وقفت أخاطب الطفل المعتدي، بابتسامة الوالد ونبرته: لا، لا، يا ابني لا تفعل، اترك الشجرة المسكينة لتنمو. فالتفت إلي ويداه ما زالتا ممسكتين بالجذع النحيل، وسألني: هل أنت عسكري؟ قلت له: لا، أنا مثل أبيك، ولو رآك أبوك لطلب منك ألا تسيء إلى هذه الشجرة. قال وانحنى على الشجرة يستأنف جهاده في التخريب: لست أنت بالعسكري فتأمر، ولا شأن لك، لا بالشجرة ولا بي؛ فالشجرة أمام بيتنا وفي شارعنا، لا هي أمام بيتك ولا في شارعك. قلت له: أتعرف لماذا زرعوها في شارعكم وأمام بيتكم؟ إنهم فعلوا ذلك لتكون لك كالأخت الصغيرة، فتنموان معا، لتصير أنت رجلا كبيرا، ولتصير هي شجرة كبيرة، ويومها ستجلس في ظلها محتميا من الشمس.
مضيت في طريقي - وكانت الساعة قبيل الغروب بقليل - وعدت بعد العشاء في الطريق نفسه، فإذا الشجرة صريعة، راقدة على جنبها، نصفها فوق الطوار، ونصفها الآخر في مجرى العربات، تفركها تحت عجلاتها هشيما يبعثره الهواء. كنت قد توهمت أن اليدين الصغيرتين لن تقويا على اقتلاع الشجرة، وتركتها مطمئنا، لكنهما استطاعتا، وقتلتا الشجرة. ولا بد أن يكون الصبي قد عاد إلى أهله منتفخا بالنصر، وحكى حكايته وحكايتي وحكاية الشجرة القتيل، إلى أمه وأبيه وأخوته، فضحكوا له مشجعين.
أكملت طريقي إلى منزلي، ووجدتني أتمتم شاديا: يا قالع الشجرة، ضيعت على نفسك البقرة، فلا حلب لك ولا سقيا، مهما يكن عندك من الملاعق الصيني! ... ثم دارت في رأسي صور قواتم، لشجرات أخريات من نوع آخر، رأيتها وهي تقتلع من أرضها، وباقتلاعها يذهب الأمل في ثمار تؤكل أو في ظل ينشر؟ فلماذا تتجه باللوم إلى ذلك الصبي الصغير، الذي هو بغير شك انعكاس لصورة أبويه في الهدم والتخريب؟ وها هي ذي صور أخرى - ولعلها أخطر - تجيئك تترى، من خبرة قريبة الحدوث أو بعيدة، كان أولاها وثوبا إلى رأسي ذلك الوالد الذي زرع لتوه شجرتين، أو قل زهرتين جميلتين، وكان منطق شعبنا الطيب العريق الذي عبر عن نفسه في ترنيمه: يا طالع الشجرة، هات لي معك بقرة ... إيمانا منه بأن كل نبتة تزرع، من حقها على الزارع أن يرعاها عناية ونماء، إلى أن تصبح شجرة مستقرة ، طرحها مصادر خير وبركة، لكن ذلك الوالد جرى على منطق آخر، هو نفسه منطق الصبي الذي رأيته يجتث الشجيرة من أرضها؛ لأنه ترك الزهرتين الجميلتين تتعرضان لعامل الذبول والجفاف. ولماذا؟ ليرضي عن نفسه رغبة لعلها أخس شأنا من رغبة الصبي الذي اقتلع الشجرة ليزهى بنصره على حياة قبل أن يشتد عودها لتقاوم العدوان العابث.
ولم تكد صورة الوالد اللاهي بمصائر صغاره ترتسم في ذهني، حتى جاءتني الذاكرة بصورة تصيبني برجفة كلمة تذكرتها، فقد كان «ش» طالبا بين طلابي، وهم يعدون اليوم بالألوف، وكنت ألمح فيه شيئا من علائم القلق والحيرة واعتزال الزملاء أحيانا، لكنه في أحيان أخرى يذهب إلى النقيض، فيمزح ويضحك ويهرج إلى درجة الإسراف. وحدث له ذات يوم أن صحبني في مشيتي من الجامعة إلى داري، وهي مسافة أمشيها في بضع دقائق، فقلت له لأشعره باهتمامي به: إني كثيرا ما أراك وكأنك تحمل الهموم! فأجابني: نعم، وأي هموم، فلا والد لألوذ بحمايته، ولا والدة، إنهما بين الأحياء، لكن كلا منهما سلك طريقا؛ فللوالد زوجة أخرى، وللوالدة زوج آخر، وأنا في أرجوحة بينهما، أرتكز على هواء ... ومضت خمسة وعشرون عاما، وكنت عائدا من الإسكندرية على عجل إلى القاهرة، لأقف إلى جانب شقيق دهمه المرض - رحمه الله - فبينما كنت في فناء المحطة أسرع الخطى إلى الخروج، اعترضني رجل في أسمال قذرة بالية، أشعث الرأس، ملطخ الوجه بما يشبه بقع الشحم الأسود، وطلب مني أي شيء أجود به، 5 قروش تكفيه؛ فلقد بات على الطوى ليلتين - هكذا قال - ونظرت إليه في ضجر أول الأمر، لكن إرادة الله شاءت عندئذ لذاكرتي أن تنتفض وكأنها اهتزت بموجة من كهرباء؛ فلقد رأيت في عينيه المنطفئتين شعاعا خافتا يذكرني بذلك الطالب القديم «ش»، فصحت في وجهه: أأنت فلان؟ قال: نعم يا سعادة البيه. وهنا لمحت في عينيه ما دلني على أنه تذكرني بعد أن لم يكن يعرف من أنا عند أول اللقاء. سألته في عطف كدت لا أقوى على سريانه في كياني: وما الذي أدى بك إلى هذه الحالة يا فلان؟ قال: هو نصيبي يا دكتور! لا، يا «ش»، إن كلمة النصيب لا تكفي، ماذا دهاك؟ قال: وقعت فريسة المخدرات ... أعطيته ما أعطيته، وأسرعت الخطى. فلما وردت هذه الصورة إلى ذاكرتي ليلة أن رأيت الشجيرة المقتلعة صريعة، قلت لنفسي: ماذا صنع الوالدان لذلك المسكين «ش» أقل مما فعله الصبي حين اقتلع الشجيرة، فضاعت الشجرة، وضاعت البقرة، ولم يعد لأحد حلب ولا سقيا، واندثرت في دنيا العدم كل الملاعق الصيني.
لم أكن قد وصلت إلى منزلي بعد؛ إذ قابلني صديق أديب ناقد، له في حياتنا الثقافية شأن. وكانت الصحف يومئذ مليئة بالتعليقات على المسلسل التليفزيوني عن حياة العقاد، وكان عنوانه «العملاق». فسألني صاحبي: هل تتابعه؟ فقلت: نعم إني أفعل. فما هو إلا أن انفجر صاحبي غاضبا مستنكرا، وكأنه دخل ساحة القتال وأصابته الهزيمة، قال: ما هذه العملقة الرخيصة، يتبرعون بها على كل من هب ودب! العقاد عملاق؟ إذن كيف يكون الأقزام؟ - هكذا قال - فرددت عليه بأن أخذت أقص عليه قصة الشجيرة التي اجتثها الصبي من أرضها، فقضى بيديه العابثتين على ظل كان يمكن أن يستظل به الناس لو أتيح لها أن تنمو، ثم سألت صاحبي: هل ترى فرقا كبيرا بين ذلك الصبي وبينك؟ ماذا يبقى في حياتنا في ظل نلوذ به ساعة قيظ، إذا نحن هوينا بفئوسنا على أعلامنا، نجتثهم واحدا بعد واحد؟ فلو استمعنا إلى أصوات تقول: ماذا صنع طه حسين حتى تقيم حوله كل هذه الضجة، وماذا صنع العقاد، وماذا صنع فلان، وماذا صنع علان، أفلا نفعل بهذا فعل الصبي الذي لم يبق للناس الشجرة، فقضى أيضا على البقرة، فلا شيء بعد ذلك يحلب ولا شيء يسقي، وعندئذ ماذا نصنع بما لدينا من الملاعق الصيني؟
تركت صديقي، ومضيت أكمل الطريق إلى بيتي، هامسا بين شفتي في غضب أكلما قابلت أحدا، وجدته يقتلع من أرضنا شجرة؟ أكان مقسوما لأسلافنا الأقربين والأبعدين جميعا أن يزرعوا وأن يبنوا ومقسوما علينا أن نقتلع ونهدم؟ حقا إنه «كلما أنبت الزمان قناة، ركب المرء في القناة سنانا». ماذا يبقى لحياتنا إذا أخذنا أنفسنا بإزالة الشجرة من بستانها، إلا أن تنصب على رءوسنا وقدة الشمس الحارقة، لا نجد شجرة نلتمس الوقاية في ظلها؟ لكن لقائي بذلك الصديق الناقد، وما دار بيننا من حديث عابر قصير، نقلني من عالم الأشجار - مزروعة ومقلوعة - إلى عالم الكلمات، وبين الكلمات والأشجار وشائج قربى
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء * تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ... * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار
نعم، إن بين الكلمات والأشجار وشائج قربى، ولهذا سهل انتقالي من عالم الشجر - مزروعا ومقلوعا - إلى عالم الكلمة طيبة وخبيثة؛ فناطق يلتزم الحق، وناطق يتعمد الباطل، وهنالك بين الطرفين صنف ثالث، أشار إليه الإمام علي - كرم الله وجهه - وهو الذي يقول كلمة حق يراد بها باطل. ولقد عاش كاتب هذه السطور حياة كانت كلها كلاما في كلام، فكان مرهف السمع لكل تعليق يجيء على كلماته. ولعل أقربه عهدا هو ما سمعه بالأمس من شيخ له مكانته وله مهارته؛ إذ قذف إليه عبارة من ذلك الصنف الثالث الذي هو وسط بين صراحة الحق وصراحة الباطل، والذي يحتاج من صاحبه إلى دهاء ودقة صياغة والذي يقتل بغير سفك للدماء.
إن أمثال هؤلاء الذين يهدمون ما يشيده الآخرون دون أن يضعوا هم حجرا على حجر في سبيل البناء ليس شأنهم شأن زارع شجرة طرحها أبقار حلوب، كالتي تصورها شعبنا الطيب في أغانيه، بل شأنهم شأن زارع الشجرة الملعونة في القرآن، شجرة الزقوم، التي طلعها كأنه رءوس الشياطين.
إن مصرنا الحبيبة تهم اليوم بمرحلة يسودها بنيان وعمران، وكنا نتمنى ألا يكون بيننا من يغافلنا في الظلام، فيضع بين تروس الآلة مسمارا يؤذيها. قل لمن يحسن بعض الإحسان: لقد أحسنت أو اسكت عن لا ونعم. ولقد أراد الله أن أقع على أمثلة من التدمير والتخريب، تثير الحسرة ولكنها لا تشيع اليأس. وكان ذلك الصبي الذي رأيته يقلع الشجرة الطفلة من حضن أمها اقتلاعا، هو أرحم الأمثلة التي رأيتها ؛ لأنه يقلع خيرا ثم لا يزرع مكانه شرا، لكنني رأيت من اجتث الشجرة أم البقرة، ليزرع مكانها الزقوم. فيا قالع الشجرة، قد ضيعت على نفسك البقرة، فلن تجد من يحلب ويعطيك، لا بملعقة الصيني، ولا - حتى - بملعقة الصفيح.
Unknown page