تلك هي اللحظات القلائل المتقاربة في أزمانها، والتي فتحت لي فيها أبواب التذوق في دنيا الشعر والفن والمسرح، فكان لها عندي ما بعدها.
منابع التحصيل
كانت عشرينيات القرن بحيويتها الفكرية والأدبية الدافقة الجياشة، هي السنوات التي أشعلت الجذوة في صدري نحو التحصيل العلمي الذي لم ينقطع معي إلى اليوم؛ فكنت أجمع كل ما كان يخرجه أعلام الفكر والأدب من كتب خلال العام الدراسي، لأجعل منه زادي في إجازة الصيف. على أن ما كانت تخرجه المطابع عندئذ خلال العام الدراسي كله لم يكن ليجاوز أصابع اليدين، ولم تكن أثمان الكتب بحيث أعجز عن الشراء.
كان أحمد حسن الزيات قد أخرج كتابيه المترجمين: «آلام فرتر» لجيته، و«رفائيل» للامارتين؛ فكم مرة تظنني قد قرأت هذين الكتابين؟ لو قلت إنني قرأتهما ثلاث مرات متوالية على الأقل لما بالغت؛ فلقد سحرتني لغة الترجمة إلى حد الفتنة. وإذا لم تكن هي فتنة المسحور، فبماذا تسمي هذا السلوك الآتي: أردت أن أكتب خطابا إلى أبي، وكان لم يزل في منصبه في حكومة السودان بالخرطوم، وكنت قد عدت من إجازة قصيرة قضيتها معه هناك. وكان طريق السفر تتوسطه مرحلة بسفينة بخارية فيما بين أسوان ووادي حلفا، وفي هذه المرحلة النهرية كانت تقف السفينة بركابها عند أبي سمبل، ليستطيع من أراد أن يزور ذلك المعبد القديم المنحوت في صخر الجبل. ولقد زرت المعبد مع الزائرين، فلما أردت الكتابة إلى أبي بعد عودتي إلى القاهرة، وجدت قلمي ينساب بما جاء في ترجمة الزيات لرفائيل عن معبد قديم؛ فالوصف أخاذ للقلوب، والعبارة العربية في الترجمة فتنة للأذن. وجدت قلمي ينساب بما حفظته عن ظهر قلب، منتحلا إياه لنفسي، ومن شدة فتنتي بما أكتب، نسيت أن أضع في الخطاب - لا في أوله ولا في آخره - التحية المألوفة في الخطابات التي يرسلها ابن إلى أبيه؛ فكل ما ورد في خطابي هو وصف جميل لمعبد ادعيت أنه هو أبو سمبل الذي زرته في الطريق.
نعم، فتنت بأسلوب الزيات يومئذ؛ فلا هو الأسلوب الذي يفوح برائحة القدم من لفظ غريب وسجع أغرب، ولا هو الأسلوب الذي يخلو من العناية الشديدة باختيار اللفظ، وصقل العبارة، وحسن التركيب في الجملة الذي يعطيك شيئا من التوازن بين أجزائها. وكذلك كانت كتب المنفلوطي هي الأخرى أمرا يشبه أن يكون واجب الأداء؛ فليس قارئا بين الشباب من لم يقرأ «العبرات» و«النظرات» للمنفلوطي. ولكم كان شائعا بين الشباب من الكاتبين أن يستخدموا كثيرا من «لوازم» المنفلوطي في التعبير. ولا أقول إني نجوت من هذه العدوى، لكنني أقول إني أضفت إلى ذلك ما لم يضفه كثيرون غيري، وهو الإعجاب بأسلوب الزيات إعجابا تمنيت أن يكون له أثر عندي وصدى. وإنه ليصعب علي الآن أن أزن مقدار ما تبقى في كتابتي من تأثر بذلك الأسلوب، لكن الأرجح أن أثره قد زال بزوال دواعيه.
كانت لكتب «المطالعات» و«المراجعات» وغيرهما مما أخرج العقاد في ذلك الحين، أو قبله بقليل، أثر في حصيلة فكري وفي طريقة التناول العقلي، أكثر جدا مما كان لها من أثر في وجداني أو في أسلوب كتابتي؛ فعند العقاد وجدت زادا فكريا غزيرا، التقطته ووعيته ورددته في أحاديثي مع الأتراب إلى حد الإسراف؛ فمن ذلك - مثلا - أنني حين قرأت فكرة العقاد عن الجمال بأن الجمال هو الحرية، بمعنى أن الشيء يكون جميلا بمقدار ما يتغلب على القيود وينساب في حركة سهلة، كالنهر الجاري إذا قيس إلى الماء الآسن، وكالبدن الخفيف الراقص إذا قيس إلى البدن الثقيل البطيء، وكالزهرة النامية على فرعها إذا قيست إلى زهرة شبيهة بها مصنوعة من ورق، وهكذا وهكذا. أقول إنني حين قرأت فكرة العقاد هذه في توحيده بين الجمال والحرية كأنما هما هوية واحدة، وجدتها تملك علي عقلي، إلى الحد الذي جعلني حين ذهبت في إجازة الصيف إلى الريف - وريفنا يقع بين المنصورة ودمياط، في قرية ميت الخولي عبد الله التي أسر أهلها لويس التاسع في الحروب الصليبية - أقول إن الفكرة عن الجمال والحرية قد ملكت علي عقلي إلى الحد الذي جعلني حين ذهبت إلى الريف، واعتدت الجلوس أمام دكان لبقال كان يرحب بأمثالي من طلبة العلم، يجلسون للمناقشة أمام دكانه، يستمع إليهم معجبا وهو صامت، أخذت أطرح فكرة العقاد عن الجمال بأنه حرية الحركة الدالة على عضوية الحياة، فتدخل صاحبنا البقال في الحديث ساخرا من هذا الكلام الفارغ الذي نقوله نقلا عن العقاد. وزعم البقال لنفسه المعرفة العملية بالموضوع، وهي عنده معرفة ترجح ألف مرة ما ينقله القارئون عن الكتب؛ فهو - كما قال عندئذ وفي حماسة شديدة - متزوج من أربع زوجات، ولم يكن للعقاد ولا لأحد منا زوجة واحدة؛ فمن حق أمثاله أن تكون لهم كلمة مسموعة في طبيعة الجمال، أكثر جدا مما يكون ذلك من حق رجل كالعقاد، أو من حق شباب مثلنا. قال ذلك جادا. فلئن كان الرجل عجيبا في انعراجه بالحديث إلى ما لم نكن نعنيه، فذلك مفهوم من رجل مثله، لم يتسع أفقه لأمثال هذه الأفكار النظرية في علم الجمال. أما نحن فقد كنا أعجب منه وأغرب؛ لأننا قابلنا جده بجد مثله، وأخذت أنا بكل الحرارة المشتعلة أدافع أمامه عن فكرة العقاد تلك بأن الجمال هو الحرية من القيود والمعوقات، مهما يكن نوع الشيء الجميل ومهما تكن ضروب القيد والتعويق. وإن مثل تلك الحرارة في الحديث الذي وضعت في القيد غير موضعها ليدل على مدى الجدية التي أخذت بها قضايا الثقافة منذ ذلك الحين.
وكان سلامة موسى داعيا آخر من دواعي انشغالي الفكري في تلك السنين، خصوصا حين نشر كتابه عن «حرية الفكر» وكتابه عن «التطور» في نظرية دارون. وهاك في هذا الصدد قصة أخرى تدل على انغماسي فيما كنت أطالعه من الإنتاج الثقافي يومئذ؛ فقد قرأت في كتاب «حرية الفكر» عن حادثة الإمام أحمد بن حنبل وما تعرض له من محنة التعذيب؛ إذ خالف رأي الخليفة المأمون في مسألة القرآن: أقديم هو أم حادث مخلوق؟ فقد كانت تلك من أمهات المشاكل التي تعرض لها الفكر الإسلامي في عصوره الأولى؛ فثمة من يقول إن القرآن هو كلام الله، فلا يعقل ألا يكون أزليا مع أزلية الله؛ أي إنه قديم بالاصطلاح الذي استخدموه يومئذ، ولكن كان كذلك هناك من يقول عن القرآن إنه حدث تاريخي وقع لحظة نزوله. فكان المأمون يأخذ بالرأي القائل إنه حادث مخلوق في لحظة نزوله، وكان أحمد ابن حنبل ممن يأخذون بأزلية القرآن مع أزلية الله. فأصر الخليفة على أن يحمل الإمام ابن حنبل على تغيير رأيه، فلم يستطع برغم ما نزل بالرجل من قسوة فظيعة تقشعر لها الأبدان.
لم أكن قبل ذلك سمعت بهذه المشكلة الغريبة، ولم أفهم شيئا من هذين المصطلحين الواردين في المشكلة: «مخلوق» و«قديم» بالنسبة إلى القرآن، فانتهزت فرصة في أول درس في التاريخ الإسلامي - وكان بالمصادفة هو مقررنا من التاريخ لذلك العام - وسألت الأستاذ عن المشكلة وما أصلها وما فصلها؟ كان أستاذنا قد عاد لتوه من بعثته بإنجلترا، وكنا قد لاحظنا عليه نواحي كثيرة من ضعف الشخصية الذي دعا بعضنا إلى الاستخفاف به والسخرية منه، لكن لم يكن لأي شيء من ذلك دخل في جدية سؤالي، وجدية المأخذ الذي توقعت أن أجاب به على السؤال؛ فكانت دهشتي شديدة، وحيرتي أشد، حين ثار الأستاذ ثورة صبيانية، وأمرني بالخروج من قاعة الدرس.
ولعل هذه القصة وحدها كافية للدلالة على مقدار ما تزودت به من ثقافة على أيدي المفكرين والأدباء حينئذ، إذا قيس بما أصبته - أو أصبت به - في معاهد الدولة.
مؤثرات في العشرين
Unknown page