66

Adab Wa Hayat

الأدب والحياة

Genres

أيا بردى بالشام إن ذبت حسرة

وغيظا فلا تهلك أسى وتجلد

والواقع أن هذا ليس بغريب؛ فكما أوضح أحمد أمين في فجر الإسلام، كان العرب يعانون شظف العيش وقسوة حياة البداوة، فلما جاءوا إلى مصر قبل الإسلام ورأوا الخصب والنماء، ارتبطت صورتها في أذهانهم بالنعيم، وكان أسهل عليهم بعد الإسلام أن يروا الجنة الموعودة (وهي غيب) في صورها الاستعارية الواردة في القرآن

مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار (الرعد: 35) كأنما تجسدت في مصر، خصوصا بسبب اهتمام أوائل المفسرين بمصر، وأنا لا أشير إلى الكتب التي تتناول فضائل مثل كتاب فضائل مصر لأبي زولاق أو الكتاب الذي يحمل نفس العنوان للكندي، ولكن أقول الأوائل ممن يستشهد بأقوالهم بعد القرآن والحديث، كقول ابن عباس مثلا: «إن مصر سميت بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن»، أو كقوله في مثال آخر: «دعا نوح عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي، فبارك فيه وفي ذريته، وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد» (نهاية الأرب، ص346-347)، وقد اتبع المؤلفون هذا المنهج وزادوا فيه منذ القرن الرابع الهجري، وحتى فجر النهضة الحديثة.

وقد شرحت لنا الخلفية التاريخية اللازمة لفهم الإطار الثقافي لهذه الصورة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، في كتابها الرائع مصر في فجر الإسلام (القاهرة، 1947م)، ثم في كتابها الموجز مصر في عصر الولاة (سلسلة الألف كتاب)، ويتضح منها أن العرب عندما فتحوا مصر لم يكونوا يدركون أنهم يواجهون ما يسمى الآن بالتحدي الحضاري، أو أن استجابتهم لهذا التحدي قد يتوقف عليها مجرى تاريخهم نفسه. ولا عجب في ذلك؛ فتاريخ مصر كان مجهولا لهم، وكانت الألغاز تحيط بالكتابة المنقوشة على المعابد، بل لقد ذهبوا في تفسيرها كل مذهب، فتصور البعض أنها حروف لغة قديمة بائدة (النجوم الزاهرة)، وكانت رسالتهم المحدودة هي الدعوة إلى دين الله الحنيف فمن استجاب هللوا له وكبروا ومن رفض الإسلام دفع الجزية وانتهى الأمر (تاريخ الطبري، ج4، ص106).

أي إن القرون الأولى من الفتح العربي لم تشهد أي لون من التفاعل بين الفاتحين وأهل البلاد، وأقصد بالتفاعل الاندماج الثقافي أو الحضاري الذي لم يبدأ إلا بعد انتهاء عصر الفتوحات، وبداية عصر التعريب، وهجرة القبائل العربية والتزاوج وبداية عمل بعض العرب بأعمال المصريين بعد أن كانوا يقتصرون على المهن القيادية، سواء في الجيش أو ما نسميه اليوم بالإدارة العليا.

وكان اعتناق المصريين للإسلام وتعلمهم اللغة العربية عاملا حاسما في هذا التفاعل، وكان الاتجاه الغالب هو استيعاب مصر لأهل البداوة ، وتحويلهم إلى نظم الحياة الحضارية في مصر، بحيث يمكن القول بأن حضارة أهل مصر كانت من عوامل التوحيد؛ إذ كانوا يتألفون من شعوب ذات أعراق متفاوتة (انظر تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن، ج1، 544)، ثم بدءوا في التلاحم وبناء شخصية مصر العربية الجديدة التي سرعان ما تعرضت للعواصف والأنواء في ظل الحكام الأجانب حتى فجر النهضة الحديثة.

ومكمن الخطر في الصورة الأولى لمصر هي أنها لم تختف ولم تتلاش على مر القرون.

الصورة المزدوجة

قلت في حديث الأحد الماضي إننا نحمل في وجداننا وعقولنا صورتين لمصر: الصورة التي صورها العرب لها في رسائلهم وأشعارهم عن الأرض التي فتحوها، وصورة الدولة الحديثة التي وجدنا لها - منذ اكتشاف ماضينا الفرعوني - جذورا في هذه الأرض فتولينا بعثها وإحياءها منذ استقلال مصر عن الدولة العثمانية.

Unknown page