وهبط كاتبنا الرحالة إلى السفح في طريق عودته، فكان أول من لقيه من الناس، امرأة عجوز متهدمة جلست على جانب الطريق، وأمامها صندوق خشبي صغير، تناثرت على ظهره سبع قطع من الحلوى، ترى كم مليما تربح هذه المسكينة في يومها؟ أين تسكن؟ وعلى أي كومة من التراب والحصى تضع جنبها سواد الليل؟ ماذا تأكل؟ وكيف تغطي جسدها إذا ما اشتد برد الشتاء؟ من ذا يجيبها إذا تأوهت من ألم، كما شاء الله لعباده المرضى أن يتأوهوا كلما اشتد بهم الألم؟
تقدم صاحبنا من بائعة الحلوى: بكم تبيعين القطعة يا أمي؟ فأجابته بصوت مرتعش: القطعة بمليم، فقال لها: سأشتري حلواك كلها لأولادي! فأخذت المسكينة تدعو له ولأولاده بطول البقاء، فقال لها صاحبنا وهو يدفع لها قرشا كاملا ثمنا لحلواها - وحقها سبعة مليمات - لا تنسي يا أمي أن تطلبي من الله في دعائك، رحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك هناك فوق قمة الجبل؛ فلقد رأيتهم وهو يبذلون كل جهدهم في سبيلك؛ إذ رأيتهم وهم يبحثون لك عن أفضل دستور يلائمك من بين دساتير أوروبا، ورأيتهم وهم يتجادلون من أجلك في هل يكون الفن للفن أو يكون الفن للمنفعة؟ ورأيتهم وهم يهيئون لك مصطافا على شاطئ البحر ، تلوذين به من قيظ الصيف ...
تلكما - إذن - صورتان مما كنا نكتبه قبيل الثورة بقليل: صورة الغلام الذي أخذ يكتب الظلم على قطع الأثاث والجدران والأبواب، يكتبها بالطباشير مرة، وبالفحم مرة، وبالطلاء ثالثة ويحفرها بمبراته رابعة، وصورة السادة الذين تربعوا فوق قمة الجبل يبحثون عن مصالح الشعب، والشعب هناك عند أسفل الجبل، يتضور من جوع، ويتأوه من ألم. وها هي ذي صورة ثالثة نضيفها؛ فهذا صبي في العاشرة رآه الكاتب وقد وقف أمام بائع الحلوى، ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف. وقف الصبي على بعد ثلاثة أمتار أو نحوها، مثبتا ناظريه في عروس من الحلوى. والأعجب من هذا أن راحت العروس الحلوة بدورها تنظر إليه، لا تزيح عنه البصر.
كان الصبي ينظر إلى معشوقته وعلى فمه ابتسامة خفيفة كلها هيام، وكانت العروس الحلوة بدورها تبتسم له في حنان، لكن أوجه الخلاف بين العاشقين الصامتين كانت فسيحة المدى: إنه صبي فقير وقف هناك في هلاهيله رغم البرد القارس، وقف مرتعش الأطراف تريد عضلاته الصغيرة أن يزحم بعضها بعضا ليدفئ بعضها بعضا، ورآه الكاتب يرفع إحدى قدميه، فيقف بها على أطراف الأصابع، ونظر إلى القدم المرفوعة، فإذا آثار جرح كبير في عقبها، تعرفه جرحا بحواشيه القرمزية المنتفخة، وأما فجوة الجرح نفسه فقد ملئت بالطين الجاف، كأنه بركان ثار وأرسل الحمم، ثم خمد مؤقتا، ليثور من جديد بعد حين، لكن الصبي الولهان ظل واقفا يرتعش ويرقب عروسه المشتهاة في شرفتها العالية. إنها بادية الثراء، لبست ثوبا نظيفا جديدا لامعا، عليه الترتر اللامع.
شعر الصبي ملبد فوق رأسه، خشن بأوساخه، غليظ، وشعر العروس ممشط مرسل ناعم. جسد الصبي ملطع ببقع بيضاء من ملح، وجسد العروس كله في حلاوة السكر وأشهى ...
طاخ! نزلت صفعة الشرطي على الصبي إذ هو شاخص ببصره إلى عروسه يحلم! طاخ! صدمت ركلة الشرطي قدم الصبي الجريحة، فجرى المسكين صارخا من الألم في صوت يشبه عواء كلب جريح، وظل يحجل على قدم واحدة، حتى أوى إلى فجوة باب مغلق خلف مقصورة الحلوى، وجلس هناك في الظلام باكيا، يهز جذعه إلى خلف وإلى أمام، ممسكا بقدمه الجريحة بين كفيه.
أمثال هذه الصور هي ما جرى به القلم في مجلة الثقافة التي أشرفت على تحريرها نحو ثلاثة أعوام، قبيل ثورة يوليو سنة 1952م.
دفاع عن العقل
كانت الخمسينيات في حياتي الثقافية، معركة متصلة حامية اللهب، أدافع فيها عن ضرورة التزام الإنسان في حياته العلمية بمنطق العقل، في صرامة لا تجد فيها العاطفة ثغرة لها، تتسلل منها، فتضعف ذلك المنطق العقلي بميولها وأهوائها. ولم يكن ذلك تهوينا من شأن العواطف الإنسانية، وأهميتها البالغة في حياة الإنسان، لكن لكل شيء مجاله، فإذا كنا لا نطالب الفنان أو الأديب، بالتزام المنطق العلمي، في إبداعه الأدبي أو الفني، فكذلك لا ينبغي لنا، أن نطالب الباحث العلمي بأن يقحم شيئا من وجدانه في مجاله العقلي.
وكانت عقيدتي هي أن عصرنا هذا - وكنا عندئذ في أول الخمسينيات - يسوده استهتار عجيب في كل شيء. وكان الذي يهمني يومئذ، ناحية خطيرة من نواحي حياتنا، هي ناحية التفكير والتعبير؛ فلقد اعتادت الألسنة والأقلام، أن ترسل القول إرسالا غير مسئول، دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب، أدنى الشعور، بأنه مطالب أمام نفسه، وأمام الناس، بأن يجعل لقوله سندا، من الواقع، الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي، فكتبت حينئذ أقول: إنه لو كان هذا الارتجال الحر الطليق، من قيود الواقع وشكائمه، مقصورا على جوانب هينة يسيرة من حياتنا، لما كان الأمر بحاجة إلى جهد يبذل، لكنه ارتجال اتسعت رقعته، حتى شمل حياتنا العملية والعلمية كلها أو كاد.
Unknown page