تقديم
تصدير
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
عن الأجيال الأدبية
متفرقات
مع لويس عوض
مؤتمر كيمبريدج
مصر في عيون العالم
شوارد
تقديم
تصدير
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
عن الأجيال الأدبية
متفرقات
مع لويس عوض
مؤتمر كيمبريدج
مصر في عيون العالم
شوارد
الأدب والحياة
الأدب والحياة
تأليف
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية. فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي، فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة، ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره، فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي، فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (It tolls for thee) ، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
تصدير
تتناول هذه المقالات المنوعة موضوعات تختلف فيما بينها اختلافا كبيرا، ولكنها لا تخرج في النهاية عن محور واحد هو الأدب باعتباره ظاهرة إنسانية؛ ومن ثم فهي تدور كذلك حول الإنسان الذي يكتب هذا الأدب أو يقرؤه أو يتجسد فيه!
وباستثناء المقالات الست (42-47) التي نشرت في الأهرام المسائي في باب «أحاديث الأحد» نشرت جميع هذه المقالات في صحيفة الأهرام الصباحية يوم الجمعة في عمود «الأسبوعيات» على مدى سنوات طويلة - من آخر 1986م إلى آخر 1992م - مع توقف أثناء حرب الخليج استمر عاما وبعض عام، بسبب الغصة التي ترسبت في حلوق كتاب العربية المؤمنين بها.
وسوف يلاحظ القارئ أن المقالات تتسم بالإيجاز الشديد الذي يفرضه ضيق المساحة في الصحيفة اليومية؛ ولذلك فأنا أعتذر مقدما عن عدم الاسترسال في الموضوعات التي تقتضي الإسهاب. ولتعويض ذلك أدرجت المقالات التي تشترك في طرح فكرة بعينها بترتيب نشرها في الأهرام كي أيسر على القارئ متابعة الفكرة، ولا شك أنه سوف يلحظ هذا الاتصال الداخلي فيما بين المقالات ولن تفوته الإشارات الصريحة إلى مقال سابق أثار بعض الضجيج فاقتضى الإيضاح. كما سيلاحظ القارئ عدم وجود بعض المقالات التي طالعها في «أسبوعيات الجمعة» في هذا الكتاب، وربما ضحك من السبب الذي سأورده له وهو ضياع أصولها من مكتبتي وتقاعسي عن بذل الجهد في البحث عنها في أرشيف الأهرام.
وأهم ما أود أن يذكره القارئ هو أن هذه المقالات، على ما يبدو بها من سمات الصحافة السريعة، ليست خطرات عابرة أو غير محققة، بل هي نتيجة التفكير المتأني والبحث المحقق، وكل ما بها من معلومات صحيح وموثق، من أسماء الكتب والمؤلفين إلى الذكريات المرتبطة بالحوادث والأشخاص، سواء في مصر أم في الخارج. وهذا هو الاتجاه الذي سار فيه عمود «الأسبوعيات» منذ أنشأه محمد زايد ورعاه ونماه الصديق الأديب سامي خشبة. وقد كنت أفضل أن أطلق على الكتاب عنوان «أسبوعيات» بغية إحالة القارئ إلى أصول المقالات، ولكن هذا العنوان ليس من حقي، بل من حق كل من أسهموا في الكتابة بهذا العمود على مدى السنوات السبع الماضية.
وسوف يلاحظ القارئ أنني أدرجت مقالا بقلم الدكتور لويس عوض عن أحد أعمالي المترجمة، وردي عليه، ثم رثائي له، انطلاقا من روح التلمذة الحقة التي ربطت بيني وبين هذا العملاق الشامخ - رحمه الله رحمة واسعة. وأخيرا فلن يعدم القارئ بعض الهزل في ثنايا الجد، وبعض التفاوت في النبرة
TONE
أو النغمة من مقال إلى مقال.
أرجو أن يقبل ذلك من باب التسلية والتسرية. فكتب المقالات تشبه - في أحسن حالاتها - الحدائق التي تضم الحشائش والأعشاب إلى جانب الزهور والفواكه! فليقطف القارئ ما يجده من زهر وثمر، وليضرب صفحا عما يصادفه من عشب وكلأ! فهذا أقصى ما أتمنى.
محمد عناني
القاهرة، 1992م
الأدب العربي بين المحلية والعالمية
معنى العالمية
منذ عدة أعوام رأيت إعلانا عن أحد الأفلام المصرية يتضمن الإشارة إلى ممثلة «عالمية» - وراعني أن تشترك إحدى فنانات العالم الكبار في فيلم مصري ينطق اللغة العربية، وأن يوضع اسمها في ذيل قائمة الممثلين مسبوقا بعبارة «بالاشتراك مع النجمة العالمية» - وجعلت أتأمل الاسم أياما (وقد علق بذاكرتي بعد أن رأيته كثيرا) وقررت أن أسأل عنه أحد الأصدقاء الذين تخصصوا في نقد السينما. ولم أجد عنده إجابة لسؤالي فقصدت صديقا آخر أعرف فيه المعرفة الموسوعية فأنكر هو الآخر، وكثرت تساؤلاتي حتى يئست وكدت أنسى الموضوع تماما، ثم جاء يوم قابلت فيه أحد المشتركين في الفيلم وكان يحضر معي عرضا مسرحيا فسألته فقال لي ببساطة ودون اكتراث: نعم، إنها إسبانية، وقد رحلت! فألححت عليه أن يشرح لي الموضوع فلم يزد على أن قال إنها فعلا ممثلة ولكنها من الطبقة الثالثة أو الرابعة، وسوق السينما في إسبانيا «نائم»!
وفتحت هذه العبارة بابا أمامي كنت أغلقته من سنين، وهو معنى «العالمية» الذي اختلط في الأذهان - كما تبين هذه الحادثة - بمعنى كل أجنبي، وخاصة كل ما هو أوروبي أو أمريكي (بالتحديد)؛ فنحن نتردد في أن نطلق على الأسترالي أو النيوزيلاندي - ولا أريد أن أذكر أحدا من بلدان العالم الثالث (أو البلدان النامية كما يسمونها) - لفظ عالمي؛ إذ تقتصر العالمية في لغتنا ومفهومنا واصطلاحنا على أبناء الدول الكبرى، وخاصة منها الدول الاستعمارية التي حكمت معظم بلدان الأرض في فترة ما من تاريخنا الحديث. أقول بابا كنت أغلقته من سنين لأنني كنت لا أريد أن أصدق ما قاله أستاذنا الدكتور لويس عوض ذات يوم من أن الدول «المسيطرة» تفرض قيمها على غيرها، ومثلما تتفوق عسكريا واقتصاديا تستطيع أن تتفوق - على الأقل من الناحية المادية - في نشر أدبها وفنونها وثقافتها. كنت لا أريد أن أصدق ذلك إما لنزعة براءة لم تفتأ تعاودني وإما لإيمان بقيمة الفن الجميل والأدب الراقي الذي قرأت كثيرا من نماذجه بغير العربية، ولكن الباب انفتح الآن ولم أعد بقادر على إغلاقه؛ فما الذي يجعل الأدب عالميا؟
التساؤل الأول - لا شك - هو ما معنى العالمية؟ هل معنى أن تكون ثمة رواية عالمية أن العالم يقرؤها؟ أي إنها تتمتع بقدر من الإقبال الشعبي يتخطى حدود الإقليمية واللغة والثقافة وما إليها؛ بحيث يقرؤها الناس في كل مكان وبأي لغة؟ (أيا كانت الأسباب الدافعة على ذلك) أم أن معنى العالمية هو أن ثمة خصائص في العمل الأدبي أو الفني تجعله قادرا على البروز بحيث ينتقل من حدود الاستمتاع المحلي به إلى آفاق العالم الواسع بلغاته وثقافاته المتعددة؟
التفريق بين المعنيين هام. أما الأول، وهو السائد، فلا يقتضي بالضرورة امتيازا فنيا خاصا للعمل الأدبي، بل ولا يقتضي احتواء العمل الأدبي على مادة إنسانية أصيلة حافلة تتخطى به حدود اللغة التي كتب بها، فإن هناك عوامل شتى تحدد إقبال الجماهير في بلدان العالم المختلفة على عمل دون غيره - منها ارتباطه الوثيق بالثقافة التي نبع منها؛ أي: كونه وثيقة اجتماعية أو ثقافية يحتاج إليها من يريد التعرف على الحياة في بلد ما. وفي هذا الإطار تندرج أعمال أدبية كثيرة كتبت بلغات متعددة، ويقرؤها القارئ لا للاستمتاع الأدبي في المقام الأول، بل للتعرف على الثقافة أو الحضارة التي تمثلها - أيا كان حجم الدولة أو الأمة في موازين القوة الدولية. ومن هذه العوامل أيضا ارتباط العمل بالجذور المشتركة للثقافة الإنسانية مثل الأساطير والحكايات الخرافية والرموز النفسية المستمدة من الوعي الجمعي (بل واللاشعور الجمعي)، وفي هذا الإطار تندرج الملاحم القديمة، الشعبية منها والأدبية، والمواويل والألغاز والقصص الشعبي وبعض الصور الدرامية الأولى التي مر بها المسرح عبر تاريخه الطويل، ومن هذه العوامل أيضا قدرة العمل على التسلية، وهذه قيمة محدودة؛ فالأعمال الأدبية التي تعتمد على الإثارة أو الإضحاك أو على تصوير مشاهد الرعب، تعتبر أعمالا ترفيهية بالدرجة الأولى، وهي رغم إقبال العالم عليها لا ترقى إلى مستوى الأدب الرفيع. وقد حل محلها في زماننا بعض مسلسلات التليفزيون الأمريكية، وأفلام الهزليات ومسرح الهزل والقصص الرخيص وما إلى ذلك. إن تلك الأعمال تطبع وتكتب ويقرؤها الناس بلغات متعددة، ولكنها لا تتمتع بالاعتراف الأدبي ولا يعيرها النقاد اهتماما كبيرا (مثل الروايات البوليسية مثلا).
المعنى الأول للعالمية إذن لا يفترض معايير أدبية أو فنية ولا مادة إنسانية صادقة ترقى بالعمل الأدبي إلى مصاف الروائع. أما المعنى الثاني فهو الذي يعنينا؛ وهو المعنى الذي يمثل صعوبة لا يمكن التهوين من شأنها.
لقد تحدثت عن المعايير الفنية والمادة الإنسانية. ولقد اقترنا في حديثي اقترانا وثيقا؛ ولكن الواقع أن نسبة وجودهما معا في عمل واحد تتفاوت من عمل إلى عمل، فلربما صادفت عملا أدبيا حافلا بالمادة الإنسانية، نابضا بالحياة البشرية التي يصورها، وهو مع ذلك لا يخضع للمعايير الفنية التي أشرنا إليها؛ فما هي تلك المعايير الفنية ومن الذي وضعها، وكيف تتغير - إذا كانت تتغير - ومن الذي يغيرها؟
المؤسسة الأدبية العالمية
إذا كنا نقيس الأدب بمقياس ذي شقين؛ أولهما المادة الإنسانية التي تهبه حياته وعمقه، والثاني المعايير الفنية «المتفق عليها»؛ فنحن نواجه في الحياة معيارين لا معيارا واحدا - الأول إنساني والثاني فني - وإذا كان المعيار الإنساني أيسر في التعرف عليه فهو أصعب في الحكم عليه؛ لأنه لا يصل إلينا إلا من خلال الشكل الفني - أي إنه يتحد به ولا يمكن فصله عنه؛ ولذلك فإذا ركزنا على ما اصطلح على تسميته بالمعيار الفني الذي يحدد الأدب الرفيع استطعنا أن نرى الشكل والمضمون معا.
وأول ما ينبغي أن نثبته هو أن المعايير الفنية نسبية وليست مطلقة؛ أي إن تحديدها يتغير من عصر إلى عصر ومن نوع أدبي إلى نوع آخر، بل ومن لغة إلى لغة. وتحضرني في هذا المقام نظرية «النسبية النقدية» التي نادى بها في الخمسينيات البروفيسور «بوتل» وعرضت لها في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) ومفادها أن معيار تحديد الأدب الرفيع يستند إلى ما اتفق عليه النقاد «المحترمون» في أي عصر من العصور وأي مكان وأي لغة، وما وصفوه بأنه جدير بالبقاء. ولكن كيف نحدد أولئك النقاد «المحترمين» هل هم مثلا من كتبوا كتبا ضمنوها اختياراتهم لشعر الأقدمين أو المعاصرين كصاحب ديوان الحماسة أو المفضليات أو يتيمة الدهر أو العقد الفريد أو المستطرف أو حتى لصاحب «الكنز الذهبي» الإنجليزي وغيرهم؟ أم أنهم النقاد الذين قدموا نظريات في اللغة والأدب مستشهدين بشعر السلف أو «محاسن أهل العصر» (الجاحظ وابن الأثير وقدامة وبشر والثعالبي ومن إليهم)؟ أم تراهم نقاد اليوم؛ أي نقاد المتابعة
REVIEWERS
الذين يقدمون الأعمال الأدبية في الصحف والمجلات ويعلقون عليها تعليقات تتضمن أحكاما بالرفض أو القبول، وقد تتضمن بعض التحليل الفني أيضا؟ وأخيرا ألا يمكن اعتبار الفنانين أنفسهم والأدباء بما لهم من نظرات في إنتاج بعضهم البعض نقادا؟ ألا يمكن اعتبار أحكام أبي العلاء على المتنبي (وتعصبه له) أو أحكام تشيخوف على جوجول أو وردزورث على ميلتون وسبنسر؛ آراء نقدية قد تبين لنا بعض الجوانب الفنية في فن هؤلاء، وقد تفيدنا في فهم التيارات الأدبية التي ينتمون إليها جميعا؟
الحق أن النظرية - على وجاهتها - ليست مطلقة الدقة. فربما اتفق النقاد أيا كان تعريفنا لهم على تمجيد عمل أدبي في زمن ما ومكان ما، ثم طواه النسيان، ولم يعد بقادر على تخطي حدود عصره ومكانه. فالنقد علم لا يتمتع بالاستقلال عن سائر المعارف الإنسانية، ويتغير بتغيرها، ولا أقول إنه «يتقدم» بالضرورة؛ إذ إن ازدياد القدرة على التحليل الفني مثلا أو على ربط الأدب بسياقه الإنساني أو الاجتماعي لا يعني بالضرورة نضجا في التذوق أو عمقا في الفهم، وربما استطاع ناقد قديم أن يصل إلى نفس النظرة النقدية في عمل ما دون استخدام الوسائل الحديثة، بل ربما استطاع أن يتفوق على بعض المحدثين بإدراكه جوهر العمل اعتمادا على الحس الصائب وحده، دون التحليل المنطقي وما إليه من وسائل النقد الحديث. أضف إلى هذا أن النقاد بشر؛ فهم قد ينخدعون بمظهر ما من مظاهر العمل، وقد تضللهم أشياء أبعد ما تكون عن الاعتبارات التي ألمحنا إليها، فيصدرون أحكاما قد تتناقلها الأجيال من بعدهم على أنها مقدسات. وهل منا من لا يذكر الأقوال التي شاعت في كتب النقد، والتي دهشنا لها في صبانا ثم تقبلناها دون مناقشة؛ مثل «هذا أشعر بيت قالته العرب»، أو «أمدح بيت» وما إلى ذلك؟ وما يقال عن القدماء يصدق على المحدثين.
فإذا التفتنا إلى الجانب الآخر للنسبية النقدية وجدنا عددا من العوامل لا يمكن إغفالها في هذا العصر الذي تتحكم فيه أجهزة الإعلام، وتتحكم في أجهزة الإعلام فيه قوى اقتصادية وسياسية لا سبيل إلى إنكارها. وأجهزة الإعلام في أبسط صورها تتمثل في القدرة على إشاعة أنماط وموضوعات فنية بحيث تصبح معيارية؛ أي إنها تتحول إلى مثل يحاكيها الناشئة وتشكل أذواقهم الفنية، أو تعدلها على الأقل، بحيث تخلق الجو المناسب لترويج أعمال فنية بعينها، حتى إن سوق الأدب قد أصبح - شأنه شأن كل سوق - يخضع للعرض والطلب، وما على الأجهزة الأدبية - كما ذكر «الدوس هكسلي» في مقاله «كتاب وقراء» - إلا أن تعمل على إيجاد الطلب الذي يضمن رواج المعروض! ولا شك أن النقاد على المستوى الإعلامي أحيانا يصبحون - دون أن يدروا - مروجين لبضاعة قد تكون وقد لا تكون أنموذج الأدب الرفيع. فإذا أخذنا في اعتبارنا التوسع الهائل والتشعب والتنوع الذي طرأ على أجهزة الإعلام أدركنا مدى خطورة الدور الذي تلعبه في تحديد المعايير الأدبية. وهذه الأجهزة في مجموعها تشكل ما يسمى بالمؤسسة الأدبية التي تمتد من الجامعات وما يقوله الأساتذة في قاعة الدرس وفي الكتب، إلى الصحف وما ينشر فيها، وأخيرا إلى الإذاعة والتليفزيون.
وتصب كل العوامل آخر الأمر في صورة المؤسسة الأدبية العالمية؛ أي إن ما ينطبق على بلد بعينه يمكن أن ينطبق على أشكال الأدب وفنونه في العالم الذي يفقد اتساعه كل يوم، ويضيق باطراد، حتى لربما قرأت رواية صدرت في بلد بعيد قبل أن يقرأها أبناء ذلك البلد! والمؤسسة الأدبية العالمية جهاز معقد في تركيبه وأدائه، بسيط في مفهومه وجوهره؛ فهو يعني باختصار أن هناك جهازا غير مرئي يتكون من المعايير التي نحكم بها على الأدب، ويعتمد على الأعمال الأدبية التي ورثها العالم الحديث من أوروبا. وهذا الجهاز لا يتكون من معايير فحسب، بل هو يتضمن قيما معينة ليست في حقيقة لأمر قيما إنسانية خالصة، ولكنها قيم اجتماعية وسياسية واقتصادية. ولذلك فربما فرضت المؤسسة عملا أدبيا أو رفضته بسبب المقاييس الفنية الدقيقة أو المادة الإنسانية التي تحدثت عنها أولا. وربما كان خير مثال على وجود هذه المؤسسة هو لجنة ترشيح المؤلفين لجائزة نوبل. فهو مثل ملموس واضح؛ إذ لا يمكن للجنة أن تختار إلا الأعمال التي تجسد القيم التي فرضها عالم القوة في أوروبا على الدنيا. ولكن الأمثلة الأخرى كثيرة، وهي لا تعنينا بقدر ما يعنينا وجود الجهاز غير المرئي. فكيف يعمل هذا الجهاز وما سبيل الأدب العربي إليه؟
البطولة والتميز العنصري
عندما كان الشعراء العرب في الماضي يجتمعون لدى الحاكم ليتطارحوا الشعر، كانوا ينصبون أحدهم حكما، وربما كان شاعرا أقل شأنا، بل ربما لم يكن شاعرا بالمعنى المفهوم، بل مجرد عالم باللغة وتاريخ الأدب، ولكن أهم صفة ينبغي أن يتصف بها هو علمه بالمعايير الفنية التي يقاس بها الشعر الصادق ووعيه واستيعابه التام لقيم العرب أو للقيم والمفاهيم التي يحب العرب أن تسود؛ أي إنه كان ممثلا للمؤسسة الأدبية العربية. وعندما تجتمع «لجنة القراءة» - أي اللجنة التي تختص بفحص النصوص الأدبية إما للتمثيل أو للإذاعة أو للنشر - فإنها تمثل أيضا المؤسسة الأدبية في مكان محدد وزمان محدد، وعندما «يقرر» الأستاذ في الجامعة «تدريس» رواية بعينها للطلبة فإنه أيضا - في غالب الأحيان - يمثل المؤسسة الأدبية التي ينتمي إليها في زمانه، وذكر القارئ في هذا المجال هو المفتاح الوحيد لإدراك مدى سلطة هذه المؤسسة التي نعيش جميعا في ظلها دون وعي كامل.
إن الطفل الذي يفتح عينيه على كتاب من قصص البطولة - سواء كانت هذه القصص خيالية أم واقعية - يتشرب إلى جانب المتعة الفنية قيم البطولة ومفهوم البطولة. وإذا كانت هذه القصص بوجه عام تنزع إلى المبالغة أحيانا في تصوير قدرة الإنسان على تخطي الصعاب، وتحقق في الخيال ما يصبو إليه الإنسان في دنيا الواقع؛ فهي تتفاوت في تصويرها وتحديدها لما يكمن خلف البطولات الفردية أو الجماعية من قيم. فكل شعب له القصص التي تمجد تاريخه، وهذه القصص شائعة على المستوى الشعبي، بل إن بعضها مكتوب شعرا وتحول إلى ملاحم تروى وتتناقلها الأجيال، ولكن المجد باعتباره قيمة مطلقة يرتبط بقيم أخرى من حق أجيالنا الجديد أن تعيد النظر فيها. خذ مثلا قيمة الانتصار على الأعداء باعتباره قيمة في ذاته؛ إنه يرتبط بمفهومنا للأعداء. من هو العدو؟ إن العدو في التاريخ الأدبي ليس دائما الطاغي الباغي أو المعتدي الآثم! إنه أحيانا شعب آمن مسالم يتعرض للغزو والسلب والنهب، وكم من قصص البطولة ما يصور الغزاة الفاتحين أروع تصوير ويسبغ عليهم من هالات المجد ما يعجز اللسان عن وصفه! حقيقة إن الناشئة في بلد ما يحتاجون إلى ما يذكي فيهم حب الوطن والإعجاب والإكبار لأبناء وطنهم من الأسلاف الميامين، ولكنهم في غمرة ذلك الإعجاب وفي انتشائهم بما يدف في جوانح قصص البطولة من مشاعر، يتشربون قيما أخرى مثل الإيمان بتميز الجنس الذي ينتمون إليه على سائر الأجناس، وحقه في السيطرة على سائر أمم الأرض؛ مثلما حدث في تاريخ أوروبا الحديث! وربما لم يكن الامتياز العنصري هو القيمة الصريحة، ولكن امتياز الأمة (الذي يرجع في جذوره إلى امتياز القبيلة أو حتى العشيرة) يوصى به ويعمل على غرسه. وإذا كان الأدب الأوروبي يحفل بمثل هذا اللون من القصص، الشعري منه والنثري، فالأدب العربي لا يخلو منه، وحسبنا أن ننظر في أيام العرب (في الجاهلية مثلا) حتى نرى نماذج ساطعة منه. قد يقول قائل إن القهر والبطش الذي تصوره هذه القصص التي حفظها لنا تراثنا الشعري كان انتقاما لضيم وقع، أو ثأرا لهزيمة سابقة حلت بالقبيلة، ولكن قيم الثأر والانتقام في ذاتها ليست بالقيم الإنسانية العليا؛ أي إنها لا تبرر المذابح والسلب والنهب والسبي والاستذلال الذي يتلو النصر أيا كانت الذرائع التي يقدمها المدافعون عنها. (انظر قصة الصراع بين قبيلتي طسم وجديس في اليمامة، كتاب أيام العرب في الجاهلية لجاد المولى) بل إن ملحمة الإلياذة نفسها تقوم على قيمة قد يشك الباحث المحدث في صدقها، وهي الثأر من مختطفي امرأة. إن الملحمة تروي لنا حربا ضروسا امتدت عشرة أعوام وقتل فيها الآلاف من أجل استعادة هيلين اليونانية من «باريس» الطروادي الذي اختطفها من بلادها وعاد بها إلى بلاده. والأسطورة التي تساندها أسطورة التحكيم بين جمال الربات الثلاث الذي قبله باريس ورشوتهن له؛ تتضمن قيما لا يسع الباحث الحديث إلا أن يعيد النظر فيها!
والنتيجة المحتومة لنزوع كل شعب وكل لغة إلى تمجيد البطولة في الأسلاف في قصص وشعر ومسرح هي ترسيخ قيم معينة في وجدان كل أمة - مهما صغر شأنها في عالمنا الحديث - مثل تمجيد القوة والغلبة، وهي قوة عسكرية بالدرجة الأولى، سواء كان المحارب يمتشق حسامه وينزل حومة الوغى بنفسه، أم يضغط على زر آلي في جهاز بالغ التعقيد ليطلق صاروخا أو يلقي قنبلة! والأدب الذي ينطوي على مثل هذه القيم قد يتفاوت من شعب إلى شعب في دقة التصوير ورشاقة العبارة وإحكام البناء، وما إلى ذلك من ظواهر الصنعة الفنية، ولكنه في النهاية يتصل بالشعب نفسه؛ بتاريخه وثقافته التي تنتظم عددا من القيم لا يكاد أن يكون عليها خلاف، وفي وسطها عند المركز معنى البطل والبطولة!
إن تفسير الطاقة البطولية مرتبط بتراث الأمة الإنساني، وهو التراث الذي يستتبع مجموعة من التقاليد والأعراف والقيم تصبح علما على الأمة. فالتقاليد العربية المعروفة مثل المروءة والشجاعة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف والوفاء بالوعد، كلها ترتبط بصورة الإنسان المثالي - أو البطل - التي خلقها الأدب؛ استلهاما للحياة وإلهاما لها، وتقاليد الغلبة والمخاطرة وارتياد المجهول والاختراع والاستعمار - بالمعنى الحسن والمعنى السيئ جميعا - تمثل جزءا من صورة البطل في الأدب العربي. فالأدب الغربي يحفل بصور الأسفار البحرية واكتشاف الجديد وعمران الأرض وأمانة الكلمة، ويدين ما على نقيض ذلك.
وإذا كانت آداب الأمم تشترك في جوهر واحد؛ هو الاحتفال بالغالب المنتصر، فهي تتفاوت في تفسير سر النصر والغلبة. فبعضها يرجعه إلى عبقرية علمية، والبعض يرده إلى طاقات جسدية ونفسية، والبعض الآخر يعزوه إلى قوى غيبية مثل الآلهة أو الأقدار، والأدب يتفاوت هو الآخر في تصويره لهذه التفسيرات من عصر إلى عصر، وقد استطاعت دول أوروبا الحديثة أن تفرض على العالم تفسيرها الخاص لقوتها وغلبتها، وأن تقنع كثيرا من الشعوب حديثة العهد بالاستقلال والنهضة بوجهة نظرها الخاصة فيما يمثل مقومات الإنسان المثالي عبر العصور. وفي نطاق الدراسة الأدبية استطاع النقاد والمستشرقون أن يختاروا من آداب الأمم الأخرى ما يناقض مفهوماتهم تلك حتى يزداد وضوح الاختلاف بينهم وبين الآخرين، وحتى يؤمن الآخرون أنهم قد تخلفوا عن ركب الحضارة للأسباب التي قررها الغرب ثم رسخها. فماذا فعل العرب إزاء هذا الأدب؟ وماذا فعل المستشرقون بالأدب العربي؟
القيم وعالم اليوم
إذا كانت صورة البطولة وقيمها وما ارتبط بها من تفسيرات تمثل جانبا مهما من التراث الأدبي الإنساني، فإن ثمة صورا وقيما أخرى لا تقل عنها أهمية، تتضمنها علاقة الرجل بالمرأة وتفصح عنها شبكة العلاقات الاجتماعية المعقدة، وبخاصة ما ينبع فيها من النظام الاقتصادي والأوضاع السياسية ويصب فيها. وفي هذا جميعا ينزع الأدباء الذين يحظون باعتراف المؤسسة الأدبية إلى بلورة قيم ومثل تتصل بمفهومهم للإنسان المثالي سلبا أم إيجابا؛ فإدانة الجريمة موضوع عالمي لا خلاف عليه، ولكن ما يعتبر جريمة في مجتمع قد لا يعتبر جرما في مجتمع آخر، وما يتفق الجمهور عليه في زمن ما قد ينبذه الجمهور في زمن لاحق. ولهذا وجدنا من الأدباء الكبار من يطويهم النسيان بعد فترة أو من لا يحظون بأي اعتراف بهم في حياتهم على الإطلاق؛ لخلاف في المفاهيم والقيم مع المؤسسة الأدبية.
القضية لا تقتصر إذن على الشكل الفني أو على جوانب الصنعة مهما بلغت أهميتها (والحق أن لها أهمية قصوى)، بل إنها تتعدى ذلك إلى ما يكمن خلفها من أحكام تستند إلى القيم والمفاهيم التي تحتفل بها المؤسسة الأدبية. ومن هنا جاء إصرار المؤسسة الأدبية العالمية على ترشيح أعمال معينة للشهرة والذيوع تمجد قيمها وتحط من قيم الآخرين. وأقرب الأمثلة على ذلك صورة العربي أو المصري في فن الرواية المعاصرة بالإنجليزية؛ تلك اللغة التي كادت أن تصبح عالمية. فشخصية «علي» العربي في رواية «بوابة مندلبوم» للكاتبة الإنجليزية «إريس ميردوخ» تجمع كل الرذائل التي يدينها المجتمع الإنجليزي وعلى رأسها الكذب. والكذب الذي يلجأ إليه هذا الشخص يمكن تفسيره وتحليله بعدة طرق، ولكن الكاتبة توحي من طرف خفي بأسباب معينة ترمي في مجملها إلى إدانة الشخصية العربية وسلبها عنصرا من أهم عناصر مثلنا العليا وهو الوفاء. وأما ما يختارونه للترجمة إلى الإنجليزية من الأدب العربي فهو عادة مختارات قديمة من الأدب الجاهلي يبنون عليها نظريات وتحليلات تجعل من أدبنا مرادفا لآداب الأمم القديمة ذات القيم والمفاهيم التي لم تعد تنتمي لعالم اليوم.
وأمم الأرض «المتقدمة» تحتفل بما أسميته «عالم اليوم» فهو العالم الذي يسبغون عليه كل الفضائل - وأسماها وأرقاها في نظرهم نظرة التشاؤم والسخرية من القيمة السلفية، ورفض الدين، والاحتفال بوحشة الفرد وعزلته في عالم قاس مرير، وما يستتبع ذلك من الإباحة، والتركيز على أن الإنسان كائن ضعيف مغلوب على أمره، وأن حريته موهومة، وأن الكثير مما اعتاد إكسابه المعنى في الحقيقة لا معنى له والفلسفات المختلفة التي نبعت من «عالم اليوم» تعمل على بناء عالم جهم قاتم الألوان، يتوارى فيه الأمل أو ينحسر، وتغرب فيه البسمات أو تفتر. وبعض كتابهم يدينون هذا العالم - بطبيعة الحال - ولكن الإدانة تحمل في طياتها معنى التقبل؛ لأنها تؤكد ضرورة التعايش معه، وإيجاد بديل أو بدائل لما فقده الإنسان في غمرة صراعه لتحقيق التقدم، والتعايش يحل بالتدريج محل العيش ليمثل أقصى ما يمكن لإنسان اليوم تحقيقه. وأما أولئك الكتاب الذين ما زالوا يسبحون في فلك الفضائل القديمة، عامرة نفوسهم بالأمل، زاخرة قلوبهم بالحب، فهم يوصفون بالرومانسية وتخصص لهم أماكن نائية في الكتب تتحول بالتدريج إلى زوايا نسيان.
وفي إطار هذه الحداثة، أو ما أسميته «المودرنية» في كتاب حديث لي، تبرز عدة تيارات جديدة يعلي أحدها شأن الشكل الفني إلى درجة التقديس، ويلغي ما أطلقت عليه في هذه المقالات اسم المادة الإنسانية. وهذا التيار يضفي على الأنماط الداخلية في العمل الأدبي أهمية غير عادية، بل يقول بقدرة البناء الداخلي على الإيحاء وحده بالأفكار والمشاعر، وبأن الشكل الداخلي لا يحتاج إلى مادة إنسانية صريحة؛ لأنه يمثل ترجمة لهذه المادة؛ أي إن التجربة الإنسانية أو الخبرة التي درجنا على اعتبارها مصدر المادة الإنسانية تتحول إلى شكل، فإذا ما استغرق هذا الشكل القارئ أو المتذوق انتقلت إليه التجربة أو الخبرة في صورة فنية خالصة. ولا شك أن للفنون البصرية والسمعية تأثيرا كبيرا على هذا الاتجاه الذي يبرز بأوضح معالمه في الشعر الحديث، ولا شك أيضا أن لنظريات وحدة الفنون تأثيرا مباشرا على تطور هذا التفكير النقدي، ولكننا رأينا منذ عهد غير بعيد من يضع له فلسفات مستقلة، ومن يقنن له تقنينا نقديا موغلا في الشطط، محاولا وضع أسس هندسية للبناء، مستقيا من دراسات علم الألسنة الحديث (وهو علم ما يزال في مرحلة التطور والتغيير) قوالب جامدة يصب فيها أي عمل بغض النظر عن مادته الإنسانية.
ولكن المودرنية ليست كذلك في حقيقة الأمر؛ إذ ما فتئت تتطور لتسمح بنشوء نظريات جديدة للقيم، وتفسيرات جديدة لسعي الإنسان وموقفه من هذا الكون، وتركز أيما تركيز على شبكة العلائق المتداخلة في نطاق المجتمع والدولة، انطلاقا من نظرة متكاملة دينامية، فأين نحن من هذا كله؟ وهل استطاع أدبنا الحديث أن يكسر الأنماط السلفية ويخاطب وجدان إنسان عصر العقل والعلم ؟
لقد كنت من المؤمنين دائما - وما أزال - بأن الأدب العربي الحديث قد تخطى مراحل الاستكشاف الأولى، وأنه وجد لنفسه طرقا (لا طريقا واحدا) يمتد من خلالها إلى وجدان العالم الجديد. وإذا كانت الأنماط الشكلية القديمة لم تعد تصلح للوصول إلى قلب الإنسان الحديث وعقله، فإن الأشكال الجديدة لدينا تتفوق على مثيلاتها في غالبية بلدان العالم، وأنا أقول هذا دون مبالغة، بعد أن اطلعت على آداب كثير من الشعوب مترجمة إلى الإنجليزية (قد لا تكون النماذج المترجمة أفضل ما لدى تلك الشعوب ولكنها مؤشر على الاتجاه العام) والأدب العربي الحديث، أيا كان غضبنا منه أو له، منوع حافل، وبه شتى التيارات التي يصفق لها العالم ويهلل، رضيت المؤسسة الأدبية العالمية أم لم ترض. أما جوهر المشكلة في نظري فهو أننا لم نمسك بزمام المبادرة حتى الآن في تقديم هذا الأدب إلى العالم. كيف نمسك بالزمام؟ وكيف وفي أي صورة يمكن لنا أن نقدم هذا الأدب؟
الأدب وحياة القارئ
إذا كان الفن فنا؛ فلابد أن يتخطى الزمان والمكان؛ فأنماط الفن ومادته عالمية، وهي تنبع من الإنسان وتصب فيه، وقد تتفاوت من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وقد عكف النقاد على درس هذا التفاوت وتحليله، ولم ينتهوا إلا إلى أن ثمة تيارات أو اتجاهات يمكن رصدها دون معرفة أسبابها الحقيقية، ولو أنهم يتفقون إلى حد كبير على أن هذه التيارات لا يلغي بعضها بعضا، وما قد يتذوقه إنسان اليوم قد يلاقي الفتور بل الرفض والنبذ من إنسان الغد، وما قد يشيح عنه إنسان اليوم قد يسطع كالدر في عصر لاحق. ولهذا كان «هازليت» يقول: إن الفنون لا تتقدم بالمعنى الذي يتقدم به العلم (بمعنى أن الحقائق العلمية الجديدة تطمس ما كان يظن أنه حقيقة بالأمس)؛ لأن العلم بطبيعته يطمس الجهل! وقد طور هذه النظرية ناقد محدث في أوائل القرن هو ت. أ. هيوم فقال بأن للفن دورات، وأن كل دورة تنتهي عندما تفقد الفنون التي شاعت في عصر ما قدرتها على التأثير، فتدفع إلى الوجود بألوان أخرى من الفنون تختلف عنها اختلافا يصل إلى حد التناقض، ثم ينتهي بها الأمر إلى فقدان القوة هي الأخرى؛ بحيث تعود الألوان الأولى، وهلم جرا.
والأدب كما نعرفه اليوم فن من الفنون يتوسل باللغة، فاللغة في الأدب مثل الألوان والمساحات والخطوط والنسب في الرسم، ومثل الأصوات في الموسيقى، وما إلى ذلك، ولكن الأدب كما سبق أن بينت في مقالاتي السابقة يتضمن أبعادا أخرى قد تفتقر إليها الموسيقى؛ فالتشبيه ليس تاما؛ لأن الأدب يشترك أيضا مع وسائل الإعلام في توصيل «رسالة» بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - وهي رسالة تجمع بين العناصر الشعورية والذهنية، وليست أبدا مجردة من المعنى أو خالية من الدلالة. قد يبدو هذا الكلام بديهيا، ولكنه لا بد منه حتى ننظر في وضع الأدب العربي إزاء الآداب الأخرى.
قد تكون «الرسالة» في أبسط صورها إحساسا يتجسد في لقطة أو موقف أو صورة أو حادثة، بل قد تكون مجرد متعة تناغم الصور والألفاظ وجرسها الجميل في القصيدة القصيرة مثلا! وهذا أقدم ألوان «الرسائل» وإن كانت صورتها «البسيطة» خادعة! فالإحساس الذي يبدو بسيطا في حقيقته هو بلورة باطنية، تمزج بين المشاعر والأفكار التي تستمد طاقتها الحيوية من وجود الإنسان في مكان وزمان محددين. حقا قد تكون الفكرة عامة أو مجردة حتى إنها لتتخطى الزمان والمكان، وقد يكون الإحساس كذلك، ولكن الفن الأول - الفن الذي يرى معظم الباحثين أنه نشأ في بيئات بسيطة فاستمد مادته الأولى من علاقة الإنسان بالكون وتفسيراته لقوى هذا الكون الغامضة، أقول: إن هذا الفن الأول لم يلبث أن تعقد وتطور نتيجة لتعقد «الرسالة»؛ أي إن الإنسان لم يعد قادرا في هذا العصر على تبسيط الأشياء والتفكير أو الإحساس بنفس العناصر الخالصة التي كان أجداده يفكرون ويشعرون في أطرها. (ولو أن كاتبا محدثا يقول إن الإنسان الأول كان لديه قدر من التعقيد يستعصي علينا فهمه لبعد الشقة بيننا) فمثلا نرى أن القصة القصيرة والرواية الطويلة وهما فنان حديثان لا يقفان بطبيعة بنائهما عند «الرسالة »، وفي كل رواية ترى أن القارئ لا يتلقى رسالة واحدة أو حتى عدة رسائل واضحة. قد يخرج لا شك بانطباع واحد، ولكن هذا الانطباع قد يكون مركبا إلى الحد الذي يستعصي معه تحديد عناصره! وإذا كانت القصة القصيرة أبسط من الرواية في تركيبها؛ فإنها في صورها الحديثة قد تصل إلى حد من التعقيد يرتفع بها إلى مصاف الرواية! بل إن نشأة القصة القصيرة نفسها توضح لنا طبيعة هذا الفن. إن الكتاب أحسوا بالحاجة إلى التحليل الدقيق الذي لا تتيحه القصيدة، وكان تطويرهم لصورة القصة القصيرة بطيئا؛ لأنه سار جنبا إلى جنب مع تطور الصحافة، وتطور لغة النثر نفسها.
فإذا نظرنا إلى كل رسالة على حدة، وتأملنا الحاجة التي يحسها الكاتب إلى الكتابة، وجدنا أن لكل رسالة مرسلا ومستقبلا، ولا يمكن أن تكتمل العملية التوصيلية إلا بهما جميعا؛ أي إن حاجة الكاتب إلى الكتابة لا بد أن تتزامن معها حاجة القارئ إلى القراءة، ومن العبث أن نقول إن الكاتب يكتب ليخرج ما في نفسه سواء فهمه الناس أم لم يفهموه؛ لأن هذا معناه إلغاء وظيفة اللغة وطبيعتها الأساسية باعتبارها أداة توصيل. ولكن إقامة العلاقة بين الكاتب والقارئ من خلال العمل الفني؛ لا يلغي استقلال العمل عن أي منهما؛ لأنه بمجرد أن يكتمل يكون قد خلق في داخله عالمه ووضع الأسس التي تتيح للقارئ أن يستقبل الرسالة، أيا كان هذا القارئ.
ولكن هذا كله لا ينفصل عما أسميته بالمادة الإنسانية والأشكال الفنية التي تمليها المؤسسة الأدبية. ولأضرب لذلك مثلا محددا: إنني حين أقرأ قصيدة كتبها شاعر إنجليزي مثلا عن محارب من أبناء بلده إبان حرب من الحروب؛ فالمفروض أنني أتعاطف مع هذا الإنسان الذي حمل وخرج مدافعا عن وطنه - والدفاع عن الوطن قيمة إنسانية وعالمية لا خلاف عليها - ولكنني حين أندمج في القصيدة وأجد أن الشاعر يريد أن يوصل إلى القارئ في ثنايا الرسالة «رسائل فرعية» أخرى توحي بامتياز عنصري أو قبلي؛ فأنا أتوقف ويشوب تذوقي ما يعكره! لقد كتب «رديارد كبلنج » شاعر الإمبراطورية البريطانية قصائد وروايات كثيرة احتلت أماكنها على أرفف المكتبات سنين طويلة، ولقد تذوقها الإنجليز ودرسوها في مدارسهم، و«قرروها» على الشعوب المغلوبة على أمرها أيام حكم الإمبراطورية، ثم انحسرت الإمبراطورية فانحسر كبلنج! لم يعد يبقى منه غير الشكل الفني، وما أوهاه! إن «كيم» رواية جميلة عن الحياة في الغابات، والأطفال ما يزالون على حبهم لها، وكذلك عدد من رواياته عن غابات الهند، ولكن الرسائل الفرعية التي تقول بامتياز الإنجليز امتيازا عنصريا على غيرهم ما فتئت عقبة في سبيل تذوق كبلنج؛ باعتباره كاتبا إنسانيا! ولقد أخرج له ت. س. إليوت مجموعة من الأشعار التي يسمونها البالادات (والتي تترجم عادة بالمواويل؛ على عدم دقة هذه الترجمة) وقدم للمجموعة بدفاع عن المادة الإنسانية التي يمكن أن تبقى من كبلنج وهي مقدمة جديرة بالدراسة في ذاتها.
في هذا الإطار الكبير تستطيع تصنيف الأدب العربي الذي يمكن أن يرقى إلى مصاف العالمية؛ ليس فقط على الأساس القديم الوحيد، وهو الامتياز الفني - على أهميته القصوى - ولكن أيضا على أساس إثارته اهتمام القارئ؛ لأنه متصل بحياة القارئ (
RELEVANT )، وهو قادر على هذا؛ لأن الرسالة والرسائل الفرعية الباطنة إنسانية، ولأن المادة الإنسانية حافلة، وإذا توافر على ترجمته ترجمة أدبية صادقة من يخلص له وتحلى بالموهبة اللازمة؛ استطاع أن يفرض نفسه على المؤسسة الأدبية العالمية، بل وأن يعدل من مقاييسها، فكيف يكون ذلك؟
الإنسان الذي تغير
ما يزال الجدل دائرا حول «نوع» الأدب الذي يمكن أن يكسر حدود الإقليمية، إما بنجاحه في تحقيق معايير المؤسسة الأدبية العالمية، أو بتخطي هذه المعايير بحيث تصبح «غير ذات موضوع». فأما تحقيق معايير المؤسسة فهو «صعب»، إن لم يكن متعذرا لسبب بسيط؛ وهو هيمنة القيم التي فرضتها الدول الكبرى على مدى عصور طويلة، وهي قيم إنسانية وفنية معا؛ بحيث أصبح القارئ في كل مكان يتوقع أن يسمع هذا الكلام أو ذاك في هذه الصورة أو تلك، أيا كان موقف الأديب من القضايا المطروحة التي أصبحت «لا وطنية» (أو مثل بعض الشركات «عبر الوطنية»). وأقول إن تحقيق هذه المعايير صعب لأن اهتماماتنا ومواقفنا الفكرية تختلف عن الاهتمامات والمواقف التي حددت هذه المعايير على مر العصور. وقد ضربت مثلا في أحد مقالاتي بتصوير البطولة وعلاقة الرجل بالمرأة. ومن باب التذكير فحسب أقول: إنه سوف يتعذر على كاتب القصة الحديثة تحقيق أحد معايير المؤسسة الأدبية الغربية في هذه «العلاقة»؛ وذلك بنزع التابو
Tboo
تماما منها، ونزع هالة الاحترام الدفين التي تكلل المرأة في أدبنا، وذلك مهما بالغنا في النسيب والتشبيب! لقد حرم الأدب الحديث المرأة ذلك الوشاح الوضاء الذي ألقاه عليها مفهوم «الحب» الذي استقته أوروبا في القرن السادس عشر أول مرة من الشرق، وكما يقول كاتب حديث «لقد ذهب ضوء القمر الذي كان سبنسر قد أتى به من الأندلس، وحل محله ضوء الشمس»، وهو يعني بضوء الشمس ما كان الرومانسيون يقصدونه بضوء «النهار العادي»؛ أي إن «موسيقى الأفلاك» و«نيران الأفلاك» التي تحدث عنها سبنسر في ملحمته «ملكة الجان» قد انطمست وأصبحت المرأة كائنا ينتمي لعالم «النثر» بعد أن كانت تنتمي لعالم «الشعر»! وفي هذا الإطار أصبح «الحب» القديم قيمة يطمح إليها ولا تتحقق، وأصبح الشك في قيمة «نظام الأسرة» (أو الزواج باعتباره «مؤسسة») من أهم معايير المؤسسة الأدبية، ويكفي للتدليل على ذلك استعراض روايات الكاتبات الإنجليزيات المعاصرات؛ من «ميوريل سبارك» إلى «مرغريت درابل» خاصة في رواية الأخيرة وعنوانها الطاحونة.
وأنا أقول هذا من باب التذكير فحسب؛ فالشواهد كثيرة، ولن أعود إلى موضوع البطولة أو سواه. المهم أن نتبين أن «تخطي» معايير المؤسسة الأدبية العالمية هو في حقيقة الأمر أيسر من تحقيقها، فكيف يكون ذلك؟ أعتقد أن الإجابة واضحة الآن، وهي التركيز على القيم الإنسانية الثابتة التي لا تتغير بتغير المعايير الاجتماعية أو سواها وأدبنا العربي زاخر والحمد لله بهذه القيم.
ولتيسير التناول أقول إننا إذا أردنا من العالم أن يفهمنا ويتذوقنا فلا بد أن ننفذ إليه من باب فهمه الفهم الصادق. ومعنى فهمه تقديم ما نعرف أنه يستطيع أن يفهمه وما يكون ذا صلة بحياته حتى يتذوقه. حقا قد يستطيع الروائي أن يخلق عالمه الخاص الذي يجر إليه القارئ جرا، وقد يفعل المسرحي ذلك، ولكن الشاعر يستند إلى العالم الكبير المتوارث الذي خلقه الشعراء من قبله وفي عصره. ولذلك فإذا تصدينا للشعر فسوف نجد أن القانون الذي يحكم ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية هو القانون الذي يحكم ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية مثلا. فالاختيار سيكون محكوما أول الأمر بتحقيق «الصلة
Relevance »، ثم بتحقيق المصطلح الشعري الذي وضعته المؤسسة الأدبية، وبهذا فحسب يمكن تخطي تلك المؤسسة! وأعتقد أن هذه المفارقة تحتاج إلى إيضاح وأمثلة. خذ قصيدة الرثاء. إنها نوع أدبي عالمي، ولكن المبالغة التي نجنح إليها في تراثنا تجعل من المتعذر إيجاد تلك الصلة بسبب الولوع بالمبالغة بل الإغراق والاستغراق فيها محاكاة لعصر أو لشاعر. فالمرثي هو جماع الفضائل بل هو الفضيلة المجسدة، وعندما توفي «توفيت الآمال» وهدت الجبال! وقد غير الرومانسيون الإنجليز مثلا من تقاليد هذا النوع بأن أدخلوا فيه فن التأمل، أي تأمل الحياة البشرية والنظرة الشاملة إليها من عدة زوايا، إلى جانب العنصر الوجداني الذي يجعل الرثاء أقرب إلى القصيدة الوجدانية منه إلى قصيدة المدح. وبهذا تأثر المحدثون فأوجدوا الصلة، واستخدموا المصطلح الشعري الحديث فاقتربوا من العالم. قارن مثلا رثاء «الخنساء» أخاها «صخرا»، أو رثاء «أبي تمام» لمحمد الطوسي بقصائد الرثاء الحديثة التي ترجمتها ووضعتها في كتابي عن الشعر العربي المعاصر، وهي قصائد لصلاح جاهين وفتحي سعيد ووفاء وجدي. إن الفارق هو في حقيقة الأمر فارق بين عالم قديم انقطعت صلتنا به، وعالم حديث نعيش فيه، ولا بد لنا معه من جسور! وأما المصطلح فسأورد نموذجا ساطعا له. إن المازني عندما ترجم بعض القطع من «شكسبير» كان ينشد المصطلح أولا وأخيرا، وهذا ما حدا به إلى التغيير والتعديل والتبديل (وكان يؤثر عنه أنه كان يؤلف حين يترجم، ويترجم حين يؤلف):
أبعدوا عني الشفاه اللواتي
كن يطفئن من أوار الصادي
وابعدوا عني العيون اللواتي
هن فجر يضل صبح العباد
واستردوا إن استطعتم مردا
قبلاتي من الخدود النوادي
وليس الأصل هكذا، والأقرب إليه أن يكون:
إليكن عني فتلك الشفاه
عذوبتها حنثت باليمين
وتلك العيون
فجر مبين
ضياء يضل مسير الصباح
ولكن أعيدوا إلي القبل
أعيدوا الرواء
طوابع حب طواها الأجل
وضاعت هباء!
فإذا عدنا إلى قصيدة الرثاء استطعنا أن نجد أن تغيير المصطلح على أيدي الرومانسيين قد أتى بحرية في التصور وحرية في «الحركة الشعرية» داخل الصور إلى الحد الذي يتخطى بها الزمان والمكان، ويهبها القدرة على أن تفرض نفسها على المؤسسة الأدبية - خذ مثلا قصيدة «أدونيس» للشاعر الإنجليزي شلي - إنها نموذج صادق للمصطلح الشعري الجديد الذي يجعل التأمل عنصرا أساسيا من عناصر «الحدس الشعري» - وقد ترجمها الدكتور لويس عوض، فأبدع في إخراج هذا المصطلح إلى العربية. ويكفي في هذا المجال تقديم مرثية صغرى من مراثي وردزورث، تبين الجانب الآخر للمصطلح الشعري في الرثاء وهو مزج التأمل بالنزعة الوجدانية:
ختم الناس على روحي وغيبها
ومحا مخاوف البشر
فبدت لعيني فتاة ليس تلمسها
يد السنين والقدر
فالآن قد سكنت والقوة اندثرت
ومضى زمان السمع والبصر
وغدت تدور ببطن الأرض دورتها
كالصخر والأحجار والشجر!
ترى هل نستطيع أن نترجم أدبنا العربي - من هذا اللون - إلى الإنجليزية أو الفرنسية مثلا، فنؤكد انتماءنا لعالم اليوم؟
الإحالة إلى الماضي
بعد تقديم عدد من قصائد شعرائنا المعاصرين بالإنجليزية في الإذاعة؛ استولت الدهشة علينا لمئات الخطابات التي تلقيناها من أمريكا وكندا وأوروبا تطلب المزيد وتعجب لمستوى «حداثة» الشعر لدينا، فاقترح الشاعر صلاح عبد الصبور، وكان رئيسا لهيئة الكتاب آنذاك، أن أصحب معي في جولتي بالولايات المتحدة (ضمن برنامج مصر اليوم) عددا من القصائد التي تمثل الشعر الحديث في مصر بحيث يطلع الجمهور الأمريكي على الشعر الحي - أي على الشعر المسموع لا المقروء فحسب. وحططنا الرحال أول الأمر في واشنطن، وكان أول لقاء مع الجمهور الأمريكي في مؤسسة «سميثونيان»، والربيع قد بدأ يكسو أشجار الشتاء بأوراق خضر صغيرة نضرة، وكان الصباح في الحديقة التي تطل عليها نوافذ القاعة بهيجا مشرقا وضاء.
وتولى الدكتور جورج عطية تقديم الضيوف ثم انطلقنا نقرأ الشعر ونتقبل أصداء الاستحسان بدهشة لا تقل عن دهشتنا بتلقي خطابات القراء، ولكن الدهشة الحقيقية كانت عندما حدد لنا موعد آخر مع جمهور آخر في مساء نفس اليوم؛ إذ تردد في الأوساط الأدبية والفنية خبر وصول الوفد، وقرر الدكتور عطية تنظيم لقاء مسائي تسجله الإذاعة (أو الإذاعات؛ فهي كثيرة في أمريكا). وفي ذلك اللقاء لم يقتصر الاستحسان على طلب الاستزادة، بل اتخذ صورة ندوة ناقشنا فيها الجمهور مناقشة مستفيضة، وتولى الرد من الوفد المصري بصفة أساسية الدكتور سمير سرحان والدكتور مرسي سعد الدين. وبعد أن تكررت اللقاءات في عدة مراكز ثقافية في أمريكا من المحيط إلى المحيط كما يقولون، ومن الشمال إلى الجنوب، كان السؤال الذي يلح على أذهاننا جميعا هو: إذا كان لدينا مثل هذا الشعر العظيم فلماذا لا يقرؤه الناس في كل مكان في العالم حتى اليوم؟
في جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا كان رد أحد كبار المستشرقين وهو «روجر ألن» أن الشعر العربي لم يترجم الترجمة الصادقة حتى الآن، وفي جامعة تكساس بمدينة أوستن كان رد «جودمان» مدير النشر والشاعر دافيد أن الشعر العربي مليء بالصحراء والجمال، وهو ما لا يفهمه الجمهور الأمريكي، بل إن ذلك الشاعر أعرب بصورة مباشرة عن شكه في أن يكون الشعر الذي سمعه عربي الأصل! وقال في دهشة أمريكية صادقة: «ولكن أين الجمال والخيام؟»
وفي جامعة نيويورك كان الاستقبال حافلا بفضل الإعداد الذي تولته الدكتورة منى نجيب ميخائيل - ولكن السؤال الذي لم يكن منه مهرب هو أيضا لماذا لم تقدم الشعر حتى الآن كما ينبغي - وتكررت القصة في لوس أنجيليس في جامعة كاليفورنيا؛ حيث احتفت بنا الدكتورة عفاف لطفي السيد أيما احتفاء. ولم يفلح التشاؤم الذي كان ملازما للدكتور لويس عوض في الإقلال من بهجة استمتاع الجمهور بالشعر والمناقشات الساخنة التي شاركت فيها الدكتورة سهير القلماوي مشاركة فعالة.
وعند عودتنا إلى مصر كنا قد عقدنا العزم (سمير سرحان وأنا) على أن نفعل شيئا؛ كنا قد فرغنا لتونا من الاشتراك في عمل ما، وكان ما يزال أمامنا عمل كثير! ونشرت بعض المجلات الأمريكية نماذج من شعرنا، فتحمس الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة لتقديم المجموعة التي تكونت لدي بالإنجليزية لنشرها عن طريق لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وكنت آنذاك عضوا بلجنة الترجمة، ولكن المشروع تعثر لأسباب لا مجال للخوض فيها، خاصة أن الكتاب على وشك الصدور من الهيئة العامة للكتاب (وبه خمسون قصيدة لثمانية عشر شاعرا) كان صلاح عبد الصبور قد رحل عن عالمنا، وكان أمامنا أن نختار بأنفسنا الشعر الذي يعيش في وجدان الناس. وعكفت على تأمل التراث القريب للشعر العربي، وقد كنت هضمت الكثير منه في ميعة الصبا، وجعلت أفكر ما عساي أفعل بالتراث الخصب الذي خلفته الحركة الرومانسية التي نطلق عليها حركة الإحياء أو البعث - وعادة ما تعتبرها كلاسيكية؛ لأنها ترتدي ثياب التقليد والتقاليد - وجعلت أبحث جنبات الدواوين عن شيء «ذي صلة» بحياة الناس اليوم، بمشاعرهم وأفكارهم اليوم، فوجدت ما حيرني وأقض مضجعي.
إن شعراء الإحياء (بما أحرزوه من إحياء) كانوا يحيلون القارئ العربي في هذا العصر إلى زمن بعيد؛ زمن يصعب بعثه إلا إذا تغير وجه الحياة برمتها في عالم اليوم، وأنا لا أقصد الجمال والخيام هنا؛ فقد توجد هذه مع إنسان هذا العصر، ولكنني أقصد النضج الذهني والوجداني الذي حققه ابن هذا القرن في وطننا العربي على امتداد ساحته، (مهما قيل عن التفاوت هنا وهناك بين مراحل هذا النضج) ولأضرب مثلا لهذا بقصيدة «الفخر».
كان الفخر في الماضي مرتبطا بتقاليد القبيلة ومجد الأمة وعراقتها وكان ما يفخر به الشاعر هو في الحقيقة جماع القيم والمبادئ التي تستنير بها الإنسانية، ولا تقتصر على القبيلة. ولذلك فنحن حين نقرأ مدائح الماضي أو قصائد الفخر (وهو نوع من مدح الذات) فإننا نواجه عالم الأنثروبولوجيا الثقافية التي شغلت نقاد القرن العشرين، ونحن نفعل ذلك شئنا أم أبينا عندما نقرأ شعر الماضي أيا كان لون هذا الشعر، ابتداء من شعر مصر القديمة واليونان والرومان فالعرب والشعر الأوروبي حتى شكسبير نفسه! أي إن دراسة الأدب الذي انتهى إلينا وأصبح يشكل التراث الإنساني؛ تتضمن قدرا من جهد «الإحياء»، فنحن نحاول أن نتصور عالم القدماء ونعيشه حتى نتذوق أدبهم؛ ولذلك يظل الماضي ماضيا، ثم يأتي أدب الحاضر ويذهب ليلحق بالماضي هو الآخر! المهم أن يكون الحاضر في أدبنا حاضرا لا ماضيا؛ أي أن تكون الإحالة إلى حاضر نعيشه فكرا وشعورا، لا إلى ماض من الفكر والوجدان جميعا، ولا أدل على ذلك من بائية البارودي الشهيرة التي يدرسها الطلبة في كل مكان، والتي يتفاخر فيها بأنه لا يطرب «بتحنان الأغاريد»، و«لا يملك سمعيه اليراع المثقب» (أي الناي). فالإحالة هنا ليست إلى الموسيقى كما نعرفها، ولا أتصور أن البارودي يفخر بعدم استمتاعه بالموسيقى (مثل جيسيكا ابنة شيلوخ اليهودي في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير)، ولكنه يفخر في الحقيقة بأنه لا يستطيب مجالس الأنس والطرب واللهو واللعب؛ أي إن الإحالة هنا هي إلى تلك المجالس التي صورها أبو الفرج الأصفهاني خير تصوير، كذلك سيرى القارئ أنه يقصد بالعلياء ما كان يقصده السلف من المجد الحربي، ولا غرو؛ فحياة البارودي في الواقع تؤكد هذا الفهم. والبيت الذي يقترب كثيرا من فن الإبجرام والذي أراد البارودي للقارئ أن يذكره به هو:
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
فالعلا (أو العلياء) بمثابة قيمة مجردة إطارها المرجعي هو الزمان السحيق، وليس هذا العصر، وقس على هذا ما فعله غيره من شعراء الإحياء، فبراعة استهلال شوقي تحيلنا إلى الماضي حين ينشد الأطلال في افتتاحية قصيدته دمشق:
قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
وتحيلنا إلى ماضي المصطلح الشعري حين يعمد إلى المبالغة الصارخة في استهلال رثاء مصطفى كامل:
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
إن قارئ اليوم يعجب لهذا الذي مات فبكاه الشرق والغرب جميعا؛ لأن زمن الإغراق في الكذب قد انقضى، ولم يعد أعذب الشعر أكذبه، والمحتمل أن شوقي كان يريد أن ينتهي من هذا كله إلى الإبجرام الشهير:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
ولا داعي لتكرار ما قاله العقاد عن البارودي وشوقي معا؛ فقد كان العقاد واعيا بالاتجاه الذي سار فيه شعرهم - على غزارته وجماله - ألا وهو الإحالة إلى الماضي. وإذا كان من الصعب على قارئ العربية اليوم أن يعيد الحياة في الماضي، فكيف بالأجنبي الذي يريد أن يتعرف على أدبنا؟
اللغة المشتركة
يقول الشاعر الإنجليزي وليام وردزورث إن هناك «واحات زمنية» في وجود كل إنسان يرتادها المرة بعد المرة ليروي عطش خياله، ويتبرد من هجير الحياة، وحينما صدمته انتكاسة الثورة الفرنسية كان يختلف إلى تلك الواحات حينا فحينا، وكثيرا ما كان يجد فيها العزاء والسلوى؛ لأنه كان يرى فيها الإنسان في مرحلة البراءة قبل أن تطحنه أضراس التجربة، وكان يعني بالتجربة مثل كل الرومانسيين مواجهة الشر والاعتراف بوجوده، بل والتصالح مع هذا الوجود!
وإذا كان جيلنا يجد نفسه اليوم في حاجة إلى ارتياد هذه الواحات، وربما كان ذلك قبل أن يحين موعد ارتيادها الحقيقي الذي لا يأتي إلا بالتجربة؛ فذلك لأننا عشنا سنوات كانت توازي سنوات الطفولة في صفائها ونقائها، وهي سنوات التفتح على الأدب العالمي وفورة الحماس الذي لم يسبق له مثيل في الستينيات، فكنا نقرأ بنهم في الأدب وكل ما يتصل به من دراسات نظرية وتطبيقية، وكنا نناقش ما شاء الله لنا أن نتناقش فيما قرأنا، وكان لنا أساتذة يمثلون القمم التي نطمح إلى تسنمها، وأنا أقصد بجيلنا بالتحديد جيل من تفتحت مواهبهم في الستينيات، وهم بعد في ربيع العمر أو على مشارفه فكتبوا المسرح والمقالة والكتاب، ونشطوا إبداعا وترجمة وتأليفا، وقد بدا لهم الطريق دون نهاية، أو كما يقول شاعر إنجليزي آخر وهو «ألكسندر بوب»: «كلما تراءت لهم قمة برزت من ورائها قمة!»
كانت الترجمة تشهد ازدهارا نادرا - ولكنه كان طريقا ذا اتجاه واحد؛ لأننا كنا نترجم من الإنجليزية (أو الفرنسية) إلى العربية فحسب، ولم نكن بعد نطمح بل لم نكن نتصور أن لدينا أدبا قادرا على احتلال مكانه الحق بين آداب العالم لسبب بسيط، وهو انبهارنا الشديد بالأدب العالمي الذي كان يفتح أمامنا آفاقا تختلف اختلافا بينا عن تلك التي عهدناها في أدبنا العربي. كانت المشكلة عندي هي أنني درجت على موازاة الأدب بإحكام الصنعة اللغوية، وكان هذا أمرا طبيعيا في سني بعد أن تركت الكتاب والتحقت بالتعليم العام، فوجدت بين أساتذتي من لا يكترث إلا للبلاغة التقليدية وصناعة الإنشاء، ووجدت في محيط الأسرة من أقاربي من يؤكد لي صحة ذلك - فكتاب الشيخ مصطفى عناني يعاد طبعه المرة بعد المرة «الوسيط في الأدب العربي» وكتب علي الجارم (النحو الواضح وغيره) تملأ المنزل، ووالدي غارق إلى أذنيه في العقد الفريد وفي نفح الطيب!
وكم كانت دهشتي عندما انتقلت إلى القاهرة عام 1954م وكتبت أحد موضوعات الإنشاء التي كنت أجيدها فوجدت أحد زملائي في الفصل وهو الأستاذ أحمد السودة يسخر منه باعتباره إنشاء! كان أستاذنا الدكتور عبد الرءوف مخلوف قد انتهى من رسالة الماجستير آنذاك، وكانت عن كتاب العمدة لابن رشيق، وكان من المعجبين باللغة التي أكتبها - ولم أفهم سر اعتراض صديقي على الإنشاء! أولسنا مطالبين بالإنشاء؟ وهل الأدب سوى إنشاء؟ لم أكن أدري حين ذاك أن طه حسين قد نقض ذلك قبل نيف وثلاثين عاما في مقدمته لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين، ولم أكن أدري أن في الدنيا أدبا يستخدم لغة مشتركة تتجاوز البلاغة والفصاحة، وتستخدم مفردات أخرى ومعايير أخرى، ولا تقوم على عبقرية البيان وحدها!
وعندما دار الزمان وتخصصت في الأدب الإنجليزي حدث عكس ما كنت أتوقع؛ إذ وجدتني أعود إلى الأدب العربي فأجد العجب! إن روائع أدبنا العظيم يحجبها عن عيوننا تراث هائل من كتابات عصر الانحطاط وهو عصر طال فأمعن في الطول! أمامي الآن كتاب يتضمن رسائل بديع الزمان الهمذاني يقول في مقدمته الناشر: إنه أعظم ما تفتحت عنه قريحة السلف. وأذكر أنني كنت مطالبا منذ عدة سنوات بإعداد عروض لبعض كتب التراث التي حددت سلفا لي - وكان من بينها كتاب الأبشيهي، وعنوانه «المستطرف في كل فن مستظرف» - ووجدتني أكتشف كيف سادت فكرة الإنشاء قرونا وقرونا حتى انحصر الأدب في التمارين اللغوية، وحيث ولدت هذه الفكرة معايير خاصة تشكل في مجموعها مؤسسة أدبية لها قوانينها وقواعدها، بحيث حجبت عن عيون دارسي العربية «اللغة الأدبية المشتركة» - لغة الإنسان - التي يتكلمها الناس في كل مكان، بغض النظر عن لغة الألفاظ التي تختلف من بلد إلى بلد!
إن الواحات التي أرتادها اليوم في هجير الحياة هي واحات هذه اللغة المشتركة، تلك التي لم تمنع الأدب الروسي مثلا من أن يصبح أدبا إنسانيا عالميا؛ لأنه يستخدم تلك اللغة رغم أننا نقرؤه بالإنجليزية! وما زلت أذكر اليوم الذي قرأت فيه قصة تشيخوف «العنبر رقم 6» في ترجمتها الإنجليزية لأول مرة ذات يوم من أيام الصيف عام 1963م، ولم أستطع أن أصبر على انفعالي بها فأهرعت إلى منزل صديقي سمير سرحان، ودفعت إليه بالكتاب في ساعة مبكرة من ساعات الصباح وتركته وخرجت، وفي المساء التقينا في مقهى بالجيزة (امتدت إليه يد الهدم الآن) وكان قد أصابه نفس انفعالي فلم نتبادل أي حوار. كان كل ما قاله هو إنه سيحتفظ بالكتاب؛ ليقرأ بقية القصص، غير آبه باعتراضي على ذلك! وسرنا على النيل في صمت ذلك المساء، وقد استغرق كلا منا ذلك الحذق الخارق الذي يتميز به تشيخوف لحالة في تصويره من حالات النفس البشرية وهي تنزلق من عالم الأسوياء إلى عالم المجانين. وأعتقد أن هذه الواحة كانت قد بعثت إلي الحياة عندما رأى صديقي بعد عشرين عاما الإعداد المسرحي الذي قام به سمير العصفوري لهذه القصة، وأخرجها لمسرح الطليعة بعنوان «في زنزانة المجانين». كانت صورة العمل الأدبي قد اختلفت؛ فهي الآن مسرحية وهي باللغة العربية، بل وبلغة المسرح التي لم تكن تستخدم الألفاظ كثيرا، ولكنها كانت عملا أدبيا إنسانيا عاملا يستخدم «اللغة المشتركة»!
إن طريقنا إلى العالمية لا بد أن يتجه إلى اكتشاف هذه اللغة المشتركة في أدبنا العربي القديم والحديث، بعد أن نتخلص نهائيا من فكرة المساواة بين البلاغة القديمة والأدب!
عن الأجيال الأدبية
تواصل الأجيال
في فترة لم يبعد العهد بها دار حوار هادئ في الصحف القومية حول ما أطلق عليه البعض صراع الأجيال الأدبية، وأعترف إنني عندما اشتركت في هذا الحوار الذي نادرا ما احتد أو احتدم مع بعض الشوامخ من كتاب العصر وأساتذته، كنت منساقا بحماس شباب يوشك أن يولي، وغير مدرك لخطأ منهجي كنت قد وقعت فيه قبل ربع قرن في سياق دراستي للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» وهو ما أسماه أستاذنا الدكتور مصطفى سويف «الخلط بين العمر الزمني والعمر الفني».
عاد إلى ذهني ذلك الخطأ، وعادت المناقشة التي دارت بيننا بتفاصيلها الدقيقة ذات مساء أثناء رحلة إلى أسوان، وكان في المقصورة معنا د. رشاد رشدي ود. لطيفة الزيات ود. فاطمة موسى، وكنا نحن الثلاثة - «سمير سرحان» و«عبد العزيز حمودة» وأنا - ما زلنا معيدين نحضر لدرجة الماجستير حين تطرق الحديث إلى التفتح المبكر لعبقرية الشاعر كيتس الذي كتب أروع قصائده وهو في أوائل العشرينيات (وتوفي في الخامسة والعشرين) ومدى علاقته بمعاصريه من جيل الرومانسيين الأوائل، وأذكر حماسي لفكرة الهوة بين الأجيال متأثرا بما قرأته عن تأثر كيتس بميلتون وشيكسبير، لا بوردزورث وكولر بدج - وكيف نبهني د. سويف إلى ضرورة الفصل بين العمر الزمني الذي يربط بين المعاصرين وبين العمر الفني الذي يمتد عبر الأجيال؛ ليقيم وشائج بين أدباء الماضي والحاضر، وأذكر الآن أن هذه الفكرة قد صاحبتني إلى إنجلترا حين قرأت كتابا من تأليف العالمة النرويجية «ثورا بالسليف» يرصد تأثير وردزورث على كيتس، وكيف أنني انتقدته في ضوء الخطأ الذي كنت قد وقعت فيه قبل عامين!
وربما لم أكن ملوما وحدي على هذا الخطأ الذي عدت إليه في الكهولة؛ إذ استدرجني وزملائي إليه مقال مثير للكاتب الكبير (والمشاغب الأكبر) يوسف إدريس، أشار فيه إلى أنه ينتمي إلى آخر جيل عبقري تخرجه مصر! وشجعني على أخذ كلامه مأخذ الجد ما نشر من أحاديث للمسرحي العظيم نعمان عاشور وشيخ الفلاسفة زكي نجيب محمود - غير واع بأن الخطأ المنهجي يخفي أيضا تصورا خاطئا لا يصح لي أن أقبله - فالتسمية قد تعني ما يسمى في اللغات الأوروبية بالفجوة بين الأجيال، أي عدم قدرة جيل ما على تفهم جيل لاحق أو ثورة جيل جديد على الأنماط الفكرية للجيل الذي سبقه، ولكن هذا المفهوم الاجتماعي الصرف لا يمكن تطبيقه على الأدب إلا في أضيق الحدود؛ لأن تاريخ الأدب لا تتحدد مراحله أو مدارسه أو حركاته أو اتجاهاته بالتقسيمات الزمنية، وما التواريخ التي نضعها إلا حدودا مصطنعة تعين الدارس على رصد الظواهر وتذكرها، وإذا كانت القرون حدودا زائفة فما بالك بالأجيال؟! ولقد سبق لي أن عرضت في «الأهرام» نظرية «الدورات الأدبية» التي يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، ومعنى هذا بطبيعة الحال ضرورة النظر إلى الأدب باعتباره كائنا يتمتع بحياة دائمة متواصلة، وإن اختلفت أشكاله وتعددت صوره، ومعناه أيضا أن حركة ما من الحركات الأدبية لا تنتهي تماما عندما تحل موجة جديدة، حتى وإن بدت مناقضة لها في اتجاهها الفكري أو في أشكالها الفنية، بل إنها حتى حين تناقضها تزيد من الوعي بها حتى تكتمل الدورة ويحين موعد عودة الحركة الأولى، بينما نرى أن ما كان موجة جديدة قد أصبح اتجاها قديما يظل كامنا حتى يحين موعد بعثه.
ومعنى هذا أيضا أن الاتجاه الأدبي - أيا كان لونه - لا يموت أبدا، بل يظل يومض خلال الرماد حتى تعود وقدته الأولى، ولكنه حين يعود يكون قد تلون بما ساد المجتمع من اتجاهات أخرى تؤثر في لون اللهب الجديد وتتحكم في حدة ضرامه. ولنضرب مثلا لهذا بضربين من ضروب الرومانسية؛ الأول عربي عريق، والثاني أوروبي حديث. أما الأول فقد صاحب تاريخ الأدب العربي على امتداده، يلتهب في كل فترة من فترات الفوران الاجتماعي والفكري، ويخبو في كل فترة خمود وثبات وجمود، وهو كلما عاد اختلفت صورته، حتى حين كان يبدو لغير المتمعن أنه «إحياء» أو «بعث» للماضي وحسب. وأما الثاني فقد صاحب كل نهضة فكرية في أوروبا، وارتبط أحيانا بالثورة والتحرر أو بالمثالية أو الفردية أو بالنزوع إلى الخيال، ولكنه كان دائما يستند إلى ما استند إليه الاتجاه العربي من إيمان بقدرة الذهن على قهر الظواهر وبقدرة القلب على استيعاب الوجود.
ويلتقي الاتجاهان في كل موضع في تاريخ الأدبين على فترات من المحال أن نحددها بالأجيال، بل إنها قد تدوم قرونا وقد تقصر حتى لا تتجاوز السنوات المعدودة؛ فالزمن هنا يخدع الباحثين كثيرا؛ فالثبات الذي يوحي به الشكل التقليدي لشعر «شوقي» يخفي في طياته رومانسية دفاقة لا تكاد تبين؛ لشدة حرص الشاعر على التمسك بالمصطلح القديم ويصدق هذا القول على «البارودي» من قبله؛ فهي رومانسية المثال والقيم المطلقة - وهي ضرب من الضروب التي بينها البروفيسور «لاف جوي» في «التمييز بين الرومانسيات». ولقد ظل هذا الاتجاه خبيئا حتى وجد في مدرسة الديوان من يفصح عنه أيما إفصاح - وإن بدا للقراء في العقود الأولى من هذا القرن أن العقاد لا يكاد يشترك مع شوقي في شيء!
كان العقاد وشوقي يشتركان في العمر الفني وإن اختلفا في العمر الزمني؛ أي إنه دون وجود شوقي لم يكن العقاد ليثور ثورته، ويفصح عن رومانسيته، وكذلك كان علي محمود طه وإبراهيم ناجي يشتركان مع أبناء الجيل السابق في الروح، وإن اختلفت صورة الرومانسية في شعرهم، فاتخذت إطارا جديدا كالصبغة الفردية والجنوح إلى الخيال - وكذلك كان الشعراء المحدثون الذين ارتبطت أسماؤهم بشعر التفعيلة وإن كانت الرومانسية أقرب إلى روح الثورة والتحرر مع ما يكسوها من حزن وألم، فكيف بنا نقسم هذه الاتجاهات تقسيما زمنيا لا فنيا؟
أجيال الرومانسية
عندما ذكرت في كتابي عن الشعر العربي المعاصر في مصر بالإنجليزية أن أقوى تيار في الجيل الذي تلا صلاح عبد الصبور هو تيار الرومانسية الجديدة، وحددتها قائلا: إنها مزيج من الاتجاه الحديث في العالم والرومانسية الأوروبية؛ لم أكن أتصور أن أغضب أحدا من كبار شعرائنا، ولم أكن أتصور أن أحدا سيسيء فهم هذه الفكرة غير العويصة. ولكن لاقيت نفس المصير الذي لاقاه أحد شيوخ النقد الإنجليزي «و. ب. كير» حين قال: إن الشاعر الأصيل أو المجدد لا بد أن يبدأ بالرومانسية؛ إذ غضب منه الكلاسيكيون من النقاد المعاصرين، مثل «ف. ل. لوكاس المتوفى عام 1966م» وبعض المحدثين من الشعراء الذين تصوروا أن الحداثة أو المودرنية تعني بالضرورة رفض الرومانسية، وهم لا يقصدون بها في حقيقة الأمر إلا الحركة الأدبية الأوروبية المعروفة.
ومكمن الصعوبة في فهم هذا القول كما بين بعض الشارحين (مثل نورثروب فراي وماير إبرامز) هو اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ فالناقد الكلاسيكي مدفوع بطبيعته ودراسته إلى الحكم على الجوانب الشكلية؛ لأنه (أيضا بسبب تكوينه الفكري) لا يرى في الفن غير الشكل - فعالم الكلاسيكية عالم ثبات وقرار - عالم تحكمه قوانين راسخة مثل القوانين الرياضية وقوانين الصحة والاستواء؛ ولذلك فقلما يناقش نزعة نفسية تخرج عن إطار قوانينه أو خيالا جامحا يركض به في دنيا لا يألفها؛ ومن ثم فهو يؤمن بأن الفن شكل وأن الأفكار (مثل المعاني عند بعض نقاد العرب) يعرفها العربي والعجمي، وأن الفن ما هو إلا براعة البناء وهندسة التركيب وحيل الصنعة.
أما النقد الحديث فيدعو إلى عدم الفصل بين الشكل والموضوع؛ فالعمل الفني كيان حي نابض، يتعرض للتزييف بل للمسخ والتشويه إذا جردت شكله لدراسة بنائه، وهذا من أكبر أخطار المدرسة التي ازدهرت قبل عشرين عاما في فرنسا، ولم تلبث أن اندثرت - ألا وهي ما يصطلح على تسميتها بالبنائية أو البنيوية - أي الاتجاه إلى رؤية نماذج أو أنماط شكلية محددة ومكررة في الأعمال الفنية بغض النظر عن نوع الفكرة أو الإحساس؛ أي إن الناقد البنيوي كان يساوي بين عناصر متباينة بغية تصنيفها في هيكل يرى فيه الدلالة الكبرى، وكان يحاكي ما فعله بعض نقاد الثلاثينيات الذين أرسوا قواعد دراسة كل جانب من جوانب العمل الفني - كالإيقاع في الشعر، أو الصور الفنية، أو الألفاظ بأشكالها المختلفة، أو الشخصيات وما إليها - بطرق الإحصاء والتقسيم والتبويب والتصنيف، وقد لاقت هذه الأنواع من الدراسة هوى في نفوس كثير في أمريكا؛ إذ إن الأرقام لها سحر خاص وهي توحي بالمنهج العلمي الذي يؤدي إلى اليقين ، ثم انهار هذا المنهج أيضا عندما نهض معارضوه في ألمانيا (فولفجانج كليمن) وإنجلترا (راجوف) ليدحضوا ما ظاهره علم وباطنه تزييف؛ لأن حقائق الأدب مثل حقائق الحياة لا بد من معالجتها معالجة شاملة في سياقها الحي، وإلا لم تعد تعني شيئا.
الناقد الحديث ينبغي ألا ينخدع بالأرقام أو الأشكال وألا يتخذها أساسا لإقامة تماثل بين عملين أدبيين يشتركان في الهيكل ويختلفان في المادة، أو فيما هو أخطر من هذا - وأقصد به الاختلاف في «النغمة» أي فيما يسمى أحيانا «النبرة» (ترجمة لكلمة ال
TONE ). وقد كانت هذه الصعوبات في الحقيقة السبب في اختلاف الزوايا التي ينظر منها إلى الرومانسية؛ ومن ثم في عدم إدراك ما يقصد إليه «و. ب. كير» من ربط النزعة إلى التجديد بالرومانسية، فالحقيقة التي يريد إبرازها هي أن كل فنان ينشأ في ظل أنماط أدبية يتشربها وتتغلغل في أعماقه وهو صغير، وهو يحاول في بداية حياته استخدامها عندما يصل إلى مرحلة النضج، ولكنه يصطدم بأن الواقع الذي يعيشه والذي ينفعل معه لا يخرج بالصورة التي يريدها من خلال هذه الأنماط، ويجد أن عليه أن يشق لنفسه طريقا جديدا - ومعنى ذلك أنه يرتاد بقاعا غير مألوفة (في الشكل والمضمون جميعا) - وبهذا يجد نفسه يعيش الوحشة التي قال «ماثيو أرنولد» إنها قدر كل عبقري، وذكرها فرانك كيرمود في سياق الحديث عن «وليم بطلر ييتس» الشاعر الأيرلندي الأشهر. أي إن الفنان يضطر مرغما إلى الابتعاد عن التقاليد الأدبية؛ اقترابا من واقع فني - نفسي أو فكري أو إنساني. وهو بهذا يوصف بالشطط أو بالتفرد أو بالمثالية، ومن ثم بالرومانسية.
ومن هنا كان لكل جيل (وقد يطول زمنا حتى يقترب من القرن أو يقصر حتى لا يجاوز العقد الواحد) رومانسيوه - أي شعراؤه الذين يصوغون رؤاهم الأصلية في أشكال أدبية جديدة - ولهذا لم يتردد «كلينث بروكسي» في وصف شعر «ت. س. إليوت» بالرومانسية، ولم يجد من حاول أن يعارض أي تناقض بين الحداثة (أو المودرنية) وبين الرومانسية بعد أن تحرر مفهومها من الاقتصار على المعنى التاريخي؛ ولذلك أيضا لم أتردد في رصد الاتجاه الرومانسي في شعر صلاح عبد الصبور والجيل الذي تلاه عمرا ويشترك معه فنا وبالتحديد فاروق شوشة ومحمد إبراهيم أبو سنة وفتحي سعيد وفاروق جويدة.
ولكن هل ينطبق هذا القول على الشعر فحسب أم يصدق أيضا على سائر الفنون الأدبية ونشأة الأشكال الجديدة؟
الأجيال والشكل الأدبي
تدلنا الدراسة الأدبية الحديثة على أن ثمة صلة وثيقة بين نشوء نوع أدبي محدد وبين المناخ الفكري الذي يسود في مرحلة ما من مراحل تطور أمة من الأمم، أو مجتمع من المجتمعات، (وأنا أستخدم لفظ «مرحلة» هنا بدلا من لفظ جيل نشدانا للدقة؛ فهي مساحة يصعب تحديدها وتختلف اختلافا شاسعا من بلد إلى بلد) بحيث تستطيع رصد نشأة النوع وتطوره في إطار فكري محدد دائب التغير والتحول؛ لأنه لا يقتصر على المعتقدات والأفكار السائدة في فترة ما، بل يتخطاها ليشمل الرموز التي تحتل مكانا بارزا في حياة الجماعة البشرية، والحساسية الفنية التي تتميز بها هذه الجماعة في تلك الفترة؛ ومن ثم فهو إطار يرتبط بنظم مادية ومعنوية وقيمية بعضها موروث وبعضها جديد، ولكنها تشترك جميعا في تشكيل ما أسميته بالمناخ أو الجو الفكري العام.
ولذلك فإن الراصد لنشوء فن القصة القصيرة في الغرب مثلا - مثلما فعل الدكتور شكري عياد في محاولته تأصيل هذا الفن الأدبي - لن يجد مناصا من ربطه بالتغيرات الاجتماعية التي استحدثت أطرا فكرية جديدة في حياة الناس في أوروبا وأمريكا، والراصد لنشأة مسرحية الفصل الواحد لن يلبث أن يجد لها جذورا، لا في الفنون الأدبية وحدها (وأهمها فن القصة القصيرة نفسه)، بل وفي اتجاه المجتمعات الحديثة نحو فلسفة «اللحظة الواحدة» - أي فلسفة تأمل الحياة من خلال ما يسمى في لغة السينما ب «اللقطة المركزة» - وقد كانت هذه اللحظات أو اللقطات تتوالى في الرواية أو المسرحية أو الملحمة، وغيرها من الأشكال الأدبية التي عرفها تراث الإنسانية القديم.
وقد بدأ هذا الاتجاه - لا شك - مع بداية العصر الحديث الذي يميل كثير من الدارسين إلى ربطه بالانقلاب الصناعي في أوروبا وانتشار الصحافة بالمعنى الحديث، وكان من أكبر الداعين له «إدجار ألن بو» الذي كان من أوائل من حاولوا تعريف القصة القصيرة، وكانت نظرته إلى الشعر ذات دلالة كبرى؛ إذ كان يرفض أي قصيدة يزيد طولها على المقطوعة، ويستريب بأي شكل من أشكال الشعر يحاول محاكاة الأشكال الأدبية المطولة؛ فالشعر عنده (مثل اللوحة أو التمثال) فن مكاني لا زمني، أي يعتمد على الحيز والمساحة لا على التعاقب والتوالي.
ولكن هذا الاتجاه أيضا ما لبث أن أحدث رد فعل غير مباشر؛ لأن المناخ الفكري الذي ولده قد تغير في العصر الفكتوري نفسه في إنجلترا وفي عقود التحول الحاسمة، وفي روسيا بحيث عادت للرواية الطويلة مكانتها، واستطاعت الأنواع الأدبية الزمنية «أن تحظى بإقبال الجمهور العريض»، وأصبح من المألوف أن ترى كاتبا روائيا يكتب القصة القصيرة، أو شاعرا من هواة القصائد الطويلة يكتب المقطوعات، بل إن نهاية القرن شهدت تنويعا جديدا في هذا المجال على يد تشيكوف الذي لم يكن يكترث لما ورثه من أشكال، فكتب المسرح الذي يقترب من أنواع الأدب الأخرى، وكتب القصة القصيرة التي طالت بعض الشيء أو الرواية التي قصرت بعض الشيء، فأحيا بذلك تراث القصة القصيرة الطويلة أو «النوفلا
NOVELLA » والتي كانت قد أوت إلى الرقاد طويلا بعد أن قدمها شاعر الألمان الأكبر «جوته».
ونحن عندما استقدمنا كل هذه الأنواع من الأدب العالمي لم نكن نفتقر في الحقيقة إلى القاعدة أو الأرض التي يمكنها أن تستقبل وتحمي نباتات عربية أصلا من كل هذه الفنون اللغوية؛ ولذلك لم تستغرق المحاولات عقودا طويلة (كما بين الدكتور عبد المحسن بدر)، ولم نلبث أن رسخنا فنون الرواية العربية والقصة وما إليها؛ باعتبارها آدابا قومية كثيرا ما تطاول الآداب العالمية فكرا وفنا، ولم يلبث الكتاب الذين خلفوا الرواد أن طوروا شكل «النوفلا» ومزجوا بين المسرح وفنون الرواية (مثل يوسف إدريس وعبد الرحمن فهمي) ومن ابتدعوا فن «الخاطرة» - وهو صورة مصغرة من المقال الأدبي، يضارع قصيدة النثر، ويختلف اختلافا بينا عن إنشاء المنفلوطي والرافعي، ومن برعوا في كتابة القصة القصيرة جدا - أو الأقصوصة.
ولكن الذي لم ننتبه إليه في خضم هذه الأجيال الشكلية هو التحول الذي طرأ على شكل الرواية نفسها والذي استتبعه تغير المادة التي تتناولها نتيجة لتغير المناخ الذي كتبت فيه؛ فكاتب الرواية اليوم - وأنا أقصد الممتاز والمتميز - لا يحاكي نماذج قريبة بل يحاكي الرواد، حتى ولو كان قد بدأ حياته الأدبية محاكيا، بل هو يستلهم أرض واقعه ونفوس من حوله، وهو كثيرا ما يغوص في تاريخ أمته يستقي منها معاني لحاضره، وكثيرا ما يعتبر اللغة مادة للتجريب لا وسيلة للتوصيل فحسب. ولقد كان من عمق تأثير الجو الفكري والنفسي أن شيخ كتاب الرواية والقصة نجيب محفوظ وجد نفسه يغير من منهجه ومن أطره؛ ليس فقط في البناء والتصوير، بل في اللغة أيضا. إن إنتاج نجيب محفوظ الأخير درس لنا من أستاذ كبير؛ من فنان ذي حساسية لم يطل بها الوقت حتى تغيرت مع تغير العصر؛ فهو يمثل جيلا جديدا في كتاباته الجديدة، وأعماله أجيال، تماما مثل الموسيقار محمد عبد الوهاب - قمة القمم - الذي يمثل تطوره حساسية أجيال كاملة لا جيلا زمنيا واحدا.
متفرقات
قصة مستوردة
دخل القصاص المبتدئ إلى مبنى الدار الصحفية الشهيرة، وسأل عن مكان إحدى المجلات التي تصدر عنها، ولم تكن إجراءات الأمن آنذاك صعبة أو معقدة، وسرعان ما وجد نفسه في غرفة رئيس التحرير، ولما عرض عليه ما أتى من أجله حوله إلى المحررة المختصة، وهناك حدث ما لم يكن يتوقع. كان القصاص قد تخرج لتوه بالجامعة، ولكنه كان يفضل أن يكتب قصصه الأصيلة المستمدة من تجاربه في القرية التي أتى منها، وأن يحاكي أسلوب الدكتور محمد حسين هيكل بعد أن أذهلته قدرته على البيان، وأسرته بلاغته المطمئنة أو قل خطاه المتئدة؛ فأسلوبه لا يلهث فيتعثر ولا يتمهل فيضل.
وعرض الشاب قصته على المحررة - وكانت أقرب إلى الأقصوصة منها إلى القصة، فقرأتها على الفور ونظرت إليه وابتسمت، وقالت في ثقة ورقة: «هذا عظيم، ولكن الأسلوب لا يصلح لقرائنا، كما أننا نفضل القصص المترجمة على القصص المحلية؛ لأن الأجانب يجيدون تحليل نفسية المرأة، ومعظم قرائنا كما تعلم من الجنس اللطيف.» ولم يحزن الشاب ولكنه - شأن كل ناشئ - كان قلقا على مصير قصته فعاد يسألها عما يمكنه أن يفعل، وبنفس النبرات الواثقة نصحته المحررة أن يكتب «قصة مترجمة»! وتردد الشاب أول الأمر ثم ابتسم ابتسامة يخفي بها ارتباكه وقال في صوت خفيض: «ولكني لا أستطيع الترجمة؛ لأن معرفتي باللغات الأجنبية محدودة.» وخيل إليه أن نبرات الثقة في حديثها زادت وهي تقول: «ولهذا لم أطلب منك أن تترجم قصة بل أن تكتب قصة مترجمة!» وإزاء هذه الدهشة التي عقدت لسانه استمرت قائلة: «أقصد أن تكتب قصة مثل القصص التي ننشرها في مجلتنا - ويمكن أن تستمد مادتها من أبواب رسائل القراء، وستلاحظ أنها في الغالب من الجنس اللطيف، ولكن المهم أن يكون أسلوبها مترجما، أعني أن يوحي بأن القصة مترجمة؛ مثل أسلوب قصصنا المترجمة، وأن تكون الأسماء التي تختارها للشخصيات أجنبية، وأن يكون مسرح الأحداث في الخارج، ويستحسن أن يكون في إحدى البلاد غير المألوفة للمصريين، وستجد أوصافها في قصصنا المترجمة، ولا داعي طبعا لأن تذكر اسم من تترجم عنه أو اللغة التي تترجم منها؛ فهذا لا داعي له لأننا لن نذكره في المجلة، ولن نذكر اسمك بطبيعة الحال ولكننا سندفع لك أجر مؤلف لا أجر مترجم.»
وبعد محاورة قصيرة غادر الشاب الدار الصحفية، ولم يدخلها إلا بعد أعوام طويلة تقترب (حسبما يقول) من العشرين، ولكنه ورث من ذلك اليوم كراهية لكل ما هو مترجم، ونشأ في قلبه عداء لما أسمته المحررة بحق «أسلوب الترجمة»، واستمر هو في محاكاة أسلوب الدكتور هيكل حتى اكتشف أنه لا يستطيع محاكاة أساليب الكتاب، بل ولا يستطيع أن يتخذ من الكتابة هواية خاصة، فهجرها واقتصر على القراءة، ولم ينس أن يتجنب كل ما كتب عليه «قصة مترجمة».
عادت إلى ذهني هذه القصة الحقيقية - وليعذرني القارئ إن أنا تعمدت إخفاء الأسماء وحرفت بعض التفاصيل؛ إمعانا في الإخفاء - عندما رأيت بعض «المترجمات» التي تنشرها بعض دور النشر في دولة عربية شقيقة بعضها غفل من اسم المترجم، وبعضها عليه اسم زائف! وراعني إقبال الشباب في مصر على اقتناء هذه وتلك - وبعضها ذو ثمن باهظ - دون اكتراث لاسم المؤلف أو المترجم! وعجبت للسر في هذا الإقبال، بينما تحفل رفوف المكتبة العربية بقصص ومسرحيات لمؤلفين مصريين وغير مصريين وأغلبها بديع رفيع - هل لحقت الأدب لعنة «المستورد» - أي سحر السلعة المستوردة وما توحي به من جودة؟
ولكن الذي أعاد القصة إلى الحياة حقا هو ما أسمته المحررة «أسلوب الترجمة» أي أسلوب الرطانة الذي كان يحذرنا منه أستاذنا المرحوم الدكتور أمين روفائيل (والذي لا يذكره الدكتور شكري عياد بطبيعة الحال في كتابيه الأخيرين عن الأسلوب). فما هو هذا الأسلوب؟ إنه مستوى لغوي محدود الكلمات والعبارات، غريب الأبنية والهياكل، يوحي بالأصل الأجنبي ولا يرقى إليه، ويزخر بالعبارات التي أسأنا ترجمتها في بداية عهدنا بالترجمة، فأصبحت علما على اللكنة مثل حسن، حسنا، يا للسماء! وما إليها، إلى جانب ما أسميه بالكنكنة - كان يمكن أن يكون كذلك، ولو لم يكن كذلك - والعجيب أن ينزع الكثيرون من الطامحين إلى كتابة القصة القصيرة إلى استخدام هذا الأسلوب؛ ظنا منهم بأنه يوحي بالحداثة أو المودرنية، أو عجزا منهم عن استيعاب الأساليب العربية الأصيلة، والأدهى أن تتسرب سمات هذا الأسلوب العجيب إلى اللغة العربية المستخدمة في شتى المجالات (أي دون اقتصار على لغة الصحافة)، بل وأن تصبح من سمات اللغة المستخدمة في الحديث اليومي دون أن يكون لدى المتحدث علم باللغة الأجنبية التي قيست عليها العبارات والكلمات الدخيلة.
وكثيرا ما أتساءل: هل هذا من تأثير ترجمات الأفلام التي يراها المتفرج اليوم بلا انقطاع على الشاشة الصغيرة؟ (وهي ترجمات لا داعي للتعليق على رداءتها وانحطاط أسلوبها وابتعادها عن الأصل) أم هو من تأثير الترجمات الزائفة التي تلقي بها في أسواقنا دور النشر في ذلك البلد الشقيق؟ أم هو من تأثير الانغماس في العامية في أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية؟ بل قد يكون ذلك نتيجة لاتجاه المبتدئين في صناعة الصحافة إلى الكتابة الإبداعية، دون أن يكون لديهم الاستعداد اللغوي الكافي، ثم انغماسهم فيها مع ما يلقونه من تشجيع في النشر والتنويه بأعمالهم! وربما تكون هذه العوامل مجتمعة من أسباب انتشار أسلوب الترجمة. ولكنني على يقين من أن المستورد في هذه الحالة لا يداني المحلي في أي مظهر من مظاهره.
احتراف الأدب
هل الأدب حرفة؟ أي هل يستطيع إنسان أن يعتمد على الكتابة الإبداعية في كسب عيشه؟ وأقصد بالاعتماد عليها عدم الانخراط في السلك الوظيفي أيا كان نوع الوظيفة - ولو كانت تدريس الأدب نفسه؟
حاولت الإجابة على السؤال أول الأمر من وجهة نظر تاريخية، فبرزت أهم مشكلة تواجه الكاتب أو المفكر، وهي مشكلة تحديد معنى كسب العيش. ومن قبلها بطبيعة الحال معنى الكتابة الإبداعية - رغم الوضوح الخادع للمصطلح الأخير. فمفهوم الإبداع متغير، وهو لا يقتصر على كتابة الأنواع المختلفة من الأدب الخيالي (القصة القصيرة، الرواية، الشعر، المسرح)، بل يتعداه اليوم إلى النقد - فالنقد يعتبر فرعا أساسيا من فروع الأدب - وهو يقتضي في رأي المحدثين طاقة إبداعية نستدل عليها من التفاعل الوجداني والفكري في آن واحد مع العمل الأدبي الذي يتعرض له الناقد، ومن قدرة الناقد المبدع على الربط بين مظاهر العمل الأدبي المحدد وبين غيره مما يزامنه أو مما سبقه، وكذلك بينه وبين الأطر الفنية والفكرية التي ينبع منها ويصب فيها؛ إما في عصره، أو في الأدب بصفة عامة، باعتباره كيانا مطلقا، كما نستدل عليها من قدرة الناقد على بلورة كل ما يخرج به في هذا الصدد في لغة موجهة إلى جمهور بعينه، وتهدف إلى إحداث تأثير معين، مهما كانت درجة الموضوعية التي يلتزمها.
أما كسب العيش فمفهوم جد عسير؛ فهو يتغير في العصر الواحد، بل وفي البلد الواحد، بل ويكاد يتغير من أديب إلى أديب. أما عبر العصور فهو يتغير تبعا لتغير المعايير الاقتصادية السائدة، وتبعا لمفهوم الضروريات والكماليات؛ فما كان كماليا بالأمس قد يصبح ضروريا اليوم بسبب إيقاع الحياة اللاهث (كوسائل الانتقال مثلا)، وما لم يكن معروفا بالأمس قد يصبح ضروريا في الغد (مثل وسائل العلاج الحديثة ذات التكاليف الباهظة)، وما لم يكن يتتبع نفقات كبرى بالأمس قد أصبح يبتلي الإنسان بأنواع الهموم (مثل نفقات التعليم والكساء للأسرة).
ولذلك فإن شاعرا كبيرا مثل «وليم وردزورث» استطاع أن يعيش على دخل محدود من استثمار رأسمال قدره تسعمائة جنيه (كان يدر عليه ما يقرب من مائة وثمانية جنيهات في العام في أوائل القرن التاسع عشر)، وكان يعيش هو وأخته أول الأمر في منزل ريفي صغير ذي حديقة لا بأس بها (أسماه
Dove Cottage )، ولم ينتقل منه عندما تزوج وأنجب ولحقت بالأسرة «سارة» أخت زوجته لتعيش معهم. كان طموحه الذي لم يفارقه منذ صباه هو أن يكون شاعرا متفرغا لكتابة الشعر، وألا يلتحق بوظيفة ما طول عمره، فكان يقضي وقته في القراءة (وكان شعراؤه المفضلون هم شيكسبير وسبنسر وميلتون)، وإتقان اللغات الأجنبية والترجمة منها، فترجم هجائيات «جوفينال» عن اللاتينية وغزليات «كاتولوس» أيضا عن اللاتينية ومقطوعات «مايكل أنجلو» عن الإيطالية القديمة وما إلى ذلك، كما كان يكتب حين يأتيه شيطان الشعر، وكان أكثر ما يأتيه وسط الحقول، ولم تكن تزيد متطلبات الأسرة عن الطعام الذي كانت تتولاه أخته «دوروثي» ابتداء من بذر الحب إلى جني ثمار البازلاء والبطاطس في الحديقة، وابتداء من العجن إلى إنضاج الخبز في الفرن المنزلي.
والمطلع على حياة هذا الشاعر يعجب كيف استطاع أن يحد من حاجاته الاقتصادية، فلم يكن يشغل فكره إلا الأحذية الجلدية المتينة التي تعينه على السير مسافات طويلة، وكثيرا ما تلمح في ثنايا رسائله واليوميات التي كتبتها أخته اهتماما بالغا. وقد أجرى أحد الدارسين حسابا استخلص منه أنه عندما بلغ الستين كان قد سار على قدميه مسافة تزيد على 180000 ميل!
ولكن هذا الشاعر لم يلبث - بعد أن حقق لنفسه ذيوعا عريضا - أن قبل وظيفة شرفية (أو اسمية) في مصلحة الضرائب، بل قبل أن يكون شاعر البلاط وهو المنصب الذي كان قد شغله «ألكسندر بوب» شيخ الكلاسيكيين و«روبرت ساوذي » الرومانسي الأشهر من قبل وردزورث! بل إنه قد تحول في شعره من الثورية المتطرفة إلى الرجعية الكاملة، وكتب سلسلة طويلة من السوناتات السقيمة العقيمة عن أحد الأنهار وسلسلة أخرى بعنوان السوناتات الكنسية! وسرعان ما هاجمه شعراء القرن التاسع عشر لهذا التحول وتلك الردة، فكتب «براوننج» قصيدته المشهورة في هجائه بعنوان «القائد المفقود»، وهو يعني في الحقيقة الذي ضل الطريق، مثلما كتب الشاعر العظيم اللورد بايرون هجاءه المعروف لشاعر البلاط الأسبق «روبرت ساوذي»!
ولكن احتراف الأدب وحياة التقشف ظلا مثلا يطمح إليه الأدباء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحاوله بعض صغار الفنانين والشعراء لا يذكر منهم اليوم سوى «دانتي غبريال روزني» وجماعته، بينما كان «ماثيو أرنولد» مثلا - شاعر العصر الفيكتوري وناقده العظيم - مفتشا في وزارة التربية والتعليم، وأما في القرن العشرين فقد انهار هذا المثل تماما ولم يعد من الممكن ولا من المستحسن أن يتفرغ أديب للأدب؛ إذ لم يعد مفهوم الأدب مقصورا على إبداع العمل الأدبي، ولم تعد متطلباته مقصورة على إحكام الوسيلة اللغوية، بعد أن تعقدت أنماط الحياة، وأصبح على الأديب أن يشغل نفسه بدراسات وقراءات غير أدبية، بل وباهتمامات فكرية تتخطى حدود العصر، ولم يعد في إمكان الناقد أن يجهل العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والنفسية! ولقد انتفت تماما فكرة الناقد الفني البحت - أي الذي يقتصر على نقد الشكل - إذ لم يعد الشكل منفصلا عن المضمون، وما تشعب الأشكال الفنية وتعقيدها إلا انعكاس لتشعب المضمون وتعقيده! كما لم يعد الأديب قادرا على احتراف الأدب - حتى ولو كان يدر عليه ما يكفي لكسب عيشه ويزيد!
الفنان والتعليم
من المفهومات الخاطئة التي شاعت فأوشكت أن تصبح لشيوعها صحيحة؛ مفهوم المقابلة بين الفن والعلم، أي تصور الكثيرين أن الفنان لا حاجة له بالدراسة؛ باعتبار أن الدراسة عمل العلماء لا الفنانين أو الأدباء. وينطبق هذا بصفة خاصة على التفرقة بين الناقد والأديب؛ إذ كثيرا ما يقال إن الأول عالم والثاني مبدع؛ ومن ثم فعلى الأول أن يدرس ويعلم، بينما لا يحتاج الثاني إلا إلى التأمل، ثم استنطاق موهبته الإبداعية التي لا تحتاج إلى عون من ثمار قرائح البشر؛ فهي ربانية يولد بها المرء ولا يكتسبها.
ويستند هذا المفهوم إلى خطأين في التفكير؛ أولهما الخطأ في فهم معنى الموهبة وعلاقتها بالإبداع، والثاني هو الخطأ في فهم طبيعة عمل الفنان أو وظيفته. أما الأول فإنه لم يصحح إلا منذ عهد قريب، وقد كان محوطا بالألغاز قرونا وقرونا - وذلك بعد نهضة علم النفس الحديث وتشعبه، بعد أن كان مقصورا في فترة ما على مجالات بعينها (أهمها علم النفس المرضي)، فأصبحنا ندرك المزيد عن دقائق عملية الإبداع وعملية التذوق الفني - ونحن مدينون في هذا الصدد لرائد هذه الأبحاث في العالم العربي أستاذنا الدكتور مصطفى سويف، وأصبحنا نعرف أن المادة التي يشكلها الفنان - أو ما أسميته من قبل بالواقع - لا تقتصر على تجارب الحياة من أحداث وأحاديث وصور ورؤى، بل تتضمن تشربا لروح العصر وهو ما لا يتحقق إلا بالتعليم، أي بالقراءة المتصلة والاستيعاب المتواصل لعلوم العصر. وإذا كنت قد كررت الإشارة إلى العصر هنا فذلك لأن مفهوم العلم أو العلوم يختلف من عصر إلى عصر؛ فقد تسود العلوم الدينية في عصر ما، وقد تسود العلوم الفلسفية أو العلوم الطبيعية، وهلم جرا؛ ولذلك فالفنان أو الأديب ينحدر من تراث أدبي أو فني صرف، ولكنه ينتمي للماضي الأدبي والحاضر الفكري معا.
وتحضرني كلمات ابن رشيق في كتابه «العمدة» عن اتساع نطاق المادة التي يتناولها الشاعر العربي مع اتساع نطاق المعارف العربية نتيجة للفتوحات الإسلامية، فاطلاع العرب على الثقافات الأجنبية واتصالاتهم بالحضارات القديمة وهو يطلق على هذه «المادة» لفظ «المعاني» وهو يعني أحيانا الصور الفنية - كما بينت ذلك في كتابي «النقد التحليلي» (1963م) - ويعني به «الأفكار» التي يتناولها الشاعر أحيانا أخرى.
وهذه المعاني أو الأفكار عادة ما تكون وليدة العصر الذي يعيش فيه الفنان. وسواء قبلنا آراء قطب الذاتية في هذا الصدد، وهو الشاعر الإنجليزي «وليم وردزورث»، أو قطب الموضوعية ت. س. إليوت؛ فإننا لا بد أن نواجه في كل مرة هذه الحقيقة الساطعة، وهي أن المادة الفنية لا يمكن أن تقتصر على التراث، بل لا بد أن تتضمن علوم العصر. وقد يكون هذا ثمرة لجهد فردي أي لتحصيل فردي من جانب الفنان؛ فالشاعر الرومانسي «شلي» كان يقرأ منذ بزوغ الفجر حتى منتصف الليل باللغات اليونانية واللاتينية والإيطالية والإسبانية والفرنسية، ويذكر من ترجموا له أنه كان يغفو من شدة الإرهاق وحاجته إلى النوم أثناء النهار، وأنه كان دائما يحمل كتابا معه يختلس القراءة فيه حتى ولو كان في حفلة أو مأدبة (وقد لا يعلم الكثيرون أن ت. س. إليوت حاصل على درجة الدكتوراه؛ فهي المعادل الحديث لنوع من التعليم القديم)؛ أقول: قد تكون هذه الإحاطة ثمرة جهد فردي، وقد تكون نتيجة لروح العصر التي تتمثل في الجهد الجماعي للمفكرين (من علماء وأدباء)، وخير من يعبر عنها هو الناقد.
وقد تنبه إلى هذه الحقيقة الناقد الإنجليزي والشاعر «ماثيو أرنولد» حين قارن بين امتياز الشعراء، لا على أساس الشكل وحده، بل على أساس ثراء المادة الفكرية، وقد هداه بحثه إلى أن النقاد هم الذين يوفرون هذه المادة للأديب، فكان يقول: إن على الناقد أن يوجد تيارا من الأفكار الحديثة الصائبة بحيث يجد الفنان نفسه في إطار يضمن لعلمه العمق ويكتب له البقاء، وكان يضرب المثل لهذا الشاعر الألماني العظيم «جوته». وقياسا على هذا نجد أن «روح العصر» (وكان الناقد الإنجليزي وليم هازليت أول من ابتكر هذا التعبير) يمكن أن تفسر لنا طبيعة المادة التي يتناولها الفنان في عمله.
أما الخطأ الثاني فهو يتعلق بطبيعة عمل الفنان - وهذا أيضا لم يصحح إلا منذ عهد قريب - إذ كان يظن أنه مصور وحسب أوانه مجرد مرآة تعكس حياة الناس (في مجتمعه مثلا) أو حياة الطبيعة؛ ومن ثم كان النقاد يركزون في دراستهم على جوانب «المهارة في المحاكاة» ومدى صدق التصوير، وقد كان للشاعر الإنجليزي «كولريدج» - وهو أبو النقد الحديث - فضل تحرير الأذهان من هذا الخطأ الفادح حين أسهب في «السيرة الأدبية» في الحديث عن الخيال الإبداعي وعمل المخيلة الإبداعية (وأنا أستخدم هنا المصطلح الذي أتى به ابن خلدون قبل كولريدج بما يزيد على أربعة قرون).
وبفضل هذا المفهوم أصبح الجميع يدركون أن عمل الفنان يتمثل في إعادة تشكيل الواقع لا تصويره، وأن جهد التفكيك والتحليل لا ينفصل عن جهد التجميع والتشكيل؛ ولهذا لا بد للذهن من أن يحكم فن التفكير التحليلي الذي لا يأتي إلا بالدراسة واستيعاب المنهج العلمي الحديث.
ولقد قيل قديما إن كل فنان يضمر في داخله ناقدا - يتحكم في اختيار المادة وتحديد الشكل، بل ويصدر أحكام القيمة. ولذلك كان أفضل الفنانين هم أفضل النقاد دائما - وأضيف إن أفضل النقاد مبدعون - فملكة الإبداع تتضمن جهدا مركبا لا غنى عنه للناقد والفنان جميعا، ولا غنى لأيهما عن معارف العصر، وهو ما لا يتأتى بالتعليم والدراسة.
خرافة الكمال
لم يتردد الشاعر المبتدئ في الاعتراض عندما أبدى له أحد زملائه نقدا، وكان اعتراضه عنيفا وحاسما؛ فهو يستند إلى ما شاع في الخمسينيات - نقلا عن مدرسة النقد الحديثة الأوروبية الأمريكية - من أن العمل الفني كائن مستقل له قوانينه الخاصة، وأنه كامل في ذاته، لا يحتمل الزيادة ولا النقصان، ولا يمكن ترجمته، ولا يمكن نقله من صورة إلى صورة، أي من شكل أو وسيط إلى شكل أو وسيط آخر (كالرواية والمسرحية والقصيدة وما إليها)، وإلا مسخ وشوه وخمد، ولم يعد - باختصار - عملا فنيا.
وتعجب زميله الذي يكتب الشعر أيضا من هذا العنف غير المتوقع؛ فقد كان اعتراضه يسيرا، منطقيا إلى أبعد الحدود، بل لا يعدو أن يكون اقتراحا بتقسيم القصيدة إلى قصيدتين؛ لأنها تنقسم - في صورتها الحالية - إلى لحظتين تمثلان رؤيتين لا يجمع بينهما تماثل أو تناقض، ولا يشدهما تقارب أو تقابل، ولا يتصلان بتناظر أو تضاد، ولا يؤدي أحدهما إلى الآخر ولا ينبع منه، ولا يكاد يربط بينهما سوى ما يربط بين القصائد المتفرقة في ديوان واحد!
وكنت أتابع المناقشة ولكنني لم أتعجب؛ إذ وجدتني في موقف الزميل الناقد رغما عني ذات يوم وعام 1986م يؤذن بالأفول، حين أبديت نفس الملاحظة لقصيدة في ديوان الشاعرة وفاء وجدي، واعترض أحد الزملاء على حق الناقد في التعديل أو اقتراح ما يمكن أن يغير من شكل القصيدة. باعتبار العمل الفني كيانا مطلقا لا يجوز المساس به. وطفقت أتأمل هذا الموقف الناشئ من إساءة فهم المذهب الفني الحديث؛ فلا شك أن النقد الحديث لا يقصد القول بكمال أي عمل فني، ولكن ما هي أسباب سوء الفهم؟
السبب الأول في رأيي هو معنى اصطلاح «العمل الفني» بداية؛ فنحن نقنع بالشكل الخارجي للعمل في تحديد انتمائه إلى أسرة الفن - فما دام منظوما ومقفى (أيا كان نوع النظم والقافية)، ويقدم رؤية ما؛ فهو قصيدة، وما دام منثورا ويحكي وقائع وبه شخصيات وأحداث؛ فهو قصة ورواية، وما دام مكتوبا بالحوار وبه مواقف وما إلى ذلك؛ فهو مسرحية. ونحن نسرع في الحكم باستقلاله وكماله حين نقرر أنه عمل فني! وما أبعد هذا كله عما يعنيه النقد الحديث!
إن النقد الحديث يقول في الحقيقة إن «العمل الفني» يطمح إلى الكمال؛ أي إنه في صورته المثالية كامل، ولكنه لا يرقى إلى هذه الصورة المثالية أبدا؛ فهو مرتبط بنقصان البشر، وما هو في الحقيقة إلا سجل مجسد لمشاعر وأفكار أبعد ما تكون عن الكمال شكلا ومضمونا، وكلنا يذكر قول العماد الأصفهاني: «إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.»
ويعرف الكثيرون دهشة الشاعر الإنجليزي «جون كيتس» حين اطلع على مسودات «الفردوس المفقود» للشاعر الأعظم «جون ميلتون»، فأصابته صدمة أوقفته عن الكتابة فترة؛ إذ شاهد بعيني رأسه التعديلات التي أملاها ميلتون على بنائه للنص العظيم، وقد كان يتصور أن شعر ميلتون لجماله وإحكامه كامل يقترب من المثال؛ أي لا يقبل التعديل والتبديل، وأنه من ثم لا بد أن يخرج من فم الشاعر في صورة كاملة!
ومن هذه الزاوية نرى أن كل «عمل فني» هو - إلى حد ما - «مشروع» عمل فني، وأنه لا يتخذ الصورة النهائية - مثل مشروعات القرارات والقوانين - إلا بعد الموافقة عليه، سواء كانت بإجماع القراء والنقاد في زمن ما ومكان ما، أو بغالبية الأصوات، أي باتفاق جمهور القراء ومعظم النقاد، أو بتزكية بعض النقاد المعاصرين له ممن يتمتعون بحساسية مرهفة ربما اختلفت عن حساسية العصر. وحتى عندما يقبل العمل الفني بالصورة التي أسميتها «الصورة النهائية» فإن ذلك لا يكون إيذانا بالكمال أبدا! فالصورة المكتملة ليست كاملة؛ لأنها تستند إلى معايير ما تفتأ تختلف من مكان إلى مكان ومن عصر إلى عصر، ومن جمهور إلى جمهور في نفس الزمان والمكان!
أما السبب الثاني فهو مفهومنا للنقد وعمل الناقد. لقد تجاوزنا مرحلة اعتبار النقد عملا طفيليا يمارسه من لا يستطيع الكتابة الإبداعية أو اعتبار النقد نشاطا ذهنيا «غير فني» يقتصر على تبيان المثالب (وعندما تجاوزنا المرحلة الأخيرة أمعنا في التجاوز حتى أصبح الكتاب، وبخاصة من يبدءون هذا الطريق الشاق، يتوقعون المديح والثناء، ولا يقبلون تبيان العيوب والنقائص). ولكن الأخطر من ذلك هو تصور نقادنا وجود معايير مطلقة للأحكام النقدية - وهذا خطأ يداني تصور وجود معايير مطلقة للأشكال الفنية. وإذا كان صحيحا أن الناقد يهتدي في استنباط الأحكام بالتراث الفني؛ فهو لا يخضع للأشكال السائدة في التراث طول الوقت؛ لأن هذه الأشكال وما يمليها من أفكار ما تفتأ تتغير. والناقد ذو طاقة إبداعية دفينة، تتجلى في إدراك الخط الذي تسير فيه الأشكال والأفكار تحولا وتبدلا. وفي إقامة العلائق الباطنة والظاهرة بين الأعمال الفنية في عصر ما أو عند فنان بعينه، والأهم من هذا كله قدرته على اكتشاف النمط الفني المحدد الذي يختاره الفنان؛ ومن ثم قدرته على اكتشاف أماكن كسر هذا النمط بفضل طاقة الاستشفاف لديه - وهي طاقة تستند إلى موهبة فطرية صقلتها الدراسة وهذبها طول قراءته للأعمال الأدبية وطول استقرائها.
ولذلك فعندما يتعرض ناقد مرهف لعمل فني ويقترح تعديلا ما ، فإنه يفعل ذلك نشدانا للكمال - مصيبا كان أم مخطئا - أي إنه يشارك الفنان موقفه وجهده من زاوية جديدة، وإذا كثر عدد النقاد كثر عدد الزوايا وتعددت الوجهات، واستطاع الفنان أن يرى ما لا يستطيع أن يراه وحده.
عاد إلى الطيور
عندما تهب أولى نسمات الخريف الباردة، تقلع أسراب الطيور الأوروبية من غابات «بوهيميا» وما حولها، مهاجرة إلى دفء أفريقيا، وتتوقف قليلا عند ساحل البحر المتوسط في انتظار البدر، وعندما يكتمل البدر في ليلة من ليالي سبتمبر، تعبر الأسراب البحر لتصل مع الفجر إلى ساحل مصر، وعيونها تبحث عن السواد في الصحراء، أي عن البقاع الخضراء التي تزدان في ذلك الفصل بثمرات ناضجة، تحبها طيور أوروبا وتعشق رحيقها، وما تلبث أن تهبط على كل غصن وفنن، حذرة خائفة في الغربة، وإن أدفأ قلوبها اقتراب موسم التزاوج إذ سترتع في غابات السودان وتنشد أناشيد الزفاف، قبل أن تعود في مايو إلى أوروبا إلى أعشاش جديدة تبنيها إلى جوار أعشاش الآباء.
وقبل شروق الشمس في الأيام الأولى من سبتمبر ينتظر الصيادون السمان بشباكهم على ساحل رشيد، وينتظر البعض الآخر من هواة الصيد هذا الفيض من الطيور، بينما يتجول رجل مع ابنه في غبش الإصباح ومعهما منظار مقرب، يحاولان أن يرصدا هذه الطيور في دكنة السحر، ويشرح الأب لابنه وهما يسيران وسط حقول السمسم والذرة التي تتوسطها أشجار نخيل باسقة تبتعد عن بعضها البعض بما لا يزيد على ثمانية أمتار، يشرح الأب لابنه الذي ما زال بين النوم واليقظة رصد الطيور وتمييز أنواعها من ظلها والضوء من خلفها في السماء؛ أي بطريقة «السلويت» وما تنقضي الساعة حتى يكونا قد رصدا عددا من الطيور وتحدثا عن خصائصها؛ فهذا هو القمري - من فصيلة الحمائم - الحذر الخائف أبدا، يقصد أعلى النخيل ويقبع على السعف وسط الخوص ليضلل الطالب، ولكنه يهب طائرا إن اقترب ظل البشر! وها هو الضوع واسمه هنا «أبو النوم» لأنه ينام على قاعدة «الجريدة» أي على الكرنوفة (أو القحف) طوال النهار فاتحا فاه لتدخله الحشرات! وقد عرفه الشاعر العربي وعجب له قائلا:
ونام على مهد الكرانيف ضوع
قرير فؤاد ما تخال له هما!
وها هو الصفير، واسمه هنا الشاويش؛ لأنه ذو ريش أصفر فاقع لونه مثل بزة الجاويش الرسمية! وها هو الوقواق، ويسمونه هنا «السقساق» الذي يضع بيضه في عش غيره ولا يحتضن أفراخه أبدا!
ثم تشرق الشمس وتصحو الطيور من وعثاء الرحلة وتبدأ في البحث عن الطعام، فهذا موسم الفواكه أيضا؛ موسم البلح والمانجو والقشطة الخضراء، «وإذن فوجه منظارك المقرب إلى الفاكهة الناضجة تجد تلك الطيور تتناول طعام الإفطار!»
وعندما تسطع الشمس في السماء ويقبل الضحى، تهدأ حركة الطيور إلا من قرناص ينشد جعرانا أو دودة، أو من دقناش يزهو بألوانه، وسائر الطيور الصغرى كالقبرة والوروار والخضيري التي تملأ الجو شقشقة وشدوا متصلا حتى الهاجرة.
وكبر الابن وكبرت معه الأشجار التي كان والده قد غرسها في فدانين اقتطعهما من قلب الصحراء وأحالهما جنة وارفة الظلال حتى تجتذب الطيور الزائرة، واعتاد الصبي منظر الخضرة وسط الرمال، واعتاد انتظار طيور أوروبا (ويسمونها في رشيد «طيور النيل»؛ لأنها تأتي مع فيضان النيل)، وأحب تمييز أصواتها وألوانها، واعتاد رؤية والده عاكفا على كتب ضخمة بالإنجليزية حافلة بصور الطيور الملونة المطبوعة على ورق سميك لامع، ينقل منها ملاحظات، مثلما اعتاد رؤيته منكبا على كتب الأدب العربي القديم ينقل منها مختارات في كراسات كثيرة، يتحف بها أبناءه من وقت لآخر، أو متحدثا عن الطيور التي عرفها العرب، أو منشدا ما قيل فيها من شعر.
ولم يستطع الصبي الذي شب عن الطوق أن يدرك العلاقة بين الأدب العربي والطيور؛ فقد كان ذلك من ألغاز الطفولة التي تقبلها دون تساؤل مثلما تقبل أخبار الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات! لكنه عندما تخصص في الأدب هو الآخر، لم يستطع أن يتفادى السؤال، خصوصا بعد أن بهره الشعر الرومانسي الإنجليزي الحافل بالطيور، وقرأ عن نظرية «النماذج الفطرية»
ARCHETYPES
التي أتى بها العالم النفسي الأشهر «يونج»، ومؤداها أن ثمة صورا ورموزا يرثها الإنسان من ضمير البشرية الواحد؛ فهو يعرفها بالفطرة ويحس معناها دون تلقين، ويستوحي قوتها دون مرشد أو هاد.
لقد ارتبطت الطيور في أعماق البشر بنزعة الحرية والانطلاق؛ نزعة التحرر من الالتصاق بالأرض، فهي سابحة في جو السماء، تبصر البشر من عل وعيونهم تتطلع إليها من الأرض، وهي تنذرهم بالغيوم أو الجو الصحو، وتتهادى أو تهوي، ترفرف أو تدف، تحلق أو تحوم، فيرون فيها رموزا لما يدف بين جوانحهم ولما يحلق في خيالهم! ولكنها قبل هذا وذاك رمز للغز الأكبر؛ لغز الروح.
لقد صور الفراعنة الروح في صورة طائر، واستعار القرآن العظيم صورة الطائر في معنى مشابه
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ، واقتبس هذا المعنى الشاعر الرومانسي الكبير «كولريدج» عندما جعل الملاحين يربطون طائر القادوس الذي قتله الملاح الهرم في عنقه (بدلا من قلادة الصليب) إيحاء بتحمله الوزر وحده! ولكن السمة الأساسية التي شدت الشعراء إلى الطيور هي صوتها الذي يأتي من السماء! والشعر الرومانسي يزخر بالطيور التي نسمعها ولا نراها! وهذا هو ما جعل العقاد يرى في الكروان هذا اللغز:
هل يسمعون سوى صدى الكروان
صوتا يرفرف في الهزيع الثاني
إن للطيور سحرا يرتبط بالتجريد؛ أي باستحالتها أصواتا صافية مجردة، وهي أصوات ترتبط بأصوات السماء، مثلما يقول «شلي» عن القبرة، ومثلما يقول «كيتس» عن البلبل، ومثلما يقول «وردزورث» عن الوقواق! والصوت في ضمير البشرية كلام - والكلمة طاقة خلاقة، بل هي طاقة الخلق نفسها.
كان الصبي يعرف أن أباه يحب الطيور لألوانها وجمالها وطباعها وكان دائما ما يتمنى أن يرى كتابه «طيور مصر» مطبوعا في أبهى حلة، حتى يحاكي نظراءه من كتب العالم، ولكنه لم يكن يعرف سر تلك العلاقة اللغزية إلا حين مات والده وعاد به إلى مسقط رأسه رشيد؛ ليعود الجسد إلى الرمال، والكتاب بعد في المطبعة، وتعود الروح إلى الطيور.
عن البراءة والتجربة
منذ مائتي عام كاملة أصدر رسام مغمور يعيش في أحد أزقة لندن مجموعة من القصائد القصيرة التي تختلف كل الاختلاف عما عهده القرن الثامن عشر من فن الصنعة وحذق البناء، وتستخدم لغة ساذجة مما يدور على ألسنة البسطاء والأطفال، وأطلق على الديوان اسم «أناشيد البراءة»، وربما كان هذا هو ما أوحى للدكتور مصطفى محمود أن يصدر كتابا يحمل نفس العنوان منذ سنوات قليلة.
كان عام 1789م عاما حافلا بالنسبة لذلك الرسام - واسمه «وليام بليك» - كما كان حافلا بالأحداث السياسية في أوروبا؛ إذ شهد اندلاع الثورة الفرنسية، وشهد تباشير الصراع الذي غير وجه الحياة في أوروبا، كان «وليام بليك» آنذاك في الثانية والثلاثين، وكان يعمل مع زوجته في إعداد اللوحات الخاصة بكتب الأدباء بطريقة بدائية؛ إذ كان يرسمها بطريقة الحفر على الخشب، ثم يعد منها لوحات زنكوغرافية يلون كلا منها بنفسه؛ ولذلك فلم يلتفت النقاد إلى ذلك الديوان الأول، وظل «أناشيد البراءة» كتابا مطويا لا يلتفت إليه أحد حتى أصدر «بليك» الديوان المكمل له عام 1794م وأسماه «أناشيد التجربة»، وفيما بين هذا وذاك أصدر ذلك الشاعر الرسام عدة دواوين وعدة كتب؛ أهمها «سفر ثل، 1789م» و«زواج الجنة والجحيم، 1790م» و«أبواب الفردوس، ورؤى بنات ألبيون، 1793م» مما يطلق عليه النقاد كتب النبوءات.
وفي عام 1984م أصدر «لاريسي» أحد كبار نقاد الأدب الإنجليزي كتابا عن «وليام بليك» يدحض كل ما ذهب إليه النقاد في أوروبا وأمريكا منذ الخمسينيات عن هذا الشاعر؛ من أنه صوفي النزعة منفصل عن مجتمعه، لا علاقة له بما يدور في دنيانا، وقد ثبت بصره على ما يدور في عالم الروح أو في العالم الخفي الذي يربط وجودنا على الأرض بوجودنا في عالم الخلود؛ إذ ذهب «لاريسي» إلى أن مفهوم البراءة والتجربة ذو دلالة اجتماعية عميقة، وإلى أن «بليك» كان شاعرا يعيش هذه الحياة بكل أبعادها وأنه كان يعي تماما أوجه الظلم الاجتماعي والقهر الذي كان يسود المجتمع البريطاني في ظل النظام السياسي القائم؛ ومن ثم فهو يخرج تفسيرا جديدا يتفق مع مذهب المشرف على سلسلة الكتب التي تتضمن هذا الكتاب وهو الناقد النابه «تيري إيجلتون» وفحواه أن الفنان إذا كان صادقا فهو مرتبط بقضايا عصره وهو يسهم في تعميق الوعي بها، حتى لو لم يكن يهدف إلى ذلك وحتى لو لم يعلن صراحة عن مقصده.
أما التفسير الجديد للبراءة ومعنى البراءة بصفة عامة، فهو عدم إدراك وجود الشر أو عدم قبول وجوده، وما الشر في أبسط صوره إلا معاداة الحياة - وألوان هذه المعاداة كثيرة مثل إحداث الضرر والإيذاء والإساءة التي قد تتخذ صورا مادية صريحة؛ كانتهاك قوانين الإنسانية وثوابتها، بالسرقة والقتل والاغتصاب وما إلى ذلك، وقد تتخذ صورا نفسية؛ كالحقد والكراهية والحسد والبغضاء، وقد تكون المعاداة عداء للنماء والازدهار والخير إما بدافع الغيرة والحسد أو بدافع النقمة والتلذذ بالإيذاء (وهو الشر الصافي).
وأما معنى التجربة فهو عكس ذلك، أي إدراك وجود الشر وتقبل وجوده باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر تكوين النفس الإنسانية، أي باعتبار دوافعه عناصر غريزية مركبة في الإنسان لا يسلم منها أحد ولا تخلو منها أي نفس بشرية، وفي هذا الإطار يعيد «لاريسي» تعريف موقف «بليك» من شرور عصره، كما يفتح لنا بابا جديدا نفهم منه كيف استطاع الأدب الحديث أن يعيد تشكيل العلاقة بين البراءة والتجربة بحيث لم يعد ثمة من يمكن أن يكون بريئا كامل البراءة أو مجربا كامل التجربة، بل أصبح الأدب يصور الإنسان باعتباره كائنا يتمتع بقدر ما من كل منهما ويتفاوت قسطه من التجربة وفقا لما يصادفه من صور الشر.
وفي هذا الإطار أيضا تبرز لنا معان جديدة لما سبق أن قاله النقاد عن ضرورة الإحساس بالدهشة لدى الشاعر؛ فالشاعر الأصيل في دهشة دائمة؛ لأن لديه براءة دائمة! أي إنه لا يستطيع تقبل وجود الشر، ويدهش دهشة صادقة كلما صادفه أو سمع عنه! وهو أيضا يدهش لسلوك الأوغاد مهما كان علمه بانحطاطهم وخستهم؛ لأن لديه قلبا لا يتغير مهما توالت عليه التجارب، وهو يعجب من حقد الحاقدين، ولا يوطن النفس على قبوله، ويظل دائما أبدا يظن الخير بالناس مهما قيل له عنهم، ومهما كان اقتناعه المنطقي باختلاط الخير بالشر في كل نفس بشرية!
وكذلك فإن الشاعر الصادق في حيرة دائمة بين ما يعرفه (عن طريق التجربة والعقل) وبين ما يحسه (عن طريق القلب الصافي أبدا)؛ فهو نهب لصراع محموم لا يفتر إلا ليشتد ولا يخمد إلا ليتقد بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن؛ ولذلك قال النقاد قديما إن للشاعر قلب طفل لا تلغيه حكمة الشيوخ، وهو ينظر إلى الدنيا كل يوم كأنما يراها لأول مرة، فلا تستطيع العادة ولا يستطيع التكرار أن يلقي بحجاب الألفة الغليظ على بصره! فهو ينظر إلى السماء كأنما يشاهدها أول مرة وتهتز نفسه لجمال الطبيعة كلما نظر إليها، حتى ولو كان يسكن الريف وحتى لو كانت صور الطبيعة تسكن روحه ومخيلته! ولذلك فهو مدفوع دائما بالرغبة في نقل هذه الانفعالات وهذه الرؤى إلى من حوله، راجيا منهم أن يشاركوه فرحته ودهشته بجمال الكون وجمال الإنسان!
لقد كان هذا دأب الشاعر الإنجليزي «شلي» ولقد قاله صراحة في مقاله الأشهر «دفاع عن الشعر»، كما أنه يفسر إلى حد ما انقطاع الموهبة عن الشاعر الإنجليزي الرومانسي «وردزورث» عندما بلغ مرحلة التجربة ولم يعد يدهش لما يرى! وهو يفسر استمرار كبار الكتاب في الكتابة مدفوعين بدهشة البراءة وعمق الإحساس بوجود الخير، مهما أنكروا ذلك. والدهشة لمرأى الشر لدى البريء تولد إحساسا بالحزن - لا بالغضب الذي يدفع إلى القيام بعمل ما - وهو حزن ما تفتأ دفقات البراءة أن تغسله وتزيله - حتى يراه مرة أخرى - فيخرج بين هذا وذاك عملا إبداعيا عظيما.
عن الكبير والصغير
كنا في ندوة نتحدث عن أدب الأمس واليوم، وكان المذيع الذي يتولى نقل الندوة مهذبا رقيقا، فجعل يقدم كل متحدث للمستمعين متبوعا بلقب «الكبير»؛ فهذا كاتب كبير وذاك ناقد كبير وما إلى ذلك، حين مال علي أستاذنا الدكتور أحمد هيكل وهمس قائلا: «لم يكن يقال الكاتب الكبير إلا للعقاد في أيامنا!» وصمت. ولكنني انثنيت أفكر في هذا الذي قاله: ما معنى «الكبير» وما معنى انشغالنا بالألقاب والأوصاف التي لا تنتهي أحيانا؟
وكنت في ذلك الوقت منهمكا في قراءة «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي الأتابكي فتوقفت عند فصل يفصل فيه القول عن ألقاب المماليك. وراعني أنه حين تتضاءل قوة المملوك تكثر ألقابه، وكذلك الحال عندما تضعف مؤسسة ما؛ فالألقاب - والله أعلم - تعوض من تلتصق أسماؤهم بها عن ضعفهم! وعندما قصصت ذلك على صديقي الأستاذ أحمد صليحة، الذي تخصص في تاريخ مصر القديمة، قال لي إنه من الثابت تاريخيا أن الألقاب تكثر وتكبر عندما تضعف هياكل البنيان، فتجد خادم المعبد يشار إليه بألقاب كثيرة لا تتناسب مع مكانته المتواضعة، لا يكاد يطلقها أحد على كبير الكهنة في عصور قوة الدولة! وعدت أتأمل أصناف الألقاب التي أضافها المؤلفون إلى أنفسهم في صدور كتبهم، وعلى بطاقاتهم فوجدت عجبا! وجدت أن أكبر الأساتذة يذكر اسمه مجردا من اللقب الوظيفي لا زهدا فيه وإنما إدراكا منه لانعدام العلاقة بين الوظيفة وبين الكتابة الإبداعية، بينما يعمد المتوسطون (ولا شك أن بين الكبار والصغار درجة وسطا) إلى إدراج بعض الألقاب من باب التعريف، وبعض الصفات أيضا من باب التأكيد، أما الناشئة والصغار فإنهم يصرون على إدراج كل شيء - من الدرجات العلمية والمناصب إلى الجوائز التي حصلوا عليها وما إلى ذلك - حتى لكأنهم يفرضون أسماءهم فرضا على القارئ!
وتأملت الحال في البلاد التي سبقتنا في مضمار التأليف والنشر، فوجدت أنه لا فرق على الإطلاق بين الكبير والصغير من ناحية الألقاب؛ فلا يذكر اسم الكاتب إلا مجردا من كل لقب، وكذلك نفعل بطبيعة الحال عندما نشير إلى أعمالهم في ثنايا أبحاثنا باللغات الأجنبية، بل إن ذكر اللقب العلمي لناقد شهير أو أديب كبير معناه الحط من قدره! وما زلت أذكر أنني وقعت في هذا الخطأ عام 1965م عندما كتبت في إحدى فقرات رسالتي التي تقدمت بها لدرجة الماجستير من جامعة لندن: «إن الدكتور ف. ر. ليفيز يقول كذا ...» فقال لي الأستاذ المشرف مؤنبا: «أعرف أنك لا تحترم آراء ليفيز كثيرا، ولكن لا داعي لهذه الإهانة!» وتساءلت عما يعنيه بهذا فاتضح أن ليفيز وهو ناقد من أكبر نقاد إنجلترا المحدثين لم يحصل في حياته على درجة الأستاذية مطلقا وإن كان قد تمناها وسعى لها سعيا، بل وتخطاها بكتاباته التي ملأت الدنيا وأثرت في الحركة النقدية الحديثة ... وهكذا فإن في الإشارة إلى درجة الدكتوراه التي يحملها تذكيرا بعدم ظفره بالأستاذية؛ ومن ثم إهانة ضمنية له! وقس على ذلك من يذكر اسم الشاعر والناقد ت. س. إليوت مسبوقا بدرجة الدكتوراه!
ولكن ما هو المقياس الذي نطبقه عند الفصل بين الكبير والصغير؟
إن أهم معيار في رأيي هو نطاق المادة الإنسانية التي يشكلها الأديب ومدى تأثيرها في الناس وفي الأدباء من معاصريه ومن أبناء الجيل التالي له، وقد قال بمثل هذا أستاذ كبير هو «دافيد ديتشيز» الذي تتلمذت عليه زوجتي نهاد صليحة في أواخر الستينيات؛ إذ كان يفرق بين الكاتب الكبير والكاتب الصغير استنادا إلى مدى اتساع نطاق تجربة الكاتب وتنوعها وشمولها، ولو كانت صنعته الفنية تفتقر إلى الإحكام الذي تتسم به كتابات غيره، فكان يقول إن د. ه. لورانس كاتب كبير
Major
بسبب ثراء تجربته (وينطبق هذا أيضا على ديكنز مثلا)، بينما تعتبر فرجينيا وولف أقل شأنا
Minor
بسبب ضيق تجربتها رغم تفوقها من ناحية فن الصنعة على لورنس.
ولدينا معايير أخرى - بطبيعة الحال - منها مدى أصالة الكاتب وانطلاقه من إسار التقاليد الفنية التي انتهت إليه من أسلافه؛ أي مدى قدرته على أن يشق لنفسه طريقا جديدا قد يتبعه فيه الآخرون محاكين ومقلدين، وقد يضيفون إليه مبدعين خلاقين، ولكنه في كل حال سينسب إليه أولا وأخيرا مهما كثر أتباعه، ومنها مدى اتصال الكاتب بمجتمعه؛ أي مدى انتماء عمله للسياق البشري الذي يعيش فيه
Relevance ؛ ومن ثم أهمية هذا العمل للمجتمع الذي ينبثق منه؛ فهو ينبع منه وإن لم يصب فيه وحده! ويمكننا أن نضيف معايير أخرى؛ منها انتماء الكاتب للعصر الذي يعيش فيه وقدرته على تخطي حدود الزمان إلى المستقبل، وما إلى ذلك.
ولكننا في العالم العربي نقنع بمعيار واحد من هذه المعايير، ونركز عليه أشد التركيز؛ ألا وهو قدرة الكاتب على صناعة اسم له؛ أي على الشهرة التي قد يصل إليها عن طريق المعايير الأساسية أو الثانوية التي أشرت إليها، وقد يصل إليها نتيجة لظروف لم تتوافر لغيره، بل قد يصل إليها نتيجة منصب (يتيح له أن يجعل اسمه يلح على أسماع الناس) أو لقب (يفرض به سلطة أدبية أو علمية) وهو في أي الحالات ليس كبيرا إذا قيس بالمعايير السالفة!
فلنراجع تاريخنا القريب لنرى أن هذه المعايير صادقة، وأن من تسرب إلى طائفة الكبار في زمنه بسبب معايير زائفة قد طواه النسيان أو أصبح هامشا من هوامش التاريخ الأدبي، ولنتردد قليلا قبل أن نطلق على هذا أو ذاك لقب «الكاتب الكبير»!
غدا تبدأ الحياة
للشاعر الإنجليزي إدوارد ينج قصيدة يسخر فيها من التسويف الذي يدفع بعض الناس إلى انتظار الغد باعتبار أن الغد لا بد أن يكون بداية حياة جديدة. الواحد من هؤلاء يقول إنني لن أفعل كذا إلا إذا أعددت له اليوم عدته. فإذا مر اليوم وجاء الغد أصبح الغد هو اليوم. وعاش الإنسان دوما في انتظار غد لا يجيء أبدا.
وقد ألحت هذه القصيدة على ذهني عندما زار مصر مغترب ممن قضوا في أوروبا فترة طويلة، ثم سنحت له فرصة العمل في كندا ليكسب المزيد من المال. فقبلها راضيا شاكرا حظه السعيد. ثم زار مصر ليودع أخاه وأهله في بلدة إقليمية على شاطئ البحر المتوسط قبل الرحيل. والتقيت به في القاهرة ساعة أو بعض ساعة شكا لي فيها ما سوف يواجهه من هموم، فابنته الكبرى في الجامعة وهي لا تعرف من العربية إلا شذرات تعلمتها في المنزل (أو في مدرسة المغتربين). وابناه في المدرسة الإعدادية. وقد بدأ القلق يساوره على مستقبل هؤلاء الأبناء؛ فمن يا ترى سوف يتزوج ابنته إذا طالت غربته فأمعنت في الطول؟ وماذا يا ترى يكون مصير الأبناء؟
وعندما ذكرت له جادا أن مصر هي بلده، وهي أمه الرءوم. وأشرت إلى أملاكه التي تدر عليه دخلا كبيرا، وإلى عمله الذي ما زال يحتفظ به في إحدى الوزارات، مؤكدا أن الحياة في مصر يمكن أن تحقق له آماله؛ وجدته يبدأ حسبة غريبة مؤداها أنه وضع ترتيبا معينا لاستثمار مبلغ معين، وبناء عقار معين، وأن عليه أن يكسب مقدارا آخر من المال (محسوبا بآلاف الدولارات طبعا) حتى تستقيم له الأحوال، وينجح الترتيب؛ ولهذا فهو يؤجل الحياة في مصر حتى يستطيع تدبير هذا المبلغ وتكتمل له خطة النجاح.
وسافر صديقي الذي يدق أبواب الكهولة، وإن كانت الحياة الرغدة في أوروبا تخفي حقيقة سنه، والتقيت بعده بالعديد من الأصدقاء الذين عادوا في صيفنا الحالي لقضاء العطلة أو جانب منها في القاهرة، وكل منهم يحمل آمالا بأن يبدأ الحياة غدا عندما تكتمل له مشروعاته المالية، ويصل إلى طمأنينة في الرزق لا تتأتى لأقرانه، بل للسواد الأعظم من المصريين وراعني أن كلا منهم بلا استثناء يؤكد أنه لا بد عائد، وأنه لن يقضي شيخوخته في الغربة. وراعني وأدهشني أن كلا منهم مشغول بموضوع أوحد لا يبارح خياله؛ ألا وهو المال، وطرق استثماره، وأن كلا منهم حتى المثقفين من زملائي الذين جمعتني بهم أيام الدراسة لم يعد يتحدث إلا في العملات الصعبة والعملات السهلة. وفيما يتبدى في مصر من نواحي القصور التي نلمسها جميعا في حياتنا اليومية، وأن انشغالهم بالثقافة انحسر أو تلاشى، وأن فكرة العمل من أجل رسالة أو لبناء الوطن قد أصبحت ضربا من السخرية المؤلمة في أعينهم؛ فالمال هو قانون الحياة الأعظم، وهو القوة والبطش والسلطان في نظرهم، حتى حين ينكرون ذلك.
وذكرت زميلا مصريا قابلته في إدنبره عاصمة اسكتلنده عام 1970م أثناء رحلة إلى تلك الأصقاع الجميلة. وكان قد أتى من مصر ليدرس الطب. ولكنه اكتشف وسيلة لكسب المال شغلته عن دراسة الطب، فكان حاله مثل حال الأزهري الذي ذكره طه حسين في الأيام؛ قضى عشرين عاما لم يظفر بالدرجة ولم يستيئس من الظفر بها. وسمعت من أحد الأصدقاء الذين عادوا في العام الماضي من ذلك البلد أنه توسع في عمله وأصبح تاجرا للحوم يشار إليه بالبنان، ولا يعرف إلا القليل من أهل البلد علاقته بالطب، ولكنهم يعرفون أنه مصري. وهو يقول لكل من يقابله من المصريين إنه يدرس الآن للدكتوراه (بعد قرابة أربعين سنة)، وإنه لا يقبل أن يعود إلى مصر إلا بعد ظفره بالدرجة.
ونظرت إلى من عادوا مختارين من بلاد الغربة، فوجدت أنهم ينقسمون إلى قسمين بصفة عامة؛ القسم الأول هو الذي قنع بما اقتصد من مال أصلح به حاله فعاد مبكرا ليستقر به المقام في مصر؛ إما في عمله الأصلي (بعد كفاح)، أو في عمل مشابه. سواء تطلب ذلك نظام الوظيفة القديم أو تحرر منها. والقسم الثاني يضم من عاد بسبب طول الغربة التي ملها وملته. وبسبب إحالته إلى المعاش في سن مبكرة أو متأخرة. فجاء كارها للغربة مقبلا على مراتع الصبا يريد أن يعود للحياة من حيث تركها، فلم يجدها إذ كبر الأقران وهدهم الزمن، أو رحلوا عن الدنيا وتركوه قائما؛ فهو دائما أبدا يبحث عن الماضي فلا يجده، وهو يزعم أنه لم يمر زمن ولم تتغير الدنيا، وهو يرنو إلى مصر اليوم محاولا أن يجد فيها مصر الأمس مصرا على ألا يرى الهوة التي تفصل بينه وبين ما كان عليه وما كانت الدنيا عليه.
إن نمط الغربة من أجل المال أصبح مألوفا إلى حد جعلنا نعتبره القاعدة التي لا استثناء لها، وأصبح الجميع يحلمون بأن يبدءوا الحياة غدا عندما يعودون، إذا عادوا! أما من لا يعودون - وليس عددهم بقليل - فهم الواقعيون الذين تصالحوا مع الزمن وكفوا عن خداع النفس، فأصبحوا يرون اليوم حاضرا والغد مستقبلا، فلا بأس إطلاقا في أن يعيش المصري في بلد تصبح له وطنا جديدا؛ فهو هنا يعيش الزمن كما ينبغي وقد نفى فكرة بداية الحياة غدا، وإن كان عليه في هذه الحالة أن يقيم جسورا مع مصر الحاضر بالزيارة والتواصل والتفاعل؛ حتى لا تتراجع صور مصر إلى ماض غابر يخلق منه صورة ضبابية لمستقبل لا يجيء أبدا.
معنى التراث
كتبت في هذا المكان قبل عدة أسابيع سطورا عن معنى الزمن، فصلت فيها القول عن الزمن الفردي (النفسي) والجماعي (الإنساني) والاجتماعي، وذكرت أن من صور الزمن الاجتماعي أحوال الناس في مجتمع ما كما ينقلها لنا التاريخ، وأن من أسباب الخلط في تفكيرنا هو الإحساس بالزمن الفردي أي بالماضي في صورة الزمن الاجتماعي؛ أي تحويل الحنين إلى الماضي، وهو عاطفة بشرية طبيعية، إلى حنين غامض عام إلى صور من التاريخ، فإذا نحن نضفي عليها صفات ليست فيها، بل هي نسج مشاعرنا وطبيعة شوقنا إلى ما فات، وإذا نحن نتصور بعض العصور المظلمة في صور من البهاء لا يمكن أن يشهد بها التاريخ الصادق.
وربما استعصت هذه الفكرة على قارئ من القراء، فتصور أنني أدين بهذا التاريخ كله، أو أنني أهاجم ما اصطلح على تسميته بالتراث؛ ومن ثم كان لا بد من العودة إلى هذا الموضوع الذي أصبح ساخنا في هذا الصيف الساخن، بل لا بد من تفصيل القول فيما نعنيه بالتراث، وما يمكن أن تعني هذه الكلمة لكل منا في ميدان عمله الخاص.
التراث في اللغة يعني الميراث، أي التركة التي خلفها لنا الأقدمون؛ قال تعالى:
وتأكلون التراث أكلا لما ، وكل إنسان له تراثه الفردي وتراثه الجماعي؛ فتراثه الفردي هو ما يتركه أبواه أو أجداده، ولا يقتصر ذلك بالضرورة على التركة المادية بل يتعداها إلى الصفات الموروثة سواء كانت ذهنية أو نفسية، إلى جانب المبادئ الخلقية التي تغرس في سنوات العمر الأولى فلا تنتزعها ولا تهزها أحداث الزمن وما يأتي به الجديدان، وأما التراث الجماعي فهو مجموعة القيم والأعراف التي تسود مجتمعا ما نقلا عن الآباء والأجداد، وقد تستند هذه القيم إلى أدب مكتوب أو أدب شفاهي، أو قد تكون مجسدة في قواعد السلوك ونظم الحياة نفسها، وبهذا المعنى فالتراث الجماعي قريب من الثقافة التي هي في آخر الأمر أسلوب حياة.
وقد كتب علينا نحن العرب أن نحمل في صدورنا وعقولنا أكبر كم من التراث (أي الموروث)؛ بسبب تاريخ لغتنا الطويل وتعدد الأطر الثقافية التي ازدهرت فيها هذه اللغة؛ ففي لغتنا يكمن تاريخنا الطويل، ولغتنا هي مفتاح إدراك أعماق هذا الزمن المترامي في صحراء الإنسانية (إن صح هذا التعبير، كما كان طه حسين يقول )؛ فلغتنا تتضمن من النظم الثقافية المتباينة ما لا يتوافر في أي حضارة أخرى! وسوف أضرب بعض الأمثلة حتى لا يتصور أحد أنني أبالغ؛ فبعض لغات العالم القديم (الصينية والهندية) ما زالت تحمل جميع سمات ذلك العالم؛ إذ لم تتغير كثيرا على مر الأزمان؛ لأن مجتمعاتها لم تتغير كثيرا هي الأخرى، وما زالت أنماط التفكير والإحساس القديمة حية في تلك اللغات القديمة. والبعض الآخر من لغات ذلك العالم قد اندثر معه (كالمصرية واليونانية القديمة واللاتينية) أو تحول إلى لغات حديثة مع نشوء الدول الحديثة، أما الغالبية العظمى من اللغات الصغرى في العالم القديم فقد تضاءلت وانحسرت؛ إما في مجتمعاتها المحدودة، أو في الكتب التي خلفها أصحابها للدارسين والمؤرخين.
وأما نحن فننفرد بين شعوب الأرض بلغة حية إلى الأبد، وهي لغة لا ترجع بنا تاريخيا إلى عصر واحد أو ثقافة واحدة، ولكنها ترجع بنا كما قلت إلى «أطر ثقافية» متباينة تباين العصور والأمكنة التي ازدهرت فيها؛ ولذلك فالوحدة اللغوية الظاهرية بين شعوب الأمة العربية تخفي تاريخا خاصا لكل منها.
وأنا أستخدم اصطلاح «الوحدة اللغوية الظاهرية» عامدا؛ فما تلك الوحدة إلا ثمرة محاولات حديثة للتقريب بين أنماط الفكر والإحساس؛ ومن ثم بين أنماط الحياة، في عالم عربي يتميز بالتباين كل التباين، وبالاختلاف كل الاختلاف. وما تلك الوحدة إلا محاولة دائبة للتقريب بين عالمنا العربي الذي ورث تاريخا سياسيا واجتماعيا منوعا وطويلا، ولا يستطيع منه فكاكا، وبين العالم الحديث الذي استطاع أن يضع التاريخ في مكانه الصحيح، وأن يقيم حاضره على أسس الواقع القائم لا على أسس الحسرة على ما فات، أو على صورة المجد التليد بعد أن زال الكثير من هذا المجد من أمم عالم الحاضر.
ومشكلة كل عربي إذن تكمن في لغته التي تحيله دائما أبدا إلى الماضي؛ فإذا كان مثقفا محدثا أي إذا كان يتسلح بالنظرة العلمية الحديثة التي تهديه إلى أن يزن كل شيء بميزان العقل فيلفظ ما هو لا معقول (كما يقول «زكي نجيب محمود»)، ويقبل ما يجده معقولا ؛ استطاع أن يضع الماضي في مكانه الصحيح باعتباره زمنا باد وانقضى، وأن يقطع بأن لنا أن نحكم عليه بما يرضي الله وبما يرضي ضمائرنا، فيأخذ ما هو صالح من قيم، وينأى عما هو فاسد. إن المثقف العربي الحديث قادر على أن يدين ما كان الأقدمون يفعلونه من استعباد الناس، سواء في غزوات الجاهلية أو في غير ذلك من العصور على امتداد زماننا الطويل (في زمن المماليك وزمن العثمانيين مثلا وأزمنة أخرى أتركها لذكاء القارئ)، وهو سيدين الاتجار بالإنسان، واستذلال النساء وقهرهن، واستبداد الحكام وبطشهم، والاعتماد على القوة الغاشمة وحدها وسيلة للملك والتملك، دون رجوع للحق ولا اهتداء بدين الله القويم. وهو سيدين الاقتتال بين طوائف المؤمنين، وغزو أمة مسلمة لأمة مسلمة، وهو الذي يشهد به تاريخ العرب الطويل، ولن يفخر بأي من هذا باعتباره جزءا من تراثنا الذي تحفل به الكتب.
وأخيرا فلا بد من التمييز بين التراث على إطلاقه وبين التراث الأدبي بصفة خاصة، فإذا كان صحيحا أن الأدب ظاهرة ثقافية وأنه يدرس في أطره الثقافية المحدودة أولا، ثم في أطره الإنسانية العامة ثانيا؛ فينبغي أن نعي ذلك ونحن نقرأ شعر الجاهليين والإسلاميين، ويكفي أن أحيل القارئ إلى الطود الشامخ من الدراسات الحديثة في تراثنا الأدبي العربي من طه حسين إلى جابر عصفور. ولا بد في النهاية أيضا من أن أوضح أننا يجب ألا ننظر إلى الإسلام - دين الله الحنيف الخالد - على أنه جزء من التراث، وإلا كنا نضعه في سياق التاريخ؛ أي سياق الماضي، وهو دين فوق التاريخ وفوق الماضي؛ لأنه فوق الزمن، وينبغي أن ننفي عن أذهاننا تماما أن أي قراءة للتراث - سواء كان سياسيا اجتماعيا أو فكريا أو أدبيا - تمس دين الله سبحانه وتعالى؛ فلا يتصور ذلك إلا من فسد تفكيرهم أو من أرادوا التمسح به ليشتروا به ثمنا قليلا.
لمن يكتب الكاتب؟
في مسرحية «الخال فانيا» للكاتب الروسي أنطون تشيخوف، شخصية أستاذ جامعي اسمه سربرياكوف تضطره الظروف إلى قضاء فترة في مزرعة الأسرة (في أواخر القرن التاسع عشر)، فيجد نفسه محاطا بأفراد لا يقرءون ولا يكتبون، فيضيق بالعزلة والابتعاد عن حياة المدينة الحافلة بينما يسخر منه المحيطون به، ويتهمه أحدهم بأنه لا يفهم حرفا واحدا في الأدب، ويظل هو حبيس هواجسه وآلامه الجسدية حتى يحين موعد رحيله، دون أن يحسم الكاتب موقفه الخاص من هذا الأستاذ العجيب.
وعندما اشتركت مع صديقي سمير سرحان في ترجمة هذه المسرحية في أوائل الستينيات لتقديمها إلى المسرح القومي؛ شغلنا بعبارة يقولها هذا الأستاذ، مفادها: إننا نحن الكتاب نتعب أبصارنا وعقولنا في القراءة والكتابة دون أن نجد تجاوبا أو نحدث الأثر المنشود، وعندما عرضت المسرحية بالفعل في عام 1964م من إخراج المخرج الروسي «لزلي بلاتون» بالاشتراك مع المرحوم كمال يس كنا نستمع كل ليلة إلى الفنان الراحل محمد الطوخي وهو يؤدي هذا الدور المرهق ويردد هذه العبارة دون أن ندري أن الزمن سيدور دورته فتكتسب دلالة حيوية أعمق بكثير مما أوحت به آنذاك!
وكلما تأملت الكتابات المنهمرة في الصحف والمجلات العربية هذه الأيام وعلى مدى الثمانينيات برمتها، برزت هذه العبارة وترددت أصداؤها في ذهني وشغلتني أكثر مما شغلتني في الستينيات وجعلتني أتساءل عن جدوى كل هذه الكتابات إذا كانت أطر الحياة المفروضة علينا تمنعنا من الاستجابة الصحيحة لها - أو الاستجابة بأي شكل من الأشكال.
فكم من قارئ يمر مر الكرام على مقالات الصحف السيارة مهما كانت جديتها ومهما بلغ ثراؤها، كم من قارئ يتطلع إلى عناوين الكتب المعروضة على قارعة الطريق، ثم يشتري أخسها وأبخسها! وطفقت أتساءل عن السر وما سيفضي إليه إذا استمر الحال على ما هو عليه!
وكان أول سؤال طرحته هو: هل الخطأ خطأ «أطر الحياة المفروضة علينا» حقا كما ألمحت إلى ذلك، أم خطأ الكاتب في موقفه أو مادته أو أسلوبه؟ وهل نعفي القارئ تماما من مسئولية الانفضاض إلى اللهو والمال؟ وإذا كانت المسئولية مشتركة فكيف نعدل من أطر الحياة بحيث يعود الكاتب والقارئ إلى سابق عهدهما في سنوات التنوير من هذا القرن نفسه.
ولم أجد إجابات شافية ولكنني ذكرت دراسة قديمة للكاتب الإنجليزي «الدوس هكسلي» عنوانها «كتاب وقراء»، ألقت الضوء على بعض ما اكتنف المسألة من غموض؛ فالعلاقة بين الكاتب والقارئ في نظره تشبه العلاقة في السوق بين البائع والمشتري، ويحكمها في نظره قانون الحاجة وإشباع الحاجة؛ ومن ثم فهو يفسر رواج بعض الكتب بأنها تشبع حاجة لدى القارئ أو تستجيب لمطلب من مطالبه، فإذا كان القارئ في عصر ما ينشد المعرفة، توقعنا رواج الكتب التي تقدم له هذه المعرفة مهما غلا ثمنها، وإذا كان ينشد التسرية والترفيه، توقعنا رواج الكتب التي تقوم بهذه المهمة، وإذا كان قد انشغل بقضايا الفلسفة أو قضايا الدين فلا بد أن تروج الكتب التي تتحدث عن هذه القضايا أو تلك؛ أي إن «الحاجة» تتحكم في الرواج؛ ومن ثم تتحكم في اتجاه الكاتب، ونوع الكتب المطروحة.
وعدت أتساءل ماذا يخلق هذه الحاجة - حتى إذا قبلنا هذا المنطق «الاقتصادي»؟ لا شك أن المجتمع مسئول عنها - والكاتب من أعمدة المجتمع الأساسية في كل زمان ومكان، وإذن فلا نستطيع أن نعفي الكاتب من مسئولية المشاركة في إيجاد الحاجة إلى ما يكتب أو ما يكتب سواه! ونحن نذكر جيدا أن الشاعر والناقد الإنجليزي الأشهر «ص. ت. كولريدج» قد نبه في أوائل القرن الماضي إلى أن الشاعر يشترك في إيجاد الذوق الأدبي اللازم لتقدير أدبه. ولذلك فإذا انصرف القارئ اليوم عن القراءة فربما كان السبب هو أنه لا يستطيع أن يجد ما يحتاجه من مادة. وإذا انصرف إلى قراءة مادة من نوع بعينه مثل مسائل الغيب وعذاب القبر، وتراث عهود الانحطاط فربما كان المجتمع قد ساهم في إيجاد هذه الحاجة عندما أوجد مناخا يسوده الانشغال بأمور الدين وسخر أجهزته الإعلامية لتأكيد هذا المناخ، وإذا كان القارئ لم يعد يقبل على قراءة المادة العلمية أو الفكرية أو الأدبية فربما كان السبب هو أن مجتمعنا ممثلا في أجهزته الإعلامية والثقافية - الرسمية وغير الرسمية - وأهمها الإذاعة والتليفزيون والمسرح التجاري ونوادي الفيديو؛ قد صرفه عنها بتقديم البديل الهزيل وهو الهزل الممجوج الذي لا يهدف إلا إلى استدرار الضحكات الجوفاء بحجة التسرية والترفيه، أو أفلام العنف والميلودراما «والبورنوغرافيا المقنعة» التي أدت إلى ازدهار نوادي الفيديو بصورة لم يسبق لها مثيل!
وعدت من تساؤلاتي إلى الكاتب ومسئولية الكاتب في مجتمعنا الذي ما زال يقول إنه ينشد المثل العليا للاشتراكية (والدستور ينص على أنه يقوم عليها)، فوجدت أن غالبية الكتاب في الصحف والكتب الكثيرة التي دخلت إلى مجتمعنا من باب حرية النشر أو حرية الفكر يتسابقون لاجتذاب القارئ عن طريق الإثارة فحسب؛ إما بالفنون الأسلوبية المعروفة مثل التشويق والتهويل، والتجسيم والتضخيم، وإما بالكذب الصريح أو غير الصريح. وإما باللف والدوران في حلقة مفرغة من التفاهات المرتبطة بفنون الفرجة والهزل مثل أخبار النجوم وفضائحهم وما إلى ذلك؛ ومن ثم فهم يشاركون في تحمل مسئولية إيجاد الحاجة إلى مثل هذه المادة، ومسئولية انصراف فئة في أقصى اليمين إلى متاهات الميتافيزيقا، وانكباب فئة أخرى تنعم برغد العيش على تفاهات الفرجة، وحيرة فئة ثالثة بين أحلام الأيام الخوالي عندما كان الجو نفسه ينضح بقطر العلم، ويفوح بأريج الثقافة. إننا نتعب أبصارنا وعقولنا كما يقول سربرياكوف؛ أملا في قارئ جاد لم تصبه صور المجتمع التي تصادفنا في الصحف ووسائل الإعلام باليأس، وقارئ آخر ما زال يبحث عن طريق يوصله إلى المستقبل رغم «أطر الحياة المفروضة» والاتجاهات التي أصبح من الصعب فهمها - ولا أقول تحليلها.
معنى الزمن
في أواخر عام 1989م عقدت جامعة القاهرة مؤتمرا عالميا فريدا حول صور مصر في أدب القرن العشرين، واجتمع الأساتذة والأدباء من شتى أقطار الأرض في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب يناقشون التغير والاختلاف الذي طرأ على صورة بلادنا في أدب العالم، بينما شغلت أنا ومعي كثيرون بالتغيير الذي طرأ على هذه الصورة في أدبنا نحن؛ ومن ثم كان البحث الذي ألقيته في المؤتمر يتناول ميلنا بصفة عامة إلى رؤية المستقبل في صور مستقاة من الماضي، وهي صور غير واضحة وغير متسقة وغير متماسكة، ولكنها تحيا وتكتسب معاني جديدة بسبب الحنين الطبيعي إلى كل ما فات ومات، فهذا الحنين الذي يعيد إحياء الزمن مسئول عن كثير من التخبط في تفكيرنا؛ فما معنى الماضي؟ وما معنى الزمن؟
إن الخطأ الأساسي في نظرنا إلى الزمن يرجع إلى تصورنا أن البقاء
Survival
رهن بالاستمرار؛ ومن ثم يتصور البعض أن تحقيق الذات يتطلب العثور على جذور لها في الماضي، وإحياء هذه الجذور والاحتفاء بها أيا كانت. وهذا تصور معناه القبول بالسكون والخمود
Stasis
ورفض الحركة والتحول، فاللغة تخدعنا بصورها البلاغية وتحول دون إدراكنا. حتى على المستوى الاستعاري، إن الجذور ليست الشجرة، بل إن الإنسان ليس شجرة!
فالإنسان نفس حية اختصها الله بالعقل دون مخلوقاته، وهو يتطور على مر الزمان ويتغير، ومهما كانت درجة ثباته في الأرض؛ فهو يتحرك ويغير من صور حياته، ويتحول فكرا وعلما وعملا، وهو يعيش في مجتمع حي يتسم بالحركة والتحول هو الآخر. ولذلك فإذا تكلمنا عن الإنسان وعن الماضي فينبغي أن ننحي عن عقولنا صورة الشجرة التي ما تفتأ تتكرر في أحاديثنا، وتفسد علينا معنى الزمن وإحساسنا به.
وللزمن عدة أوجه؛ أولها وأعقدها هو الزمن الذاتي؛ أي ذلك الكم الهائل من الصور والأفكار المكتسبة من الخبرات المتراكمة في النفس والتي تتحكم دون وعي منا في مشاعرنا وسلوكنا، وقد يصعب علينا - مثلما قال وردزورث في قصيدته وسيرته الذاتية المقدمة - أن نرصد نشأة كل منها وإن كنا نستطيع أن نرتاد البقاع الزمنية التي شهدت نشأتها، فالبحث في الماضي الفردي علم معقد يختص به النفسانيون، ويفردون له البحوث والدراسات المتعمقة، وإن كان الأدباء يصولون فيه ويجولون دون أمل في استنطاق كنهه وسبر غوره.
والوجه الثاني متصل به وهو الزمن الجمعي؛ أي ذلك الخضم الزاخر من الخبرات البشرية التي تولد مع الإنسان وإن كان بعضها مكتسبا - كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف كارل جوستاف يونج؛ إذ يربط بينهما وبين اللاشعور الجمعي (وأنا أستخدم التعبير الذي كان الدكتور عبد الحميد يونس يفضله )؛ أي تلك المناطق المجهولة لنا من نفوسنا جميعا والتي يشترك فيها أبناء البشرية جمعاء على اختلاف ألوانهم وأجناسهم ولغاتهم؛ ففيها الصور الأولى لكثير من أنماط مشاعرنا وأفكارنا والنماذج القديمة أو الفطرية لكثير من الرموز التي درجنا عليها وقبلناها دون تحليل.
أما الوجه الثالث فهو زمن الجماعة أو المجتمع، وهو لا يتصل كثيرا بأي من الوجهين السالفين؛ لأنه مادي المظهر، يسهل رصده وتحليله، ويسهل قبوله أو رفضه وإن كان الأدباء يلجئون إليه لتفسير ملامح الزمن الذاتي أو ملامح الزمن الجمعي وتجسيد بعضها في أعمالهم؛ فالشاعر قد يعود بذاكرته إلى أيام صباه فلا يستطيع أن يستخرج منها إلا صورا محسوسة مجسدة، مستقاة مما شاهده وسمعه وخبره في طفولته، وهي صور زال بعضها فأصبح ينتمي إلى الماضي. وما زال بعضها باقيا فهو ينتمي إلى الحاضر؛ ولهذا فقد تتفاوت درجة تجاوب القارئ مع هذه الصور الماضية والحاضرة!
ونحن في الشرق مولعون بصور الماضي؛ ننشدها ونجسدها ونسعى إلى إحيائها سعيا حثيثا؛ فهذه الصور تؤكد لنا امتدادنا في الزمان، وتبعث الطمأنينة في نفوس يتصل تاريخها الطويل اتصالا فريدا لا تكاد تجد له مثيلا بين أمم الأرض، ولكننا - دون أن نعي ذلك - نخلط بين الحنين إلى الماضي الذاتي، وحياة المجتمع في الماضي (أو ما أسميته زمن الجماعة)، فنجد أننا نضفي على هياكل الحياة الاجتماعية القديمة شاعرية دافقة مستقاة من ذواتنا. دون أن يكون لها وجود مادي حقيقي في التاريخ؛ إذ يعود الكثير من أدبائنا إلى عصور ماضية فيسبغون عليها صفات جميلة خلابة هي منها براء، وينشدون في أوضاع قديمة بالية مثلا عليا وقيما لا علاقة لها بها! وهذا الخلط هو سبب انشغالنا بالتراث إلى حد التقديس، وهذا هو الخلط الذي ينبغي أن نحذر منه ونحن نخطو إلى المستقبل، فليست حياة أجدادنا المتمثلة في آدابهم بالحياة هي التي نبكي على فقدانها أو نتحسر على ضياعها!
لقد انشغلت على مدى عام كامل بتأمل تلك الحياة الماضية، فلم أعثر على ذلك النبع الصافي من الجمال الذي يدفع الكثيرين اليوم إلى التطلع والحنين إليه باعتباره نموذجا لحياة المستقبل، فلم يكن النظام السياسي عادلا منصفا، ولم يكن النظام الاجتماعي جميلا باهرا، ولم تكن الأوضاع الاقتصادية محكمة كاملة، ولا كان الأدب في مصر منذ نهاية العصر العباسي وحتى فجر النهضة الحديثة أدبا عبقريا حتى نطمح إلى عظمته ونحاكيه!
إن حركة الزمن - في تصوري - حركة إلى الأمام لا إلى الخلف؛ ولذلك فأنا أتطلع إلى فكر وأدب ينبعان من زماننا وينظران إلى المستقبل لا إلى الماضي، وأعتقد أن ثمة فروقا جوهرية بينهما.
الثقافة والتنمية
عندما عاد الصديق الشاعر إسماعيل أبو زيد من روما؛ ليقضي عطلة الصيف في القاهرة؛ فهو يعمل رئيسا لتحرير المطبوعات العربية بمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة؛ جاءني معه خطاب رقيق من الكاتبة الشهيرة فيكتوريا بوتري التي عملت رئيسة لتحرير مجلة «الفكر والعمل» طوال ربع قرن من الزمان تقول فيه إنها الآن بصدد إصدار مجلة أدبية فصلية جديدة «بالإنجليزية أيضا»، وسلسلة كتيبات تضم منتخبات من الشعر المعاصر، وتطلب مشاركة الشعراء المصريين والعرب في المجلة وسلسلة الكتيبات، بعد أن كونت جماعة أدبية لنشر كل هذا في أرجاء العالم وأسمتها «جماعة مونتيفاركي».
وتأملت ذلك الخطاب المسهب - وما أرفق به من قوائم الأعلام الذين انضموا إلى الجماعة الأدبية - فوجدت أن أطرف ما فيه هو العلاقة التي تقيمها الكاتبة هي وأعضاء الجماعة (28 يمثلون عشرين بلدا) بين الثقافة والتنمية. وهي تقول إنها بعد خمس وعشرين سنة من العمل في منظمة ذات طابع اقتصادي في المقام الأول اكتشفت أن قضية الثقافة لذاتها لا تنفصل عن قضية التنمية بشتى أشكالها؛ الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية؛ إذ إن الاتجاه السائد في معظم بلدان العالم الثالث هو فصل الثقافة عن الحياة المادية (باعتبار الثقافة بناء فوقيا يمكن تناوله بمعزل عن الأساسيات مثل المأكل والملبس والمسكن والعلاج وما إلى ذلك)، ولأن الفصل بين مظاهر الحياة المادية وعناصر الحياة النفسية (الذهنية والعاطفية وغيرها) يمثل جورا بالغا على قضية الإنسان نفسه ويضر بقضية التنمية المادية نفسها.
وانثنيت أفكر في مدى انطباق ذلك على مصر أولا - بطبيعة الحال - باعتبارها من البلدان النامية، ثم على الوطن العربي بعد ذلك بصفة عامة. واستغرق التفكير أياما طويلة ومناقشات مستفيضة ومراجعة شاملة لمفهوماتنا عن «الثقافة» من ناحية وعن معنى «التنمية» و«النمو» بمعناها الاقتصادي الضيق من ناحية أخرى؛ فوجدت أننا بلاد تنطبق عليها أكثر من غيرها مقولة الكاتبة بوتري.
فنحن نعاني انفصاما حادا في حياتنا بين مفهومنا للتقدم المادي وبين المفهوم العام للتقدم وهو الذي لا ينفصل فيه التقدم الفكري عن سائر جوانب التقدم البشري. وأول مظاهر هذا الانفصال هو تصور إمكانية تحقيق الازدهار المادي دون تحقيق تقدم ثقافي، وقد بني هذا التصور الخاطئ على نماذج ازدهار بعض بلدان العالم الثالث في السبعينيات؛ نتيجة للطفرة في أسعار البترول التي كانت بمثابة خرق لقوانين الجهد البشري وسخرية من عمل العاملين.
والمظهر الثاني هو التصور الساذج للثقافة باعتبارها مقصورة على المعلومات التي يجنيها الإنسان من قراءاته خارج أسوار المدرسة أو الجامعة، أو باعتبارها مقصورة على الأنشطة الفنية التي تقدم من خلال قنوات الاتصال الجماهيري بغية التسرية والترفيه.
فإذا ذكرنا ذلك وجدنا أن العالم - أي المتخصص في العلوم الطبيعية - الذي يؤمن بالخرافات الموروثة من عهد الجهالة لا ينتمي ثقافيا إلى هذا الزمن، ويعتبر مصابا بتخلف فكري يقعد به عن اللحاق بعصر التنوير مهما بلغ هضمه للمعادلات الكيميائية وأسرار الذرة! وقس على ذلك من يتلقى قسطا وافرا من التعليم فلا ينتفع به إلا في الحصول على منصب رفيع، أو في كسب المال، أو في التفاخر بين الأقران، أو من يحصل على مال وفير فينفقه في مظاهر الرفاهية المادية والانسياق وراء الملذات الحسية المحدودة، والإسراف في الإنجاب.
أظن أن هذه النماذج التي لا يخلو منها مجتمع تصبح شرا مستطيرا وخطرا وبيلا إن هي شاعت في مجتمع ينشد النمو أو يطلق على نفسه «المجتمع النامي»؛ فهذه النماذج تسود معظم مجتمعات العالم الثالث المثقلة بتراث ثقافي لا تستطيع منه فكاكا؛ فهي حقا تقيم مؤسسات الدولة الحديثة ومظاهر النهضة الحديثة، ولكن ثقافاتها على تعددها تشترك في عدم الإيمان بذهن الإنسان وقيمة العمل والجهد البشري؛ ولذلك علق أحد أبناء تلك الدول في المؤتمر الذي عقدته الجماعة الأدبية الجديدة في إيطاليا من 27-29 مايو 1989م على المشكلة الأولى في بلده قائلا: إن الفرد قد «فقد إحساسه بالهدف»؛ فالمدرس يتصور أنه يقوم بوظيفته من أجل لقمة العيش وحسب، دون اعتبار للرسالة السامية التي ينهض بها، والطبيب إذا اغتنى أصبح عسير المنال.
والواقع أننا لا نختلف في مصر كثيرا عن بلدان العالم الثالث تلك؛ فأنظارنا موجهة صوب أوروبا وأمريكا، ولكن أعماقنا تزخر ببعض عناصر تراث التخلف والخرافة والجهالة، فنتصور أن الثقافة إضافة يمكن الاستغناء عنها في مرحلة التنمية، ونتصور أن الأنشطة الثقافية هي جهد ترفيهي يروح عن العاملين! إننا بحاجة إلى ثقافة التنوير التي ما فتئ الدكتور زكي نجيب محمود يدعو إليها، وإلى ثقافة العمل المتأصلة في نفوس المصريين والتي تتعرض لأخطار جمة هذه الأيام في مواجهة الثقافة السلفية حيث ينال الإنسان ما لم يجهد نفسه في سبيله، فيتلفت حوله حائرا ما يفعل بهذا المال الطائل؟ إن فيكتوريا بوتري وجماعتها الأدبية على حق؛ فالثقافة لا تنفصل عن التنمية.
ملاليم المترجم
منذ ما يقرب من ثلاثين عاما عدت إلى المنزل من دار الإذاعة «حيث كنت أعمل محررا مترجما بقسم الأخبار»، فوجدت رسالة موجزة من صديقي وزميلي السفير أحمد مختار الجمال - وكان آنذاك في بداية عمله بوزارة الخارجية - يقول لي فيها أسرع إلى مصلحة الاستعلامات فلدينا عمل يحتاج إليك! وهرعت من فوري إلى المكان الذي حدده، فوجدت غرفة مكتظة بالزملاء والأصدقاء ممن سبقوني بالتخرج في قسم اللغة الإنجليزية، وكلهم منكب على العمل بحماس وفي صمت؛ الأستاذ محمد عبد الله الشفقي (رحمه الله) والأستاذ عبد الفتاح العدوي (رحمه الله) والأستاذ سيد سليمان (الذي يعمل الآن سفيرا) والأستاذ أنور جلال، وغيرهم. وقبل أن تتاح لي فرصة الحديث معهم أو حتى إلقاء التحية عليهم، وضع في يدي كتيب وأعطيت قلما وبعض الأوراق وجلست إلى منضدة وانطلقت أترجم ما أمامي.
كان الكتيب يتناول جانبا من جوانب الحياة في الهند، وكذلك كانت جميع الكتيبات التي انكب عليها الزملاء؛ إذ إن الرئيس جمال عبد الناصر (رحمه الله) كان ينتوي زيارة الهند، وكان يريد أن يحيط بكل ما يستطيع أن يحيط به من معلومات عن الهند؛ أي أن يضيف إلى المعلومات السياسية والاقتصادية المتاحة سائر المعلومات التي تهم دارسي جغرافيا البلدان والشعوب. وبعد أن قضينا ساعات طويلة - لم يشعر بها أي منا - في العمل، قال أحدنا (لا أذكر من كان): إننا بحاجة إلى الشاي أو القهوة حتى نستطيع السهر؛ فالليل قد أوغل ولم يتسن لأحد منا أن يغفو في الظهيرة. ورحب الجميع بالفكرة وكانت فرصة للتوقف عن العمل دقائق تساءلت فيها عن الأجر الذي سنتقاضاه. وكم كانت دهشتي وفرحتي حين علمت أن ترجمة الكتيب الواحد قد حدد لها خمسة جنيهات كاملة!
كان الأجر آنذاك قد حدده قرار جمهوري بمليمين للكلمة الواحدة من الإنجليزية إلى العربية وثلاث مليمات من العربية إلى الإنجليزية، ومليم واحد للمراجع في الحالة الأولى ومليمين للمراجع في الحالة الثانية، أما المكافأة الشاملة «الجنيهات الخمسة» فقد كانت تتجاوز ذلك الأجر (بسبب ضيق الوقت والحاجة إلى الترجمات الدقيقة على وجه السرعة)، وكان الأجر المرتفع دافعا قويا ألصقنا جميعا بمقاعدنا أياما متواصلة حتى انتهت المهمة وطبعت الكتيبات وأعتقد أن بعضها ما زال متاحا لمن يريد أن يستزيد من العلم بالهند!
وفي مارس 1961م اشتركت في فريق الترجمة في مؤتمر دولي لأول مرة في حياتي وكان الأجر اليومي للمترجم التحريري خمسة جنيهات (مهما بلغ عدد الصفحات المترجمة أو عدد الساعات)، وسبعة جنيهات للمترجم الفوري، ارتفعت بقرار استثنائي عام 1964م إلى ثمانية للتحريري وعشرة للفوري (في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية في يوليو 1964م ومؤتمر قمة عدم الانحياز في أكتوبر 1964م)، وكنت قد ترجمت عددا من الكتب آنذاك تقاضيت عن بعضها خمسة وعشرين جنيها، والبعض الآخر ثلاثة وأربعين (فنون الجنس البشري، الرجل الأبيض في مفترق الطرق، درايدن والشعر المسرحي، حول مائدة المعرفة)، وكان أكبر أجر تقاضيته عن ترجمة شكسبير «حلم ليلة صيف، 1964م؛ وروميو وجوليت، 1965م » وهو خمسون جنيها كاملة!
ودار الزمان وعدت إلى القاهرة بعد عشر سنوات في إنجلترا عملت أثناءها بالترجمة بعض الوقت، وعرفت مدى تقدير الأجانب للمترجم وفئات أجور الترجمة في أوروبا وفي العالم العربي (حتى البلدان الفقيرة منه)، ولكنني وجدت نفس القانون «القرار الجمهوري» مطبقا في مصر! ولم أعجب أول الأمر؛ فقد كانت القوة الشرائية للجنيه لا تزال معقولة ولكن السبعينيات الأخيرة أثبتت ضرورة التغيير، وبالفعل صدر قرار جمهوري جديد عام 1978م يضاعف الأجر ثلاث مرات، فوصل أجر الكلمة إلى ستة مليمات للمترجم وثلاثة مليمات للمراجع. ومضت السنون وارتفع أجر المترجم في المؤتمرات الدولية إلى 25 جنيها في اليوم، ثم إلى خمسين ثم إلى مائة، ولا تزال الأجهزة الحكومية حتى هذه اللحظة تعمل بقرار عام 1978م!
لقد أوصت لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام بأن يكون أجر الكلمة ستة قروش، ووافق جميع المسئولين على هذه التوصية التي ظلت تتصاعد حتى وصلت إلى الباب الذي لا يلجه إلا مسئول أكبر! ولعدة أعوام توقفت حركة الترجمة أو كادت - إلا ما يتم بمبادرات فردية أو عن طريق أجهزة غير حكومية - وما زلنا في هيئة الكتاب نكافح كفاح المستميت لإقناع المترجمين الأكفاء بالترجمة وهم عنا عازفون؛ فمن ذا الذي يقبل ملاليم السبعينيات ونحن على مشارف التسعينيات؟ وكيف تقنع مترجما ضليعا أن يقنع بجنيهات معدودة وأمامه أبواب الأمم المتحدة ودور النشر الأجنبية تدفع له الأجر المجزي العادل؟
وتتمثل خطورة الوضع الحالي في أمرين: أولهما عدم تقدير قيمة الترجمة باعتبارها نشاطا ثقافيا أساسيا وتجاهل دورها في إثراء الفكر العربي، بحيث تخلفنا سنوات بل وعقودا طويلة عن علوم العصر وآدابه وفنونه، ويكفي أن نذكر كلمة التخلف مرة ثانية حتى نتصور فداحة استمرار هذا الحال. أما الثاني فهو أن نعتمد على ما يأتينا من ترجمات منشورة في بلدان أخرى - ترجمات سيئة تفتقر إلى الدقة، وتتسم بركاكة في الأسلوب وانحطاط في العربية، ولا غرو إذ يقوم بها غير المتخصصين وتنشرها دور لا تبغي إلا الربح ولا تأخذ في اعتبارها إلا متطلبات السوق أولا وأخيرا، فنجد أننا مضطرون إلى شرائها «مفوضين أمرنا لله» رغم ارتفاع أسعارها وعدم تلبيتها لمطالب قرائنا.
إن مشروع الألف كتاب «الثاني» الذي تصدره الهيئة العامة للكتاب يعمل جاهدا على سد الفجوة في الترجمة، ولكن العقبة الأساسية لا تزال الملاليم، و«ملاليم» في اللغة نكرة ممنوعة من الصرف في المصارف والحياة! فمتى تستبدل بها القروش المصروفة؟
رحلة الذات في الزمن
كنا قد شاهدنا لتونا مسرحية «أيام زمان» للكاتب الإنجليزي «هارولد بنتر» حين قررنا نحن الأربعة - سمير سرحان وزوجته نهاد جاد، وأنا وزوجتي نهاد صليحة - الرحيل في اليوم التالي من لندن إلى مدينة برايتون على ساحل القنال الإنجليزي، وبالفعل تقابلنا في صباح اليوم التالي في محطة القطار، وبعد ساعة أو بعض ساعة كنا على الشاطئ نسير صامتين وقد استغرق كل منا في تأملاته عن المسرحية. كنت قد انتهيت من كتابة ثلاثة فصول من رسالة الدكتوراه (في صيف 1971م)، وكان الفصل الثالث يتناول مسرحية للشاعر الإنجليزي الأشهر «وليم وردزورث» هي «سكان الحدود» التي تأثر فيها بالشاعر الألماني «شيلر»، وكانت نقطة انطلاقي في تحليلها هي تغير صورة الذات في الزمن، وهي الفكرة التي لم يتطرق إليها «شيلر» في مسرحية «اللصوص» وتطرق إليها كولريدج في مسرحية «الندم».
وبعد ساعة من الصمت وتأمل البحر الذي كان ساجيا صامتا؛ قالت نهاد جاد: «ألا يحاول بنتر في مسرحيته أن يفعل مثل شاعرك «وردزورث»؟ إن الصراع في المسرحية يكمن في التناقض بين صور الشخصيات في الحاضر وصورها في الماضي.» وكأنما سطع الضوء فجأة فأنار جوانب المسرحية المحيرة. كنت أتصور أنها مسرحية صراع بين مفهوم الذات لدى الشخصية المحورية، ومفهومها لدى الشخصيات الأخرى بعد مضي فترة يتعرض فيها هذا المفهوم للتغير. ورغم أنني لم أكن قد ابتعدت كثيرا عن تفسير نهاد جاد؛ فإن كلماتها الموجزة حسمت الأمر.
لم تكن نهاد جاد تزعم أنها ناقدة محترفة، على كثرة ما كتبت من نقد بديع، ولم تكن تدعي لنفسها صفة الكاتب المسرحي المحترف، على عظمة ما كتبت من مسرح، وكانت دائما تقول إنها ممن يكتبون من باب الهواية - من باب عشق الأدب وعشق الفن - دون أن تجعل منه مهنة أو حرفة، ودون أن تستخدم مناهج نقد المحترفين ، أو تسعى لمحاكاة صنعة المحترفين، وإن كنت أعتقد دائما أن الفن الصادق ابن الهواية وأن أصدق الفنانين هم الهواة.
وطلبت من نهاد جاد أن تقول المزيد عن «أيام زمان»، ولكنها لم تضف إلا عبارات محدودة مست جوهر المسرحية ونفذت إلى أعماقها، وإن بدا صوتها ونحن نسير على شاطئ البحر كأنما يأتي من بعيد؛ كانت تتأمل السفن التي تكاد تختفي خلف الأفق، والمد وهو يعلو خلف الصخور، وتعلق بين الحين والحين على حوارنا دون أن تشارك فيه برأي قاطع.
كنت أحس دائما أن كتابات نهاد جاد تنبئ عن صورة ذات تحاول أن تحافظ عليها وأن تحفظها من التغير؛ فهي الطفلة الوحيدة التي نشأت في كنف الكتب، تسبح في عالم أحلامها وخيالاتها، لا تمسك برواية إلا استغرقتها، ولا يقع في يدها كتاب إلا استغرقته، ثم نسيته كأنما لتفسح المكان لكتاب آخر، وكأنما كانت الأفكار تتصارع في باطنها؛ محاولة تغيير صورة الطفلة القارئة الكاتبة، وكأنما كانت تدفعها بعيدا عنها لتزيح عالم التجربة عن عالم البراءة الأولى، وكانت أفضل لحظاتها هي التي تقضيها وحيدة ساهمة شاردة لا يدري أقرب المقربين إليها ما يدور في نفسها.
كنا نقضي الصيف معا في لندن حتى عام 1975م عندما عدت إلى مصر ولكن حياتنا كانت استمرارا لرحلة الغربة؛ إذ كانت قد عادت هي الأخرى من رحلة عمل في جدة أستاذة للدراما والشعر الإنجليزي في جامعة الملك عبد العزيز، مع سمير سرحان ونهاد صليحة التي عادت من إنجلترا لتلحق بهما هناك.
وأذكر أننا عندما التقينا لأول مرة في القاهرة في صيف 1975م، كان معنا الروائي المبدع محمد جلال، وكنا نجلس على شاطئ النيل هذه المرة وكان موضوع حديثنا هو الزمن أيضا! وفي اليوم التالي زرناها جميعا في غرفة ميلاد طفل جديد هو خالد ابنها، وهناك مكثنا هنيهة نتجاذب أطراف الحديث ونرسم خططا لرحلة جديدة، فلم تكن نهاد جاد ترى الزمن إلا حركة في المكان، وكانت دائما تقول لي إن نشأتها (وبالتحديد تنقلها بين البلاد مع والدها الذي كان لواء في الشرطة ) تفرض عليها ذلك النزوع نحو التنقل.
ولا شك لدي أن الدارس لأدب نهاد جاد سوف يجد هذا النزوع نحو تحديد صورة الذات في الزمن، الصورة التي تتغير بما يشبه الحتم والحسم، وهو نزوع مأسوي رغم قالب الكوميديا الذي كانت تفضله، فبطلاتها يجسدن صورا لهذا النزوع الذي يأخذ شكل الصراع الدرامي؛ عزيزة وفردوس وعديلة، وأخيرا صفية بطلة «ع الرصيف»، التي تصل من رحلتها في الكويت إلى مصر لتتساءل من أنا؟ وماذا حدث لصورة ذاتي أو لذاتي؟ وكانت تحب أن أحدثها أنا عن رشيد - بلدي الأول - وعن والدي، وعن صورنا لذاتنا التي تتغير في رحلة الحياة.
والآن أجدني واقفا على الشاطئ وحيدا أرقب السفينة التي حملت نهاد جاد في رحلة جديدة بعيدة، فلا أستطيع أن أحدد صورتها في الزمن؛ هل هي الطالبة الحالمة التي كانت تكتب الشعر عام 1961م، أم هي الصحفية التي تؤمن بالجيل الجديد وتفتح لهم قلبها وصفحات مجلتها «صباح الخير»، أم الصديقة والأخت العطوف التي كنت أشكو إليها بثي وحزني، أم الناقدة ذات الحساسية الصادقة التي كنت أقرأ لها مسرحياتي وترجماتي، أم هي الكاتبة المسرحية التي أسعدت الآلاف بجرأتها وسخريتها من كل شيء؟ إن صور نهاد جاد التي تشكلت في نفسي كثيرة، ولكنها تجتمع في تلك النظرة الحيرى المطمئنة - في نفس الوقت - في عينيها؛ فقد كانت تعرف معنى رحلة الحياة الوجيزة ومعنى رحلة الأبد المديدة، وكأني بها تناديني من سفينتها، وكأني أسمع رنين كلماتها وهي تعلق تعليقات موجزة على هذا الأمر أو ذاك، كأنما هي مشاهد عابرة تمر بها أثناء الرحلة؛ مشاهد الطريق التي ما تفتأ تتغير.
لقد رحلت نهاد جاد عن هذا العالم وتركتنا، فمتى تصل سفينة الشمس إلى المرفأ، ومتى يحين رحيلنا حتى نصل إلى ذلك الشط البعيد؟
معنى عبد الوهاب
عدت من الكتاب ذات يوم في مطلع الأربعينيات لأجد في المنزل جوا من الترقب واللهفة لم أكن أعهده، وعلى صغر سني أدركت أن شيئا ما يوشك أن يحدث - وكان بلا شك شيئا غير عادي في حياة بلدتنا رشيد. كنت قد اعتدت من الكبار حديثهم المعاد عن الحرب وأخبار الحلفاء والمحور، وكان منزلنا قد استضاف عددا من أفراد الأسرة المقيمين في الإسكندرية والقاهرة ممن فزعوا إلى رشيد؛ احتماء من غارات الألمان، وكنت قد اعتدت أحاديثهم أيضا وألفت مناسبات إثارتهم، ولكن جو الترقب الذي ساد المنزل ذلك اليوم كان بالتأكيد غير عادي!
ولم أسترح حتى عرفت أن المغني الذي كان قد «أحيا فرح» عمي سوف يحضر إلى رشيد ضيفا على أحد أبناء البلدة من هواة الطرب، وأنه ربما «أحيا حفلة كبرى، مثل حفلات الشيخ مصطفى إسماعيل التي تسهر معها البلد حتى الساعات الأولى من الصباح». وارتقابا لليوم الموعود كان كل أهل الدار يحاول أن يحدس أي أغنية أو أية أغان سيغنيها عبد الوهاب، وكان ثم إجماع على طلب الأغنية التي غناها في ذلك الفرح وهي «بالليل يا روحي أرتل بالأنين اسمك»، وانتظارا لليوم الموعود أيضا جعل كل من يأنس في نفسه القدرة على محاكاة عبد الوهاب يتغنى بها، هي الأغنية الأخرى (ابنة الثلاثينيات أيضا) «إمتى الزمان يسمح».
والغريب أنني لا أذكر عن الحفلة نفسها شيئا؛ إذ فرض علينا أن نأوي مبكرا إلى الفراش، ولكن سنوات الحرب سادتها ألحان عبد الوهاب، وكان والدي يتغنى بها ليل نهار، كما كنا نقوم برحلات خاصة إلى الإسكندرية لنشاهد أفلام عبد الوهاب ونحفظ أغانيه، وكان يصحح بعضنا للبعض إذ لم نكن نملك إلا جهاز المذياع الوليد، و«جراموفونا» عتيقا تصحبه عدة أسطوانات تنتمي لجدي الحاج أحمد بدر الدين، وهي لمطربي القرن التاسع عشر ومطلع العشرين - أذكر منهم منيرة المهدية وعبد الحي حلمي.
وعندما انتهيت من الكتاب ودخلت المدرسة الابتدائية كان عبد الوهاب قد أزال الحاجز بين الشعر وشعر العامية؛ إذ وجد جيلنا أن من السهل عليه أن يغني شعر مهيار الديلمي مثلما يغني شعر أحمد شوقي بالعامية، بل كان جيلنا يتغنى بشعر شوقي بالفصحى مثلما يتغنى بأهازيج المونولوجستات التي شاعت بعد الحرب، وانضم إلى شوقي في ألحان عبد الوهاب: علي محمود طه، وعزيز أباظة ، وبشارة الخوري، ومحمود أبو الوفا، وغيرهم ممن سادوا الأربعينيات ضاربين عرض الحائط بالفوارق الزائفة بين الفصحى والعامية، بل إن بشارة الخوري (الأخطل الصغير) كان ممن تعمدوا إهداء عبد الوهاب أغنية يجمع فيها بين العامية والفصحى عمدا؛ فما هي إلا لغة واحدة - واحدة - وهي أغنية «يا ورد مين يشتريك»، فيقول في بيت واحد:
يا ورد ليه الخجل
فيك يحلو الغزل
وكذلك تدفقت ألحان عبد الوهاب أولا لتحيي الموسيقى الشرقية القديمة، فكتب الموسيقى في المقامات العربية الموغلة في شرقيتها مثل الراست والبيات (الذي يقترب من الألحان الشعبية) وفي المقامات الكبيرة «الماجور» التي يعجب الإنسان كيف طوعها لتطرب الأذن الشرقية لها.
لقد تفتحت آذان جيلنا على الوعي الفني الجديد قبل أن تتفتح عيونه، فامتزجت الفصحى بتاريخنا وجذورنا وحضارتنا، وتطور معها عبد الوهاب، حتى إذا كان فجر الثورة غنى لشعراء العصر، وعلى رأسهم محمود حسن إسماعيل الذي انسابت كلماته على شفاه الجماهير كأنما هي من تأليفهم وإن كانت من وحيهم، وغنى للشاعر مأمون الشناوي أحلى كلماته «من قد إيه كنا هنا» ولكامل الشناوي عذب فصحاه في الأغاني الوطنية والعاطفية الدفاقة، ولعبد المنعم السباعي، ودائما - طبعا - لحسين السيد، رفيق رحلة عمره.
وأذكر أنني عندما زرته في منزله بالزمالك لأول مرة، مع مجموعة من عشاق فنه، طلب مني عربونا على صداقتنا أن أعزف لحنا له على عود كان يعلقه على الحائط في غرفة الاستقبال البسيطة، وكنت آنذاك قد قررت هجران الموسيقى والتفرغ للأدب (1958م) فارتبكت واضطرب العود في يدي. فلم يضحك ولم يبتسم خوفا من زيادة إحراجي، ولكنه تبسط في الحديث كأنما يحادث موسيقيا محترفا، فقال بصوته الرخيم «تقدر تصورها من الدوكاه»، وأذكر أنني انهمكت في العزف بعدها، كأنما كنت أواجه أصعب امتحان في حياتي، وهو يجاملني ويتبسط معي حتى انتهيت.
لقد تعلمت من عبد الوهاب - في ذلك اليوم مثلما تعلمت في الأيام التالية - أن الفنان إنسان بسيط مفتوح القلب والصدر، وهو لا يتكبر مهما كبر، ولا يبتعد مهما فرض عليه موقعه الابتعاد، ولقد ظل إلى آخر أيامه يفكر ويناقش ويعمل، ولم يكن يرفض لقاء أحد حتى من جيل أبنائنا وتلاميذنا، وقد كان له موعد أخلفه رغما عنه يوم الأحد الماضي مع الشاعر الشاب عمر نجم، وكان هذا الشاعر قد طلب الموعد دون أمل كبير في اللقاء!
لقد غير عبد الوهاب تاريخ الموسيقى الحديثة فأحيا وجدد وطور، وبث روحا في فنوننا لا تضارعها إلا روح قادة التنوير من المفكرين والعلماء والأدباء، فتاريخه هو تاريخ القرن العشرين، وسجله سجل أجيال متلاحقة شارك في صنعها اليوم، مثلما سيشارك في صنعها بعد رحيله.
عند بائع الصحف
وقفت عند بائع الصحف أتأمل الكتب التي يقدمها للقراء على قارعة الطريق، وشدني كتاب فتصفحته وأعدتها جميعا وقد تملكني اليأس، هل هذا كل ما يستطيع بائع الصحف أن يقدمه للقراء في مصر؟
إن هذه الكتب تنقسم بصفة عامة إلى قسمين كبيرين؛ الأول سياسي - ويتضمن المذكرات السياسية وأقاصيص الساسة السابقين وفضائحهم، وكتب المقالات التي تتضمن آراء حزبية محددة وتتطرف للدعوة إلى هذه الآراء، وما يدخل في إطار ذلك من القضايا الاقتصادية والاجتماعية. أما القسم الثاني فهو ديني، ويتضمن قليلا من كتب التراث في الفقه والتفسير، وكثيرا من كتب الآراء التي كتبت في عصور الانحطاط والجهالة، والتي يزعم مؤلفوها أو ناشروها أنها تقدم الاجتهاد، بينما لا تتوافر لأصحابها شروط الاجتهاد المعروفة، وفيها من المبالغات والتهويلات والخرافات ما يتناقض مع ما درجنا عليه جميعا من مبادئ الدين الحنيف.
واشتريت عددا من هذه وتلك، على ارتفاع أسعارها، وعكفت عليها أحاول أن أعرف سر ذيوعها - وهو ما أكده لي البائع - وبعد أيام طويلة وجدتني أنتهي إلى بعض الخصائص التي تشترك فيها على اختلافها، وبعض ملامح وجبة القراءة التي يقدمها بائع الصحف «العصري» إلى قراء هذا العصر.
وأول هذه الخصائص هي اليقين المطلق الذي ينطلق منه كل مؤلف، والذي يمنحه الثقة الكاملة فيما يكتب؛ فما يقوله هو الحق، وهو يتحمس له ويدافع عنه دفاع الواثق الذي لا يتصور احتمال الخطأ ولو من قبيل السهو أو النسيان. ولا شك أن اليقين هو الهدف الأسمى للجهد العلمي، وهو أيضا صفة المؤمن الحق، ولكن هذه الكتب ليست علمية بأي معنى من المعاني، كما أنها لا تناقش الإيمان؛ فهي تفترض وجوده في القارئ أولا قبل أن تخاطبه. إنها كتب تفترض في القارئ التصديق الكامل بحجة العلم أو الدين حتى تقدم له آراء لا تنتسب في حقيقتها إلى العلم ولا إلى الدين. ومن ثم فإن هدف اليقين هنا هو الاعتماد على الثقة؛ بغية الدعاية لفكرة ما، أيا كان حظها من اليقين.
وثاني هذه الخصائص هو أن اللون الفكري الذي تقدمه لا يعرف درجات اللون الرمادي؛ أي إنه ينحو نحو الأبيض الكامل أو الأسود الكامل مثلما تنحو أفلام رعاة البقر الأمريكية الرخيصة، فتصور الخير خيرا كاملا والشر شرا كاملا، وليس بينهما شيء. أي إن هذه الكتب تشترك مع ألوان الفن الساذج في خصيصة «المطلق الفلسفي» - وهذا ما لا نفترضه أو ما لا ينبغي أن نفترضه في الكتاب! فهذا كتاب يقول إن الريان شيطان مريد، وكتاب آخر يقول إنه عبقري الاقتصاد الذي جادت به السماء على الأرض، وهذا كتاب يقول إن أحد حكامنا السابقين لا يدانيه إبليس في شروره، وكتاب آخر يقول إنه يكاد يكون ملاكا منزلا. وقس على ذلك سائر الأحكام والفتاوى التي نقلها أصحابها عن الكتب الصفراء؛ فمن قرأ تعويذة معينة دخل الجنة وحقق آماله في الأرض، ومن أهمل نافلة من النوافل دخل النار وخاب سعيه في الأرض.
وثالث هذه الخصائص هو أن غالبية هذه الكتب مكتوبة بلغة ساذجة، تعتمد على الانفعال، وتشوبها الركاكة، وتفترض في قرائها الانتماء إلى المذهب التي تدعو إليه، كما تعتمد على أنه ذو مستوى تعليمي متوسط، وأن كثيرا من الحقائق لن تتوافر له، وأن قدرته على التفكير المنطقي محدودة، وأنه لن يناقش ما تقول بل سينبهر ويصفق له ويهلل. وهي في هذا إذن تقترب كثيرا من الموضوعات الصحفية المثيرة «ولو لم تستند إلى البحث الصحفي والتحري الصادق»، وتبتعد كثيرا عن مفهوم الكتاب العلمي الذي يضعه الإنسان في مكتبته ويعود إليه بين الحين والحين.
وعندما عدت إلى بائع الصحف بعد أسبوعين، لم أقف لأتأمل الكتب الموجودة بل وقفت أتأمل الكتب الناقصة - الكتب التي تطبع وتوزع في مصر، ولكنها لا تصل إلى باعة الصحف. إنها الكتب التي تزخر بها مكتبات الهيئة العامة للكتاب مثلا، وبعض المكتبات الخاصة في وسط البلد، وشتى المكتبات العامة أو التابعة للكليات والمعاهد والجامعات. إنها كتب علمية كتبها أو ترجمها أساتذة الجامعات ممن يقبلون التضحية بالمال في سبيل نشر العلم والثقافة.
ألا يمكن أن يقبل الناس على هذه الكتب يوما ما؟ إن أسعارها رخيصة إذا قورنت بأسعار تلك الكتب، والمادة العلمية فيها غزيرة ومغرية، وهي منوعة تنوعا لا حد له؛ فما الذي يصرف الناس عنها إلى كتب قارعة الطريق؟ هل هو الانصراف العام عن الثقافة الجادة إلى قراءة التسلية؟ لا أعتقد ذلك. فلقد شاهدت في معرض الكتاب الأخير حشودا لا نهاية لها تقبل على القراءة الجادة! هل هو ارتفاع الأسعار؟ لا أعتقد ذلك؛ فأسعار الكتب التي تطبعها هيئة الكتاب على سبيل المثال أقل بكثير من كتب الفضائح السياسية والفتاوى!
هل هو عدم توافر الكتب الجادة على طاولات باعة الصحف؟ لا أدري! فربما يقبل عليها البعض ويدبر عنها الغالبية.
وعدت مرة ثالثة إلى بائع الصحف لأنظر إلى المجلات العربية، وإلى عدم وجود الكتب المترجمة، وأتأمل هذه وتلك ... ولكن لهما حديثا آخر.
الدراما الدينية في التليفزيون
لم أكن أتصور حين دخلت قاعة المحاضرات الفسيحة في مبنى كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر أن أجد هذا الحشد الحاشد، أو أن أجدهم من أبناء الريف! كنت أتوقع أن يحضر عدد محدود من أسرة الطالب الذي وقف ليجتاز امتحان درجة الماجستير (التخصص)، ولكنني لم أتصور أن تخرج بلدة عن بكرة أبيها لتحيته والشد على يده يوم الامتحان! وعلمت فيما بعد أن طالب الدراسات العليا ذاك هو خطيب مسجد البلدة، وأن له صوتا مسموعا بين أفرادها، كما علمت أن رئيس لجنة الامتحان وهو الدكتور محمد الطيب النجار - العالم الفاضل ورئيس جامعة الأزهر السابق - كان قد تدخل ليفض خلافا وقع في البلدة وراح ضحيته كثيرون، وأنهم ممتنون له وجاءوا ليعربوا عن شكرهم وعرفانهم!
كان المشهد حيا وساخنا، وكانت الملامح تنبئ عن متابعة دقيقة للمناقشة، وعن استيعاب كل ما يقوله الممتحنون، رغم أن الموضوع علمي شائك وعسير المأخذ؛ ألا وهو الدراما الدينية في التليفزيون! وكنت أوقن أن البحث الذي اضطلع به مدرس شاب في الأزهر وهو «عبد ربه أحمد الشحوت» سوف تكون له أهميته، وسوف يحتفي به كل مسئول عن الدراما في التليفزيون، وشاركني هذا اليقين الدكتور محيي الدين عبد الحليم الذي اشترك معي في الإشراف على الرسالة؛ إذ إنه بحث ميداني استطلع آراء مئات المشاهدين في الحضر والريف، من المتعلمين وغير المتعلمين، وانتهى إلى أن الدراما الدينية التي يقدمها التليفزيون المصري حاليا تفتقر إلى الكثير، وأنها بحاجة إلى تعديل كبير في المسار.
وأول عقبة تقف في طريق التذوق الواسع النطاق لهذا اللون من الفن الدرامي هي اللغة؛ فاللغة الفصحى المستخدمة تستعصي في كثير من الأحيان على الفهم، وتقف حائلا دون وصول المعاني والمشاعر بيسر إلى جمهور المشاهدين، وأغلبهم كما يقول الباحث من غير المتعلمين ومن الأميين. ولذلك فقد أوصى الباحث بمراعاة المستويات اللغوية المختلفة للمشاهدين عند تقديم هذا اللون من الدراما، ومعنى هذا ببساطة استخدام لغة فصحى هي أقرب ما تكون إلى العامية المصرية حتى لا تنسد قنوات الاتصال، وحتى لا تتعثر «الرسالة الإعلامية» في الطريق.
أما ما لم يقله الباحث - وهو ما نبهت إليه الدكتورة فوزية فهيم أثناء مناقشتها للطالب - فهو اقتصار الدراما الدينية على التاريخ الإسلامي. والإسلام ليس تاريخا فحسب، ولكنه أيضا واقع حي؛ أي إن الاقتصار في الدراما الدينية على عرض التاريخ يوحي للمشاهد بأننا أمام تاريخ باد وانقضى، لا أمام حاضر زاهر زاخر بكل المعاني والقيم التي أتى بها الدين الحنيف، وإذا كنا بحاجة إلى التذكير بهذه المعاني التي لا تخلو منها فترة من فترات تاريخنا الإسلامي الطويل. فينبغي أن نذكر أيضا أننا لم نتخذه وراءنا ظهريا، ولم نجعله نسيا منسيا، وكان أكبر دليل على هذا - أثناء المناقشة - وجود أهل بلدة الطالب أمامنا بأصالتهم العميقة الجذور، وما تتضمنه هذه الأصالة من معان لم تعبر عنها تمثيلية واحدة من التمثيليات التاريخية التي يقدمها التليفزيون.
ودفعني الموقف إلى تأمل هذا المشهد الحي من حياتنا المعاصرة: لقد نزغ الشيطان بين أهالي البلدة، فأوقع بينهم العداوة والبغضاء. ثم تدخل عالم جليل فأصلح ما بينهم، فإذا هم بنعمة الله إخوان، ولولا فضل الله ما ساد الوئام بينهم؛ ولو أنفق الناس ما في الأرض ما ألفوا بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم! أوليس هذا موضوعا دينيا جديرا بمعالجة درامية شائقة؟ كيف تحولت البغضاء إلى حب؟ وكيف انقلب العداء إلى وفاق وتضامن؟ لقد وقر الإيمان في القلب وصدقه العمل؛ وهذه هي أخلاق الإسلام التي نحتاج إليها اليوم أكثر من أي عصر مضى!
وذكرت كلاما مشابها قاله الممثل العبقري الراحل عبد الوارث عسر، في تعقيبه على تمثيلية إذاعية تناولت مثل هذا الموضوع، وأذيعت في أوائل الخمسينيات، وتركت أثرا لا ينمحي في نفسي؛ إذ قال إن الشيطان يعرف طريقه إلى قلوبنا بأن يغشي عيوننا عن معنى الحياة وامتدادها بعد الموت. فلا نرى بسببه إلا مغانم الدنيا الهزيلة، ولا نحس إلا بمتاعها القليل وعرضها الزائل؛ ومن ثم نتحول إلى وحوش يتربص بعضنا بالبعض، ناسين ذلك الامتداد الروحي العظيم خارج حدود المحسوسات.
لم يكن بين الموجودين في القاعة من أطلق لحيته، أو تزيا بزي يميزه عن سائر أهل الزمان، فالمدرسون الجالسون في الصف الأول يرتدون الحلل العادية، وأهل البلدة يرتدون ملابس أهل الريف. ولكنك كنت تحس أن روح الإسلام تغمر الجميع، وأن القيم والمثل العليا التي تنشدها في التاريخ ماثلة أمامك في الحاضر الحي النابض! وأحسست بالفوارق التي صنعتها الحضارة وأقامتها بين الريف والحضر تتهاوى. فالكل مؤمن يعرف أن الله لا ينظر إلى صورنا، ولكن إلى ما في قلوبنا.
وامتد بي سيال الفكر إلى موضوعات الدراما الدينية التليفزيونية المتكررة التي تدور حول أصول العقيدة، وتعجبت في نفسي؛ هل ثم من يحتاج في هذا الزمن إلى مناقشة وجود الله سبحانه وتعالى؟ إن الدراما التليفزيونية تخاطب المؤمنين، ولن يشاهدها من يخالجه شك في الدين، ولو شاهدها ما تغير وما اقتنع! لا بد من إعادة النظر إعادة شاملة في هذه الموضوعات أيضا، إلا إذا كنا ننتج هذه المسلسلات ابتغاء للربح من بيعها بالدولار لغيرنا، وهذا سبب واه لا يبرر كل شيء! والموضوع بعد شاسع، وربما عاد إليه الباحث في رسالة الدكتوراه.
عن الاغتراب والعودة
لا نختلف عن سائر بلدان الأرض في أن بيننا من الأدباء من يرحل عن وطنه فترة من الزمن ثم يعود إليه، ومن يرحل فلا يعود إلا لزيارة الأهل حينما يغلبه الحنين، وفي أن أدباءنا يحسبون لنا أو علينا سواء عاشوا بيننا أو بعيدا عنا، وقديما قال مؤرخ أدبي إنجليزي: «سوف تجد أدباء أيرلندة في كل مكان إلا في أيرلندة.» ومنذ شهور حصلت باحثة في جامعة القاهرة على الدكتوراه عن بحث تقدمت به عن الشعراء الإنجليز الذين عاشوا في مصر إبان الحرب العالمية الثانية، ومنهم «لورانس داريل» الشاعر والروائي الإنجليزي صاحب «رباعية الإسكندرية» الذي لا يزال يعيش خارج إنجلترا حتى اليوم، وقد أثبتت الدكتورة «هدى الصدة» في هذه الرسالة أن الغربة أثرت تأثيرا إيجابيا في شعرهم وعقدت مقارنات بين الثقافتين العربية والأوروبية كما تجلت كل واحدة في هذا الشعر.
ونحن نذكر في أمسنا القريب شعراء المهجر الذين صاحبوا حركة الإحياء الثانية - أي الحركة الرومانسية في الشعر العربي التي تلت حركة الإحياء الأولى - وكلنا مدين بالفضل لهذا التفتح الكبير على العالم؛ إذ كان من ثماره بزوغ التيارات الحديثة في الأدب والنقد، ولولاه ما تبلورت في الشعر نظرات أصحاب مدرسة الديوان (العقاد والمازني وشكري) فالمهاجر الأدبية ليست بدعة، وليس الاغتراب الأدبي مقصورا على شعب دون شعب، ولا على لغة دون لغة .
إن احتكاك الثقافات وتصارعها عامل مهم من عوامل الوعي الذي لا غنى عنه للأديب، وقد فعل الطيب صالح الروائي السوداني المعاصر في «موسم الهجرة إلى الشمال» ما فعله «فورستر» في «رحلة الهند»، وما فعلته الشاعرة «هيلدا دولتيل» في ديوانها الجميل «هيلين في مصر» الذي يروي في قصيدة تلو قصيدة رحلة هيلين إلى مصر وليس إلى «طروادة»؛ استنادا إلى رواية شاعر آخر هو «ستيسيكورس الصقلي» الذي يسلك طريقا آخر غير الذي سلكه «هوميروس» في تفسير الأسطورة اليونانية القديمة. وجوهر الديوان الذي يتخذ صورة الرواية الغنائية
Lyric narrative
هو امتزاج الثقافة اليونانية بالثقافة المصرية والتقاء الأساطير عبر البحر المتوسط في جذور تضرب في أعماق التربة المصرية، مثل تحول «هيلين» إلى صورة «إيزيس» المصرية وتحول «باريس» إلى الصقر «حورس» في ظلام المعبد الكبير على شاطئ النيل في الأقصر - معبد الكرنك - ومن ثم فهي تستلهم من مصر معنى جديدا للأسطورة الأساسية التي تقوم عليها ملحمة «الإلياذة».
وقد جرى العرف على اعتبار القرن التاسع عشر فترة اكتشاف الغرب للشرق، واكتشاف الشرق للغرب، ولكن القرن العشرين قد أذاب هذا التقسيم القديم.
وقد هدتنا أبحاثنا في تراثنا العريق إلى جذور إنسانية وقيم ثابتة جعلت من التقسيم الجغرافي القديم تقسيما غير دقيق؛ فالشاعر الأوروبي الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على الأساطير في تراثه الحاضر، والشاعر العربي الذي يستخدم - واعيا أو غير واع - النماذج الفطرية
archetypes
التي اكتشفها العالم النمسوي «كارل يونج» يقول بصورة ضمنية أيضا إن وحدة المعرفة حقيقة، ووحدة الأدب لا تفرق بين الأمكنة والمياه، والرموز الثقافية في جوهرها واحدة ومتكررة، وهي مبحث مهم من مباحث الأدب المقارن الحديث.
كيف ندهش إذن عندما نشهد هذا الاهتمام الكبير بدراسة الآداب العربية في أوروبا وأمريكا، بل وفي الصين وفي الهند، مثلما ندرس نحن الآداب الأجنبية؟ وكيف ندهش إذن حين يغترب بعض أدبائنا فيعيشون في بلدان لا تتحدث العربية، ثم يكتبون بالعربية أعمالا أصيلة، ترجمت أم لم تترجم؟ ليس هذا مبعث دهشة، ولكن لدينا ظاهرة ما أحسبها إلا مقصورة علينا، وهي أن البعض ينفصل عن التراث عند الذهاب، أو ينبذه عند الإياب، وربما كان هذا هو مبعث القلق لدى الكثيرين ممن يتابعون أحوال بعض نقادنا وأدبائنا بعد الذهاب وعند الإياب.
أما الانفصال فمعناه لا يقف عند عدم متابعة حركة المجتمع والأدب في مصر (إذ كثيرا ما يتصور من هجر مصر في الستينيات مثلا أن مصر لم تنجب أحدا بعد كتاب تلك السنوات)، ولكنه يتعدى ذلك إلى الخلط بين المعايير الاقتصادية والمعايير الإنسانية في الحكم على أبناء وطنه وآدابهم؛ إذ يرى البعض (في أعماقه) أن الفقر المادي يستتبع بالضرورة فقرا إنسانيا، وأن قوة السلاح تستتبع بالضرورة قوة إنسانية. ومن ثم فهم ينبذون التراث ربما لأنهم لا يعرفونه حق المعرفة (فكم من أستاذ للعربية بجامعات أمريكا وأوروبا لا يعرف من الأدب العربي إلا نجيب محفوظ)، وربما لأنهم يرونه مرتبطا بصورة حضارية زالت، أو ربما اعتقدوا أنها ينبغي أن تزول من الوجود. وأما نبذ التراث عند الإياب فمعناه وقفة تعال غريبة، تهب بعض العائدين نبرة صلف محزنة، مبعثها الأول في نظري شذرات من الكلمات الأعجمية (ربما لا يحسنون نطقها)؛ توحي بالتميز والانتماء إلى حضارة أخرى أو بالعالمية (لأنهم يكتبون بلغة منتشرة على نطاق العالم الكبير)، ولكل من هذين الجانبين - الانفصال والنبذ - حديث مستقل.
معنى الأستاذ والأستاذية
جرى العرف في الحياة الجامعية على المقابلة بين كلمة «أستاذ» المعربة، وكلمة «بروفيسور» التي شاعت في اللغات الأوروبية الحية اليوم؛ لتعني أعلى منصب علمي في الجامعة - أي المنصب الذي يتيح لصاحبه أن يرشد الطامحين من الطلاب إلى سبل البحث العلمي والدراسة المتعمقة؛ أي إن الكلمة قد اكتسبت معنى جديدا يختلف عن معناها القديم الذي ساد حتى القرن الخامس عشر الميلادي والذي ذكره ابن تغري بردي في كتابه «النجوم الزاهرة» قائلا: «الأستاذون هم المعروفون بالخدام والطواشية، وكان لهم في دولتهم المكانة الجليلة، ومنهم من كان من أرباب الوظائف الخاصة بالخليفة، وأجلهم المحنكون، وهم الذين يدورون عمائمهم على أحناكهم كما تفعل العرب والمغاربة.» بل إن الكلمة قد أصبحت بديلا للكلمات التي ألفناها في كتب التراث العربي مثل: «العالم العلامة والحبر الفهامة»، أو «الفقيه» أو «الشيخ» وكلها ذات أصل ديني تماما مثل كلمة «بروفيسور» الإنجليزية، بل وكلمة «دكتور» بمعنى معلم التي كانت ترتبط بالدين والقانون أول الأمر، ثم تحولت إلى معناها الحالي.
وقد حاكت الجامعة المصرية - منذ نشأتها - نظم الجامعات الأوروبية، فوضعت سلما لوظائف هيئة التدريس، وعلى قمته «أستاذ الكرسي»؛ أي «أستاذ المادة» الذي يرجع إليه علميا وإداريا في كل ما يتصل بها.
ولدينا في جامعة الأزهر النظام القديم؛ أي نظام الشيخ وتلاميذه، الذي يختلف بطبيعة الحال عن النظام الغربي، ولكن النظامين يشتركان في أن الأستاذ عادة ما يكون له أسلوب خاص في البحث، يمكن اعتباره منهجا فكريا متميزا، يقترن باسمه، ويكون علما عليه.
ولما كان تطور العلم يسير في حلقات متشابكة متداخلة يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، أصبح عمل كل أستاذ بمنزلة امتداد لعمل من سبقه، حتى وإن اختلف معه بعض الشيء في مذهبه؛ إما بالتعديل الصريح، أو بالتطوير غير المباشر، أو بمجرد التشذيب والتهذيب. بل إن التلميذ قد يأخذ عن أستاذه مذهبه فيستخدمه في الإتيان بالجديد الذي يحسب له لا لأستاذه.
ولكن ما جوهر عمل الأستاذ؟ وما طبيعة علاقته مع طلابه؟ إجابة السؤال الأول يسيرة؛ فجوهر عمله هو البحث العلمي بأشكاله المختلفة، وأهمها القراءة - بطبيعة الحال - بغية متابعة النتائج التي تنتهي إليها بحوث الآخرين والاستفادة منها في بحوثه الخاصة، ويعني هذا أن الجانب الأكبر من وقته ينبغي أن يخصص للدراسة، سواء كان مكانها مكتبه في الجامعة (كما هو الحال في أوروبا) أم كان مقرها منزله؛ لعدم وجود مكان للقراءة في الجامعة، أو لعدم وجود «مكتب» له أصلا في جامعات اكتظت بالطلاب حتى طفحت. وإلى جانب هذا يطلب منه إلقاء عدد محدود من المحاضرات على الطلبة، سواء في مرحلة الليسانس أو البكالوريوس، أو في مرحلة الدراسات العليا. وعادة ما تكون هذه المحاضرات نابعة من طبيعة البحث الذي يقوم به، وتابعة له ربما أضافت إليه وزادته ثراء؛ نتيجة المناقشة مع الطلاب .
أما علاقته مع الدارسين فهي باختصار علاقة توجيه لا علاقة تلقين؛ أي إن الأستاذ لا يقدم «معلومات» للطالب، بل يوجهه إلى مصادر المعلومات، فإذا أحاط بها الطالب ناقشه الأستاذ فيها على ضوء مذهبه الفكري الخاص. وقد يختلف الطالب مع أستاذه هنا، وقد يظهر من الاستقلال الفكري والأصالة ما يجعله يثور على أفكار أستاذه؛ إما بالرفض أو بالتعديل، وهنا يكون من حق الطالب اختيار أستاذ آخر يقبل مذهبه الفكري الخاص، ما دام علميا موضوعيا يستند إلى ثوابت المنهج العلمي العام الذي لا يختلف من أستاذ إلى أستاذ. وهذا هو مربط الفرس كما يقولون! إذ إن كل هذا الكلام يفترض الجدية من الطالب والأستاذ جميعا، والسعي لتحقيق غاية البحث العلمي، وهي إضافة الجديد إلى عالم المعرفة الإنسانية؛ وهذا هو ما نفتقده في جامعاتنا، باستثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها.
فلنتجاوز أسباب هذه الظاهرة وهي الأسباب التي لا ينكرها أحد (مثل تحول مفهوم الجامعة تحولا جذريا بسبب الأعداد الهائلة للطلاب، وضيق المكان، وقلة الموارد المالية، وما إلى ذلك)، ولنتأمل النتيجة التي ربما غفل عنها الكثيرون، وهي تدهور وضع الأستاذ في الجامعة بصفة خاصة، ثم تدهور صورته في المجتمع بصفة عامة؛ فهو مضطر إلى بذل جهده الأساسي في التلقين، لا في البحث العلمي، وفي الإشراف على رسائل لا يصل الكثير منها إلى مستوى البحث العلمي الناضج، أو إلى ممارسة أعمال خارج نطاق العمل الأكاديمي المحض؛ إما ابتغاء الرزق أو لأن المجتمع في حاجة ماسة إلى هذه الأعمال. والسبب - في رأيي - في هذا كله هو فقدان الأستاذ نفسه معنى الأستاذية؛ فهو يترقى في السلم الوظيفي إلى درجة أستاذ، دون أن تكون له مقومات الأستاذ التي ذكرتها آنفا؛ مثل المذهب الفكري المحدد الذي يطرحه في كتبه ودراساته ومقالاته، ودون أن يكون قد جعل من حياة الجامعة حياة كاملة تتصل فيها قاعة الدرس بغرفة المكتب في المنزل؛ بحيث يكون نشاطه هنا وهناك «عملا» متواصلا بالقراءة والبحث والكتابة.
ويكفي أن نسأل هذا السؤال: كم من الأساتذة الذين تحفل بهم جامعاتنا كتب كتابا «جديدا» أو قام ببحث «جديد» بعد حصوله على الأستاذية؟ إن النسبة ضئيلة ومحزنة، بل لقد اعتدنا في مجتمع الجامعة حديث «الإعارة» إلى البلدان العربية الشقيقة؛ حيث يتحدد الهدف في جمع المال ، وقد تطول الإقامة وتمتد، وقد يعود الأستاذ أو لا يعود، وقد يتحول إلى مسافر دائم التنقل والتجوال مدفوعا بضيق ذات اليد أو بالرغبة في بناء رصيد مالي يقيه وأسرته غائلة الزمن. ولست أملك لهذه الحال حلولا، ولا أعرف منها مخرجا، ولكنني أنظر فحسب إلى النماذج المشرقة من جيل الأساتذة الذين سبقونا وأتطلع إلى يوم يعود فيه معنى الأستاذ إلى ما كان عليه في الجيل الماضي، وفي ظني أن هذا ليس محالا ولا متعذرا، بل لن يكون عسيرا إذا ذكر كل أستاذ معنى الأستاذية، وأصر على التمسك بقيمها ومثلها في زمن اشتدت فيه الحاجات إلى القيم والمثل.
النقد الأدبي ... والأوهام!
تتميز مصر عن بلدان العالم بظواهر عجيبة، قد تحسب لها أو عليها، ولكنها دائما فريدة؛ منها مثلا وجود ما يسمى بجهاز الإعلام الفردي أو غير الرسمي؛ أي انتقال الأخبار (الصادقة أو الكاذبة) عن طريق الأحاديث الودية والمناقشات العابرة في المكاتب والمقاهي والمنازل فيما بين الأصدقاء والمعارف والأقارب؛ أي ما يسمى بالإنجليزية
On the grapevine ؛ أي على فروع تعريشة العنب، وهو مصطلح اكتسب احترام الدارسين لموضوع الاتصال الجماهيري بعد ما لاحظوه من تفشيه في البلدان النامية التي يترابط فيها البشر ترابطا شديدا ويستمدون من علاقاتهم الحميمة قوة تعينهم على مجالدة شظف العيش، وتعوضهم عما يفتقرون إليه من وسائل الرخاء المادي.
وقد اهتمت الأجهزة الحاكمة في البلدان النامية بهذا الجهاز غير الرسمي اهتماما بالغا وجعلت دراسته جزءا من دراسة الرأي العام، وأفردت لدراسة الشائعة (أي الخبر الكاذب الذي يشيع فيكتسب قوة الخبر الصادق) بابا خاصا، وانتهت إلى استخدام ذلك الجهاز نفسه للترويج للأخبار التي تريدها وتعتبر أنها مفيدة للشعب.
ولكن هذه الظاهرة التي نشترك فيها مع سوانا ذات مذاق خاص في مصر؛ لأننا شعب يعشق الكلام أكثر من غيره، ويتميز بخصب خياله الذي يولد فكاهات (نكت) لا يشاركنا فيها الكثيرون، فمعظم الأحاديث التي تتميز بالطرافة في المجتمعات الحميمة يستند إلى قدرة المتحدث على إمتاع السامعين بالأخبار الغريبة، وهي أخبار يؤلفها صاحبها تأليفا وقد يصدقها أثناء روايته إياها، وقد يصدقها فيما بعد، ولكنها بعد فترة تكتسب درجة من التصديق لا تتوفر للأخبار الصادقة.
وإذا كنا نشترك مع بلدان العالم كله في هذه الظاهرة أيضا؛ فإننا نتميز عنها بطرافة الشائعة ونوعها الفريد - كما قلت - لأن لنا خيالا خصبا نعيش فيه بقدر ما نعيش في الواقع! وقد حاولت تحليل هذه الظاهرة في المقدمة التي كتبتها للترجمة الإنجليزية لرواية «وقائع حارة الزعفراني» لجمال الغيطاني (التي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986م، وكادت تنفد في أقل من ثلاث سنوات)، كما حاولت رصد جذور تغلغل الوهم في حياتنا.
وأذكر أن أول مرة اصطدمت فيها بهذه الظاهرة كانت في الستينيات عندما اجتمعنا في الإسكندرية مع لفيف من «المثقفين» لمناقشة إحدى روايات إحسان عبد القدوس، فبرز من الحاضرين من أكد لنا أن كل رواياته مترجمة، وأنه يعرف «كيف يكتب هؤلاء الناس»، ودهشت دهشة بالغة وناقشته مناقشة هادئة؛ احتراما لمكانته العلمية (إذ كان يشغل منصبا رفيعا في الجامعة)، فقال أولا إنه يستند إلى الثقات في هذا الموضوع الذين أخبروه بهذا، ولكنه اضطر إلى الاعتراف آخر الأمر أنه «سمع» ذلك من أحد الناس (ورفض بالطبع ذكر اسمه)، وقدم لي نوعا من السيناريو الخيالي عن كبار الكتاب الذين «يسرقون» قصص غيرهم، واليوم تعود الأوهام إلى حقل النقد الأدبي من باب جد خطر؛ ألا وهو التوصيف والتصنيف المذهبي أو العقائدي؛ إذ يطلق المتحدثون لخيالهم العنان فيرسمون صورا غريبة لعلاقات مريبة بين الكتاب وأرباب الاتجاهات السياسية، وعادة ما يبدأ الواحد منهم حديثه بالعبارة الشهيرة التي عانى منها تاريخ العربية طويلا؛ ألا وهي «حدثني محدث صدق» أو «سمعت من مصدر موثوق به»، ولا ثمة محدث ولا ثمة مصدر سوى خيال المتكلم!
ولذلك وجدتني أواجه موقفا مألوفا أثناء مناقشة في معهد التدريب التليفزيوني مع أحد الدارسين عن نجيب محفوظ، عندما لجأ إلى سيناريو مألوف عن معنى فوزه بجائزة نوبل، واسترسل في هذا السيناريو بصورة كادت تقنع الحاضرين به، فلم أجد أمامي إلا أن أسأله أسئلة محددة عن مصدر معلوماته، فلجأ إلى المحاورة والمداورة، وكنت أعلم أنه سيحاور ويداور، وفي النهاية أقر بأن هذا هو تفسيره الشخصي الذي انتهى إليه من قراءته للموقف، والأرجح عندي أنه أوحي به إليه من بعض الذي يعيشون في الأخيلة والأوهام من باب تزجية الوقت على المقهى أو في جلسات المنزل الطريفة التي تحتاج إلى «محدث» ماهر يلعب دور المؤلف الذي يسلي الحاضرين بحكاياته الغريبة التي يدسها في ثنايا أحاديث صدق حتى تكتسب منها رنة الصدق.
وما قيل عن نجيب محفوظ يقال عن كل من يعمل وينتج في حقل الأدب وفي النقد الأدبي، فما أيسر أن يزعم زاعم علمه بسر حتى تتطلع إليه العيون وتتعلق به العقول، فإذا أفضى بالسر المزعوم ولاقى استحسانا أردفه بسر آخر حتى يفرح السامعون ويطربوا، ولا غرو؛ فلقد أصبحت التمثيليات الخيالية التي يبثها التليفزيون جزءا من حياتنا الواقعية، وتلاشى الحاجز الذي يفصل بين الوهم والحقيقة، وأصبح الناس يستشهدون بما يحدث في المسلسلات والمسرحيات كأنما يستشهدون بالتاريخ الصادق. وقس على ذلك من يقول لي في قاعة الدرس في الجامعة - حيث لا مجال للأوهام - «لقد سمعت كذا وكذا»، وقد يكون قد سمع ذلك في أجهزة الإعلام، أو في الطريق العام! وقد كنت أثور عند سماع هذه العبارة فيما مضى، أما الآن فإنني اعتدتها، وكل ما أتمناه أن يسائل كل «سامع» نفسه عن مدى مصداقية المسموع، وأن يتريث قبل أن ينقل أوهامه إلى واهمين جدد!
لعبة الجامعة
هذه لعبة من نوع خاص؛ تبدأ في مرحلة الدراسة الثانوية بالتسخين عند نهاية تلك المرحلة وإعلان الطوارئ في معظم منازل مصر، وانتشار الذعر والفزع عند ذكر الامتحان الرهيب - الثانوية العامة - واهتمام أجهزة الإعلام على شتى مستوياتها وبمختلف أنواعها بأخبار الامتحان، فبعضها ينشر أسئلة وبعضها ينشر إجابات وبعضها ينشر تصريحات، وبعضها يذيع الدروس ويتلفز المعلومات! وبعد التسخين يأتي دور مكتب التنسيق وأخبار مراحل القبول وحيل القبول، والباب الخلفي والباب الأمامي، ثم تغلق الأبواب وتبدأ اللعبة في أوائل أكتوبر!
واللعبة ببساطة هي محاولة الحصول على الشهادة الجامعية بأقل قدر من العلم والمعلومات! أي إن الطلبة يتنافسون أيهم يستطيع أن ينجح ويتخرج بأقل جهد، ودون أن تتسرب المعلومات إلى ذهنه خوفا من استقرارها هناك، وخوفا من تأثيرها على تفكيره أو تعكير صفوه، أو تسويد صفحاته البيضاء الناصعة! ولذلك فالطالب يبدأ في اكتساب مهارات اللعبة منذ السنة الأولى؛ إما بدراسة طرق الامتحان استنادا إلى الامتحانات السابقة، وأقوال الخبراء ممن سبقوه إلى الانتصار في هذه اللعبة، وإما بالتحايل الفردي استنادا إلى خبرته الشخصية!
وأهم قواعد هذه اللعبة المحافظة على الشكل الخارجي للملعب؛ مثل ركوب المواصلات أو التاكسي، وحضور المحاضرات، والتردد على المكتبة؛ (للتأكد من وجود الكتب بها) واستنساخ المذكرات، وشراء الكتب، بل والسهر للاستذكار مع الأصدقاء، ومشاهدة البرامج «العلمية» في التليفزيون! وأهم عنصر في هذا كله هو السهر حتى الصباح ليلة الامتحان؛ حتى يتوفر للطالب القدر الكافي من التوتر والارتجاف والارتعاش والرهبة؛ وإلا فما معنى الامتحان إذا لم يكن محنة؟
والقاعدة الثانية التي لا تقل أهمية عن الشكل الخارجي هي رفض أي معلومات «خارجة عن المقرر»؛ فالطالب يرفض رفضا باتا - فهي مسألة مبدأ - أن يقرأ كتابا أو فصلا في كتاب لا يقرره الأستاذ؛ حتى لا يزيد من أحمال وأعباء عقله! بل هو أحيانا يتفاوض مع الأستاذ تفاوضا جادا في تخفيض عدد الفصول المقررة من الكتاب وإلغاء بعضها؛ فهي مثل ديون العالم الثالث، لا بد من إسقاط بعضها رأفة بحال الطالب! ولذلك فالطالب يحب الأستاذ المتساهل الذي لا يقسو (يا حرام) على أبنائه الطلبة بأن يقرر عليهم كتابا كاملا، ويكره الأستاذ الصعب الذي يطالب الطالب بدراسة الكتاب كله، وأحيانا بدراسة كتب أخرى إلى جانبه (فهذا ظلم فادح).
والطالب الذي ينتصر في هذه اللعبة هو الذي يستطيع أن يحدس النقاط الهامة في المقرر حتى يستذكرها فحسب، أو أن «يتصرف » في الامتحان حتى يجتازه دون جهد استذكار؛ فالطالب الجديد ليس طالب علم - بل هو طالب شهادة - وهذه هي الفكرة التي تقوم عليها اللعبة!
أما الأساتذة الذين يعتبرون الفريق الآخر الذي يلاعبه الطلبة فبعضهم يلعب اللعبة حسب قواعدها، فيحاور الطلبة حتى يضطرهم إلى القراءة والاستذكار - معلنا انتصاره إذا نجح في إدخال بعض المعلومات «بالعافية» في أذهانهم، وبعضهم لا يعرف قواعد اللعبة جيدا؛ فهو يمارس العملية التعليمية على افتراض أنها عملية جادة لا بد أن تثمر على مر الزمن، كثيرا ما يصيبه الإحباط، بل واليأس أحيانا، وكثيرا ما يترك الجامعة لعمل مثمر يرضيه ويحس فيه بنتيجة جهده وكده!
ومن بين من يجيد أداء اللعبة أساتذة فقدوا الحماس بعد سنوات من المحاولة، وآخرون لم يعودوا يحاولون أصلا، وفريق ثالث لا يعرف موعد انتهاء المباراة فهو مستمر في المحاولة (لعل وعسى)؛ معتمدا على أن في الجيل الجديد قلة جادة لا بد أن تحمل الشعلة من بعده! لقد أدى المناخ الثقافي العام والأوضاع الاجتماعية التي تغيرت بسرعة لم يتوقعها أحد إلى عدم نشدان العلم لذاته، بل إن من بيننا من يصر على ربط التعليم بالعمل؛ بحجة التنمية وخطة التنمية، مما جعل معظم أبناء الجيل الجديد يفقدون قيمة العلم والتعليم، وهي قيمة خالصة؛ فهم يرون من حولهم أن الجاهل قد يفوز في لعبة الحياة، وأن السعادة لا علاقة لها بالعلم، وأن النجاح أصبح لا يرتبط بتنمية الذهن!
رحيل إنسان عظيم
في خريف عام 1957م قيل لنا في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة إن أعضاء هيئة التدريس قد رحلوا إلى إنجلترا! وكان القول غريبا ومبالغا فيه، ولكنه لم يكن يخلو من الصدق؛ إذ إن عودة العلاقات مع بريطانيا عقب رحيل قوات الغزو في ديسمبر 1956م فتحت الطريق أمام استئناف البعثات الدراسية، فاتجه عدد كبير من المدرسين الذين لم يكونوا حصلوا على الدكتوراه إلى إنجلترا؛ للدراسة والحصول عليها. وكان عدد من بقي قليلا؛ ومن ثم ظللنا نتساءل عمن سيدرس لنا هذه المادة أو تلك من المواد الإنجليزية؛ فالمواد الأخرى ثابتة إذ كان يعلمنا اللاتينية أستاذ أيرلندي (مستر كروفورد) والحضارة أستاذ هولندي (فرهايدن) واللغة الفرنسية أستاذ فرنسي (مسيو باكو) والعربية والترجمة أستاذان كبيران من قسم اللغة العربية؛ هما الدكتور شكري عياد والدكتور عبد العزيز الأهواني. ولم تطل حيرتنا إذ دخل علينا قاعة المحاضرات ذات يوم أستاذ، ما إن بدأ يتكلم حتى أحسسنا بأننا نستمع إلى متحدث من نوع غير مألوف؛ فلغته الإنجليزية سلسة سيالة متدفقة، وهي من نوع السهل الممتنع، فأنت تحس أنك تفهم كل ما يقول دون أمل في مجاراته، وهو ينطقها بلهجة أبناء جامعة أكسفورد العريقة؛ لهجة تجمع بين دقة الصواب وجمال الجرس، تطرب لها الآذان ويهفو إليها القلب.
وتولى الدكتور مجدي وهبة تدريس عدد من المواد الإنجليزية لنا؛ كان أهمها الشعر والنقد، وشعرنا أننا قد انتقلنا معه نقلة مفاجئة من البدايات إلى صلب الأدب الإنجليزي (وكنا بعد في السنة الثالثة)، وأحسسنا بعد قليل بالألفة مع ما يقول، وسرعان ما أصبحت محاضراته ساعة نشتاق إليها ونحرص عليها، ولم تمض شهور حتى حدث ما لم نتوقع؛ إذ انكسر حاجز خوفنا من اللغة الإنجليزية، وشرع بعضنا يسأل أو يجيب بها، وهو يبدي من الصبر والحنان ما لم نشهده من أستاذ سابق (أو أستاذ لاحق)، حتى انتهت امتحانات الفصل الدراسي الأول، وحلت عطلة نصف العام.
كان بعضنا يحلم بأن ينقل بعض تراث الإنجليزية إلى العربية، وكان يترجم بعض القطع شعرا ونثرا إلى العربية، ولا أذكر كيف علم الدكتور مجدي وهبة بهذا، ولكنه عرض علينا في بداية الفصل الدراسي الثاني أن يعقد مسابقات في الترجمة الشعرية إلى العربية - وتحقق المشروع وأصبحت المسابقات أسبوعية، وكانت جوائزها كتبا من مكتبته الخاصة، ثم تنوعت المسابقات لتشمل كتابة القصة القصيرة بالعربية والشعر أيضا، وامتدت واتسع نطاقها لتشترك فيها أقسام الكلية الأخرى وعلى رأسها قسم اللغة العربية.
واستمر النشاط الدائب في العام التالي، وتخرجنا في قسم اللغة الإنجليزية وتفرقنا، وإن مكث بعضنا للعمل في الجامعة، وكان من حسن حظي أن توثقت علاقتي بالدكتور مجدي على مدى سنوات طويلة، فكان لي خير مرشد ومعين؛ إذ لمست فيه قدرا من الصفاء ودماثة الخلق لا يجدها الإنسان إلا في القصص الخيالية، واقتربت منه أشد اقتراب أثناء عملي معه في إخراج كتاب عن النقد المسرحي الكلاسيكي - هو «درايدن والشعر المسرحي، دار المعرفة، 1963م» - وكان لا يبخل على طالب بوقته ولا يضن عليه بعلمه. وفي تلك السنوات البعيدة لمست أول بذور لاتجاهه المعجمي والمجمعي في اهتمامه البالغ باللغة العربية وحدبه الشديد على إخراج القواميس التي تنقل إلى لغة الضاد شتى معاني اللغات الأوروبية الحديثة.
وبعد سنوات طويلة من البذل والعطاء في قسم اللغة الإنجليزية قرر الدكتور مجدي وهبة أن رسالته ليست التدريس للطلبة، بل إعداد القواميس المترجمة
lexicography ؛ ومن ثم ترك التدريس، وإن لم يترك الجامعة ولا طلبة الدراسات العليا، وتفرغ لإخراج معجم بعد معجم، أهلته لعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ووضعته في مصاف الندرة التي تعمل في هذا المجال العسير الشاق.
واليوم رحل عن دنيانا هذا الإنسان العظيم الذي أمضى عمره في خدمة اللغة العربية، وكان يمكنه أن ينتج كتبه بالإنجليزية أو الفرنسية، معلنا لجيلنا مدى انتمائه إلى هذا الوطن، ومدى حبه لهذه اللغة، وقائلا لنا في كل ما أخرج من معاجم متخصصة وغير متخصصة إن دراسة الآداب الأجنبية يجب أن تنصب في نهاية المطاف في الثقافة القومية، وفي خدمة لغة الضاد؛ وهذا هو الدرس الذي تعلمه جيلي من هذا الأستاذ الكبير.
لقد انطفأت جذوة علم من أعلام مصر الحديثة، ولكن بصيص النار ما يزال يتقد فيما خلفه من دروس ومن أشخاص كان يعتز بهم اعتزازهم به، رحمه الله رحمة واسعة.
مع لويس عوض
«الفردوس المفقود»: درس في الترجمة بقلم: د. لويس عوض
كنا ونحن شباب نأخذ الترجمة مأخذ الجد. فقد كنا ننظر إليها أولا على أنها نوافذ تفتح على الثقافات والحضارات الأخرى قديمها وحديثها؛ فهي إذن جزء لا يتجزأ من السعي الوطني لبناء عقل الأمة ولترقية مشاعرها وتهذيب ذوقها وتوسيع مداركها ومعارفها، بل ولتصحيح كل هذه الأشياء. وكنا ننظر إليها ثانيا على أنها أداة من أدوات إثراء اللغة العربية ذاتها وتطويرها؛ لتصبح أقدر تعبيرا عن مناخ العصر واحتياجاته في الآداب والفنون والعلوم، وفي شئون الحياة اليومية.
وكان الجاهلون باللغات الأجنبية بيننا لا يقلون امتنانا للمترجمين عن العارفين بهذه اللغات. فلم نكن قد أصبنا بعد بداء الغطرسة القومية التي تجعل بعضنا الآن ينظر إلى كل فكر وارد من الخارج على أنه «غزو ثقافي». حتى ذلك الشاعر الكبير الذي قال عن اللغة العربية: «أنا البحر في أحشائه الدر كامن» لم يجد غضاضة في أن يترجم بعض أجزاء «البؤساء» لفيكتور هوجو، ليس فقط ليثبت أن العربية تصلح وعاء للأدب القصصي العظيم، ولكن ليشرك أبناء أمته في انفعاله بروائع الأدب العالمي.
وكانت هناك مدارس ومدارس في الترجمة.
كانت هناك مدرسة المنفلوطي في الترجمة الأدبية، وهي مدرسة تقوم على الاقتباس. ولا أظن أن مصطفى لطفي المنفلوطي كان يعرف لغات أجنبية. وكنا نقرأ ونسمع أنه كان يختار رواية مترجمة ترجمة عادية ناقصة في البلاغة، فيصبها بتصرف كبير في لغته البليغة التي اشتهر بها في «النظرات» و«العبرات». وهكذا خرجت روائع الأدب الغربية مثل «ماجدولين» و«بول وفرجيني» و«في سبيل التاج».
ثم كانت هناك مدرسة محمد السباعي وعباس حافظ، وهذه اقتربت من الترجمة كما نعرفها، فقد كان هذان الأديبان يتقنان الإنجليزية أو الفرنسية ويترجمان عنهما رأسا، ولكن ببلاغة تكاد تضارع بلاغة المنفلوطي. غير أنهما كانا أسيرين لبعض أساليب البلاغة العربية؛ كالسجع والجناس والطباق وغير ذلك من عناصر البيان والبديع، فكانا يضيفان إلى العبارات معاني ليست فيها، أو يحذفون منها معاني من أجل حسن الجرس والجزالة العربية. وربما أضفنا إلى هذين الأديبين أحمد لطفي جمعة المحامي. وقد كان لهؤلاء الثلاثة فضل تعريفنا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات بقصص موباسان وتشيكوف وغيرهما.
وهكذا لم تكن الدقة أو ما نسميه «الأمانة» في النقل هي الاعتبار الأول في الترجمة، بل كانت بلاغة التعبير. فإذا كان النص في القصة يقول باختصار: إن البطل قبل البطلة، كان عباس حافظ يقول: «فطبع قبلة دون حس على فم الكونتيس»! ومنذ أوائل القرن علمنا المترجمون أن نقول إن شعار الثورة الفرنسية كان «الحرية والإخاء والمساواة» بدلا من أن نقول إنه كان: «الحرية والمساواة والإخاء». تقول: وما الفرق؟ وما ضرر هذا التقديم والتأخير؟ أقول إن معناه أن الفرنسيين دعوا إلى تقديس «المساواة» قبل تقديس «الإخاء»، بكل ما يترتب على ذلك من مبادئ المساواة أمام الله وأمام القانون، والمساواة في المواطنة وفي الحقوق والواجبات، والمساواة في حقوق الإنسان. هذه المساواة قدمها الفرنسيون على الإخاء كما قدموا الحرية على المساواة؛ لأنه بالحرية يحصل الناس على المساواة، وبالمساواة يتحقق الإخاء بين البشر. أما في العربية فقد عدل المترجمون هذا الشعار لتستقيم العبارة مع أصول الخطابة؛ حيث الجملة ينبغي أن تنتهي بنهاية ممدودة لا بنهاية مكتومة. وهكذا ضحوا بالمعنى من أجل الفصاحة.
ولعل أرقى ما بلغته هذه المدرسة الأدبية في الترجمة البليغة كانت ترجمات أحمد حسن الزيات لرواية «آلام فيرتر» لجوته، وترجمته ل «رافاييل» و«البحيرة»، و«جرانز نييلا» للامارتين، وهي من روائع الشعر الفرنسي التي لم نكن نكف عن قراءتها في أوائل الثلاثينيات. كان الزيات أرقى أبناء مدرسة الترجمة الأدبية هذه؛ لأنه جمع بين جمال الصياغة دون افتعال، والاقتراب من النص ما أمكن ذلك. أما خليل مطران فكان كثيرا ما يضيف عبارات رنانة لا وجود لها في الأصل؛ لتدوي على المسرح من أفواه الممثلين كما في ترجمته ل «هاملت» شكسبير؛ فإذا كان الأصل يقول: «أقسم» أضاف مطران: «وإنه لقسم لو تعلمون عظيم». في سبيل «الإيفيهات» كان كل شيء مباحا، كأنما المترجم يريد أن يشارك المؤلف في الإبداع.
ومع تقدم الثلاثينيات تطورت الترجمة الأدبية تطورا كبيرا بفضل جهود الدكتور محمد عوض محمد مترجم الجزء الأول من «فاوست» لجوته، وبفضل أحمد الصاوي محمد مترجم «تاييس» لألفونس دوديه، و«الزنبقة الحمراء» لأناتول فرانس. وبهما انتهى عهد البلاغيات وحلت محل البلاغة اللفظية قوة الأسلوب عند محمد عوض محمد، ورشاقة العبارة عند أحمد الصاوي محمد، مع الاهتمام بالأمانة في النقل.
ولم تكن هذه كل مدارس الترجمة التي عرفتها مصر؛ فقد عرفت مصر منذ رفاعة الطهطاوي مدرسة أخرى تميزت بالأمانة والرصانة معا، وهذه هي المدرسة التي ازدهرت بترجمات فتحي زغلول لبعض أعمال ديمولان «سر تقدم الإنجليز السكسون»، وجان جاك روسو «إميل أ والتربية الاستقلالية»، وجوستاف ليبون «روح الحضارات». وهذه المدرسة أثمرت لغة القانون والقضاء والتشريع بوجه عام، ولغة الفكر التاريخي والفلسفي، كما نجده في ترجمة طه حسين لكتاب زينوفون «الدستور الأثيني»، وترجمات لطفي السيد لكتب أرسطو: «السياسة» و«الأخلاق» و«الكون والفساد». كل هذه ترجمات تتسم بالدقة وبالعبارة المحكمة البعيدة عن الزخرف اللفظي الذي كانت تتميز به الترجمات الأدبية.
وأخيرا فقد كانت هناك مدرسة الترجمة الصحفية. وكانت سمتها الأولى السلاسة في التعبير، سواء تقيدت بالدقة أم لم تتقيد بها. ولست أقصد بالترجمة الصحفية ترجمة الأخبار والمواد الصحفية على وجه التخصيص، وإنما أقصد كل ترجمة روعي فيها أن تكون سائغة للجماهير الواسعة التي لا تملك الوقت ولا الاهتمام ولا القدرة على الأناقة اللفظية. وهذه هي المدرسة التي نقلت فيها المئات والمئات من الروايات الشعبية؛ مثل «الفرسان الثلاثة» و«الكونت دي مونت كريستو» و«جزيرة الكنز»، وهي آثار أدبية جماهيرية، أو الروايات البوليسية؛ مثل «شرلوك هولمز» و«اللص الشريف» و«أرسين لوبين» ... إلخ، وقد كانت مدرسة السلاسة في الترجمة والكتابة أوسع المدارس انتشارا وأقواها تأثيرا على مسار اللغة العربية وتطويرها في القرن الأخير، وهي المدرسة التي صاغت لغة الجرائد بما فيها من أخبار وريبورتاجات ومقالات صحفية، وهي أساس اللغة الوسطى التي نستخدمها اليوم، الوسطى بين لغة الكتابة ولغة الكلام: لغة مرنة واضحة، أقدر على التعبير عن الحياة اليومية من اللغة الأدبية، ولكنها أفقر منها في عناصر الفن والشاعرية والجمال.
وقد أدى انتصار لغة الصحافة منذ الحرب العالمية الثانية إلى نتائج هامة في مسار اللغة العربية: أدى أولا إلى اختفاء «المقال» كمظهر من مظاهر النثر الفني؛ المقال كما كان يكتبه العقاد والمازني وطه حسين، وعامة أصحاب الأساليب في العشرينيات والثلاثينيات، اختفى في زمننا، أو كاد. وبالمثل فقد سادت الرثاثة العامة لغة الترجمة الأدبية منذ الحرب العالمية الثانية حتى ظهرت ترجمة الدكتور حسن عثمان ل «الكوميديا الإلهية» لدانتي في الستينيات، فاعتدل الميزان.
وبعد نحو عشرين سنة من صدور «الكوميديا الإلهية» أصدر الدكتور محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب، ترجمته للكتب الستة الأولى من ملحمة الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي الكبير جون ميلتون (1608-1674م) في جزأين، فأحيا بذلك تقاليد الترجمة الأدبية التي افتقدناها، منذ ترجمات الزيات وأحمد الصاوي محمد ومحمد عوض محمد وطه حسين وحسين عثمان. وقد جمعت ترجمة محمد عناني بين الأمانة الأكاديمية وجزالة العبارة، فجاء عمله تحفة في الترجمة وفي الأدب جميعا. وهو يستحق منا أصدق التحية؛ لأنه جدد لنا تقاليد الترجمة كفن جميل، وكل ما نرجوه أن تتاح له ترجمة الكتب الستة الثانية الباقية من هذه الملحمة؛ حتى يضع أمام قراء العربية عمل ميلتون كاملا.
وقد قدم محمد عناني لملحمة «الفردوس المفقود» بمقدمة ضافية، تعين القارئ على الإلمام بالخلفية التاريخية التي خرج منها عمل ميلتون العظيم، كما تعينه على فهم المضمون الديني الخاص بالثورة البيوريتانية التي جسدها ميلتون في هذا الأثر الخطير. وقد أظهر محمد عناني في هذه المقدمة فهما نافذا لطبيعة الصراعات الدنية والطبقية التي خضبت وجه إنجلترا بدماء الحرب الأهلية نحو منتصف القرن السابع عشر بين دعاة الملكية المطلقة من أصحاب المذهب الكاثوليكي وما يسمى بالكنيسة الإنجليركانية العليا القائمة على نفوذ الأساقفة وكبار رجال الدين من جهة، وبين دعاة الكنيسة الشعبية المطلقة من البروتستانت، سواء أكانوا من المشيخيين «أتباع كالفن»، المؤمنين بالجبر، أو من البيوريتان أو المتطهرين المؤمنين بالاختيار.
هذه الصراعات بين المذاهب المسيحية التي يدق فهمها على المسيحيين أنفسهم أوضحها محمد عناني في لغة سائغة ناصعة الوضوح بفضل هذه المقدمة التاريخية العقائدية التي قدم بها لترجمته «الفردوس المفقود»، فربط بين العمل الأدبي والخلفية التاريخية التي أنجبته، وربط بين التيارات الفكرية والروحية والطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها. ولست أقول بهذا إن محمد عناني قد جاء بجديد في هذا المضمار، ولكنه أثبت أنه هضم هضما جيدا أمهات الكتب التي وضعها مؤرخو الفكر الإنجليزي عن ميلتون والقرن السابع عشر، ولا سيما كتب تليارد وبازيل ويللي ودوجلاس بوش.
و«الفردوس المفقود» ملحمة تصور قصة عصيان آدم وحواء، وخروجهما من الجنة، وتصور ثورة إبليس على الله ومعه نفر من الملائكة، وتصور دور إبليس في الإيقاع بآدم وحواء، وتمهد لاسترداد آدم وحواء للجنة الضائعة وفقا للتفسير المسيحي في ملحمة ميلتون الثانية، وهي «الفردوس المسترد» الذي جرى العرف على تسميتها «الفردوس المردود» وهو تعبير خاطئ.
وإن كانت لي ملاحظة على هذه المقدمة فهي أن محمد عناني قد اختار أن يسمي «الشيطان» في ميلتون «إبليس»، والأرجح أن اسم إبليس ليس إلا صيغة عربية من بعلزبون كبير الشياطين في التوراة التي استلهم ميلتون منها سفر التكوين. وعلى كل فإن ميلتون يميز بين الشيطان - الذي يصفه بأنه «كبير الملائكة المحطم» - بسبب ثورته على الله وبين بعلزبون كبير الشياطين. وقد درج محمد عناني على تسمية الشيطان بإبليس في نص الملحمة، وقد كنت أوثر له أن يحتفظ للشيطان باسم الشيطان كما ورد في ميلتون؛ حتى يعفينا ويعفي نفسه عن البحث في هوية الشيطان، وربما كان من واجبي أن أذكر للدكتور محمد عناني أنه تساهل في ترجمة بعض العبارات في «الفردوس المفقود»، فإذا ما نحن نظرنا إلى مطلع الملحمة قرأنا: «عن أول عصيان يقترفه الإنسان، وعن ثمرة تلك الشجرة المحرمة ذات المذاق الفاني الذي أتى بالفناء إلى الدنيا، وجر علينا الأحزان لضياع جنات عدن زمنا، ريثما يعيدنا رجل أعظم ويسترد لنا عرش النعيم.
أنشدي يا ربة الشعر قاطنة السماء، يا من تدنيت إلى الذروة الخبيئة لجبل حوريب أو طور سنين ...»
هنا نجد أن ميلتون لا يحدثنا عن شجرة «ذات مذاق فان»، وإنما يحدثنا عن شجرة ذات
Mortal Taste
أي «مذاقها يجلب الفناء» أو يجلب الموت أو يجلب الهلاك، كما نقول في تعبير
Mortal Wound
إنه «جرح قاتل» بمعنى أنه «يسبب الموت». ولو أنه التزم بهذه الترجمة لتجنب تكرار كلمة «الفناء» في البيت التالي، واكتفى بقول ميلتون
Brought Death into The World
أي «أتى بالموت إلى الدنيا ». ثم إن ميلتون لا يحدثنا عن «جنات عدن»، وإنما يحدثنا عن «جنة عدن» حرفيا، مجرد «عدن»، فالتوراة التي كان ميلتون يستلهمها ليس فيها إلا جنة عدن واحدة. وبالمثل فإني أرى أن قول الدكتور محمد عناني عن ربة الشعر إنها «قاطنة السماء» ربما كان فيه تزيد على قول ميلتون
Heavenly Muse
أي مجرد وصفها ب «السماوية». صحيح أن ربات الفنون التسع كن يقطن في قمة جبل هليكون، ولكن مجرد قولنا «ربة» الشعر كاف لوصف مصدر إلهام الشعراء. ولا أدري من أين أتى محمد عناني بعبارة «يا من تدنيت»؛ فكل ما يقوله ميلتون هو أن ربة الشعر أوحت لموسى على قمة جبل سيناء. كذلك فإن النص يقول إن موسى كان «أول من علم» الشعب المختار، وهذه نجدها في الدكتور محمد عناني: «فعلم الذرية المصطفاة أولا».
والدكتور عناني يحدثنا عن «ذروة صهيون» بدلا من أن يحدثنا عن «جبل صهيون» أو «تل صهيون» كما يسميه ميلتون، والذروة هي القمة وليس الجبل. وله عادة خطرة؛ وهي أنه كلما وجد كلمة
Heaven
في ميلتون ترجمها بكلمة «الجنة»، ونحن نعلم أن هذه الكلمة تعني في الإنجليزية «الجنة» آنا، و«السماء» آنا آخر بحسب السياق. فإذا قلت
Heaven and hell
قصدت «الجنة»، وإذا قلت
Heaven and earth
قصدت «السماء».
وهو يقول عن الحية التي أغوت حواء «أو الثعبان» «الثعبان الدنيء»، بينما الصفة التي يستعملها ميلتون في وصف الثعبان هي
Infernal
بمعنى «جهنمي». ولا أدري لماذا استخدم الدكتور عناني عبارة «مكره الدفين» ترجمة لكلمة
guile
التي يكفي أن تقول فيها «مكره». ولا أدري لماذا يقول إن الثعبان «خادع» أم البشر، بدلا من أن يقول فاعل «خدع» وهي
Deceived
في ميلتون. فصيغة فاعل في العربية قد تكون للتبادل أو للتكثير. ثم إنه يقول إن الشيطان أراد بثورته «أن يضارع منزلة الله»، ونسي أن يقول منزلة «الله العلي» كما في ميلتون
The Most High . كذلك يستعمل الدكتور عناني كلمة «يصطلي» بمعنى «يصلى»، فقد جرت العادة في العربية على استعمال كلمة «يصطلي» بمعنى «يستدفئ»، وعلى استعمال كلمة «يصلى» بمعنى يتعذب من السعير، وهو المقصود. وهو يقول إن الشيطان بعد سقوطه وجد نفسه «في قبو موحش مخيف»، وفي ميلتون:
Dungeon
التي يستعملها ميلتون لا تعني مجرد «قبو»، ولكن تعني البرج الرئيسي في الحصن الذي كان في المبدأ مسكن النبيل وموقع دفاعه الحصين، ثم غدا فيما بعد يستخدم سجنا لأعدائه لا سبيل إلى الإفلات منه. والدكتور عناني يحدثنا عن «الظلمات المبصرة» ترجمة لعبارة
Visible Darkness ، أي «مبصرة» بفتح الصاد، وهي صفة منحوتة في خشونة، وكان أولى به أن يقول «بادية أو واضحة للأبصار» فجهنم عند ميلتون: «نار بلا نور، ظلمات بادية للأبصار.»
هذه مجرد ملاحظات عابرة على الصفحتين الأوليين من ترجمة الدكتور محمد عناني للفردوس المفقود. ولا أظنها ملاحظات ذات بال؛ لأنها لا تمس جوهر الترجمة من ناحية، ولأنها لا تطمس روعة هذا الجهد الكبير وبلاغته التي تتفجر من أكثر صفحاته في قوة وبساطة، ودون حذلقة. أصغ مثلا إلى قوله وهو يخاطب الروح القدس: «أنت أيها الروح، يا من تنزل من طهر فؤاده واستقام أمره منزلة تسمو على كل معبد، علمني مما علمت رشدا؛ فلقد كنت قائما منذ بداية الوجود، باسطا جناحيك الجبارين فوق الهوة الشاسعة، ثم رقدت فوقها مثل الحمامة حتى دبت الحياة في أحشائها!
بدد ظلمات نفسي، اشدد أزري، وارفع القواعد من بيتي!
لعلي وقد سموت إلى مقام هذا المقال
أن أبين العناية الإلهية السرمدية أيما بيان
شارحا حكمة ما يفعله الله بالإنسان.»
أو استمع إلى وصفه للسجن الذي غلل فيه الشيطان وفيلقه من الملائكة الثائرين: «... تنور متأجج الأوار،
تصاعد منه النار ويحيط بهم سرادقها، نار بلا نور،
بل ظلمات بادية للأبصار لا تفصح إلا عن مشاهد كرب،
وأصقاع أسى، وظلال وهم، وساحات لا يمكن أن يحل بها السلام والدعة، بل لقد امتنع فيها الأمل، وهو ما لا يمتنع على أحد!
إنه عذاب دائم يتدفق، وطوفان من اللهب تغذيه منابع كبريت لا تخبو جذوته، ولا ينضب له معين.
هذا هو المكان الذي أعده العدل السرمدي لأولئك العصاة؛
إذ حكم عليهم بهذا السجن الدامس البهيم، فابتعدوا فيه عن الله وعن نور السماء.»
وأهم ما في ترجمة الدكتور محمد عناني أنه حافظ رغم أمانته ودقته، على روح ميلتون؛ فهو إذن قد نجا من مصير المترجم الذي يستعبده النص فهو في هلعه الدائر من إضافة أنملة أو حذف أنملة أو تغيير أنملة، يقتل الشعراء والروائيين وكتاب المسرح كالدبة التي قتلت صاحبها، وأنه رغم محافظته على ميلتون لم يتوسع في الاجتهاد والتصرف بما يجافي الأمانة الصادقة، بل لم يستبح لنفسه ابتكار الفنان الفاشل الذي يعجز عن الإبداع فيختال ويحتال بإبداع الغير حتى قيل فيه: «أيها المترجم، أيها الكذاب!»
وأهم من هذا وذاك أنه نجا من غواية اللغة العربية التي كان يمكن أن تستدرجه إلى حتفه بفخامتها وطنطنتها. فقد وجد ما يكفيه من الفخامة والطنطنة في لغة ميلتون، الذي كان يكتب الإنجليزية وكأنه يكتب اللاتينية. فله منا صادق التهنئة والشكر على ما قد بذل من جهد كبير.
عن الفردوس المفقود
حين يتحدث الدكتور لويس عوض عن عمل ما فيصفه بأنه تحفة في الترجمة وفي الأدب جميعا، وبأنه يجمع بين الأمانة الأكاديمية وجزالة العبارة ... وأنه يستحق منا أصدق التحية؛ لأنه جدد لنا تقاليد الترجمة كفن جميل - حين يقول كل ذلك ثم يضع صاحب العمل في صحبة طه حسين ومحمد عوض وحسن عثمان، فلا يسع صاحب العمل إلا أن يسعد السعادة كلها، وأن يتقدم بالشكر الجزيل لهذه اللفتة التي تؤكد رأي كبار أساتذة الأدب والترجمة في مصر، ومنهم من راجع النص أولا ثم اختار الكتاب لجائزة الدولة التشجيعية في الترجمة الأدبية لملحمة الفردوس المفقود للشاعر جون ميلتون.
وقد كان يكفي صاحب العمل تقديم هذا الشكر، لولا أن الدكتور لويس عوض رأى أن يبدي ملاحظات على ترجمة بعض العبارات والألفاظ مما لا يتسع له مجال الصحيفة اليومية، فجعل غير المتخصصين يتصورون أن الترجمة غاصة بالأخطاء، ومع ذلك فلقد رأيت إحقاقا للحق، وحتى لا يسيء البعض إدراك مرمى الدكتور لويس عوض؛ أن أوضح الأسباب التي دفعتني إلى اختيار صيغة دون سواها، أو معنى دون سواه؛ استنادا إلى أمهات الكتب وكبار الأساتذة الإنجليز.
أما أول ملاحظة فتختص بتسمية
Satan
بابليس - والدكتور لويس يفضل الشيطان - وهذه التسمية تستند إلى الكتاب المقدس والقرآن جميعا، والاسم علم على رئيس الملائكة العاصين، أما كلمة الشيطان فقد أوردتها عشرات المرات ترجمة لكلمة
devil
الإنجليزية وكلمة
fiend
وأحيانا يسمي ميلتون ذلك الكائن رئيس الشياطين أو الشيطان الأكبر بإضافة المقطع
arch
في بداية كل من الكلمتين الأخيرتين. والنص يفرق قطعا كما ذكر الدكتور لويس بينه وبين بعلزبول أو بعلزبون، أي بعل الذباب -
beelzebub
أي سيدها - وهو الاسم الذي ترجمه وليام جولدنج، واختاره عنوانا لروايته
lord of the flies ؛ إذ إن هذا الأخير يلي إبليس في المنزلة ويليه في جسامة الجرم. ومن ثم وإزاء كثرة الشياطين في الملحمة (وهي من تسع طبقات مثل الملائكة) كان علي أن أخصص له اسما يكون علما عليه.
وأما الملاحظة الثانية الخاصة بترجمة
mortal taste
بالمذاق الفاني فقد شرحت ذلك في الهامش رقم (1) في الصفحة 115 من النص العربي وقلت بالحرف الواحد: المذاق الفاني عبارة تتضمن تورية؛ إذ يريد ميلتون أن يقول إنه أيضا مذاق الفناء، أي المذاق الذي يأتي بالفناء أو الهلاك (تكوين 2 / 17) (ومعنى الإشارة الأخيرة انظر سفر التكوين/الإصحاح الثاني/الآية 17) - وقد اتفق جمهور الشراح على هذا - وكان لا بد من استخدام كلمة الفناء؛ لأن معنى
mortal
الذي يقصده ميلتون في التورية يومئ إلى البشر الفانين وليس «القاتل» فحسب.
وأما الملاحظة الثالثة وهي ترجمة الفردوس بجنات عدن؛ فالهامش رقم (2) يقول (نفس الصفحة): الحقيقة أن جنات عدن لم تضع كلها، وإنما ضاعت الفردوس فحسب، وهي عند ميلتون جزء من عدن - ولكنه يستخدم عدنا هنا للدلالة على الفردوس - وقد اعتمدت في هذا على تفسير «فاولر» في طبعته المعتمدة للنص المذكور في المقدمة، وعلى جمهور الشراح - والجنة والجنات كلمتان متواترتان في الكتاب المقدس والقرآن.
وأما الملاحظة الرابعة الخاصة بترجمة
heavenly muse
بربة الشعر قاطنة السماء - وما يرتبط بها من نزول أو تدن إلى قمة الجبل - فتشرحها بداية الكتاب السابع (والترجمة العربية لم تر النور بعد) إذ يبدؤه ميلتون قائلا:
descend from heaven Urania
فهذه الربة لا تسكن جبل هليكون مع سائر ربات الفنون، ولكنها تقطن السماء؛ ومن ثم فهي ربة لا تنتمي لعالم الوثنية، ولكنها في رأي ميلتون تسكن السماء، وهي تدنو فتتدلى إلى قمة الجبل لتوحي إلى الشاعر مثلما أوحي الوحي إلى موسى من فوق قمة الجبل. وميلتون يرمي من ذلك إلى القول بأن مصدر إلهامه من السماء وليس الأرض
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى .
وترتبط بهذه الملاحظة إشارة الدكتور لويس عوض إلى أنني أترجم كلمة
heaven
دائما بالجنة. وهذا - كما يتضح من المثال السابق ومن السطور 9 و14 (حيث المقابلة مع الأرض) - غير صحيح. فأنا أترجمها بالجنة فقط في سياق طرد إبليس منها وإلقائه إلى الجحيم؛ فالمقابلة هنا كما يقول الدكتور لويس عوض بحق هي بين الجنة والجحيم، وليس بين السماء والأرض؛ وذلك لأن الأرض لم تكن قد خلقت بعد حسبما يقول ميلتون، فالمسرح الذي تدور فيه الأحداث - كما أجمع على ذلك الشراح - هو السماء، وإبليس مطرود من الجنة كما توضح ذلك الملحمة بعبارات لا لبس فيها ولا غموض.
وأما ترجمة
guile
بالمكر الدفين فهي صحيحة، فالمكر غالبا ما يكون دفينا، وإذا كان فيها تأكيد هذه الصفة فذلك مستقى من إضمار إبليس للحيلة التي اعتزم أن يغوي بها حواء، وعدم إفصاحه عنها حتى لأقرب المقربين إليه من الشياطين.
وأما استخدام فعل «خادع» بدلا من خدع فهو مقصود وصحيح - والكلمة موجودة في القاموس الوسيط - وفي القرآن:
إن المنافقين يخادعون الله ، وهي صيغة تكثير كما يقول الدكتور لويس؛ لأن إبليس حاول أكثر من مرة أن يخدع حواء، وليس ثم منافق أكبر منه!
وأما استخدام لفظ الجلالة «الله» ترجمة لعبارة
The Most High
فهو مقصود أيضا؛ لأن معنى اللفظ اشتقاقا هو «الأعلى» - ويعرف الدكتور لويس عوض حق المعرفة أن اللفظ بالعبرية وفي اللغات السامية الأخرى يحمل هذا المعنى، ومنه «إيلي» و«إيلوهيم»، وقد كان يمكن أن أترجمها «الرب الأعلى» دون تجن استنادا إلى الآية
سبح اسم ربك الأعلى ، ولكنني رأيت الاكتفاء بلفظ الجلالة تأكيدا لمعناه الاشتقاقي.
وأما ترجمة
dungeon
بالقبو فهذا هو ما يعنيه ميلتون لأن القبو هو المكان السفلي الذي هبط إليه إبليس، ولم يكن حسبما تفصح الملحمة في الكتاب الأول في برج على الإطلاق، فالسجن الذي ألقي فيه درك أسفل، وليس سجنا في برج، وهو واسع موحش مخيف كما تشرح الأبيات في الكتاب الأول ... وأخيرا فإن
visible darkness
لا تعني الظلمات التي تبصرها العين، ولكنها تعني الظلمات التي يمكن للعين أن تبصر فيها؛ ومن ثم فهي ظلمات مبصرة بكسر الصاد لا بفتحها؛ قياسا على الآية:
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ، وسندها في التوراة سفر أيوب، الإصحاح العاشر الآية 21: «وإشراقها كالدجى»، وقد نشأ خلاف كبير بين المفسرين حول التناقض هنا؛ إذ كيف يرى الإنسان في الظلام بعد اعتراض ت. س. إليوت على هذه العبارة في مقاله المشهور عن ميلتون؛ إذ قال إنها «يصعب تصورها» وقد حسم الأمر ما ذهب إليه البروفيسور أو جاردانيلز في بحث نشره في مجلة
Notes & Queries
العدد 204 لعام 1959م؛ إذ أثبت أن الله قد وهب الشياطين قوة خاصة على الرؤية في الظلام، وهذا ما يؤكده البيت التالي الذي يستشهد به البروفيسور آدمز في كتابه عن ميلتون (طبعة نيويورك 1955م):
لا تفصح إلا عن مشاهد كرب وأصقاع وأسى!
فهي ظلمات تستطيع الشياطين فيها أن تعي سوء مآلها وضياع آمالها (كما يؤكد البروفيسور تليارد).
رحيل أستاذ
كان عام 1957م قد بدأ يطوي صفحته حين قال لي الدكتور مجدي وهبة: «خذ هذه القصائد إلى الدكتور لويس عوض؛ فهو أقدر الناس على الحكم على دقة ترجماتك»، واعترتني الرهبة، وبدا علي التردد، ولكن الدكتور مجدي أكد لي أن الدكتور لويس سوف يرحب بي، وفعلا أدرت قرص التليفون بيد هيابة، وجاءني صوت الدكتور لويس هادئا وهو يحدد لي يوم الأحد التالي، وذهبت إليه أحمل كراستين مكتظتين بقصائد رومانسية مترجمة عن الإنجليزية، وجلست على الفور أقرأ له أحد النصوص وهو يتابعني في صمت، وكان يتوقف أحيانا ليسألني هل هذه الكلمة العربية قديمة أم محدثة؟ هل وافق عليها المجمع؟ ولم ندر بالوقت إلا حين طرق الباب طارق يعلن للدكتور لويس وصول زائر، وتنبهت إلى الساعة فإذا نحن تجاوزنا الحادية عشرة ليلا، وأردت الاستئذان فغضب وقال فلينتظر الزائر حتى ننتهي نحن، وفعلا جلس الزائر يستمع حتى انتهينا وخرجت.
وفي الشهور التالية كنت أقضي لديه عصر يوم الأحد ومساءه نقرأ الشعر الإنجليزي أو نراجع ترجمات الشعر، وهناك قابلت أحمد عبد المعطي حجازي لأول مرة، وسمعت تحليل لويس عوض لإحدى قصائده، وقابلت كثيرين من شباب المثقفين الين كانوا لا يرتوون مهما سمعوا من حديث لويس عوض، وكان رغم هدوء صوته واثق النبرات قاطعا حاسما، يمزج فلسفته السياسية التي لم يتخل عنها طول العمر بمنهجه الأدبي، ويخرجها في قالب إيمان لا يتزعزع بمصريته وحبه لأرض مصر، وكثيرا ما كنت أراه حين أزوره منهمكا في قراءة فصل في كتاب عن مصر القديمة، بالفرنسية أو بالإنجليزية (وكان يجيدهما إجادة مطلقة)، وكان يشجعني على الاستمرار في بلورة نظرة شاملة للأدب، نظرة تضع الأدب في سياقه الإنساني الكبير ولا تقف به عند حدود الطرائق والصور والأساليب الأدبية، ومضت شهور عام 1958م الحافلة وأنا أحس أن نورا جديدا بدأ يضيء جوانب كتب الأدب الإنجليزي الذي أتخصص فيه حتى حل الصيف وعدت إلى بلدتي رشيد.
ودار الزمان وتخرجت في الجامعة في العام التالي، وقبض على الدكتور لويس عوض وأفرج عنه، وانفض سامر منزله، وحلت الستينيات بما غصت به من قضايا ومعارك فكرية، كان أهمها بلا شك معركة جماعة النقاد أو جماعة النقد الحديث، التي كانت تدعو إلى تحرير الأدب من الانشغال بالدعوة السياسية المباشرة، والنقاد الآخرين، الذين اتهموها بأنها تدعو للفن من أجل الفن، وحاولوا تأكيد البديهيات تحت شعار الفن للحياة. ورفض الدكتور لويس عوض الدخول في هذه المعركة؛ لأنها كما قال لي مرارا وتكرارا «زائفة»، وقد قابلني ذات يوم خارج دار الشعب في شارع القصر العيني حيث كان يقيم، وسار معي حتى ميدان طلعت حرب وهو يفصل لي القول في مغبة تبسيط الأمور بهذه الصورة المخلة ونصحني بالتركيز على دراساتي الجامعية حتى أنتهي من الدكتوراه ، فالقضية في نظره ليست قضية أو وظيفة الفن في المجتمع، ولكنها قضية «وجود» الفن في المجتمع.
وحتى رحيلي إلى إنجلترا عام 1965م ظلت علاقتي بالدكتور علاقة قارئ لا يستطيع اتباع خطى أستاذه؛ إذ انشغلت بالكتابة للمسرح وبالنقد المسرحي دون أن تكتمل عدتي الأدبية درسا وتحصيلا . وفي إنجلترا قابلته عدة مرات في الصيف، وكنا نسير أميالا طويلة ونحن نناقش المسائل الأدبية في مصر التي تتغير من يوم إلى يوم، وكنت أزداد كل يوم إيمانا بضرورة المنهج النقدي الذي أرساه لويس عوض في كتبه العديدة، فأنا بطبيعتي موسوعي القراءة، أجور على تخصصي بقراءة كتب في فروع أخرى، وكان لويس عوض يشجعني على هذا، وأذكر أنني ذكرت هذا للدكتور شكري عياد أثناء زيارة له إلى لندن في صيف 1967م فقال لي: لا بأس ولكن انته من كتابة الدكتوراه أولا ثم عد إلى «الصرمحة» بين الكتب!
وعندما عدت إلى مصر عام 1975م كانت التحولات في الحقل الأدبي أعقد من أن أفهمها بعد السنوات العشر في إنجلترا، ولكن لويس عوض كان ثابتا كالطود لا يتغير ولا يتحول؛ فهو يؤمن بقضية الثقافة إيمانا يقترب من حد التقديس، وهو في هذا تلميذ مخلص لأستاذه طه حسين، وللعقاد، ولأبناء ذلك الجيل من الرواد الذين توسلوا بالصحافة لنشر رسالة الثقافة، ومن خلالها مبادئ التحضر والرقي، فكانت عيناه مثبتتين على أوروبا، يأخذ منها المنهج العلمي الصحيح، ويستقي منها قيم الموضوعية والحياد في البحث العلمي، وإن كان لا يثنيه ذلك عما آمن به من حب لمصر يصل إلى حد التفاني فيها.
وفي عام 1979م صحبته إلى مسرح الطليعة ليرى مسرحية تسجيلية كتبتها أنا وصديقي سمير سرحان عن طه حسين، فانهمك فيما يسمع ويرى وتأثر تأثرا بالغا، وأذكر قوله لي ونحن في طريق العودة: كيف استطعتما أن تكتبا هذا وسط هذا الركام الهائل من الترهات؟ وبعدها سافرنا معا إلى أمريكا مع وفد مهرجان «مصر اليوم»، في صحبة صلاح عبد الصبور، وسهير القلماوي، ومرسي سعد الدين، وسمير سرحان وفرخندة حسن، ومحمد شعلان وغيرهم ، فكانت جلساتنا مناقشات دائمة في موضوع لا يتغير وهو التحول الثقافي، أو التحولات الثقافية التي تشهدها مصر.
لقد رحل لويس عوض عن دنيانا وخلف لنا تراثا هائلا من الكتب ما بين مؤلف ومترجم، ولكنه خلف لنا أيضا جيلا من البشر يستطيع أن يحمل الشعلة وينير الطريق من بعده ، وإذا كان يوسف إدريس قد أحيا أبناء هذا الجيل باعتبارهم أحفاد طه حسين، فما أحرانا أن نحيي جيل آبائنا، وأن نلقي الضوء على تراثهم العظيم؛ فنحن وإن اختلفنا عنهم نقدر لهم جهدهم في خدمة الثقافة في بلدنا العظيم.
مؤتمر كيمبريدج
الأدب العربي في مؤتمر كيمبريدج
كان عنوان مؤتمر الأدب العالمي الذي انعقد هذا العام في جامعة كيمبريدج العريقة ببريطانيا هو «الكاتب المعاصر» - وقد تشرفت بتمثيل مصر فيه لأول مرة - أي إنه حدد موضوعا لا يتصل بمناهج النقد أو الدراسة الأكاديمية بقدر ما يتصل بمشكلات المؤتمر في موضوعين يصبان في الموضوع الرئيسي: أولهما تشابه مشكلات الكاتب المعاصر في كل مكان، وثانيهما هو التطور الهائل الذي شهده الأدب الإنجليزي على أيدي الكتاب المعاصرين في إنجلترا بصفة خاصة، وفي العالم بصفة عامة. أما الموضوع الأول فقد برز من خلال المناقشات التي دارت حول أبحاث المؤتمر، ويمكن أن نحدد ملامحه فيما يلي:
أصبحت وسائل الإعلام التي تهيمن اليوم على قنوات الأدب والفن القديمة ذات تأثير يتفاوت ضررا وضرورة، ولكنه محتوم، ومن هنا تنبع ضرورة علم السيميولوجيا أو السيميوطيقيا السريعة في معظم الأحيان.
امتد الصراع بين الكاتب وعمله - وهو الصراع الذي كان دائما ما يقتصر على الأنماط الفنية التي ظلت حتى عهد قريب من «اختصاص» النقاد - إلى القارئ، بحيث أصبح القارئ عنصرا فعالا في جدلية الإبداع الفني. ومعنى هذا ببساطة أن الكاتب اليوم لا بد أن يوجه كتابته إلى قارئ معين، وأن يتصور أنه يحادثه حديثا حميما لا حديثا عاما.
زالت الفواصل التي كانت تفرق بين المبدع والناقد؛ ومن ثم أصبحت الكتابة في ذاتها عملا إبداعيا ونقديا معا! وقد نوقشت هذه الفكرة مناقشة مستفيضة من جانب المبدعين الذين يكتبون النقد (وما أكثرهم!) والنقاد الذين يكتبون الأدب الإبداعي، وعلى رأسهم «مالكوم برادبري» و«دافيد لودج». وانتهى المؤتمر إلى رأي شبه إجماعي يقول فيه إنه إذا أمكن التفريق بين العمل الإبداعي والعمل النقدي على أساس العناصر الخيالية والخلاقة في الأول وعناصر التوصيف والتحليل والحكم في الثاني، فلا يمكن التفريق بين كاتب هذا وذاك؛ لأن الكاتب المبدع يمارس العمليات «النقدية» الثلاث أثناء الكتابة، والناقد يشترك مع المبدع في أعمال خياله وملكاته الإبداعية.
وأما التطورات الأخيرة في الأدب الإنجليزي فلم نكن نحن - دارسي الأدب الإنجليزي - نجهلها، ومع ذلك فقد أفدنا من المناقشات التي دارت مع كبار المؤلفين والنقاد، وسوف أقتصر هنا على اتجاهين فقط؛ أما الأول فهو انهيار المدرسة الشكلية في الإبداع والنقد جميعا، وإعلاء شأن التجريب النابع من وعي الكاتب بأنه يكتب. وهكذا خرجت روايات عن الرواية، وكتب الشعر عن الشعر، والمسرح عن المسرح! وكل إنتاج ينتمي إلى هذا اللون يسبقه مقطع -
Meta
فبعض الروايات تنتمي إلى ما يسمى ال
Meta-Fiction
وتنتمي كثير من المسرحيات إلى ال
Meta-Theatre ! ورغم أن هذا الاتجاه ليس جديدا إذ وجد في الروايات الأولى وفي مسرح العصر الإليزابيثي، إلا أنه اشتد وتبلور نتيجة الوعي المتزايد لدى الجميع بأن العالم الخيالي الذي يخلقه الكاتب خيالي بالفعل، ولا ينبغي الاندماج فيه بأكثر مما ينبغي. ومعنى هذا أن على القارئ أن يذكر دائما أن الشخوص التي يقرأ عنها والأحداث الجارية أمامه على المسرح أو في الرواية لا وجود لها في الواقع. وقد يتبادر إلى الذهن أن كسر الإيهام في الأدب الخيالي مرتبط بالمسرح التثقيفي أو الدعائي أو ما أسماه «برتولد بريشت» بالمسرح الملحمي، ولكن هذا غير صحيح؛ فكسر الإيهام يقصد منه أساسا إيجاد صلة مباشرة بين الكاتب والقارئ أو بين المؤلف والمشاهد؛ بحيث توفر درجة أكبر من الإيجابية في التلقي ودرجة أكبر من المشاركة اللازمة في عصر يتميز بالسلبية والجنوح إلى الإذعان لما يقوله الكاتب أو الناقد.
أما الاتجاه الثاني فهو الميل إلى «التوثيق» في كتابة النص، أي إدراج مادة علمية صحيحة في الرواية والمسرح بل والشعر، بحيث تكون قنوات الإحالة بين العالم البديل الذي يخلقه الفن وعالم الواقع المادي الحقيقي قنوات مفتوحة وطبيعية أي غير زائفة. وهذا يعني ألا يقتصر الفن على إبداع عالم خاص قائم بذاته، قد لا يشترك مع العالم الخارجي إلا في الحقائق الأساسية، بل إنه يخلق عالما يسهل على القارئ أو المشاهد أن يتبين فيه تفاصيل عالمه الحقيقي.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الاتجاهين متناقضان، ولكنهما في الحقيقة متكاملان.
وإذا كان هناك تعليق عام على المؤتمر فهو التأكيد على ما كنت أحسه ويحسه كل مشتغل بالأدب والنقد في بلادنا - ألا وهو ضرورة التواصل مع العالم الخارجي واطلاعه على أدبنا - وقد شاركني في هذا الرأي الدكتور عزت خطاب، رئيس قسم اللغة الإنجليزية بجامعة الملك سعود بالرياض، والذي كان يمثل المملكة العربية السعودية، وقد اشترك مع الدكتور شكري عياد في إعداد مختارات من الشعر العربي في شتى عصوره للترجمة إلى الإنجليزية، وقد صدر هذا الكتاب هذا الشهر عن دار نشر إنجليزية، ضمن مشروع
الذي تشرف عليه الدكتورة سلمى الخضراء في أمريكا، وقد انتهزت الفرصة وقرأت في المؤتمر مختارات من كتابي «الشعر العربي في مصر» بالإنجليزية، وشجعني حسن استقبال ممثلي دول العالم للشعر المصري على المضي في المشروع الذي تتبناه هيئة الكتاب وهو الأدب العربي المعاصر بالإنجليزية.
الرواية في مفترق الطرق
لم يتعرض فن أدبي للجدل والمناقشة في مؤتمر الأدب العالمي الذي انعقد في «كيمبريدج» هذا العام مثل فن الرواية أو القصة الطويلة. وربما كان ما يصدق على الرواية من آراء عامة يصدق أيضا على سائر ألوان الفنون الأدبية - مثل علاقة المؤلف بالنص المكتوب، وعلاقة التاريخ بالواقع وعلاقة الواقع الخارجي بالواقع الفني وما إلى ذلك - ولكن عدد الكتب الجديدة التي صدرت عن نظريات هذا الفن وفصلت القول فيه يبين أن نظرية الرواية قد وصلت إلى مفترق طرق بعد سنوات التجريب الطويلة التي تلت الحرب العالمية الثانية. فما هي ملامح الطرق التي تقف النظرية في مفترقها؟
أول طريق هو نظرية النقد الكلاسيكي التي تربط بين المؤلف والنص المكتوب ربطا زمنيا، قائلة بأن المؤلف يسبق النص المكتوب في الزمن مثلما يسبق الأب ابنه.
وتقول النظرية الكلاسيكية أيضا إن الرواية ارتبطت بالواقع ارتباط المرآة بالحياة؛ أي إن الرواية تعكس واقعا محددا حتى ولو ظهرت الصورة معكوسة أو حتى مقلوبة، وإن اللغة هنا ما هي إلا وسيلة من وسائل الربط بين الواقع أو بين التاريخ وبين ذهن المتلقي الذي ينفتح على صورة محددة ثابتة من صور الحياة، فيستوعبها ويحللها، ويقبلها أو يرفضها.
أما الطريق الثاني فهو النظرية الجديدة التي تعتبر أن النص المكتوب لا علاقة له بالمؤلف إلا في حدود الكتابة؛ ولذلك فإن «رولان بارت» لا يستخدم كلمة المؤلف
author
لأنها تعني صاحب العمل، بل يضع في مكانها كلمة كاتب
scriptor
وهي كلمة جديدة لم تعرفها اللغة الإنجليزية قبل ترجمة أعمال «بارت» عن الفرنسية. أي إن المؤلف هنا أو الكاتب ليس صاحب العمل بقدر ما هو كاتبه؛ ولذلك فإن النص كما يقول «ليس سطرا من الكلمات يتضمن معنى واحدا - أي الرسالة التي يريد المؤلف الرب توصيلها - ولكنه مساحة كثيرة الأبعاد، تختلط فيها وتصطرع ضروب منوعة من الكتابة، ليس أيها بأصيل» ومعنى هذا أن علاقة المؤلف بالنص ليست علاقة زمنية؛ مما يترتب عليه ألا تكون العلاقة مع القارئ زمنية بالمعنى القديم.
وأما الطريق الثالث فهو عسير شاق؛ إذ هو يتصل بتحليل عملية التذوق باعتبار أن اللغة وسيلة من الوسائل التي يستخدمها الكاتب، أي إنها ليست الوسيلة الوحيدة؛ إذ تشترك معها وتشتبك وسائل كثيرة، أهمها على الإطلاق ما أسماه نقاد الستينيات «البنيويون» ونقاد السبعينيات «ما بعد البنيويين» بالنظم أو الأبنية. وهذه النظم أو الأبنية مستمدة من علم اللغة في الأصل، ولكنها أصبحت تطبق في ميادين ثقافية منوعة، وأصبحت من الوسائل التي يستعين بها المفكرون في تحليل العلاقات المتشابكة بين الأدب والحياة. ولنضرب مثلا واحدا لتوضيح ما نعني.
عندما قال الفارسي مخاطبا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حكمت فعدلت فأمنت فنمت» كان في الحقيقة يعكس نظاما أو بناء محكما يقوم على السببية؛ فتوالي حرف الفاء يوحي بذلك كما يدل الفعلان الأخيران، ولكن الفاء الأولى تفيد التوالي فحسب؛ فليس من المحتوم أن يعدل من يحكم، ولكنه من المحتوم أن يأمن العادل فينام؛ أي إن البنية هنا تغير من معنى الفاء وتفرض منطقا معينا لا ينبع من الدلالة الحقيقية للألفاظ! وقس على هذا الأبنية المختلفة التي تزخر بها اللغات الحية، وتوحي بضروب من المنطق لا يمكن استشفافها من المعاني أو الدلالات الظاهرية للألفاظ.
فإذا أضفنا إلى هذا ما جاء به نقاد ما بعد البنيوية من ضرورة إدراج الإيحاء والإيماء وسائر الإشارات والعلامات الاجتماعية في النص المكتوب؛ وجدنا أن لغة الرواية أصبحت أعقد بكثير مما يريد أصحاب المذهب الواقعي القديم إيهامنا به. فالتأكيد هنا على القارئ وعلى السياق الثقافي الذي يقرأ الرواية في ظله - وهذا اتجاه جديد رغم أن «دافيد لودج» يؤكد أنه موجود منذ الستينيات، أي منذ أن طور نقاد ما بعد البنيوية مناهج استخدام النظم في عام السيميوطيقا. وقد تساءل «لودج» وهو ممن كتبوا في البنيوية وثاروا عليها: كيف نستطيع تعديل النظم التي تعمل في ظلها حتى ننصف الكاتب والقارئ جميعا؟ لقد انفصلت لغة النقد عن لغة القارئ، وأصبح النقاد يخاطبون بعضهم بعضا.
وأما الطريق الرابع فهو قديم ويتصل بدور العقائد أو الأفكار في الرواية، ولكنه اكتسب أهمية جديدة نتيجة لجهود «تيري إيجلتون» في نظرية الأدب بصفة عامة، وكتابات «ليونارد دافيز» في الثمانينيات، وأهمها الكتاب الذي صدر هذا العام 1987م بعنوان «مقاومة الروايات: الأيديولوجيا في الرواية». وبإيجاز يقول «دافيز» في الكتاب الأخير إن روايات التراث غير صالحة؛ لأنها لا تدفع إلى التغيير؛ فهي تنقد الحياة وتحللها، ولكنها تبقي على الأيديولوجية السائدة دون مناقشة. والرد على هذه المقولة يسير؛ إذ ينبغي أن يتساءل المرء عما إذا كان الكاتب يكتب الرواية بهدف التغيير أم لا؟ ونحن لا نستطيع أن نفرض على كل مؤلف أن يكتب ما نريد أو ما يريد الناقد! ويستعين أنصار «دافيز» بنقاد المدرسة التفكيكية التي تفصل بين الرواية والحياة، ويعتمدون في حججهم على آراء «باختين» التي أتى بها من أربعين سنة أو أكثر.
إن نظريات الرواية قد تشعبت فاختلطت وتضاربت، ولكن الروايات المكتوبة حديثا تتطلب إعادة النظر في التراث الروائي العالمي، ونحن ندرك أن الاختلاف وليد الإنتاج الجديد الذي يفرض علينا إعادة النظر والتقييم.
تحرير المرأة .. منهج نقدي
عندما يذكر تحرير المرأة ينصرف الذهن إلى القضايا الاجتماعية المتصلة بعمل المرأة وأوضاعها في العمل والمنزل، ومساواتها بالرجل في شئون الحياة العامة وما إلى هذا السبيل. ولكنني فوجئت في مؤتمر كيمبريدج للأدب العالمي - والذي عقد في يوليو من هذا العام - بأن ثم اتجاها لجعله منهجا في النقد الأدبي! ولم أفهم ولم يفهم غيري من أدباء العالم المجتمعين في قاعة المناظرة كيف يصبح الدفاع عن حقوق المرأة - أيا كانت درجة تعصبنا لهذه الحقوق - منهجا نقديا! وهذه هي القصة باختصار.
السيدة «جاياتري سبيفاك» أستاذة جامعية من الهند، حليقة شعر الرأس لا تضع المساحيق أو الألوان، وصوتها عميق وخشن. وهي تحاضر في موضوع تخصصت فيه هو نصرة المرأة
FEMINISM
في عدة جامعات في أمريكا وأوروبا والهند، وتدعو بإيمان يقترب من الإيمان الديني إلى إلغاء الفوارق تماما بين الرجل والمرأة.
إن «جاياتري سبيفاك» التي ذاع صيتها عندما ترجمت كتابا «لجاك دريدا» عن الفرنسية، تقول إننا ما زلنا أسرى اللغة في معالجتنا للمرأة، فتحرير المرأة قد انتكس بسبب اللغة؛ إذ أطلق الرجال أولا على حركة التحرير
EMANCIPATION
وظلت تلك الحركة منذ أن دعت إليها السيدة «ماري وولستونكرافت» زوجة «وليام جودوين» المفكر السياسي الشهير في أواخر القرن الثامن عشر أسيرة هذه اللفظة التي توحي بالخروج من السجن حتى أطلقت النساء عليها لفظة
WOMEN’S LIBERATION
في الستينيات من هذا القرن وكانت الزعيمة الأولى لها في إنجلترا «جرمين جربر» ذات رسالة أضرت بالحركة؛ لأنها ركزت فيها على التحرر الجسدي ولم تركز على التحرر النفسي، فظلت المرأة خاضعة نفسيا لكل النظم الاجتماعية والتراث الفكري الذي صنعه الرجل، أما اليوم فإن نصرة المرأة أو الانتصار للمرأة
FEMINISM
مفهوم جديد قائم على محاولة إعادة تقييم هذه النظم وهذا التراث، ويمكن أن تكون نقطة البدء هي اللغة والأدب.
إن اللغة تفرق بداية - كما تقول «سبيفاك» بين ضمير المذكر وضمير المؤنث في الإنجليزية. وتفرق بين الآنسة والسيدة - (في أمريكا لا يستخدمون هذه التفرقة الأخيرة بين مس ومسز، وإنما يستخدمون اختصارا جديدا لكلمة غير موجودة هي مز ، ولا مقابل لها في العربية إذ قد تعني الآنسة أو السيدة). وكذلك يفرق الأدباء بين المرأة والرجل في رواياتهم، بل إن الكاتبات أيضا يفرقن بين الرجل والمرأة، وذلك بالتأكيد على خصائص لكل منهما تجعل الطفل منذ البداية يتأثر بأفكار مسبقة ومنحازة دون أن تدري إلى الرجل. ولذلك فلا بد من المراجعة الشاملة لكل النصوص الأدبية التي هي حصاد تراث اجتماعي بائد. والتي لا تزال تحظى بالمكان الأول في مناهج الدراسة الأدبية، حتى يتبين الطالب فيها فداحة التزييف الذي ارتكبه الكتاب رجالا ونساء عبر العصور - أي تزييف صورة المرأة الحقيقية عن طريق ربطها بالأوضاع الاجتماعية البائدة.
هذه هي خلاصة الحجة (أو القضية أو الرسالة) التي تدعو لها «سبيفاك»، ولا تقل عنها أهمية سائر الحجج التي طرحها أعضاء المؤتمر وشغلت ساعات طويلة من صباح يوم مشرق من أيام شهر يوليو! أما صلب القضية فلم يكن عليه خلاف، وأما تحويل مبدأ نصرة المرأة إلى منهج أدبي فكان عليه خلاف كبير! وأولى نقاط الخلاف محاولة طمس الفروق اللغوية التي تعين القارئ أو المتكلم على إدراك جنس المتحدث.
فنحن لن نستطيع أن نتخلص في أي لغة من ضمائر التأنيث والتذكير، وقد سئلت كاتبة كبيرة هي
(تخصصت في الروايات البوليسية وهي أحد فروع رواية الجرائم) لماذا لا تسمي نفسها «فيليس» وهو اسمها الحقيقي؛ حتى يعرف الناس أنها امرأة، بدلا من الرمز لاسمها بالباء (وهو أول حرف في
) فأنكرت على الفور أنها كانت تريد إخفاء أنوثتها وأكدت أنها مصادفة. والنقطة الثانية هي الهجوم الذي شنته «سبيفاك» على شكسبير لإصراره على التفرقة بين المرأة والرجل، ولإعلائه قيمة الحب وتمجيده إياه باعتباره رابطة تشد الزوجين الذكر والأنثى. وقد اختارت أن تضرب المثل بمسرحية «روميو وجوليت» مؤكدة أنها تنتمي إلى تراث باد وانقضى، وأن تقديمها في نفس القالب القديم دون المنهج النقدي الحديث يؤكد الفروق بين الجنسين.
وبعد المناقشات التي اتسمت بدرجة كبيرة من العنف انفض الحشد لتناول القهوة، فإذا بالفسحة تتحول إلى قاعة مناقشات غير رسمية؛ إذ التقت آراء ثلاثة من أساتذة الأدب في فرنسا وإيطاليا واليونان، وهن من السيدات (والأخيرة والدها مصري ولد في الإسكندرية) على وضع منهج نصرة المرأة في مكانه الصحيح؛ بحيث يمكن التمييز بين الصورة التاريخية للمرأة في دراستنا للأدب العالمي والصورة الحالية لها في الأدب المعاصر، وانضمت إليهن كاتبتان من بولندة وألمانيا الشرقية وقلن بصراحة: نعم لنصرة المرأة باعتبارها امرأة، لا باعتبارها رجلا!
وبعد انفضاض النقاش عادت إلى ذهني صورة الروائية المعاصرة «مارجريت درابل» وهي تتحدث عن فنها الروائي وأدبها بصفة عامة، وذكرت أن هذه السيدة قالت كلاما يتفق مع كلام الكاتبة الأيرلندية «إدنا أوبريان» مفاده أن استعار الحرب ضد الرجل يضمر عدم الرضا عن الأنوثة والشوق الدفين عند المحاربات إلى أن يصرن رجالا، وهذا ما لا تتمناه «درابل» ولا ترجوه «أوبريان»!
ولقد قلت في آخر النقاش إنني من بلاد تتمتع فيها المرأة بحرية تحسدها عليها الأوروبيات، ومنذ طفولتي وأنا أشهد المرأة تعمل جنبا إلى جانب مع الرجل في الحقل والمدرسة والمصنع ... ولا شك أنه ما زال أمام المرأة شوط طويل حتى تنفض عنها ما باد من تقاليد القهر، ولكن هذا لا يأتي بطريقة «سبيفاك»!
الثبات والتغيير في كيمبريدج
تتصدر قاعة الطعام في كلية ترينتي بجامعة كيمبريدج لوحة كبيرة للملك هنري الثامن مؤسس الكلية، وفوقها عبارة لاتينية ضخمة هي
SEMPER EADEM
أي نفس الحال دائما. وفي موعد العشاء (الوجبة الرئيسية في إنجلترا) في السابعة والنصف يضرب أحد العاملين صنجا يؤذن بدخول الأساتذة (ويسمونهم هنا زملاء الكلية) وهم يلبسون عباءاتهم السوداء الفضفاضة. وبعضهم يناهز التسعين ولا يكاد يستطيع السير. ثم يصطفون حول المائدة المخصصة لهم تحت صورة الملك، والأرضية هناك مرتفعة عن سائر الردهة، ثم يقرأ أحدهم عبارات الشكر باللاتينية، بينما يقف جميع الحاضرين من الطلبة والضيوف حتى ينتهي ويجلس، ثم يبدأ تقديم الطعام.
ومثلما يتكرر هذا يوميا على مدار العام، يحافظ الإنجليز على طقوس أخرى في حياتهم ربما كانت أقل غرابة ولكنها أبعد أثرا؛ فقواعد السلوك عند الإنجليز تكاد تكون مقدسة، والعرف هو الذي يحدد ما ينبغي أن يفعله الإنسان أو يقوله؛ ولذلك فكلمة «عيب» المصرية تقابلها في الإنجليزية عبارة
It’s not done
أو عبارة
It’s not said ؛ ولذلك فكثيرا ما يدهش المتفرج الأجنبي الذي يشهد إحدى المسرحيات حين يجد الجمهور يضج ضاحكا لعبارة ليس فيها ما يضحك إذا ترجمت ترجمة دقيقة، ومبعث الضحك بطبيعة الحال هو أن العبارة أو الكلمة تتضمن خرقا لقواعد السلوك المرعية بدقة متناهية، ورغم انفتاح بريطانيا على أوروبا ثم على العالم منذ بداية السبعينيات - تطبيقا لسياسة الانفتاح التي دعا إليها رئيس الوزراء الأسبق «إدوارد هيث» وأسماها
Outward-looking policy
بعد أن تأكد الجميع من زوال الإمبراطورية وزوال سياسة التقوقع أو التحمس الأعمى لبريطانيا (الجزيرة)
Insularity ؛ فإن بوادر الانفتاح لم تتسلل بعد إلى الجامعتين العريقتين في أكسفورد وكيمبريدج.
وفي أول لقاء لأدباء العالم هذا الصيف في كيمبريدج، كان الإحساس سائدا بأننا نعيش في ظلال الثبات التاريخي الذي حملت لواءه الجامعتان؛ ومن ثم كانت المفاجأة حين وجدنا المشرف على الندوة نفسه، البروفيسور «كريستوفر بيجسبي» يسخر من تقاليد كيمبريدج، ويعزو تخلف الإنجليز اجتماعيا إلى التراث الأكاديمي الذي غرسته الجامعتان الكبيرتان، وكذلك كان البروفيسور «تيرنس هوكس»، وهو من أعلام علم اللغة والسيميوطيقا، لاذعا في هجومه على التقاليد الجامدة التي لا تكاد تمس، وقد تبعهما في ذلك حشد كبير من كبار الكتاب والنقاد الإنجليز، ولنرصد بإيجاز ملامح التغير والجمود التي رصداها.
يقول «بيجسبي» في تفسيره لتوقف المسرح الإنجليزي عن التطور في الطريق الذي سار فيه المسرح الأمريكي - أي طريق الحركة والأداء والمسرح الشامل، الذي يستعين بالموسيقى والرسم، والتشكيل والرقص - إن كتاب المسرح الإنجليزي المعاصرين تخرجوا في معظمهم من هاتين الجامعتين، كما أن معظم رواد المسرح من الطبقة المثقفة التي تربت في كنف التقاليد البريطانية العريقة، وعددهم لا يتجاوز أربعة ملايين وهو عدد يتفق مع النسبة المشهورة لتوزيع الثروة حاليا في بريطانيا، ويشار إليها بالمعادلة 7 = 84 ومعناها أن سبعة في المائة من السكان يمتلكون أربعة وثمانين في المائة من الثروة القومية.
إن المسرح البريطاني اليوم ينمو باطراد نحو «التمسرح»؛ أي وعي الجانبين - جانب منتجي المسرحية من مؤلف ومخرج وممثل، وجانب المشاهد - بأن المسرحية «لعبة»، وبأنها ينبغي أن تظل في إطار «اللعب»، أي خارج إطار الواقع. والتمسرح هو ال
Meta-theatre
أو الميتا مسرح! وهذا أيضا - في رأي «بيجسبي» - مرتبط بتقاليد الجامعتين العريقتين؛ لأنه يتطلب إيجابية من المبدع والمتلقي ووعيا بتقاليد المسرح الإنجليزي على امتداد القرون.
أما «هوكس» فقد تناول معارضة التغيير من زاوية أخرى، ألا وهي إلحاح المؤسسة الاجتماعية في بريطانيا على تثبيت اللغة الإنجليزية وإعلاء شأنها، باعتبارها القناة الأولى التي تحمل الثقافة العريقة وتنقلها عبر الأجيال، بل وعبر القارات! وقد اتخذ في بحثه منهجا طريفا؛ إذ ضرب المثل بمحاولة استغلال أحد أقطاب الأدب في أوائل الأربعينيات وهو: ت. س. إليوت لضرب التغيير وقمع الاتجاهات الثورية في بريطانيا، بل في ما هو أهم من ذلك وهو جر أمريكا إلى الحرب بعد الهزيمة النكراء التي منيت بها بريطانيا في «دنكرك»، فالتمجيد الذي تلقاه إليوت من ناقد كبير مثل «ف. ر. ليفيز» كان في حقيقته محاولة لإثبات أنه إنجليزي لا أمريكي وأنه كتب قصيدة «كوكر الشرقية»، وهذا هو اسم قرية إنجليزية أطلقه الشاعر على إحدى القصائد التي أسماها «الرباعيات»؛ لتأكيد هذا الوهم، ولترسيخ فكرة التراث المشترك الذي ينبغي الحفاظ عليه، ولو كان ذلك يجر أمريكا إلى الحرب!
وينطبق هذا أيضا على تدريس اللغة الإنجليزية في الجامعات والمعاهد العليا داخل بريطانيا وخارجها؛ إذ يرى «هوكس» أن اللغة تستخدم وسيلة لمقاومة التغيير لا لنشر الثقافة والعلم! بل إنه يبالغ في تصوير الموقف حين يعتبر أن اللغة نفسها مؤسسة ينبغي التنبه لمخاطر التمسك بها والحفاظ عليها؛ إذ تكمن في أبنية العبارات نفسها مفهومات ثبات ومنطق وتعقل تعكس وجهة نظر القلة أو الصفوة التي بيدها مقاليد الأمور في مجتمع يمر - بالضرورة - بمراحل تحول حاسمة مثل المجتمع البريطاني.
وأخيرا فإن ثورة الأكاديميين والكتاب على تقاليد الجامعتين الكبيرتين كان يمكن أن تكون فارغة لولا المساندة العلمية التي يتلقونها من هذا الحشد الهائل من الدارسين الذين يؤكدون قدرة الشباب على الاستجابة لأفكار الكبار وأبحاثهم، حتى ولو كانت سلبية أو تتضمن قدرا كبيرا من الخلاف والاختلاف والمعارضة.
مصر في عيون العالم
مصر في مؤتمر القاهرة
العام يطوي صفحته، والأيام تجري لاهثة، والنشاط الدافق في جامعتنا يوحي بإشراق عام جديد أكثر مما يوحي بأفول عام غارب، فما إن انفض مؤتمر طه حسين حتى انعقد مؤتمر الأدب المقارن حول صور مصر في أدب القرن العشرين. فأصبح قسم اللغة الإنجليزية الذي نظم المؤتمر خلية نحل، وازدحمت قاعاته الفسيحة بالدارسين والأدباء من شتى أنحاء العالم، يناقشون مصر، بل لم يكن لهم هم على مدى أيام ثلاثة سوى مصر وصورها.
وفي الفسحة ما بين جلستين، كان كثير من الأساتذة الأجانب ملتفين حول الكتب المصرية التي تقدم الأدب العربي الحديث مترجما إلى الإنجليزية - في المعرض الصغير الذي أقامته هيئة الكتاب - حين لمحت البروفيسور كريستوفر نوريس الأستاذ في جامعة أكسفورد واقفا بقامته القصيرة ولحيته الحمراء يتطلع بعيون شاردة من نافذة غرفة الأساتذة، وقد بدأ ضوء الشمس يتسلل إليها. وعندما اتجهت إليه لمحني فاستدار وقال فجأة: «كان الضباب يكتنف الأهرام هذا الصباح كأنه غلالة الزمن!» وعجبت ولم أعلق، فعاد يقول: «ترى كيف تحسون بالزمن وأنتم الزمن نفسه؟»
لقد انطوى عام 1989م بعد أن عشناه نحن المشتغلين بدراسة الآداب الأجنبية نبضا دافئا في قلوبنا؛ فأنظار العالم على مصر وآداب مصر وفنون مصر منذ أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، وتزايدت الطلبات على شراء الكتب المصرية التي تقدم الأدب العربي الحديث بالإنجليزية كأنما يريد العالم أن يعيد اكتشاف مصر، ولقد وجدت في رحلاتي هذا العام إلى بلدان شتى في قارات العالم الأربع أن «مصريتي» تسبقني، وأن اسم مصر قد عاد له رنينه المتميز، وكان هذا الإحساس هو دافعنا على تدارس الاختلاف في صورة مصر في أدب القرن العشرين في ذلك المؤتمر غير المسبوق في تاريخ جامعاتنا.
ولم يكن من الغريب أن تدور معظم الأبحاث في المؤتمر حول محور واحد لم تحدده اللجنة التحضيرية (برئاسة الدكتورة هدى جندي رئيسة القسم)، ولكنه برز بصورة طبيعية في مجالات التخصص المختلفة للمشتركين، ألا وهو الزمن !
فسواء كان البحث يتعلق بصورة مصر في أوائل القرن العشرين (في أدب برنارد شو أو جيمس جويس مثلا) أو في منتصفه (وليم جولدنج أو لورانس داريل أو إ. م. فورستر)؛ فالإطار الذي يضمه هذا إطار الزمن أو مصر باعتبارها صورة استعارية لأبعاد الزمن المتشابكة المحيرة كما ذهبت إلى ذلك د. هدى الصدة في بحثها، فإذا كان الكتاب والشعراء قد أحبوا مصر عندما اكتشفوها، في القرن التاسع عشر باعتبارها «واحة زمنية» يرتادها الإنسان ليروي ظمأه إلى الماضي؛ فهم يحبونها اليوم باعتبارها نموذجا لامتزاج جهد الإنسان بحياة الطبيعة امتزاجا يدفع به إلى الأمام، دون أن يفقده وعيه بامتداده في الزمان والمكان، ويقرب بينه وبين ثوابت الكون ودوائر الحياة، فيلغي الفواصل بين الأيام حتى ليرى في أعمق أعماقه صور حياته الدائمة الدائبة على ضفاف الوادي حافلة ثرية عامرة بالقيم التي غرسها أجدادنا في هذه الأرض، فنمت وازدهرت وأصبحت جزءا لا يتجزأ من وعينا الجمعي، بل من اللاوعي الجمعي لأبناء هذا الوطن جميعا.
فكتاباتهم نبراس هذا الجيل وهداه؛ قاسم أمين ولطفي السيد وسلامة موسى، والرافعي وطه حسين وهيكل والعقاد والمازني وغيرهم.
وأذكر أنني سئلت أثناء مناقشة دارت أمام الكتب المترجمة المعروضة أثناء المؤتمر عن الجيل السابق لجيلنا، وكان السائل عربيا يريد أن يعرف سر تركيزنا في الترجمة على أدب ما بعد نجيب محفوظ؛ فأجبته الإجابة التي أجابها د. سمير سرحان ذات يوم في إحدى ندوات هيئة الكتاب وهي أنهم موجودون في هذا الجيل - فلولا طه حسين وهيكل ما كان يوسف إدريس، ولولا العقاد والمازني وشكري ما كان عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، ولولا الرافعي ولطفي السيد ما كان أحمد بهجت وعبد الرحمن فهمي، ولولا توفيق الحكيم وأحمد شوقي ما كان سعد الدين وهبة وفاروق جويدة؛ فتاريخنا القريب حلقات متداخلة موصولة، ومصر القرن العشرين شامخة في اتصال فكرها وأدبها مهما شابها من شوائب بين الحين والحين؛ فهي شوائب غريبة عليها ومآلها إلى الزوال؛ إذ إن في هذا البلد حبل اتصال ثقافي متينا يمكنها من تخطي «الشوائب» مثلما أبقى عليها حية نابضة على مر القرون ورغم الخطوب.
وعندما اختتم المؤتمر أعماله بندوة عن الترجمة شارك فيها د. مجدي وهبة ود. أنجيل بطرس سمعان ود. سمير سرحان وكاتب هذه السطور كان الإحساس يسيطر على الحاضرين بأن صورة جديدة لمصر قد تبلورت في هذا العقد، صورة ساهم في رسمها أدباؤنا ومفكرونا على مدى القرن العشرين - وإن كانت لم تخرج إلى العالم إلا في السنوات الخمس الأخيرة بالتحديد؛ فهي الفترة التي ظهرت فيها معظم الروايات العربية المترجمة إلى الإنجليزية كما ذكرت د. أنجيل في حديثها - والتي أسهمت فيها هيئة الكتاب إسهاما كبيرا وكانت كلمة الختام التي ألقتها د. هدى جندي موجزة مؤثرة؛ لأنها مست في أعماقنا ذلك الوتر الحساس الذي كثيرا ما تحجبه عنا مشاغل العيش، وتر انتمائنا إلى هذا البلد القديم الجديد؛ حيث يجتمع الزمن في لحظة خاطفة وتمتد اللحظة فتصبح الأزل والأبد معا ... ونظرت من حولي إلى الجيل الجديد من الأساتذة الذين كتب عليهم أن يحملوا الشعلة وينيروا الطريق من بعدنا ففاض قلبي بالأمل: إننا نستقبل التسعينيات ببسمة الواثق في هذا الجيل، فهذا الجيل هو مصر التي لم يناقشها أحد في ذلك المؤتمر الفريد.
الوعي المزدوج
في ديسمبر عام 1989م عقد في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب بجامعة القاهرة مؤتمر علمي عالمي عنوانه «صورة مصر في أدب القرن العشرين» تحدث فيه أساتذة كبار من شتى بلدان العالم المتقدمة إلى جانب الأساتذة المصريين، وتناول كل منهم جانبا من جوانب هذا الموضوع الهام، وكان عدد الحاضرين أكبر من المتوقع، فامتلأت بهم جنبات القاعات، وانتشرت الأحاديث الجانبية هنا وهناك، وأحيانا ما حمي وطيس النقاش فتعالت الأصوات متنافرة ومتناغمة معا، باللغات الإنجليزية والعربية والفرنسية! وفي هذا الخضم الزاخر تلاشت الفروق الثقافية واللغوية؛ إذ كان كل من المشتركين يحاول أن يفهم ما يعني صاحبه اقترابا من الصورة التي احتلت مكان القلب وإن بدت صورا عديدة لا صورة واحدة .. مصر!
ركز بعض الباحثين على صور مصر الفرعونية في الرواية الأوروبية والأمريكية الحديثة، وتناولوا أساطيرنا بغير قليل من التفصيل؛ إذ تتبعوا تطور معاني بعضها ومدى تأثيرها على التفكير الغربي الذي كان وما زال يتوسل بالأساطير باعتبارها عناصر استعارية أو رمزية تجسد بعض المعاني الجوهرية لحياة الإنسان التي لا يستطيع العقل «البارد» أن يدرك كنهها أو يسبر أغوارها، وتناول باحثون آخرون صور مصر الحديثة - ابنة القرن العشرين - التي صنعها رواد الفكر الحديث الذين حاولوا أن يربطوا مصر بالعالم اليوم، فتعلقت أبصارهم بأوروبا، وحاولوا جاهدين تخطي حواجز الزمن، والانتقال من مصر القرون الوسطى (القروسطية) إلى مصر الحديثة التي تمثلت في حلم الخديوي إسماعيل «قطعة من أوروبا»، وتمثلت في أذهان الرواد بلدا مستقلا يحكمه أبناؤه حكما ديمقراطيا، يسوده العدل والحرية والإخاء والمساواة (قيم الثورة الفرنسية)، وينعم فيه الناس برخاء وازدهار في شتى علوم العصر وإبداعاته الفنية؛ قياسا على إنجازات أوروبا النهضة وأوروبا العصر الحديث أيضا.
وعندما جاء موعد إلقائي البحث القصير الذي ساهمت به في المؤتمر وهو صورة مصر في الأدب العربي، وجدت أن قول «مالرو» الكاتب الفرنسي الشهير، الذي عمل ذات يوم وزيرا للثقافة، بأن مصر كانت أول بلد في العالم يصل إلى مفهوم الدولة الحديثة يسيطر على تفكيري ويلح على ذهني إلحاحا! لقد درس «مالرو» تاريخ مصر دراسة مستفيضة وانتهى إلى أن هذا الإنجاز المصري هو في حقيقة الأمر فريد متميز، واستند في ذلك إلى قراءاته في تاريخ شتى الدول، وخصوصا دول العالم القديم، فوجد أن لمصر شخصية متميزة فرضت عليها هذا النسق (وهو ما أثبته الدكتور جمال حمدان في كتابه الرائع شخصية مصر) وأن البناء الحضاري الراسخ لهذا البلد اقتضى هذا التميز والتفرد، وأن جميع جهود الغزاة لطمس هذه الشخصية كان لا بد أن تبوء بالفشل؛ لأنها تنبع من عناصر جغرافية وثقافية (بالمعنى العريض لهذا المصطلح) يصعب قهرها.
وعدت إلى البحث القصير الذي سألقيه فوجدته قد أغفل عناصر يمكن تداركها، وعناصر أخرى دفعتني إلى الخوض من جديد في هذا الموضوع من زاوية أخرى، أما عنوان البحث فكان «الماضي باعتباره طريق المستقبل»، وكنت أعرض فيه الاتجاه الحاضر الذي يتهدد شخصية مصر كما نعرفها، وهو العودة إلى ماض مبهم ليس هو بالفرعوني (قطعا) ولا هو بالعربي الخالص - بسبب استحالة التطابق بين حياة البادية وحياة الحضر - ولا هو بالعثماني أو المملوكي! إنه ماض وحسب، وهو يجمع في طياته عناصر من هذه الحقب جميعا، تصب كلها فيما أسميته بالشخصية المصرية التي يطلق عليها يحيى حقي تعبير «الخلاط»، وربما كان يقصد به البوتقة التي تنصهر فيها العناصر، وتتحد اتحادا كيميائيا بحيث لا يمكن فصل أحدها عن الآخر.
وبعد أن ألقيت البحث ودار حوله النقاش وجدت أنني يمكن أن أضع يدي على عنصر بعينه يمكن في إطاره تصحيح مسار الفكرة؛ إنه الوعي المزدوج بالماضي والحاضر الذي أصبح يمثل السمة الأولى لتفكيرنا عن مصر والمصريين هذه الأيام. ولو كان هذا الوعي منتظما - أي لو كان يفصل في ثناياه بين صورة الماضي، أو صوره الكثيرة المتناقضة، وبين صورة الحاضر المستقاة من أوروبا - لهان الأمر! ولكن هذا الوعي المزدوج هو في الحقيقة مختلط مشوش؛ لأن صور الماضي التي تبرز في وعي المصري الحديث تمتزج امتزاجا متنافرا بصور الحاضر، فتؤدي إلى البلبلة والحيرة أحيانا، وإلى التصلب والعناد والتعصب الأعمى أحيانا أخرى.
فالمصري الحديث، ابن القرن العشرين يقال له إنك عربي لأنك تتكلم العربية، وإن عليك - لهذا السبب - أن تقيم علاقات متينة (تقترب في قوتها من وشائج الانتماء) مع الماضي السحيق في جزيرة العرب وبادية الشام، فتراثك أيها المصري هو تراث أبو دهبل الجمحي، وبيهس الجرمي، وهدبة بن حشرم، وأيمن بن خريم، وشيب بن البرصاء، والعديل بن الفرخ (إذا اقتصرنا على العصر الأموي). ويقال له إن عليك أن تستوعب هذا التراث وأن تهضمه هضما حتى تستوي نفسك العربية ويصح انتماؤك، وفي سبيل ذلك عليك أن تعرف اللغة القديمة وتكابد في ذلك الأمرين، وحبذا لو بدأت من الجاهلية فرضعت لبان آدابها وتشربت طرائق حياتها، وغصت في بحار قيمها وأخلاقها؛ فهي جذور العرب، والأصول التي لا بد من العودة إليها حتى تضع قدميك على الأرض الصلبة حقا.
ويكابد المصري - كما قلت - الأمرين في إقامة تلك العلاقات مع ذلك الماضي السحيق، بينما يقول له كل ما حوله إن العالم قد تغير، بل إن طريق الحاضر الذي يؤدي إلى المستقبل لا مكان فيه لوضاح اليمن ولا للوليد بن يزيد؛ فهو يدرس العلوم الحديثة، وينشأ في جو حضاري أبعد ما يكون عن الفيافي والقفار، فيحس إنه يضم إلى وعيه «العربي» القديم وعيا عربيا من نوع آخر - وأقصد به الوعي بنظام حكم مختلف، ونظام اقتصادي جديد، ووسائل انتقال سريعة، وعلوم تتوسل بأجهزة وآلات تتطلب قدرا كبيرا من التجريد والتركيز الذهني، مثل الرياضيات والفيزياء وشعاب علم الهندسة الحديثة - النظري منها والتطبيقي - مما يستحيل معه تطويع وعيه بالانتماء إلى عالم الماضي السحيق الذي ما زال رغم ذلك يفرض نفسه على وعيه في كل وقت فيصيبه بالتشتت والتمزق.
الوعي المزدوج إذن مرده إلى ازدواج الزمن .. الزمن التراثي الكامن في اللغة القديمة، الزمن المعاصر المتجسد في حياته اليومية. وهو ازدواج له تبعات كبار؛ لأن ازدواجية اللغة (إذا شئنا مثلا قريب المنال) تعني ازدواجية في التفكير وازدواجية في الشعور بالانتماء، مما يصيب صورة الذات بشرخ أو بصدع قد يصعب رأيه، ومن عواقب هذا الشرخ أو الصدع الانفصال عن الواقع وحدوث تهرؤ نفسي قد يصل إلى حد الشيزوفرينيا - بمفهومها الحديث - وقد بدأنا نشهد مظاهرها حولنا في الانفعالات والتشنجات التي تصدر من حولنا إزاء كل من يمس اللغة العربية أو يقر بالواقع الذي لا يمكن إنكاره، وهي أنها تطورت واختلفت! وهي تصدر في صور محمومة إزاء كل من يدعو إلى اللحاق بركب العصر والتطور ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين، بل ونلمح مظاهرها أيضا في رنة التواكل (باسم الدين، والدين منها براء) في أقوال الشباب، وفي اتجاه الكثيرين إلى محاكاة بعض الشعوب في أزيائها في محاولة للعودة إلى ملابس الصحراء منذ ألف وخمسمائة عام، والملبس بعد من الظواهر الاجتماعية ولا صلة له بالدين في أصوله أو فروعه!
كيف تتصل ازدواجية الوعي بصورة مصر في أدب القرن العشرين؟ وكيف تضيف البعد الناقص إلى البحث الموجز الذي ألقيته في المؤتمر؟ الإجابة على هذا السؤال هي دون مبالغة أننا نحمل في وجداننا وعقولنا صورتين لمصر؛ الأولى هي التي صورها العرب لها في رسائلهم وأشعارهم عن الأرض التي فتحوها، والثانية هي صورة الدولة التي أرسى أجدادنا أركانها وأقاموا بنيانها، والتي تولينا نحن منذ استقلال مصر عن الإمبراطورية العثمانية بعثها وإحياءها، وتناقض الصورتين له حديث آخر.
صورة مصر الأولى
كانت كتابات العرب الأوائل عن مصر لا تنم عن إدراكهم لتاريخ مصر القديم أو عن أدنى وعي بأنها دولة ذات حضارة عريقة؛ فأوصاف القادة العسكريين والسياسيين تتناول خيراتها وخصبها وغناها وشعر شعرائهم يرسم صورة تقترب في جمالها وكمالها من الجنة الموعودة، والشعر الذي كتب في محاسن مصر لا يوحي بأن فيها بشرا أو بأن هؤلاء البشر ينتمون إلى هذه الأرض التي كانت يوما ما تملك كل مقومات الدولة بالمفهوم الحديث. ولا يزيد ما قيل في وصف مصر آنذاك على أبيات متفرقة لا تصل إلى طول القصيدة، وبعضها مقطوعات بها عيوب عروضية وردت في كتب التاريخ؛ إذ كان من عادة المؤرخين أن يستشهدوا بأبيات متفرقة أو بالمقطوعات وبالقصائد أحيانا من باب الزينة، أو محاكاة لكتب الأدب، أو تحقيقا لمفهوم الكتاب - إذا كان الكتاب جامعا لا يمكن أن يخلو من الشعر - فنحن نقرأ مثل ذلك في خطط المقريزي وفي كتاب النجوم الزاهرة لجمال الدين أبي المحاسن بن تغري بردي، وتاريخ الطبري وتاريخ المسعودي، وغيرها من الكتب التي لا تتناول الأدب كما نعرفه اليوم.
وقد أجهدت نفسي لأعثر على شعر عن مصر يسبق دالية المتنبي المشهورة، فلم أعثر إلا على أبيات منثورة هنا وهناك؛ فالمتنبي الذي ولد وعاش في أوائل القرن الرابع الهجري يعتبر من أوائل من رسموا لمصر صورتها القديمة أي صورتها في أعين العرب في القرون الأولى من الفتح العربي، وهي صورة بستان من الأعناب «فقد بشمن وما تغني العناقيد» أي صورة تتناقض مع طبع البدوي الذي يتفاخر بقدرته على الترحال ، ويعرب عن ضيقه بالاستقرار:
ذراني والفلاة بلا دليل
ووجهي والهجير بلا لثام
فإني أستريح بذي وهذا
وأتعب بالإناخة والمقام
عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازخة بغامي
وقد أرد المياه بغير هاد
سوى عدي لها برق الغمام
أقمت بأرض مصر فلا ورائي
تخب بي المطي ولا أمامي
يقول لي الطبيب أكلت شيئا
وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد
أضر بجسمه طول الجمام
ومن تلا المتنبي من الشعراء واصل وصف مصر باعتبارها الروضة الجميلة أو البستان المزهر، وقد تضمن كتاب حوادث الدهور لأبي المحاسن المذكور (الجزء الأول، دار الكتب، رقم 2397) بعض الأبيات عن النيل ومصر، نقتطف منها ما يؤكد استمرار الصورة الأولى لمصر، والتي تبرز في بعض الكتب مثل فضائل مصر للكندي، أو تلك الرواية الغريبة التي أوردها النويري في نهاية الأرب (ج1، ص347) عن قول منسوب لآدم عليه السلام:
قال عبد الله بن عمرو: لما خلق الله عز وجل آدم، مثل له الدنيا شرقها وغربها، وسهلها وجبلها، أنهارها وبحارها، وبناءها وخرابها، ومن يسكنها من الأمم، ومن يملكها من الملوك، فلما رأى مصر، رآها أرضا سهلة ذات نهر جار، مادته من الجنة، تنحدر فيه البركة، ورأى جبلا من جبالها مكسوا نورا لا يخلو من نظر الرب عز وجل إليه بالرحمة، في سفحه أشجارا مثمرة، فروعها في الجنة تسقى بماء الرحمة، فدعا آدم في النيل بالبركة، ودعا في أرض مصر بالرحمة والبر والتقوى، وبارك على نيلها وجبلها سبع مرات، وقال: «يا أيها الجبل المرحوم، سفحك جنة، وتربتك مسكة تدفن فيها عرائس الجنة. أرض حافظة مطبقة رحيمة. لا خلتك يا مصر بركة، وما زال بك حفظ، وما زال منك ملك وعز، يا أرض مصر فيك الخباء والكنوز، ولك البر والثروة، سال نهرك عسلا ...»
وقد أوردت هذا المقتطف لورود كلمة الجنة فيه أربع مرات، وكذلك كلمة الأرض، والدارس الحديث لن يغيب عن فطنته أن الرواية استعارية إذ أنى لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يعرف ما قاله آدم عليه السلام حتى يستشهد بكلماته كما جاءت دون تبديل؟ فهي استعارة يقصد بها أن الإنسان يرى في أرض مصر صورة لجنة الخلد، وهي تمثل ما رآه العرب في تلك القرون الأولى في مصر. وأما الأبيات التي أشرت إليها من كتاب حوادث الدهور؛ فربما كانت قد كتبت في عصر أبي المحاسن، وربما رويت عن شعراء سابقين أو نحلت، وهي على أي حال تصور ما نرمي إليه. يقول صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي:
لم لا أهيم بمصر
وأرتضيها وأعشق
وما ترى العين أحلى
من مائها إن تملق
وقال ابن سلار:
لعمرك ما مصر بمصر وإنما
هي الجنة العليا لمن يتذكر
وأولادها الولدان من نسل آدم
وروضتها الفردوس والنيل كوثر
وللقاضي شهاب الدين أحمد بن فضل العمري أبيات نقتطف منها ما يلي:
لمصر فضل باهر
لعيشها الرغد النضر
في كل سفح يلتقي
ماء الحياة والخضر
فكل من هؤلاء يذكر الماء أو النيل ومثلهم ما أورده نفس الكتاب؛ إذ يورد أبياتا لأبي الحسن علي بن بهاء الدين الموصلي الحنبلي؛ منها:
بها ما تلذ العين من حسن منظر
وما ترتضيه النفس من شهواتها
وتربتها تبر يلوح وعنبر
يفوح وتلقى بعد بعد حياتها
زمردة خضراء قد زين قرطها
بلؤلؤة بيضاء من زهراتها
ويقول ابن الصائغ الحنفي:
ارض بمصر فتلك أرض
من كل فن بها فنون
ونيلها العذب ذاك بحر
ما نظرت مثله العيون
وأخيرا نورد للشيخ برهان الدين القراطي ما يلي:
حلا نيل مصر وهو شهد ومن يذق
حلاوته يوما من الناس يشهد
أيا بردى بالشام إن ذبت حسرة
وغيظا فلا تهلك أسى وتجلد
والواقع أن هذا ليس بغريب؛ فكما أوضح أحمد أمين في فجر الإسلام، كان العرب يعانون شظف العيش وقسوة حياة البداوة، فلما جاءوا إلى مصر قبل الإسلام ورأوا الخصب والنماء، ارتبطت صورتها في أذهانهم بالنعيم، وكان أسهل عليهم بعد الإسلام أن يروا الجنة الموعودة (وهي غيب) في صورها الاستعارية الواردة في القرآن
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار (الرعد: 35) كأنما تجسدت في مصر، خصوصا بسبب اهتمام أوائل المفسرين بمصر، وأنا لا أشير إلى الكتب التي تتناول فضائل مثل كتاب فضائل مصر لأبي زولاق أو الكتاب الذي يحمل نفس العنوان للكندي، ولكن أقول الأوائل ممن يستشهد بأقوالهم بعد القرآن والحديث، كقول ابن عباس مثلا: «إن مصر سميت بالأرض كلها في عشرة مواضع من القرآن»، أو كقوله في مثال آخر: «دعا نوح عليه السلام لابن ابنه بيصر ابن حام وهو أبو مصر، فقال: اللهم إنه قد أجاب دعوتي، فبارك فيه وفي ذريته، وأسكنه الأرض الطيبة المباركة التي هي أم البلاد» (نهاية الأرب، ص346-347)، وقد اتبع المؤلفون هذا المنهج وزادوا فيه منذ القرن الرابع الهجري، وحتى فجر النهضة الحديثة.
وقد شرحت لنا الخلفية التاريخية اللازمة لفهم الإطار الثقافي لهذه الصورة الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، في كتابها الرائع مصر في فجر الإسلام (القاهرة، 1947م)، ثم في كتابها الموجز مصر في عصر الولاة (سلسلة الألف كتاب)، ويتضح منها أن العرب عندما فتحوا مصر لم يكونوا يدركون أنهم يواجهون ما يسمى الآن بالتحدي الحضاري، أو أن استجابتهم لهذا التحدي قد يتوقف عليها مجرى تاريخهم نفسه. ولا عجب في ذلك؛ فتاريخ مصر كان مجهولا لهم، وكانت الألغاز تحيط بالكتابة المنقوشة على المعابد، بل لقد ذهبوا في تفسيرها كل مذهب، فتصور البعض أنها حروف لغة قديمة بائدة (النجوم الزاهرة)، وكانت رسالتهم المحدودة هي الدعوة إلى دين الله الحنيف فمن استجاب هللوا له وكبروا ومن رفض الإسلام دفع الجزية وانتهى الأمر (تاريخ الطبري، ج4، ص106).
أي إن القرون الأولى من الفتح العربي لم تشهد أي لون من التفاعل بين الفاتحين وأهل البلاد، وأقصد بالتفاعل الاندماج الثقافي أو الحضاري الذي لم يبدأ إلا بعد انتهاء عصر الفتوحات، وبداية عصر التعريب، وهجرة القبائل العربية والتزاوج وبداية عمل بعض العرب بأعمال المصريين بعد أن كانوا يقتصرون على المهن القيادية، سواء في الجيش أو ما نسميه اليوم بالإدارة العليا.
وكان اعتناق المصريين للإسلام وتعلمهم اللغة العربية عاملا حاسما في هذا التفاعل، وكان الاتجاه الغالب هو استيعاب مصر لأهل البداوة ، وتحويلهم إلى نظم الحياة الحضارية في مصر، بحيث يمكن القول بأن حضارة أهل مصر كانت من عوامل التوحيد؛ إذ كانوا يتألفون من شعوب ذات أعراق متفاوتة (انظر تاريخ الإسلام للدكتور حسن إبراهيم حسن، ج1، 544)، ثم بدءوا في التلاحم وبناء شخصية مصر العربية الجديدة التي سرعان ما تعرضت للعواصف والأنواء في ظل الحكام الأجانب حتى فجر النهضة الحديثة.
ومكمن الخطر في الصورة الأولى لمصر هي أنها لم تختف ولم تتلاش على مر القرون.
الصورة المزدوجة
قلت في حديث الأحد الماضي إننا نحمل في وجداننا وعقولنا صورتين لمصر: الصورة التي صورها العرب لها في رسائلهم وأشعارهم عن الأرض التي فتحوها، وصورة الدولة الحديثة التي وجدنا لها - منذ اكتشاف ماضينا الفرعوني - جذورا في هذه الأرض فتولينا بعثها وإحياءها منذ استقلال مصر عن الدولة العثمانية.
وما زالت الصورتان تتناقضان في كتابات الأدباء المعاصرين شعرا ونثرا، فإذا البعض يركز على صور مصر الفرعونية؛ نشدانا للذات القومية وتأكيدا لها، بينما يركز البعض الآخر على وشائج الانتماء العربي، وأقوى هذه الوشائج هو اللغة بلا شك؛ فهي التي تملي أنماط التفكير؛ لأن التاريخ المشترك لمصر والعرب يصب فيها ويخضعها لمنطقه. وبين هذا وذاك نجد أن معظم الكتاب يرون في مصر صورة مزدوجة تجمع بين الدولة القديمة أيام المصريين الأوائل والتراث العربي الذي تشربناه صغارا ورعيناه كبارا، فتخرج لمصر صورتان أحيانا ما يصعب التوفيق بينهما.
فعندما بدأ نجيب محفوظ يكتب رواياته العربية، كان اتجاهه الطبيعي إلى تأكيد مصريته في فترة الصحوة القومية والدعوة إلى الاستقلال يدفعه إلى نشدان مصر الفرعونية، ولكن تراثه العربي اللغوي (وهو مرادف للتراث الفكري والحسي) جعله يستخدم لغة فصحى تقترب من لغة الأقدمين، بل إن الصفحة الأولى من رواية رادوبيس حفلت بالعبارات والألفاظ التي تطمح إلى محاكاة اللغة القرآنية؛ فهي المثل الأعلى للبلاغة العربية، وكذلك فعل محمد حسين هيكل حين وقع مقدمة الطبعة الأولى من رواية زينب باسم «مصري فلاح»؛ إذ كان دافعه تأكيد الهوية المصرية الخالصة والشخصية المصرية المتفردة والمتميزة عن الشخصيات العربية الأخرى، وكان العنوان الفرعي للرواية هو «مناظر وأخلاق ريفية»، بل إن دافعه لتأكيد هذه الشخصية المتفردة جعله يستخدم اللغة العامية لأول مرة في الحوار، وهذا حدث فريد لا ينبغي أن نمر به مر الكرام؛ فهذه هي التي يسميها علماء اللغة «العربية المصرية» وهذه هي التي تميز أهل مصر في الريف أولا، وفي الحضر ثانيا عن غيرهم من مواطني البلدان العربية. ومع ذلك فإن لغة زينب فصحى وبليغة وجميلة، وتشهد للكاتب بالانتماء الذي لا يمكن التشكيك فيه لتراثنا الأدبي العربي القديم.
كذلك فعل أحمد شوقي في صدر شبابه، حين كتب وهو ابن الخامسة والعشرين قصيدة «كبار الحوادث في وادي النيل» وألقاها في المؤتمر الشرقي الدولي في جنيف عام 1894م، وكان مندوبا للحكومة المصرية فيه (الشوقيات: القاهرة، 1961م، ص17)؛ ففي هذه القصيدة التي تشهد بالعبقرية المبكرة لشوقي حماس الانتماء لمصر، وهو الذي التقت في عروقه دماء الأكراد والشراكسة واليونان والترك! (مقدمة شوقي للجزء الأول من ديوانه المطبوع عام 1989م) وفيها تأكيد لم يسبق له مثيل على شخصية مصر التي تسري جذورها في عصور الفراعنة وحضارة الفراعنة، وإن كانت تتكلم لغة العرب! والقصيدة أكبر شاهد على مولد الوعي باختلاف مصر عن جيرانها، بل وعن الدولة العثمانية التي كانت تربطها بها روابط قوية، ولكن ذلك كله مسوق بلغة عربية جميلة تحاكي لغة القرآن؛ فهو يخاطب رمسيس قائلا:
ولك المنشآت في كل بحر
ولك البر أرضه والسماء
وهو يقول «حسب الظالمون أن سيسوءوا»، ولا ينسى البكاء على زمان السفر بالإبل، فينعي انقضاء عصر الناقة (الوجناء):
يا زمان البحار لولاك لم تف
جع بنعمى زمانها الوجناء
فقديما عن وخدها ضاق وجه ال
أرض وانقاد بالشراع الماء
والوخد هو السير السريع وسعة الخطوة، وشوقي يحاكي المتنبي في إخراجه الأبيات التي كتبت لتجري مجرى الحكم والأمثال، ويستخدم حيل البلاغة العربية في أزهى عصورها، حتى وهو يتحدث عن رمسيس وسيزوستريس!
رب إن شئت فالفضاء مضيق
وإذا شئت فالمضيق فضاء
فاجعل البحر عصمة وابعث الرح
مة فيها الرياح والأنواء
وأصداء اللغة القرآنية لا تغيب عن القارئ أبدا؛ فهو ينظر إلى وضع الكلمات (في سورة هود) عندما قال ابن نوح لأبيه:
سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ، ويذكرنا بالآيات المعروفة
يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته (الأعراف: 57؛ والفرقان: 48؛ والنمل: 63)، فالشاعر في هذه القصيدة الفريدة التي تزيد على 260 بيتا من الشعر العمودي (الملتزم بقافية واحدة وبحر واحد) يعلن مولد الازدواجية أو الصورة المزدوجة التي ورثها جيلنا من أجيال رواد الأدب الحديث في القرن العشرين، وكنت أتمنى أن يتناولها الدكتور شوقي ضيف في كتابه الجميل شوقي شاعر العصر الحديث بالمزيد من التفصيل.
ولم يكن توفيق الحكيم أقل وعيا بهذا الازدواج من شعراء الجيل السابق؛ فرواية عودة الروح وحدها أكبر دليل على الوعي العميق بمصرية مصر، وتميز شخصيتها عن شخصية من حولها من البلدان؛ فهو يدخل البيت المصري في روايته، وينزل إلى الشارع كما نقول هذه الأيام، ويرسي أسس التصوير الواقعي للحاضر في ظل أسطورة فرعونية عن البعث، أو عودة الروح إلى الجسد في العالم الآخر - وهي العقيدة الفرعونية التي عاشت في وجدان الشعب المصري آلاف السنين قبل نزول رسالات السماء وقدوم الأنبياء.
وفي مسرحية إيزيس يؤكد توفيق الحكيم ولعه بهذه الأساطير المصرية القديمة ويتخذ منها صورا «شعرية» يستخدمها في البناء المسرحي نفسه، بل ويفعل ذلك واعيا في معظم كتاباته في مجال القصة أو الرواية أو المسرح. فتوفيق الحكيم مثل هيكل وشوقي عاش في أوروبا، وأحس على البعد في تلك السنوات الأولى من فجر النهضة الحديثة بصورة مصر المستقلة، وإن كان فن المسرح قد فرض عليه فرضا أن يستخدم اللغة المعاصرة أو أن يطوع اللغة العربية لمقتضيات الحديث لاستخدامه في الحوار، محاكيا في ذلك أبنية اللغة العربية المصرية دون اللجوء إلى استخدام اللغة العامية.
وإذا كانت العوامل السياسية قد لعبت دورا كبيرا في بروز صورة مصر القديمة، وأهمها حاجة أهل مصر إلى سند للاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبية - خصوصا أيام الكفاح من أجل الجلاء - فإن ثمة عوامل أخرى لا يمكن إغفالها في هذا المقام، وأهمها الانفتاح على العالم الحديث في أوروبا بوجه خاص وميلاد العلم الحديث وما تقتضيه مناهجه من التجرد من الهوى في البحث والتقصي. وكان هذا العامل الأخير هو الدافع إلى ما يسمى بحركة التنوير في مصر أولا، وبعد ذلك بعقود كثيرة في غيرها من البلدان العربية. فحركة التنوير كانت تتطلب اتباع المنهج العلمي دون التعصب لرأي أو عقيدة أو جنس، بل إن هذه الحركة هي التي جمعت رواد التنوير في كل مجال - من محمد عبده وعلي عبد الرازق إلى طه حسين والعقاد والمازني والرافعي وهيكل وسلامة موسى، حتى ما بعد منتصف القرن العشرين.
أما مكمن الصراع في الصورة المزدوجة فهو أن صورة مصر التي رسمها العرب في أدبهم كانت تتناقض مع صورة مصر الحديثة التي رغم ارتكازها على عناصر المجد التليد تطمح إلى اللحاق بركب الحضارة الحديثة في أوروبا. ولم يكن من الغريب آنذاك أن يتغاضى رواد التنوير عن الأدب الذي كتب في عصور الانحطاط، وهي العصور التي شحبت فيها ألوان شخصية مصر إن لم تكن قد نحلت وتلاشت في ظل حكم الأجانب الذين حكموها قرونا متوالية، وتنازعوا أمرهم بينهم ما يصنعون بهذا البلد الخصيب؟!
الصور المتداخلة
ربما أحس بعض القراء في مقالاتي عن ازدواجية الصور أو ازدواجية الوعي والانتماء أن التعبير غير دقيق، وربما كان التعدد لا الازدواج أقرب إلى الصحة في وصف صورة مصر أو صورها؛ وذلك لأن صورة مصر الحديثة - مصر العربية - تجمع عناصر عربية عريقة مكمنها التراث اللغوي والأدبي، وعناصر مصرية أقدم وأعرق نحملها في كياننا عبر القرون منذ أن أرساها أجدادنا الأوائل أصحاب أقدم حضارة على وجه الأرض، وعناصر حديثة تربطنا بعالم اليوم منذ اتصالنا بأوروبا في القرن التاسع عشر وتشربنا لحضارة هذا العصر الذي يتغير من يوم ليوم إن لم يكن من ساعة لساعة. وقد اخترت تعبير العناصر عمدا؛ لأن المصادر الثلاثة التي أشرت إليها ليست متجانسة أو موحدة توحيدا كاملا؛ فلا العناصر العربية موحدة - إذ كانت التقاليد العربية تجمع بين أمشاج مختلطة من التقاليد أو من الثقافة - ولا العناصر المصرية صافية - إذ جمعت بين بعض تقاليد شعوب البحر الأبيض ممن خالط المصريين وامتزج بهم على مدى ألف سنة أو يزيد، منذ بناء الإسكندرية في القرن الرابع قبل الميلاد وحتى الفتح العربي في القرن السابع للميلاد - ولا العناصر الحديثة موحدة؛ إذ تجمع بين تقاليد أمم متباينة في أوروبا، ثم في أمريكا الشمالية في العقود الأخيرة.
ومع ذلك فالباحث الموضوعي المتجرد يستطيع أن يتخذ موقفا خاليا من العصبية لأي من هذه الصور التي ظلت تتداخل على مر القرون حتى أصبحت تشكل نسيجا متلاحما يصعب إخراج خيوطه إلا بتدميره، فالوليد يرضع لغة العرب، ويتشرب معها جانبا من تراثها، وذلك هو الجانب الذي يكمن - كما قلت - في اللغة وأنماط التفكير التي تفرضها المفهومات الأساسية عن الكون والبشر والمجتمع، وطرائق الاستدلال والاستقراء وما إلى ذلك - وهو ينشأ في مجتمع يتوارث قيم الحضارة القديمة - حضارة الحرث والري وانتظار المحصول والعمل الجاد والتأمل والعلاقات الاجتماعية التي تفرضها تلك الحياة، فيرث جانبا من تراث الأرض (جمال حمدان، شخصية مصر) وهو يتعلم ويتلقى ضروبا من أنماط التفكير الحديثة وألوان البحث العلمي الحديث، فيتجه بعقله ويديه إلى الآلات؛ يتعامل معها ويستخدمها، ثم يصنعها، ثم يتوسل بها في طرائق معاشه، فيكتسب جانبا من روح العصر، ويمتزج كل هذا في كيانه فتختلط الصور وتتداخل، وتخرج لنا في النهاية إنسانا مصريا يتفرد بوجود هذا الاختلاط الذي يصبح مصدر قوة وضعف في الوقت نفسه، فكيف يكون ذلك؟
ذكرت في آخر حديثي السابق أن صورة الماضي العربية القادمة من خارج مصر كثيرا ما تلتقي مع صورة مصرية حديثة فيتعذر اللقاء بينهما وتساءلت عن سبب تعذر اللقاء - بمعنى التمازج - الذي أصبح يقض مضاجعنا هذه الأيام. والإجابة يسيرة وهي أننا حين نعود إلى العناصر العربية في الصورة، لا نعود إليها باعتبارها عناصر تاريخية؛ أي عناصر حياة بدوية بدائية عرفتها الجزيرة العربية شمالا وجنوبا في القرون السابقة للإسلام (وإن كانت قد استمرت بعده إلى حد ما)، ولكننا نعود إليها باعتبارها أمثلة عليا للحياة يطمح إليها الإنسان في كل عصر؛ ومن ثم فهي تمثل في نظر الكثيرين المستقبل الذي ترنو إليه الأبصار؛ ومن ثم يتعذر التوفيق بينها وبين صور الحضارة الحديثة التي لم تعد مقصورة على دولة دون أخرى؛ فهي بحق حضارة العصر الذي نعيش فيه ولا مهرب لنا منه، فهو زمننا حقا وصدقا.
ومثلما تعمدت ذكر تعبير العناصر، أتعمد هنا ذكر الماضي والمستقبل، فعناصر صورة الماضي التي أعنيها تضم فيما تضم عناصر عصبية عمياء، وتضم عناصر استبداد واستعباد وقهر، وتضم عناصر جهل يتبدى في ترديد الأقوال وروايتها دون تحقق وتمحيص، وفي الإيمان بالخرافات والأساطير، وهو ما جاء الإسلام ليدحضه ويرسي مكانه قواعد المساواة والتآخي والتسامح والعلم. ولكننا لا نقف لنتساءل عن مدى صلاحية عناصر الماضي التي ذكرتها لحياتنا في الحاضر أو المستقبل، بل ولا نتساءل حتى إذا كانت تتفق وروح الدين ونصوصه أم لا، بل إننا نقبلها كما هي مهما كان فيها من مثالب؛ إذ نرى فيها جذورنا وننسب إليها فضل ما نحن فيه!
إن للماضي سحرا لا يقاوم؛ فهو تاريخ حافل ممتع، ولكننا ينبغي أن نقرأ هذا التاريخ بحذر، واعين دائما أنه تاريخ وليس حاضرا، وينبغي ثانيا أن نعرف أنه كان يوجد إلى جانب البقع المشرقة الوضيئة في هذا التاريخ بقع مظلمة كالحة مخجلة؛ أي إن علينا - إذا أردنا إدراك معنى هذا التاريخ - أن نرى الصورة كاملة، ونحن لن نراها كاملة إلا إذا رأينا بقع الظلام إلى جانب بقع النور، وسوف نعرف من خلال ذلك الجهد أن أجدادنا كانوا بشرا مثلنا، يصيبون ويخطئون، وأن صورة الماضي كانت غاصة بما يشين ولا يشرف، وإذا نظرنا من وجهة نظر موضوعية بحتة وجدنا أن صورة مصر في الماضي لا يمكن أن تلتقي وتمتزج بصورة الحاضر أو بما نرجوه لها في المستقبل!
إن الذين ينشدون الجذور - وجذورنا ممتدة في أعماق الماضي البعيد - أحيانا ما تختلط عليهم أحكام القيمة، مثلما تختلط عليهم الصورة؛ فبعضهم يخلط بحسن نية بين الإسلام العظيم وتاريخ المسلمين الذي أورثنا أشياء أبعد ما تكون عن الإسلام، وهو يخلط ، وفي هذا الخلط كل الخطر، بين الإسلام كقيم عليا تصلح لكل زمان ومكان؛ لأنها فوق الزمان والمكان، وبين ما كان المسلمون يفعلونه باسم الإسلام. ولذلك فأنا أنبه دائما لضرورة التمييز عند تصدينا للتراث بين التراث الأدبي أو اللغوي - تراث العربية الطويلة الحافل - وبين ما يتضمنه هذا التراث من قيم التاريخ؛ إذ إن هذه القيم كثيرا ما تختلط بمبادئ الماضي فتكتسب قداسة غريبة تكاد تدسها دسا بين قيم الدين ومبادئه! أي إن علينا حين نقرأ أدب الماضي أن نعرف أنه ينتمي إلى الماضي، ولا ينسحب على الحاضر؛ ولذلك فقد نعجب ببراعة المتنبي في مدح كافور الإخشيدي إذ يقول:
ترعرع الملك الأستاذ مكتهلا
قبل اكتهال أديبا قبل تأديب
مجربا فهما من قبل تجربة
مهذبا كرما من غير تهذيب
حتى أصاب من الدنيا نهايتها
وهمه في ابتداءات وتشبيب
يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الروم فالنوب
فالحمد قبل له والحمد بعد لها
وللقنا ولإدلاجي وتأويبي
وكيف أكفر يا كافور نعمتها
وقد بلغنك بي يا كل مطلوبي
وقد أتيت بالبيتين الأخيرين حتى أري القارئ مدى كذب المتنبي في مدحه كافورا، فالحمد لله أولا وأخيرا، والكفر كلمة مرتبطة بالدين، ولكن حرص المتنبي على إرضاء كافور جعله يبالغ هذه المبالغة الممجوجة. ولقد اقتبست هذه الأبيات من المتنبي بوجه خاص بسبب شهرته ومعرفة القارئ به. أقول: قد نعجب ببراعته في صياغة الشعر في مدح كافور ثم نعجب ببراعته في هجائه إذ يقول:
ما يقبض الموت نفسا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود
من كل رخو وكاء البطن منفتق
لا في الرجال ولا النسوان معدود
أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
والقصيدة مشهورة ومعروفة لكل من قرأ التراث العربي؛ ولذلك فهي تدل دلالة أكبر من مئات القصائد وعشرات الأسماء التي يوردها الثعالبي في يتيمة الدهر، على فساد القيم التي نستقيها من التراث الأدبي فندرجها في الحاضر دون وعي بأنها تاريخ باد وانقضى! إن الشعر جميل ولا شك، ولكنه كاذب! وربما كان أعذب الشعر أكذبه، وربما كان أعذب التراث كذلك - ولكن مرامنا الآن مفهوم القوة وصورة المرأة، ولكل منهما حديث مستقل.
مفهوم القوة
إلى عهد قريب كان مفهوم القوة المادية بشريا؛ أي يعتمد على الإنسان نفسه جسما ونفسا، وما زال هذا المفهوم قائما إلى حد ما في ريف مصر حيث يفرح الأب بأبنائه الذكور باعتبارهم مصدر قوة يسمونها في الريف «عزوة»، وما زالت بعض البلدان تفرح بكثرة الرجال باعتبارهم مورد قوة ومصدر منعة، ولكن الحال قد اختلف في بلدان العالم المتقدمة على مدار القرن العشرين الذي يوشك أن يطوي صفحته، فأصبحت القوة لا تقاس بضخامة الجسم ولا بالعضلات المفتولة ولا بالكثرة العددية، بل أصبحت تقاس بمعايير جديدة تستند إلى ما أتت به العلوم الحديثة من فنون القتل والدمار، وما تعتمد عليه من معلومات يحصل عليها من يريد الغلبة بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وأصبح معيار القوة هو إمكان تدمير آلات الحرب الجبارة، أو كشف خطط القتال لإفسادها قبل وقوعها، وإدراك النوايا لإحباطها ومنع تحقيقها، فتلت الحرب الساخنة ألوان من الحرب الباردة، استخدمت فيها فنون التهديد وفنون الإرهاب والتخويف؛ أي فنون الحرب النفسية والضغوط الاقتصادية، وكل هذا بإيجاز في إطار العلوم الطبيعية الحديثة التي لم يكن آباؤنا وأجدادنا يحيطون بشيء منها.
وفي إطار المعاني الجديدة للقوة، اختلف معنى الشجاعة، واختلف معها عدد لا يحصى من القيم التي كان أجدادنا يحرصون عليها؛ مثل الشهامة والمروءة، والنجدة والرحمة، فإذا كان مفهوم القوة تجرد من المنازلة الجسدية المباشرة حيث كان الأبطال يلتقون في حومة الوغى ويلتحمون في القتال المباشر؛ فإن الشجاعة أصبحت قيمة نفسية تتحول إلى تدبير علمي مجرد من هذه القيمة النفسية ذاتها؛ أي إن الذي يضع خطة قذف مكان ما بالقنابل قد يكون خلوا من الشجاعة، بل قد يكون جبانا رعديدا، بل إن واضع خطط الحرب قد يفتقر هو نفسه إلى العنصر البشري بإطلاقه، فقد يكون حاسبا آليا أصم، وقد يتكون من مجموعة من الآلات الحاسبة التي يديرها شيخ هرم خائر القوى، أو امرأة لا شأن لها بالضرب والطعان! القائد السياسي الذي يتخذ قرار الحرب لا يستطيع اليوم أن يتصور وهو في مكتبه محاطا بمستشاريه وأعوانه مدى المعاناة التي يمكن أن يتعرض لها من لا ناقة له ولا جمل في تلك الحرب! فأمامه أرقام وخلفه أرقام، وعن يمينه أوراق وعن شماله أوراق، وينطبق نفس القول على المقاتل الذي يطلق النار على العدو؛ فهو يركز اهتمامه على آلة من حديد ونحاس، والعدو في نظره ليس إنسانا بقدر ما هو هدف محدد أمر بتدميره! وهكذا فإن غياب عنصر التلاحم البشري والاشتباك الجسدي قد حول مفهوم القوة إلى أشكال تجريدية يدركها العقل ويعيها دون أن تصل إلى أعماق النفس فتهزها وتثيرها.
ولذلك فالإنسان العربي الذي نشأ في كنف التراث وتشربه حتى تمكن منه، لا يستطيع مهما كان الحال أن يرى صورة القوة القديمة حية مجسدة ويظل مفهوم الشجاعة المرتبط بهذه الصورة القديمة حائرا لا يقر به قرار؛ وهو من ثم لا يستطيع أن يفهم ما يرتبط بمفهوم الشجاعة من شهامة تتجلى في لحظة العفو عند المقدرة، أو من مروءة تتجلى في تقديم العون لأسير وقع في الميدان، أو من نجدة تدفعه إلى غوث ملهوف أعلن توبته، وما إلى ذلك؛ فالعربي ابن اليوم في أعماقه عربي من أبناء الأمس، وعندما نشهد سلوكا محيرا لابن اليوم فينبغي أن نغوص إلى الأعماق حتى نسأل الإنسان الكامن في داخله عن سر هذا السلوك!
وأنصع مثل على المواجهة بين الماضي والحاضر نجدها في كتاب الشيخ أحمد الرمال بن زنبل، وعنوانه وقعة الغوري والسلطان سليم وما جرى بينهما، وقد وضعه في القرن السادس عشر الميلادي؛ أي العاشر الهجري، ونشر جزء منه في أوائل القرن العشرين في الأستانة، ثم نشر بأكمله في القاهرة عام 1962م بتحقيق عبد المنعم عامر. ويدور الكتاب برمته عن مفهومين للقوة وما يتصل بها من قيم؛ إذ ينعي المؤلف في ثنايا الكتاب على العثمانيين ضعفهم وجبنهم وخورهم ونقص همتهم، ويعلي من شأن المماليك لتحليهم بصفات الأجداد مما أشرت إليه آنفا، وتتجسد المقابلة بين المذهبين في اللقاء بين كرتباي الوالي وبين السلطان سليم بعد أن قبض عليه وأتي به أسيرا، ويورد لنا الشيخ الرمالي جانبا من الحوار بينهما وما يقوله الأمير كرتباي بالحرف الواحد، وفيما يلي جانب منه: «اسمع كلامي وأصغ إليه حتى تعلم أنت وغيرك أن منا فرسان المنايا والموت الأحمر؛ فأمر عسكرك أن يتركوا ضرب البندق فقط، وها أنت معك مائتا ألف فارس من جميع الأجناس، وقف مكانك وصف عسكرك، ويخرج لك منا ثلاثة أنفار: عبد الله والفارس الكرار السلطان طومان باي والأمير علان. وانظر بعينك كيف يفعل هؤلاء الثلاثة تبقى تعرف روحك إن كنت ملكا أو يصلح لك أن تكون ملكا، فإن الملك لا يصلح إلا لمن يكون من الأبطال المجنورة، كما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، فانظر في التواريخ» (ص58 من طبعة القاهرة).
ثم يستمر قائلا في سياق مهاجمته: «استخدم البنادق بدلا من السيوف.» «وهذه هي البندق التي لو رمت بها امرأة لمنعت بها كذا وكذا إنسانا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار على من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؟!» (نفس المرجع.)
وهذه الأفكار الخاصة بفلسفة الحرب والحكم لدى المماليك ليست مجرد أفكار عابرة يمكن تصحيحها وتصويبها حتى تستقيم الحياة، ولكنها ظواهر للعيش في الماضي بعد أن تغير الزمن واخترعت البندقية، وكان لا بد أن تستجيب أذهان المماليك للتغير، ولكن تفكيرهم ظل مقصورا وخصوصا فيما يتصل بمفهوم الحكم؛ فهم يتصورون أنه لا بد أن يقوم على الغلبة؛ أي على القوة الغاشمة كما يشرح ذلك ابن خلدون في المقدمة باعتبار أن الغلبة أول مراحل الملك، ومعنى ذلك باختصار: أن المماليك وقفوا في تفكيرهم عند المرحلة الأولى، ولم يكملوا قراءة ابن خلدون الذي كان قد توفي في مطلع القرن السابق (الخامس عشر)! ومعنى إساءة فهمهم للتراث ترحيبهم بسيادة منطق القوة والاستبداد والقهر مما يتناقض مع الإشارة في نفس الفقرة إلى السلف الصالح وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام! ومعناه إذن فساد التفكير أي فساد المنهج، وفساد المنهج يؤدي إلى الخطأ القاتل الذي يرتكبه المماليك في رفضهم استخدام البنادق، وانظر ما كان من شأن السلطان الغوري الذي يمتدحه الجميع اليوم باسم التراث ويترحمون على أيامه. يقول الشيخ الرمال: «وقد جاء بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري، رحمه الله تعالى، وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق، وقد استعملها جميع عساكر الروم والعرب، وهي هذه، فأمره أن يعلمها لبعض مماليكه ففعل، وجيء بهم فرموا بحضرته فساءه ذلك. وقال للمغربي: نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى، وقد قال الله:
فلا غالب لكم . فرجع ذلك المغربي وهو يقول: من عاش ينظر إلى هذا الملك وهو يؤخذ بهذه البندقية، وقد كان كذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» (ص58-59).
والغريب أنه حتى بعد ثلاثة قرون من انتصار البندقية والمدفع ظل المماليك على عدائهم للحرب بالنار، وكانت النتيجة مثلما يقول الأستاذ حسن جلال في كتابه حياة نابليون أن مدافع الفرنسيين حصدت المماليك حصدا في موقعة الأهرام رغم استخدامهم الأسلحة النارية. ويفسر ذلك المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي قائلا: إن المماليك لم يكونوا يستخدمون الأسلحة النارية عن اقتناع، بل كانوا يعتمدون على السيف والرماح والنبال، وكان من بينهم من يشيع فيهم الإحساس بالذنب العظيم للرامي بالنار.
ولقد سقت هذا المثل لأدلل على معنى الخلط المنهجي الذي ينبع من اختلاط صور الماضي بالحاضر واختلاط القيم النابعة من التراث دون إدراك للتغيير الذي لا بد أن يحدث؛ فهو محتوم ولا مهرب منه. وإذا كنا قد عدلنا من مفهومنا للقوة فإننا لا نزال ندهش عندما نجد في هذا العالم الواسع أمما تزعم لنفسها التقدم بينما تمارس منطق القوة والبطش، وتمارس التسلط والتحكم والقهر، بينما تقول كلاما لا يشي بهذا، ونحن ندهش لأننا رضعنا في طفولتنا قيما مغايرة من التراث، وفي أعماق كل عربي منهل إيمان بالخير لا ينضب؛ فهو لا يستطيع التوفيق بين ما درج عليه وبين ما يراه حوله، ويبدو أن هذا قدرنا الذي لا فكاك منه!
المرأة في الأدب
ورثنا فيما ورثنا من الأسلاف صورا منوعة للمرأة، تدور جميعا حول جمالها والمعاناة في الوصول إليها، وقد أدى هذا وذاك إلى تقاليد الغزل والنسيب، ودرجنا نجرع الشعر الذي يتغنى بحسن المرأة ويشكو آلام الفراق، بينما اختلف العالم اختلافا نزع «هالة ضوء القمر» - كما يقول أحد نقاد الغرب - من حول المرأة، وأبدلها ضوء النهار العادي، بعد أن خرجت إلى العمل وشاركت الرجل حياته في الحقل والمصنع، والمدرسة والمستشفى! والمرأة التي يقدمها التراث إلينا مخلوق صامت، جمع إلى حسنه سحرا وغموضا وبعدا عن عالم الناس، فأما الصمت فمصدره أمران: أولهما عدم الحاجة إلى الكلام؛ لأن الكلام جهد لا غناء فيه من جانب كائن لا يتوقع أحد أن يفيض فمه بلآلئ الحكمة، وثانيهما لأن الصمت يساهم في جو الغموض الذي يفترضه المجتمع في المرأة. ولذلك فنحن لا نسمع المرأة في الأدب العربي القديم إلا حين تتقدم في السن ويزول خطر الغموض؛ فأصوات النساء في هذا الأدب خافتة بعيدة واهنة، ولا علاقة لها بأصواتهن التي تملأ علينا حياتنا الواقعية ليلا ونهارا!
وصورة المرأة في الأدب العربي منذ الجاهلية حتى فجر النهضة الحديثة صورة جسدية، لا أجد أقدر على إيصالها من وصف يوم ذي قار الذي ورد في تاريخ الطبري (الجزء الثاني، ص148)، ووردت الأشعار والأخبار المتصلة به في الأغاني للأصفهاني (ج2، ص97) والعقد الفريد لابن عبد ربه (ج3، ص374)، ومعجم البلدان لياقوت (ج3، ص352)؛ ففي مختلف الروايات عن هذا اليوم تبرز قضية وصف المرأة المثالية وهي تبرز في سياق أصل الخلاف بين كسرى أنوشروان ملك الفرس والنعمان بن المنذر ملك الحيرة في الجاهلية، وذلك حين رفض النعمان إهداء جارية إلى كسرى بالأوصاف التالي ذكرها: ... جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء، وطفاء كحلاء، دعجاء حوراء، عيناء، قنواء، شماء برجاء زجاء ، أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيف الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرنى الوشاح، رداح الأقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة الماكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، عزيزة النفر، لم تقذ في توس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، رهوة الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو ...
وقد حذفت بعض العبارات التي نعتبرها اليوم خارجة، وفيما عدا ذلك أوردت النص كاملا كي أدلل على موقفنا التراثي من المرأة؛ فما شأن هذه الجارية (أي الفتاة) التي طلبها كسرى ورفض تقديمها النعمان؟ إنها صورة المرأة المثالية كما ذكرت، ويستطيع القارئ أن يحصي أكثر من أربعين وصفا حسيا جسديا لها، تتلوها بضعة أوصاف لأخلاقها تدور حول الطاعة والخفر والحياء والجنوح إلى الصمت!
وقد اتبع الشعراء هذه الملامح لصورة المرأة في غزلهم ونسيبهم وتشبيبهم بلا استثناء تقريبا، بحيث يستعصي على من يقرأ أدبنا الذي ورثناه أن يرسم صورة صادقة للحياة النفسية للمرأة على مدى تاريخنا الطويل، والأخبار المتناثرة هنا وهناك في كتب التاريخ الأدبي لا تكاد تفصح عن كائن حي متميز، فحياتها الباطنة سر، وهي حتى إذا شاركت الشعراء والأدباء شعرهم وأدبهم حاكتهم وقالت قولهم! فكذلك فعلت الخنساء في رثاء أخيها، وكذلك فعلت عائشة التيمورية حين تصدت للغزل! وليأذن لي القارئ أن أسوق إليه أبياتا من الشعر وأطلب منه أن يحدس قائلها:
أبيت ومؤنسي الخفاش ليلا
وحالي فيه شر الحالتين
فذاك بنور عينيه مهنى
ولي أسف بحجب المقلتين
وأبسط للظلام أكف بثي
وأشقى لوعة بالظلمتين
تراني معرضا عن كل ضوء
فهل خاصمت نور النيرين؟
ينافرني السنا فأفر منه
كأن الضوء يطلبني بدين!
وأجنح للظلام جنوح صب
دنا لحبيبه بالرقمتين!
هل تصدق أيها القارئ العزيز أن الشاعر هنا هو السيدة عائشة التيمورية؟ إنها تشير إلى نفسها بصفات المذكر؛ فهي معرض عن كل ضوء، وهي تجنح جنوح الصب المستهام، وأهم من ذلك أنها وضعت نفسها في موضع الرجال؛ شعوريا وفكريا ولغويا! ويكفي لإدراك التناقض بين المرأة التي تنشد هذا الشعر والمرأة التي يصورها المنخل اليشكري في رائيته المشهورة:
ولقد دخلت على الفتا
ة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء تر
فل في الدمقس وفي الحرير
فدفعتها فتدافعت
مشي القطاة إلى الغدير
ولثمتها فتنفست
كتنفس الظبي الغرير
ويروى البيت أيضا: (وعطفتها فتعطفت
كتعطف الظبي الغرير)
فدنت وقالت يا منخ
ل ما بجسمك من حرور
ما شف جسمي غير ح
بك فاهدئي عني وسيري
وأحبها وتحبني
ويحب ناقتها بعيري
هل كأن المنخل اليشكري يحلم؟ أم هذا من خيالات الشعراء المقبولة في الجاهلية وفي كل زمان؟ وهل من خيالاته التي ولدها تولهه بحب هند بنت النعمان بن المنذر بن ماء السماء حاكم الحيرة؟ على أي حال فالتناقض شديد بين المرأة الصامتة التي لا تتحدث إلا لتسأل الشاعر عن حال حبه أو لتعترض عليه (كقول امرئ القيس:
فقالت سباك الله إنك فاضحي
ألست ترى السمار والناس أحوالي؟)
أو لتؤكد هذا الحب (كما تفعل حبيبة يزيد بن معاوية التي تقول: إن الخضاب في يدها من أثر البكاء الذي تحول إلى دم)، وبين الشاعرة التي تحاكي الرجال في شعرهم فلا تبلغ صدقهم ولا تفصح عن شيء حقيقي في صدرها!
والحق إن الحوار المصطنع في تراثنا الشعري لا يكاد يبلغ حد الحوار بمعناه المفهوم ولكنه محاورة من طرف واحد - كما نقول في أيامنا هذه - وانظر إلى أبي فراس الحمداني مثلا:
تسائلني من أنت وهي عليمة
وهل لفتى مثلي على حاله نكر
فقلت لها لو شئت لم تتعنتي
ولم تسألي عني وعندك بي خبر!
فقالت لقد أزرى بك الدهر بعدنا
فقلت معاذ الله بل أنت لا الدهر!
أو انظر إلى قول صفي الدين الحلي:
قالت كحلت الجنون بالوسن
قلت انتظارا لطيفك الحسن!
قالت تخليت بعد فرقتنا
فقلت عن مسكني وعن سكني!
فهذه المحاورات التي شاعت في تراثنا الشعري تمثل وجهة نظر الشاعر نفسه، ولا تمثل صدقا نظرة المرأة؛ ولذلك فإن الشعراء لم يجدوا بأسا في أن يستهلوا قصائدهم بالحوار مع المرأة إلى جانب الغزل أيا كان موضوع القصيدة استنادا إلى أن هذه «حلية» وحسب، وأن القارئ ينبغي أن يعرف أن الفتيات - ذكرت أسماؤهن أم لم تذكر - ينتمين إلى عالم الخيال، وأذكر شاعرا - رحمه الله - كتب قصيدة دفاعا عن دين الله الحنيف فبدأها بهذه الأبيات:
الكون من أنفاسهن تعطرا
والغصن للإعجاب مال تخطرا
يذرفن في ذهب الأصيل ووشيه
دمعا على الخدين لؤلؤه جرى
فسألتهن لم البكاء أجبنني
خوفا على الإسلام أن يتقهقرا
فأجبتهن الله أيد دينه
وأقام للإسلام فيه غضنفرا
وعندما لمته على هذه البداية المصطنعة قال لي إنها من تقاليدنا ونحن لا نستطيع الفكاك من أسر التقاليد! وعندها ذكرت مئات الأغاني العربية سواء منها المكتوبة بالفصحى أو العامية، والتي ترسم صورا للعلاقة بين الرجل والمرأة تستند إلى ميراث الشعر القائم على «الخيالات»؛ (فأعذب الشعر أكذبه) ولا يمكن أن تتحقق بأي صورة من الصور في عالمنا الحقيقي الملموس ونحن نصر على أن ننقل في شعرنا الفصيح والعامي عن الماضي نقلا مباشرا غير واعين بالتغير الذي فرض نفسه فرضا على حياتنا؛ إذ ما نزال أسرى ازدواجية الزمن!
عام مصر الرائعة
كان الجو يوحي بأوروبا القديمة، وقد اكتست القاعة أزهى حللها، والكل يترقب اللحظة التي تقدم فيها كريمتا نجيب محفوظ لتسلم الجائزة الكبرى، عندما انبعثت أنغام شرقية حانية، يسودها صوت آلة التشيلو وظهر على شاشة التليفزيون الموسيقار المصري ناجي أحمد الحبشي الذي طاف الدنيا بموسيقاه المصرية، وهو يحتضن آلته المفضلة، ورأيت وجهه الذي كسته الغضون وشعره الذي انحسر وما خطه الشيب إلا قليلا. وقرأت على محياه انفعالا لم أعهده فيه - ولم أكن قد رأيته منذ أوائل الستينيات بعد عودته من بعثته في إيطاليا - وأحسست بدفقات قلبه في المقامات المينور (الصغيرة) فكأنما كانت الأنغام هي مصر التي تعيش في وجدانه، وشعرت به يرنو إلينا وهو في تلك الأصقاع الباردة، بينما ترنو إليه أنظار العالم تسمع فيه مصر وتراها، وغلبني التأثر فغلبتني العبرات.
كانت مصر قد تحولت في تلك اللحظة إلى ذهن جبار يرمز له نجيب محفوظ مثلما يرمز له أبناؤه من الكتاب الذين أبدعوا إبداعات رائعة، سواء كانت استمرارا لمذهبه أو خروجا عليه، وأحسست أن وفاء النيل هذا العام كان في معنى من المعاني رمزا لتدفق العطاء في أرض هذا الوادي، وأن فترات الجدب من حين إلى حين ما هي إلا نذر، تذكرنا بأننا لا بد أن نعمل، وبأننا إذا عملنا فحرثنا وبذرنا ورعينا وسهرنا فالحصاد يرعاه رب الكون.
كيف تجتمع في صورة واحدة آلاف الصور؟ وكيف تتكثف لحظات الزمن في لحظة واحدة؟ لا أزعم أنني أعرف الإجابة، ولكن الزمن - هذا اللغز الأكبر - كان قد توقف ليضم شتى المشاعر التي انضغطت فتبلورت وسطعت كأنها شهاب يذهب بالأبصار سناه. وأطلت من ثنايا النفس صور مصر والمصريين الذين عرفتهم إبان مقامي سنوات عشرا في أوروبا؛ «أذهان العالم» هكذا كانوا يسموننا في إنجلترا، أيا كان ما نفعل وأيا كان التخصص الذي اختاره كل منا. فهذا طبيب شاب يعمل في مستشفى إقليمي عامين اثنين يثبت فيهما براعة مذهلة يعين بعدها مدرسا للجراحة في الجامعة، وذاك مهندس تضيق به سبل العيش في مصر فيعمل في أحد الفنادق عدة أعوام ولا يلبث أن يشتري سلسلة من الفنادق! وبين هذا وذاك عشرات من المصريين الذين عرفتهم لا يرضون بغير القمة ويجبرون أمم الأرض على ألا تخلط بين مصريتهم والجنسيات الأخرى.
وانثالت الصور التي تؤدي إلى سؤال أوحد: هل كان على ناجي الحبشي أن يقيم في السويد حتى نقر له بالامتياز ونعترف له بالتفوق؟ هل كان على موسيقاه أن تأتينا عبر الأثير حتى نقول إنه موسيقار عالمي؟ أعلينا أن ننتظر اعتراف العالم بنا حتى نسترد ثقتنا في أنفسنا؟ لقد كنت من المؤمنين دائما بعبقرية مصر، وحولي في كل مكان دلائل قاطعة على تميز الذهن المصري والموهبة المصرية، ولكننا - بكل أسف - ما زلنا نعيش في أطر العهود الغابرة التي أجبرنا فيها إجبارا على احترام ما هو أجنبي وازدراء ما هو محلي! بل إن بيننا من لا يخامره شك في امتياز أي عمل أدبي ما دام مكتوبا بلغة أوروبية، ومن يقطب جبينه وتعلوه سيماء الترفع حين ينظر إلى ما هو مكتوب بالعربية، بل إننا ندرس في الجامعة بعض صغار الشعراء من الأوروبيين الذين لا يستحقون القراءة أصلا، ونتجاهل فحول الشعراء من المصريين الذين يرقون إلى مصاف العالمية الحقة.
لقد كان عام 1988م عام العبقرية المصرية، عام مصر الرائعة، فأرجو أن نعي الدرس جيدا وأن نحترم مبدعينا ومفكرينا من الرواد والمعاصرين، وألا ننتظر جائزة نوبل أخرى حتى نحترم القمم التي تعيش بين ظهرانينا ولم تبلغ من العمر أرذله، فربما لا يكتب لهذه القمم أن تبلغ هذه السن.
شوارد
لدى الباب قطة
لدى باب مسكننا قطة. وهي قطة لم تقرر بعد أن تكون أليفة؛ بحيث تسمح لمن يطعمها أن يمسح ظهرها أو يمس رأسها، ولكنها قررت منذ ما يقرب من عامين أن تقيم في المنزل أمام عدد من الشقق التي تقدم لها الطعام أو الدفء في الشتاء، ومنذ ذلك الحين تحسن صوت موائها فأصبح طبيعيا بعد أن كان حشرجة لا تكاد تبين، وأصبح فراؤها ناعما (فيما يبدو) براقا زاهيا كثيفا، وحملت وأنجبت عدة مرات، وظل أحد أبنائها لصيقا بها حتى بعد أن اكتمل نموه واشتد عوده، وزال عنها الخوف القديم من قطط الشارع الزائرة للمنزل بحثا عن الطعام، أو الذكور المتقدمين طلبا للزواج منها في مواسم معينة، فأصبحت تموء في وجوه هذا وذلك، وتقوس ظهرها غضبا، أو تتمسح بركن من أركان السلم في سعادة ورضا.
ولم أعجب للتحول الذي طرأ عليها في الأيام الأخيرة في عادات طعامها وميلها إلى التدقيق في اختيار ما تقبله منه؛ فالنعمة البادية عليها تفرض عليها ألا تلتهم كل ما يقدم لها؛ إذ زال قلقها على المستقبل، ولم تعد تخشى الغد - فيما يبدو - بل أحيانا ما تظهر اطمئنانا غير معهود في قطط الطريق، فلا تلتفت إلى الطعام المقدم برهة من الوقت، أو تشمه ثم تشيح عنه بوجهها، ربما انتظارا لما هو أشهى منه أو لوجبة خاصة تتوقعها من أحد السكان الكرماء.
وليس من الغريب أن أهتم بهذا التحول الشامل في حياتها؛ فقد شهدت تحولات مماثلة في حياة كثير من البشر من أبناء مصر، ووجدت أنني لست أول كاتب يهتم بالقطط وحياتها؛ إذ يبدو أن هذا الحيوان الأليف الذي صاحب الإنسان آلاف السنين قد شغل كثيرا من الكتاب في شتى أنحاء العالم. وذكرت أنني قرأت أن المصريين القدماء كانوا أول من استأنس القط، وأن أقدم صوره وتماثيله موجودة في معابدهم، وأنهم أسموه «باشت» وأن هذه اللفظة نفسها قد تطورت إلى «باس» و«بوس» و«بسبس» والكلمة الأجنبية «بوسي». وذكرت أيضا أن القط غير المستأنس كان العرب يسمونه «السنور» ويسمون المستأنس منه «الهرة» وأن اهتمامهم به لم يكن يقل عن اهتمام غيرهم من الشعوب الأولى - فكان رمزا لبعض الخصائص البشرية التي أعلى الإنسان القديم قيمتها - فهو صائد ماهر، وهو ذو عضلات مرنة تمكنه من الوثب مسافات طويلة، وهو يتمتع بعينين تتفتح حدقتاهما في الظلام فتمكنه من الرؤية في الأماكن التي نعتبرها مظلمة، كما أن على عينيه عدسات عاكسة للضوء فكأنهما تشع نورا في الظلمة يخيف الأعداء، وأهم من هذا وذاك جميعا أنه يتمتع بالاستقلال أو ما يشبه الإباء والشمم؛ فهو بريء من خضوع الكلب وخنوعه لا يقبل أن يمتلكه أحد، ولكنه يقيم علاقته على أساس الصداقة و«المصلحة»، وهو إلى هذا كله كسول إذا لم يكن لديه داع للنشاط، ويقول العلماء إنه إذا توافر له ما يغنيه قضى سبعة أثمان عمره نائما أو مستلقيا في استرخاء وحسب!
ولم يهمل الأدباء هذه الخصال في القطة، فكثرت الإشارات إلى حياة القطط في الروايات والأشعار، فلم ينسها أحمد شوقي وكتب ت. س. إليوت ديوانا كاملا عن قططه، وفي مصر كتب محمد عبد العزيز (المخرج المسرحي) رواية عن قطة له، كما يكثر المخرجون السينمائيون من استخدامها رموزا في أفلامهم ولكنني أهتم بقطتنا لدى الباب لسبب آخر لم يخطر ببال أي من هؤلاء ما أسميته بالتحول إلى حياة الترف، وما صاحبه من تعديل علاقاتها بمجتمع البشر والقطط على حد سواء.
أنجبت هذه القطة على مدى عامين ما يربو على عشرين قطا وقطة، وتفرق أولادها في كل مكان يطلبون الرزق، بينما لم تكترث هي إلا لنعيم حياتها وهنائها، واختيار أقوى الأزواج وأعتاهم، وحددت لنفسها ما تريده من الدنيا في هذه الحقبة الجديدة، ألا وهو التمتع بملاذ الحياة الجسدية بعد أن تهيأ لها رغد العيش وغدت تتقلب في أعطاف النعيم غير عابئة بما يدور حولها.
وأصبحت القطة المذكورة نموذجا لما حدث للكثيرين من معارفي الذين ابتسم لهم الحظ؛ إذ انتقلوا إلى اليسر بعد العسر، وأصبح هم الواحد منهم أن ينعم ببال هنية جاد بها الدهر دون انتظار؛ إذ أمنوا شر الفقر، ولم يعودوا يخشون الجوع في الغد، فاقتنى أحدهم زوجة جديدة (جميلة وصغيرة) سعد بها وأسعدها، وأنجب رهطا جديدا بعد أن كبر أولاده من الأولى. واكتشف أن القراءة هم لا يحمله إلا الإنسان فأقلع عنها واستراح، وأن الوعي بما يدور من حوله مسئولية كبرى تنوء بحملها الجبال، بل أمانة أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فتخلى عنها راضيا، واقتصر في أفراحه على ما يهيئه المال والبنون - زينة الحياة الدنيا - من متع وملاذ.
ورأيت في القطة صورة إحدى الطالبات السابقات اللائي تلقين العلم على يدي في الجامعة، ثم قيض الله لها زوجا نابها يحكم فنون جمع المال، فانطلقت معه إلى أحد البلدان الشقيقة ليبدآ رحلة النعيم، ولينهلا من متع الحياة الرخية ما شاء الله لهما، وامتد بهما المقام فتراخت في دروسها، ثم أقلعت عن القراءة، وكفت تماما عن الدرس والتحصيل، وخلدت إلى السكون الذهني، وأصبحت أنباؤها لا تأتيني إلا لماما بعد أن تحولت في قضاء عطلات زوجها وأطفالها إلى أوروبا بدلا من مصر.
ولكن التحول الذي أصاب القطة لا يقتصر على من أقلعوا عن القراءة، ولكنه ينسحب على عشرات ممن أعرفهم من بلدي ومن القاهرة أيضا؛ إذ أعرف من بينهم من أنجبت أحد عشر ولدا هاجروا جميعا دون تعليم ودون اكتساب حرفة إلى البلدان الشقيقة، وأعرف واحدا ما انفك يطلب الزوجة بعد الزوجة وينجب الطفل بعد الطفل حتى وافته المنية وهو في ريعان شبابه، بعد أن خلف لأخيه تركة مثقلة بالأعباء والهموم.
إن الراحة والكسل هما هدف يحلم به الإنسان منذ أن طرد من جنة الخلد، وهما كما يقول البروفيسور ميلر في كتاب حديث عن علم النفس غاية كل حي، ولكن الراحة التي تأتي بعد لغب فتصيب عقل الإنسان بما يشبه الشلل، تهبط بمستوى الإنسان إلى درجات الوجود الدنيا، مستوى النبات الذي لا ينتقل من مكانه، بل يأتيه الغذاء والماء والهواء دون حركة، ومستوى القطة التي يأتيها رزقها رغدا فتأكل وتتزوج، وتنجب وتموت. ونحن لا نريد أن نكون قططا على أبواب أحد.
الفراغ والقضية
جمعني مجلس في بلد من بلدان أوروبا بنفر من المثقفين المغتربين الذين أقاموا سنوات طويلة بتلك الديار، فاستوطنها البعض واكتسب جنسيتها، وحاول ذلك البعض الآخر فلم يفلح، وأكد فريق ثالث أنه لا يمكن أن يغير لون جلده؛ فهو مصري وسيظل مصريا إلى النهاية. وسرعان ما تحول الحديث إلى السياسة، فبدأت أسمع نبرات لم أسمع مثيلا لها منذ الستينيات في أوائل فترة إقامتي في بريطانيا، فأعادت إلى ذاكرتي أيام الأحلام الكبرى، وطفقت أحلل وأصنف ما سمعت أياما متوالية، تبعتها أسابيع من المناقشات مع ممثلي كل تيار من التيارات «النفسية» و«الفكرية» التي شهدتها حتى انتهيت إلى نتائج أعتقد أنها تهم كل مشتغل بالثقافة في بلادنا في هذا الوقت بالذات. وها هي أهمها:
يعتنق معظم المغتربين فكرة، هي أقرب إلى النظرة العامة منها إلى النظرية، مفادها أن بالعالم العربي اليوم فراغا «عقائديا» نشأ عن انحسار الفكر الاشتراكي القديم الذي بني على أساس نزعة التحرر والاستقلال، والذي كان يمكن أن يؤدي إلى نهضة كبرى لولا تدخل أهل «اليمين» الذين سيطروا على مجريات الأمور في هذا الجزء من العالم طوال العقدين الماضيين، والذين تبدو آثار تدخلهم في الحياة العامة أكثر من آثار تدخلهم في شئون الثقافة على المستويين العام والخاص.
ومن زاوية هذا الفراغ «العقائدي» تهاجم نسبة كبيرة من المغتربين (معظمهم من «العقائديين» القدماء) كل ما يدور في مصر والعالم العربي، ويرفع واحد من هؤلاء لواء ثورة شخصية على الجميع شعبا وقادة، وينتقون من صحف المعارضة (ومن الصحف القومية) الأخبار والتعليقات التي تدعم ما يذهبون إليه، ويرددونها فيما بينهم بعد تضخيمها وتفخيمها طبعا، وينتهون من ذلك كله إلى أنه لا حل «لمشاكل» مصر إلا إذا عادوا هم أنفسهم فشغلوا المناصب القيادية في شتى المجالات وأعادوا مصر إلى العهد الذهبي للأيديولوجيا «العقائدية» وما أدت إليه من قوة عسكرية واقتصادية واجتماعية لم تشهد مصر مثيلا لها في نظرهم منذ أقدم عصورها.
ومن بين المثقفين المغتربين نسبة أقل ترى أن «الحل» يتمثل في إحلال قضية جديدة محل «القضية» القديمة؛ أما «القضية» القديمة فكانت بناء الدولة العصرية القوية «المشروع القومي»، وأما القضية الجديدة فهي بناء الحكومة الإسلامية على أكتاف لابسي الجلابيب البيضاء من ذوي اللحى، فهم وحدهم المسلمون - في نظرهم - وهم وحدهم القادرون على فهم الحكم الإسلامي. أما صورة هذا الحكم فهي غائمة مظلمة في نظر معظمهم؛ إذ ينحصر ما يقولونه دفاعا عنه في انتقاد ما يخالف الإسلام في نظرهم من ممارسات اقتصادية أو اجتماعية وحسب؛ أي إن معظم ما يقولونه في هذا الصدد سلبي، ولا يكاد يصل إلى حد الإيجاب إلا في الندرة النادرة.
وتوجد نسبة أخرى من المثقفين المغتربين الذين يعيشون الحاضر دون بكاء على الماضي، فهم هانئون بما آتاهم الله من فضله، يحمدونه ويشكرونه على نعمائه إذ قيض لهم أعمالا تدر آلاف الدولارات في بلاد متقدمة توفر لهم الرعاية الاجتماعية والصحية وكل ما يطمحون إليه من مسرات الدنيا، في مجالات العلم والثقافة والترفيه، وكل ما تطمح إليه نفس المثقف. وقد رأيت منهم من يمارس الموسيقى والغناء، أو يلعب الشطرنج، أو يقرأ بنهم، أو يكتب حين تتاح له الفرصة، أو يخدم أبناء وطنه بدءا بأسرته وانتهاء بأهل جلدته. ولم تنقطع صلة هؤلاء بالوطن الأم؛ فلكل منهم مكان في مصر يقضي فيه شطرا من العام، وأصدقاء يركن إليهم في الملمات ويتطارح معهم الرأي؛ فهو في وفاق مع نفسه وزمنه، وأنا أذكر الزمن هنا لأنه مفتاح إدراكنا لنظرية الفراغ والقضية.
إن المدخل الذي يجب أن نسلكه إلى «نفسية» الفريقين الأولين هو توقف الزمن لديهم عند اللحظة التي غادروا مصر فيها، وقد غادرها معظمهم في فترة التحولات الكبرى في أوائل أو منتصف السبعينيات وما زالت أذهانهم حافلة بأحداث الستينيات، ولما كان عدد كبير منهم يعمل في المجالات الإعلامية فقد كان لكل منهم صولات وجولات في ساحات «العمل العام»، ولكل منهم «ذكريات» في عدة مواقع من مواقع «العمل الثقافي» الذي ارتبط آنذاك بما أسميته «العمل العام»، بل إن بعضهم ربط نفسه بقضية من القضايا التي وطن نفسه على اعتناقها مدى الحياة، وعلى اعتبار الإخلاص لها إخلاصا للحياة نفسها. أي إن ارتباطه بقضية ما أصبح مصدرا للمعنى الذي يهب لحياته قيمة؛ ومن ثم أصبح يتمسك بهذه القضية تمسكه بالمعنى غير عابئ بمرور الزمن أو بالتحولات التي شهدها العالم من حوله.
والحق أننا لم نتخلف عن الزمن حتى يمكن القول بوجود فراغ أو بعدم وجود قضية، بل إننا سبقنا الزمن - وليس هذا من قبيل الفخر الأجوف - حين أدركنا أن طريق الستينيات (طريق الحروب الإقليمية الخاسرة، والارتجالات الاجتماعية باسم الاشتراكية، والانغلاق على أنفسنا باسم الاستقلال، وامتهان الإنسانية باسم الشرعية الثورية) طريق لا يؤدي إلى ما كنا ننشده ونتمناه، بل هو طريق مسدود كما يشهد بذلك الآن من كانوا من دعاته؛ ومن ثم طفقنا نراجع أنفسنا ثقافيا (وسياسيا) حتى أصبحت قضايا الماضي غير ذات موضوع، ونشأت قضايا جديدة أهمها في نظري قضية الثقافة نفسها في عالم يتغير بسرعة لاهثة من لحظة إلى لحظة.
ولا أبالغ إذا قلت إن وجود هؤلاء المصريين وأضرابهم في الخارج يمثل في ذاته قضية من القضايا التي لم تكن مثارة في الستينيات؛ فهم امتداد للثقافة العربية (بمعنى أسلوب الحياة، وبمعنى جماع المعارف والآداب الإنسانية التي تبلور هذا الأسلوب)، وهم صور انفتاح مصر على العالم بصورة غير مسبوقة في تاريخنا، وأذكر ما قاله لي الدكتور شبايك في لوس أنجيليس عام 1981م، بعد أن أشار إلى أن عدد المصريين في ولاية كاليفورنيا وحدها قد تجاوز ربع المليون: «إننا ظاهرة ثقافية لا يمكن تجاهلها.»
أما الوجه الآخر لهذه القضية والذي لا يعي الكثيرون بوجوده، فهو اتجاه أنظار المصريين بصورة متزايدة إلى الخارج، وتغير ما يشغل نفوس الشباب وعقولهم عما شغل آباءهم، فلم يعد عالم نجيب محفوظ يمثل لهم إلا الماضي الذي توارى إلى الأبد، ولن تجد بين شباب الجامعة في مصر (ولا أقول في الخارج) من يذكر أو يستطيع أن يتصور طبيعة هذا الماضي. وأعتقد أن سرعة التحول التي اتسم بها القرن العشرون هي المسئولة عن الاضطراب العظيم والبلبلة التي تكمن وراء تصور وجود فراغ أو إساءة معنى وجود «القضية» أو «القضايا» الثقافية - ولهذا حديث آخر.
مصريون خارج مصر
ذكرت في مقال سابق أن وجود أعداد هائلة من المصريين خارج مصر لم يعد مجرد ظاهرة ثقافية، ولكنه يثير قضية ثقافية تلح على أذهان المشتغلين بالثقافة ووجدانهم. وإذا كان لنا أن نقترب من الظاهرة أولا قبل التصدي للقضية؛ فلا بد من التمييز في البداية بين المصريين المقيمين في البلدان العربية وبين المصريين المقيمين في البلدان الأجنبية؛ فالفريق الأول يثير قضية تختلف عن القضية التي يثيرها الفريق الآخر؛ لأن أفراده عادة ما يعودون إلى الوطن ولو في سن متأخرة، ولأن القيم الثقافية التي يذهبون إليها والتي يعودون بها لا تختلف في النوع عن القيم المصرية، ولكنها تختلف في الدرجة فقط، ومن هنا فإن درجة التحول الثقافي محدودة وإن كانت مهمة وجديرة بالنقاش المتعمق.
أما الذين يقيمون في بلدان أجنبية فمعظمهم مستوطنون لا يعودون إلى مصر إلا للتواصل مع الوطن القديم ولقاء الأحبة والأصدقاء ممن لم تتح لهم فرصة العمل أو الإقامة بالخارج، أو ممن أتيحت لهم الفرصة فلم يغتنموها أو لم يقبلوها، أو من الذين أقاموا فترة محدودة في الخارج للدراسة أو للعمل ثم عادوا. ومعظم المقيمين في البلدان الأجنبية من المصريين يندرجون في فئة المهاجرين أي الذين رحلوا من مصر بقصد الإقامة خارجها إلى الأبد، ومعظمهم أيضا ممن رحلوا في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة؛ أي إنهم من الجيل الأول للمستوطنين ولم يبلغ أبناؤهم بعد مبلغ الرجال (بحيث يصبح الجيل الثاني راسخ الجذور في التربة الجديدة)؛ ولذلك فإن الهوة الثقافية التي تفصلهم عن الوطن الأم لم تتسع بعد بالقدر الذي يجعلهم ينتمون تماما إلى بلدانهم الجديدة.
ومبلغ علمي أنه كانت لدينا في مصر وزارة مكلفة برعاية هؤلاء، وهي لا شك وزارة مهمة، والمهام المنوطة بها كثيرة وحيوية، والجهود التي تبذلها جديرة بالثناء، ولكن الواقع الذي يعيشه هؤلاء لا تجدي في التصدي له جهود حكومية؛ فهو ثمرة تراكم أحداث كثيرة وظروف تاريخية لا حيلة لأحد في دفعها، وإن كنا نستطيع أن نرسم حدود المشكلة كما تتراءى لنا عن كثب، ولنبدأ بالتسليم بوجودها، فالاعتراف بالمشكلة أول خطوة على طريق التصدي لها (ولا أقول حلها).
وأنت تعرف أن هناك مشكلة ما عندما تواجه حيرة المغترب الذي تبلغ ابنته مبلغ النساء والذي يريد تزويجها من واحد من أبناء جلدته فيستعصي عليه الأمر؛ إذ يتلفت حوله فيجد أن الذكور من أبناء معارفه قد ارتبطوا بأجنبيات، وأن إعادتها إلى مصر بقصد الزواج وحده سخف لا مبرر له؛ فهو يعني قلقلة حياتها العملية أو العلمية أو العائلية، فإذا حدث وكان لها صديق أجنبي يريد الزواج منها زادت حيرة والدها وربما وافق قائلا إن سعادة ابنته فوق كل اعتبار، ومضمرا في نفسه أن هذا معناه قطع كل صلة بالوطن الأصلي.
وأنت تعرف أن هناك مشكلة ما عندما يشكو إليك مغترب أن أولاده لا يعرفون العربية، أو أن أحدهم ينكر عروبته، أو لا يحب أن يشير إليها، خصوصا إذا كانت والدته أجنبية، أو أنه لا يقول عن مصر (التي زارها مرة أو مرتين) إلا كلاما يثير الأسى والشجن؛ فهو إما غاضب أو ساخر، وكل مقارنة يعقدها بين أساليب الحياة هنا وهناك تزيد من أساه وشجنه.
وأنت تعرف أن هناك مشكلة ما تجتمع مع نفر من أبناء المغتربين الذين لا تربطهم بمصر إلا زيارة عابرة أو حادثة صغيرة تمخضت عن تجربة أليمة في التعامل مع الجهاز البيروقراطي، فانحصرت معرفتهم بمصر في هذه التجربة، وجعلوا يتبارون في التندر بما قاله ذلك الموظف أو ذاك، وما فعله «عبد الروتين» بأوراقهم أو إزاء بعض مسائلهم الإدارية، فهم صغار بعد لا تربطهم بالوطن نشأة ولا تلاحم وجداني، وربما وجدت من العسير إيضاح الحقائق التي تفسر (وإن لم تكن تبرر) سلوك هذا أو ذاك، أو تأكيد حقيقة مصر الأم الرءوم، بعيدا عن الوظائف والروتين.
وليست المشكلة مقصورة على أبناء الجيل الجديد، ولا هي خاصة بفئة من فئات العمر، بل لا أبالغ إذا زعمت أن المشكلة الأولى تكمن في التحول من «المصرية» الكاملة في جيل الآباء إلى «المصرية الاسمية» في جيل الأبناء؛ فالصفات التي ارتبطت بصورة تقليدية بالشخصية المصرية - كالطيبة، (بمعنى العزوف عن الإيذاء، والتسامح)، والكرم (بمعنى عدم تقديس النقود والقيام بواجب الضيافة، بل وإنفاق ما في الجيب حتى يأتي ما في الغيب)، والذكاء (بمعنى الذكاء الفطري وكذلك سعة الحيل والمكر)؛ أقول إن هذه الصفات تصطدم بثقافة أوروبية لا تكترث للقيم التي تكمن وراء هذه الصفات وتؤدي إلى صدام من نوع ما بين ثقافة الآباء وثقافة الأبناء.
وربما كانت بعض الصفات المرتبطة بالمجتمع الأوروبي - مثل احترام الوقت (والمواعيد) والعمل والانضباط وما إلى ذلك - لازمة للجيل الجديد مثلما أفاد منها الجيل الأول، ولكنها تصطدم دون شك بما ترسب في أعماق المصري من قيم هي جماع مشاعر وأنماط وأحاسيس تمثل حصاد ثقافة القرون الغابرة، والصدام يؤدي إلى فجوة هائلة بين أب لاقى الأمرين في سبيل هذه الحياة المستقرة في الخارج، وعانى معاناة هائلة في سبيل تأمين سبل العيش له ولأسرته في أوروبا ، وبين الولد الذي ينشأ فيجد كل شيء ميسرا وأن الحياة أمامه موطأة الأكناف، فلا يكاد يحس بما فعله الوالد حتى يهيئها له. ولقد عرفت نماذج متعددة من هذا التناقض الذي يشهد بعمق المشكلة؛ فجيل الأبناء يميل في حالات كثيرة إلى نشدان المتعة وطلب المسرات وقد اختفت من عيونهم مثل الكفاح والنضال في سبيل العلم وفي سبيل تسنم ذرا التفوق فيه، أو العمل المضني لإثبات الامتياز وتأمين المكانة المرموقة مثلما فعل الجيل الأول، ورأيت الأماكن البارزة التي يشغلها الآباء مهددة بأن تصبح شاغرة إذ لا يستطيع أبناؤهم شغلها، بل ولا يكترثون لضياعها. وهنا لا بد أن أؤكد هذا الاتجاه إلى التفوق والامتياز باعتباره من عناصر الثقافة المصرية القائمة على العلم والعمل عبر القرون.
الظاهرة إذن وما تثيره من قضايا تتطلب إدراكا من جانب الجيل الأول لجميع أبعادها، وجهدا متواصلا من المقيمين في الوطن الأم لضمان استمرار صورة مصر بلد العلم والعمل - وأم التفوق والامتياز.
الضحك والهزل
يخلط الكثيرون بين الضحك والهزل، وربما كان ذلك الخلط هو سر شيوع المهازل التي تسمى - تجاوزا - بالهزليات المسرحية أي «الفارس
FARCE » وهي أبعد ما تكون في الحقيقة حتى عن هذا اللون المسرحي المعترف به عالميا، والتي أصبحت السمة الغالبة للمسرح المصري المعاصر، بل وسر ذيوع المفهوم الجديد للمسرح والذي ينحصر في أنه مجموعة من الضحكات التي لا معنى لها. وفي هذه العبارة الأخيرة (وفي جملة الصلة بالتحديد) يكمن الفارق بين الضحك والهزل؛ فالضحك نشاط إنساني له معنى، والهزل هو اللهو أو اللعب الذي لا معنى له.
وعندما وصفت الكاتبة الإنجليزية «مسز ويب» الشعب المصري بأنه يحب الضحك؛ كانت في الحقيقة تشير إلى خصيصة لم تجدها في شعوب أخرى، وكانت تحس بأنها من خصائص الإنسان الراقية التي تحسب له لا عليه، بدليل أنها قرنت بينه وبين ما يسمى اصطلاحا بالميل إلى التفكه أو بالقدرة على رؤية الجانب الفكه للأشياء
SENSE OF HUMOUR
والتي كانت تعتبرها من خصائص الشعب البريطاني دون غيره. ومن معاني المصطلح الأخير سعة الصدر (أي القدرة على قبول الرأي المخالف دون غضب، والاحتمال والتسامح)، وهي الترجمة الصحيحة لما جرى العرف على ترجمته بسعة الأفق
BROAD-MINDEDNESS ؛ ولذلك فإن صدور هذه الشهادة من كاتبة إنجليزية لم تعش طويلا (1881-1927م) ولم تكتب كثيرا (خمس روايات ومقالات مجموعة) ولم تزر مصر مطلقا فيما أعلم؛ يدعو إلى الدهشة. ولولا صدور كتاب جديد هذا العام يتضمن مقالات جديدة لم تنشر لها وبعض خطاباتها المجهولة؛ ما التفت أحد إليها.
ويبدو أن السيدة «ويب» قد عرفت عددا من المصريين الذين كانوا يترددون في أوائل القرن على إنجلترا طلبا للعلم، وربما كان ذلك في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرة؛ خروجا على قاعدة الدراسة في فرنسا آنذاك، ويبدو أن السلطات البريطانية التي كانت تشرف على «نظارة المعارف» في مصر في تلك الحقبة كانت تريد تشجيع المصريين على التزود بالثقافة الإنجليزية دعما للوجود البريطاني في مصر، حتى لا ترجح كفة التعليم الفرنسي إلى الأبد في الشرق العربي.
وأيا كان مصدرها، فالشهادة في ذاتها جديرة بالتأمل خصوصا إذا وضعت بجوار شهادات الكثيرين من أبناء بريطانيا الذين عاشوا في مصر أو اختلطوا مباشرة بالمصريين، ونحن نفهم من هذا وذاك أن ما راع الأجانب في الشخصية المصرية هو قدرتها على السخرية من الواقع وتلوينه بألوان متناقضة بحيث يكتسب العديد من الصور، فإذا كان مريرا خفت مرارته، وإذا كان عابسا انفرج عبوسه، وإذا كان حالكا تبددت بعض ظلماته، وذلك عن طريق قوة الخيال التي تعتبر من الملكات الخلاقة في ذهن الإنسان.
والمصري يفعل ذلك من تلقاء نفسه، دون أن يدفعه أحد إليه؛ فهو يضحك من مصائبه، ويسخر من أحواله، وهو على استعداد في جميع الأحوال للضحك لا لأنه هازل؛ بل لأنه جاد، وجده معناه قدرته على تقدير قيم الأشياء ومعرفة ما يمكن التغلب عليه وما لا يمكن قهره، فإذا استحال عليه أن يقهر عدوه ضحك منه، وإن رأى أن سخريته منه ستزيد من وعي من حوله به سخر منه بلا هوادة.
أما المعنى الآخر للميل إلى الفكاهة، وهو سعة الصدر والطاقة على تقبل الاختلاف ، فربما كان مصدره لدى المصريين طول معاشرتهم للأجانب وطبيعة نظرتهم للإنسان أيا كانت صورته، وهي نظرة إبداعية في جوهرها؛ فالمصري عندما يشاهد غريبا أو ما هو غريب عليه، يضعه في إطار مختلف ويقبله داخل هذا الإطار، بل هو يحاول أن يوسع من أبعاد هذا الإطار حتى يجعله مرنا متعدد الألوان، بل وكثيرا ما ينسج حوله أطرا أخرى تضفي على غرابته طرافة تؤكد «المسافة» التي تفصله عنه؛ ومن ثم تيسر له قبوله.
وهذه «المسافة» هي العنصر الفاصل الذي يفرق بين الكوميديا والتراجيديا؛ إذ لا يضحك الإنسان إلا على ما هو غريب أو من هو غريب عنه، و«الضحك» منه في ذاته حكم عليه، وقد يقترب الحكم من الإدانة أو يقتصر على تأكيد الخطأ أو الزلل فحسب؛ ومن ثم كانت الكوميديا سلاحا حادا يستخدمه الإنسان في محاربة النقائص والعيوب، وهو مذهب جاد من مذاهب المسرح الرفيع بشتى ألوانه التي سبق أن تعرضت لها في كتابي «فن الكوميديا» (1980م) مثل كوميديا الموقف، وكوميديا الشخصية، وكوميديا الكاريكاتير وما إلى ذلك، فالإنسان، كما قيل بحق، يضحك بعقله، ولولا عقل الإنسان ما ضحك؛ لأن ضحكه يقوم على إدراك معين، والكاتب المسرحي يحرص على توفير مقومات هذا الإدراك في صورة فنية متماسكة لها معنى موحد. ومن ثم قد لا يقهقه المتفرج وقد لا يجلجل ضحكه وهو يشاهد إحدى الكوميديات العالمية؛ لأن المعنى يمس عمقا بعيد الغور في نفسه يبقي على الضحك داخليا لا تدل عليه إلا البسمات الخافتة.
ولذلك كان الكتاب الساخرون جادين - من فكري أباظة ومحمد عفيفي إلى محمود السعدني وأحمد رجب وأحمد بهجت - وكذلك رسامو الكاريكاتير وكتاب المسرح، بل والشعراء؛ واستمع إلى حافظ إبراهيم:
قد غدا القوت في يد الناس كاليا
قوت حتى نوى الفقير الصياما
ويخال الرغيف في البعد بدرا
ويظن اللحوم صيدا حراما
إن أصاب الرغيف من بعد كد
صاح من لي بأن أصيب الإداما
بل إن العقاد نفسه (شيخ الجد) لم يخل ديوانه من السخرية! أما الهزل الذي نراه اليوم على مسارحنا فهو لون من ألوان التهرؤ الفني الذي لا أعرف والله كيف أصفه. إنه يثير الضحكات ولا شك، وهو يثيرها بطرق غليظة لا تتطلب الكثير من إعمال العقل، ولكنه يفتقر إلى الرؤى الموحدة التي ترفعه إلى مصاف المسرح الحقيقي، ولا يمكن بدون الرؤية الموحدة أن يكون للعمل معنى فني.
إن صورة المسرح في بلد ما ترتبط بصورة عقل شعبه ووجدانه. فهل أصبحنا شعبا هازلا؛ أي لاهيا عابثا؟ وهل نملك في هذا العصر وهذه الحقبة العصيبة من تاريخ العالم أن نلهو ونعبث - كما يقول صلاح عبد الصبور في «تذييله» لمسرحية «مسافر ليل»؟ لقد أثارت شهادة المسز ويب أشجاني، تلك السيدة التي عاشت تصارع المرض وكانت ذات رؤية مأسوية (مثل توماس هاردي) ولكنها أقرت للمصريين بسعة الصدر وحب الحياة والإشراق. فلنضحك ما شاء الله لنا أن نضحك. ولكن حاشا لله أن نكون من الهازلين.
ثمن الكتاب
قال صديقي في رنة انزعاج بادية: «أرأيت إلى أسعار الكتب كيف التهبت واشتعلت؟ لقد اشتريت كتاب كذا وكذا بمبلغ كذا وكذا.» وقدمت إليه في البداية الرد الذي اعتدته في هذه الأحوال والذي يفسر غلاء الكتب في إطار غلاء كل شيء؛ لا في مصر وحدها، بل في العالم كله. وانثنيت أحصي الأسباب التي أصبحت أعرفها جيدا والتي تتصل بارتفاع أسعار الورق وأحبار الطباعة، وما إلى ذلك من مستلزمات الإنتاج، والارتفاع الموازي (وإن كان لا يصل إلى نفس الدرجة) في أجور العاملين بالطباعة والنشر، وما يتصل بذلك من تكاليف الإعلان عن الكتاب وتسويقه - ثم توقفت وشرعت أنظر للأمر من زاوية أخرى تماما، وهي زاوية القارئ والمشتري.
من الذي يشتري الكتب؟ نستطيع أن نفترض أن القراء هم الذين يشترون الكتب، وهذا افتراض معقول؛ لأن النسبة الضئيلة من المشترين الذين لا يبتاعون الكتب من أجل قراءتها، بل من أجل جمعها أو التباهي بامتلاكها تعتبر استثناء يمكن إغفاله، فالشخص الذي يدخل مكتبة ما ويخرج نقودا من جيبه لشراء كتاب ما، عادة ما يفعل ذلك بقصد قراءته، سواء قرأه بعد ذلك أم لا. وهذا القارئ الشاري هو محور اهتمامنا اليوم. فعندما بدأت النهضة الحديثة في الطباعة والنشر بعد الحرب العالمية الثانية، كان القارئ من «المتعلمين» أو من «أبناء المدراس» كما كانوا يسمون، وكان يمثل رأس الحربة لجيل جديد من «المثقفين» الذين أشار إليهم ريتشارد كروسمان في كتابه بعثة فلسطين (1946م) باعتبارهم طليعة ثورة وشيكة في مصر؛ إذ كان يرى فيهم قوة ما تفتأ تتزايد، وتنذر بتغير اجتماعي قريب.
كان معظم هؤلاء من أبناء «القادرين»، ولم يكن طه حسين قد أعلن ثورته التعليمية بعد في عام 1950م بقولته الشهيرة إن التعليم كالماء والهواء، وما تلا ذلك من إلغاء المصاريف الدراسية التي حجبت الكثيرين عن التعليم العام، وأهدرت طاقات الكثيرين من أبناء هذا الوطن النجباء. وكان المتعلمون يعملون في الحكومة - في «الدواوين» التي بدأت تتكاثر وتنتشر - ويتقاضون رواتب قاربت بينهم تدريجيا وبين أبناء الطبقة المتوسطة «البرجوازية» من التجار وأرباب الصناعة بصفة أساسية. ولم تمض أعوام على قيام الثورة حتى أصبح هذا الوضع راسخا؛ إذ أرست الثورة مبدأ المجانية بصورة لا رجعة فيها، وأمنت العمل في «الدواوين» لخريجي الجامعات (التي كثرت) والذين كان عددهم طبقا لإحصاء عام 1961م يزيد على 110000 في شتى التخصصات.
كانت هذه القوة القارئة في الستينيات هي نفسها القوة الشرائية للكتب، ولم يكن من العسير تسويق سلسلة مثل الألف كتاب الأولى، أو روايات الكتاب النابهين آنذاك، وأذكر أننا عندما أخرجنا مجلة المسرح الأولى في مطلح عام 1964م (وكان رئيس التحرير هو الدكتور رشاد رشدي رحمه الله) أخذنا نزيد عدد المطبوع من الأعداد الأولى التي كانت تختفي فور صدورها حتى وصل إلى عشرة آلاف، كما زاد ثمن النسخة بعد ذلك من خمسة قروش إلى عشرة قروش. وقس على ذلك المجلات الأخرى والكتب الأخرى التي لم تكن أسعارها تزيد على قروش معدودة، تمثل نسبة ضئيلة من دخل (المثقف) الموظف، أيا كان تخصصه.
وعندما حدث التحول التاريخي في السبعينيات إلى الاقتصاد الحر أو ما يشبه ذلك من بعيد، وقع خلل في «تركيب» هيكل القراء، إذ انتعشت طبقة برجوازية جديدة تتسم بكل سمات البرجوازية التاريخية، من عزوف عن العلم والثقافة بصفة عامة، ونشدان المتعة وأطايب العيش، وإنفاق المال بسخاء على السلع الاستهلاكية، وساعد على ذلك - دون شك - تدفق الثروات العربية في أيدي العائدين الذين أتوا معهم بطرائق أخرى للعيش غير الثقافة والتعليم، وهذه من سخريات القدر؛ إذ إنهم ما كانوا ليحققوا ما حققوه دون علم وتعليم.
واستمر هذا الاتجاه دون توقف حتى التسعينيات، بل إنه ازداد رسوخا وتمكنا من مجتمعنا؛ إذ إنه لم يقتصر على الظواهر الاقتصادية التي ذكرتها في بداية المقال، ولا هو مقصور على ثبات الدخول الضئيلة للمثقفين الموظفين (مما يعني هبوطها النسبي، أي بالنسبة إلى مستويات دخول الكاسبين الآخرين) بل إنه أحدث أكبر خلل يمكن أن يحدث لثقافة دولة قامت على العلم والتعلم؛ ألا وهو الكفر بقيمة العلم لذاته، وحلول قيمة أخرى محلها هي قيمة كسب المال - وهذه هي الطعنة الحقيقية التي أصابت عملنا الثقافي في مجال الطبع والنشر.
لم يعد القارئ اليوم، وأنا أقصد القادر على شراء الكتب، يقبل على الكتاب من أجل ما به من «علم»، ولكنه يدرج الكتاب بين طائفة المتع التي يوفرها له المال - فهو ينشد الإثارة فيقبل على كتب المذكرات السياسية وكتب «المؤرخين» الذين يسبون عهدا بعينه أو يكيلون له المدائح، وهو ينشد الاطمئنان واليقين فيقرأ الكتب الدينية، وهو ينشد العجائب والغرائب فيقرأ عن الجن والسحر وعالم الأرواح (الذي هو غيب لا يجوز الخوض فيه)، وهو ينشد التسلية والتسرية فيقرأ القصص الساذجة سواء كانت مؤلفة أو مترجمة.
أما طالب العلم، الذي ينتمي إلى دائرة ضاقت فأمعنت في الضيق؛ فهو يواجه كتبا أجنبية ذات أسعار تمثل التضخم الذي اجتاح البلدان المتقدمة، أو كتبا عربية يمثل سعر الواحد منها عشرة بالمائة من مرتبه بعد أن كان يمثل واحدا بالمائة أو أقل! وأذكر أنني شاهدت في معرض الكتاب منذ عامين كتابا أجنبيا لا يزيد عدد صفحاته على مائة، ويزيد سعره على مائة جنيه، فتصفحته فلم أجد له من القيمة ما يبرر هذا السعر «الإجرامي»، وكدت أن أقرأه كله واقفا لولا خشية الاتهام بالسرقة! والقول بأن تتحمل هيئة الكتاب وحدها عبء توفير الكتب الزهيدة الثمن قول ساذج؛ فالهيئة مؤسسة واحدة من بين شتى المؤسسات العامة والخاصة التي تقوم بطبع ونشر الكتب، وهي تنهض بأعباء لا تستطيعها غيرها، والتكاليف واحدة لدى هذه وتلك، وليست في يدها عصا سحرية تستطيع بها تخفيض أسعار مستلزمات الإنتاج التي ارتفعت أسعارها عالميا (بل هي غير معفاة من الرسوم الجمركية).
إن أزمة ارتفاع أسعار الكتب أزمة تنبع من اختلاف نوعية القراء، وما حدث للقراءة باعتبارها نشاطا معرفيا في بلادنا. وهذا هو مكمن الداء الذي يجب أن نركز جهودنا للقضاء عليه؛ حتى يعود للعلم احترامه والحدب عليه خالصا من الاعتبارات المادية.
نساء ورجال «الحركة النسائية»
FEMINISM
تعبير جديد نسبيا؛ إذ بدأ يدل على مناصرة مطالب المرأة وحقوقها في عام 1895م، وكان قد دخل اللغة الإنجليزية لأول مرة عام 1850م ليعني خصائص الأنوثة، وشتان بين المفهومين! وقد شاع في العشرين عاما الأخيرة - أو قل بعث من مرقده - ليحل محل التعبير القديم الذي أشاعته رائدات نصرة المرأة الأوليات، مثل ماري وولستونكروفت، زوجة الفيلسوف الإنجليزي وليام جودوين ووالدة ماري شلي (زوجة الشاعر شلي والكاتبة الروائية ومخترعة شخصية فرانكشتاين)، وهو تعبير تحرير المرأة
EMANCIPATION
والذي ظل مقصورا على السياقات السياسية في المقام الأول والاجتماعية في المقام الثاني، حتى حل محله تعبير له نفس المعنى، وإن كانت دلالته موجهة نحو العلاقة بين الرجل والمرأة - والحرية الجنسية بالتحديد - وهو تعبير
WOMEN’S Lib
وبرز للدفاع عنه والقتال في سبيله عدد من شهيرات الكاتبات من بينهن جرمين جرير (التي عادت فتنصلت من أفكارها عام 1984م)، بينما كان دعاة الحركة النسائية الجديدة قد نشطوا - رجالا ونساء - ليعيدوا النظر في وضع المرأة على جميع المستويات؛ أي في جميع السياقات، الشخصية منها والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بطبيعة الحال.
وقد اقتضت «إعادة النظر» هذه إعادة نظر في تراث الإنسانية المكتوب، فهو مسجل من وجهة نظر الرجل فقط، وهنا لا بد من الإشارة إلى أمرين؛ الأول هو ما يقوله دعاة الحركة من أن تاريخ البشرية المدون يتضمن قدرا كبيرا من التزييف؛ لأنه يغفل الدور الحقيقي الذي لعبته المرأة في تطور المجتمعات البشرية، والثاني هو الظلم الذي حاق بالمرأة فعلا على مر التاريخ فحرمها من فرصة المساهمة بما تقدر عليه (وهي لا تقل قدرة عن الرجل) في دفع عجلة التقدم الإنساني.
ومع تكاثر الكتب التي تدعو إلى إعادة كتابة التاريخ من وجهة نظر المرأة بحيث تنصفها مثلما أنصف التاريخ الرجل، وبحيث تبين مظاهر الظلم الذي حاق بها في العصور التي سادها الرجال، تكاثرت كتب النقد الأدبي التي تركز على صورة المرأة في التراث الأدبي، وهي صورة زائفة خلقها الرجل وأشاعها وتوارثها كي ترسخ المفاهيم التي تضم قيما مشكوكا في صحتها؛ فالرقة ليست مقصورة على المرأة، بل ولا الرحمة ولا الحنان ولا العاطفة ولا «العذوبة الزائفة»، وكذلك فليست صفات الغلظة ولا القوة ولا العقلانية مقصورة على الرجل، ولكن الأدباء يتجاهلون الواقع النفسي وحقائق الحياة نفسها ليضفوا على المرأة الخصائص التي ارتبطت بها في أذهانهم ربما عن حسن نية، فيزيفون بذلك صورة الإنسان نفسه.
وقد اتسم عام 1992م بأنه عام «المناظرة الكبرى» في بريطانيا بين دعاة الحركة النسائية الذين أصبحوا ذوي قوة وبأس شديدين، وتكاثرت كتبهم وارتبطت بالمذاهب النقدية الجديدة (على رف المكتبة في منزلنا ما لا يقل عن عشرين كتابا منها، صدرت في السنوات القليلة الماضية) وبين المعارضين المحافظين الذين أساءوا فهم الحركة النسائية برمتها فتصوروا أنها تشكل تهديدا لحقوق الرجل في مملكته أو تتضمن التهديد بتغير صورة المجتمع وصورة الأسرة، ناسين أن هذه الصورة قد تغيرت بالفعل منذ أن حققت المرأة استقلالها الاقتصادي فلم تعد «عالة» على الرجل، ولم يعد عليها أن تتحمل في صمت ما يمليه «رب المنزل» الذي لم يصبح «ربا» إلا بفضل ما ينفقه من مال حرم المرأة أن تكسبه.
وبرز من هؤلاء كاتب اسمه نيل ليندون أصدر في الصيف (1992م) كتابا اسمه «كفانا حربا بين الجنسين»
NO MORE SEX WAR
يحاول فيه رد الظواهر الاجتماعية المقلقة في بريطانيا إلى الحركة النسائية، مثل زيادة معدلات الطلاق، وتشتت الأبناء، وتفتت الأسرات ، وزيادة الأعباء المالية التي تتحملها الدولة لرعاية الأسر المصابة وهلم جرا. ويستخدم ليندون في كتابه ما يسميه بلغة الأرقام والتي يزعم أنها لا تكذب، وأزعم أنا أنها أكذب اللغات! فالرقم في ذاته لا معنى له، وتفسيره قد يكون صادقا وقد يكون كاذبا، وتفسيرات ليندون كاذبة في مجملها؛ فهو يتجاهل أبسط قواعد البحث العلمي التي نعرفها نحن الأكاديميين وهي تعدد العوامل؛ إذ لا يمكن رد ظاهرة مهما كانت سهلة الفهم إلى عامل واحد، وإذا كانت الحركة النسائية من عوامل تشتت الأسرة في بريطانيا؛ فأهم منها عامل الثورة على المجتمع وقيمه (أي على المؤسسة الاجتماعية) التي أعقبت الحرب العالمية، وعامل رفض الدين وقيمه، ولهذا دوافعه الفكرية في المجتمع الصناعي المادي وعوامل العزلة الفردية وما تلا تفتت الإمبراطورية البريطانية من تهرؤ في صورة الوطن كمؤسسة.
وقد ردت على الكتاب كاتبة لامعة هي إيفون روبرتس، بكتاب صدر في سبتمبر الماضي (1992م) وعنوانه «الولع بالرجال»
MAD ABOUT MAN
تكرر فيه ما سبق أن قيل في كتب الحركة النسائية، ثم تختتم حججها برصد إنجازات الحركة؛ مثل حصول المرأة على أجر مساو لأجر الرجل مقابل نفس العمل، والتمتع بالحق في الملكية الفردية، ومن قبل ذلك حق الانتخاب والمشاركة في الحقوق السياسية وما إلى ذلك.
أما «المناظرة الكبرى» فقد وصلت ذروتها يوم 5 أكتوبر 1992م حين انقسم المدافعون عن الحركة النسائية ومهاجموها (من الجنسين) إلى فريقين يستخدمان شتى الأساليب الانفعالية والمنطقية على حد سواء، يقود الفريق المدافع نايجيلا لوسون، بينما ما يزال ليندون على رأس المهاجمين. والغريب أن تلتقي بعض حجج الفريقين دون أن يدروا (وهي مسجلة في صفحات جريدة التايمز اللندنية) وأهمها وجود «عداء» أو «نفور» بين الجنسين - وقد يصل في بعض الأحيان إلى درجة التعصب الذي لا يصغي صاحبه إلى صوت المنطق.
هل هذا «النفور» أو «العداء» حقيقي؟ هل أدت الحركة النسائية إليه؟ هذا هو موضوع الجدل الدائر حتى الآن والذي لم تفلح الإحصائيات في إيضاح حقيقته.
ترقية أساتذة الجامعة
عندما أقدمت الجامعات على تعديل قانونها القديم الذي كان يقصر الأستاذية في كل تخصص على أستاذ واحد، وفتحت الطريق أمام الجميع للترقي إلى تلك «الوظيفة»، لم تنس أن تضع بعض الضوابط التي تجعل شاغل وظيفة الأستاذية أهلا لها، فوضعت بعض المعايير التي تستند إلى طبيعة تلك الوظيفة نفسها، وأهمها إجراء البحوث العلمية، فالأستاذ الجامعي في المقام الأول باحث، وعمله هو التفكير الدائب، سواء كان ذلك في المعامل والمختبرات أم بين الكتب والأوراق على مكتبه، ولم تنس الجامعة أيضا أن تستعين بمعيار الأقدمية؛ فالأقدمية في مجتمعنا ذات احترام يصل إلى درجة القداسة والمثل يقول «أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة.»
ومن ثم وضعت الجامعة نظاما لاختبار أهلية المتقدم للترقي يتضمن عرض الأبحاث على لجنة يختار أعضاؤها من الأساتذة البارزين في التخصص العلمي المناسب، وأطلق عليها اللجنة الدائمة
Standing Committee
تمييزا لها عن اللجان المخصصة
AD HOC
أي التي تتشكل لأداء مهمة محددة ثم تنفض، وتتولى هذه اللجنة فحص الإنتاج العلمي المقدم من «طالب» الترقية، سواء كان مدرسا
LECTURER
أم أستاذا مساعدا، ثم تكتب تقريرا ترفعه إلى القسم العلمي الذي ينتمي إليه الطالب، فإذا رأى القسم (الذي يجتمع على مستوى الأساتذة) أن التقرير عادل ومنصف؛ أوصى بقبوله ورفعه إلى مجلس الكلية (الذي يتكون من الأساتذة أيضا)، فإذا وافق عليه رفعه إلى مجلس الجامعة (الذي يتكون من العمداء)، فأصدر المجلس الأخير قرار الترقية.
وعلى مدى الأعوام العشرين الماضية تقريبا حقق هذا النظام نجاحا لا بأس به؛ فهو كأي نظام قضائي يسمح باختلاف وجهات النظر وبالمداولات والتظلم والاستئناف ونقض الأحكام، وقد شهدت أول حالة تظلم فيها المتقدمان للترقي لوظيفتي أستاذ مساعد وأستاذ في أحد أقسام كلية الآداب في أواسط السبعينيات؛ إذ تظلما من قرار اللجنة، فاتخذ مجلس الكلية قرارا بتشكيل لجنة أخرى أنصفتهما، وأخذ العدل مجراه، فالنظام الذي يأخذ في اعتباره أن البشر بشر قد يخطئون مثلما يصيبون لا بد أن ينجح في النهاية مهما كانت العثرات.
ولكن تشكيل اللجان المذكورة على أساس الأقدمية فقط - والأقدمية توحي بالعدل - خلق هوة بين شباب العلماء وبين قدمائهم، فلم يعد التميز أساسا للانضمام إلى اللجنة (على أساس النشاط العلمي للأستاذ منذ حصوله على الأستاذية مثلا)، بل عدد السنوات التي يقضيها على ظهر الأرض، ولو دون اقتراب من العلم. وأخذت الهوة تزداد اتساعا مع نشأة الجامعات الإقليمية حيث تقل الأقدمية المطلوبة للترقي عن الأقدمية المطلوبة للترقي في الجامعات الكبرى، وازدادت حالات التظلم من أحكام اللجان، والاحتكام إلى مجالس الأقسام ومجالس الكليات ومجالس الجامعات.
وقد ساهم في إيجاد هذه الهوة تسمية لجان فحص الإنتاج العلمي باللجان الدائمة؛ إذ تصور البعض أنها مؤسسات ثابتة لا يمكن المساس بها، ولا راد لأحكامها، ولكنها في الحقيقة لجان مثل لجان (مجالس) الأقسام والكليات، وأعضاؤها قد يكونون أعضاء في المجالس المذكورة، وهم لا يشكلون هيئة منفصلة عن الجامعة أو كيانا مستقلا يمكنه إملاء أي شيء على مجلس الكليات أو مجلس الجامعة. ولذلك نص الشارع على قصر مهمتها على كتابة تقرير عن الأعمال العلمية للمتقدم، ورفعه إلى هيئات إصدار القرار.
وأظننا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في التشكيل الجغرافي أو الإقليمي لبعض هذه اللجان؛ نشدانا للعدل، وإعادة النظر في الأقدمية أيضا باعتبارها الأساس الأوحد الذي يحقق الإنصاف والمساواة. فجامعات العالم المتقدم لا تعتمد على الطاعنين في السن فقط في إدارة شئونها العلمية - فهؤلاء يشكلون مجلس شيوخ الجامعة
THE SENATE
كما هو الحال في جامعة لندن مثلا، أما الأمور الخاصة بالتعيين والترقية فهي في أيدي الأساتذة النابهين، صغارا في السن كانوا أم كبارا. ولقد نجحت الجامعة أيما نجاح عندما جعلت إدارة الأقسام العلمية دورية، أي بالتناوب بين الأساتذة، وجعلت عمادة الكليات بالانتخاب؛ فهي وظيفة إدارية لها ملامح ومقومات سياسية (وإن كانت لا تتصل بالسياسة
) وأثبتت كليتنا العتيدة (آداب القاهرة) نجاحا بعد نجاح في تطوير العمل بها عن طريق هذا النظام، ولكننا ننظر إلى بعض لجان الفحص المذكورة وفي حلوقنا غصة؛ فهي «دائمة» كأنما هي قدر لا يغير منها إلا مغير الأحوال سبحانه وتعالى.
فلنعد النظر في معايير الأقدمية؛ فالعلم ليس بالضرورة تراكميا، ولا هو كالخمر يحسن بمرور السنين.
Unknown page