى حيث تفهم عن الجن في غير مشقة ولا جهد. يومئذ أو قرنئذ تصلح أمور الإنسان كما صلحت أمور الجان.
وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.
ولم يأو الملك في مضجعه حين عاد إلى غرفته كما كان يقدر أنه سيفعل، ولم يذهب إلى نافذة من نوافذ الغرفة ولا إلى طنف من أطناف القصر؛ ليشرف على الحديقة ويستنشق الهواء الطلق كما تعود أن يفعل من قبل، وإنما عكف على نفسه يتدبر ما سمع ويستحضر ما شهد ويتذكر ما رأى، وكأنه أنسي نفسه في هذا العكوف، حتى أقبلت شهرزاد وقد ارتفع النهار، فلما أحس مقدمها رفع رأسه إليها دهشا وهم أن يتكلم، ولكنه رأى في وجهها الجد، وسمعها تقول في صوت حازم باسم معا: «لشد ما هانت عليك أمور الملك يا مولاي! ها أنت ذا تخلو إلى نفسك في زاوية من زوايا غرفتك، كأنك فرد من أفراد الناس قد فرغ للفلسفة والتفكير. ألم تحاسب نفسك على هذا الوقت الطويل الذي أنفقته في غير شئون الملك؟ ألم يخطر لك أن للشعب حقوقا يجب أن تؤدى إليه، وأن أوقات الملوك ليست خالصة لهم من دون الرعية؟!»
قال الملك دهشا في صوت كأنه يأتي من بعيد: «يا عجبا! كأنما أسمع حديث فاتنة.»
قالت شهرزاد ذاهلة: «فاتنة! فاتنة! ليس هذا الاسم علي غريبا، وأحسب أن لي به عهدا قريبا.»
القدس سبتمبر سنة 1942
الإسكندرية يناير سنة 1943
Unknown page