هذه الصراعات بين المذاهب المسيحية التي يدق فهمها على المسيحيين أنفسهم أوضحها محمد عناني في لغة سائغة ناصعة الوضوح بفضل هذه المقدمة التاريخية العقائدية التي قدم بها لترجمته «الفردوس المفقود»، فربط بين العمل الأدبي والخلفية التاريخية التي أنجبته، وربط بين التيارات الفكرية والروحية والطبقات الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها. ولست أقول بهذا إن محمد عناني قد جاء بجديد في هذا المضمار، ولكنه أثبت أنه هضم هضما جيدا أمهات الكتب التي وضعها مؤرخو الفكر الإنجليزي عن ميلتون والقرن السابع عشر، ولا سيما كتب تليارد وبازيل ويللي ودوجلاس بوش.
و«الفردوس المفقود» ملحمة تصور قصة عصيان آدم وحواء، وخروجهما من الجنة، وتصور ثورة إبليس على الله ومعه نفر من الملائكة، وتصور دور إبليس في الإيقاع بآدم وحواء، وتمهد لاسترداد آدم وحواء للجنة الضائعة وفقا للتفسير المسيحي في ملحمة ميلتون الثانية، وهي «الفردوس المسترد» الذي جرى العرف على تسميتها «الفردوس المردود» وهو تعبير خاطئ.
وإن كانت لي ملاحظة على هذه المقدمة فهي أن محمد عناني قد اختار أن يسمي «الشيطان» في ميلتون «إبليس»، والأرجح أن اسم إبليس ليس إلا صيغة عربية من بعلزبون كبير الشياطين في التوراة التي استلهم ميلتون منها سفر التكوين. وعلى كل فإن ميلتون يميز بين الشيطان - الذي يصفه بأنه «كبير الملائكة المحطم» - بسبب ثورته على الله وبين بعلزبون كبير الشياطين. وقد درج محمد عناني على تسمية الشيطان بإبليس في نص الملحمة، وقد كنت أوثر له أن يحتفظ للشيطان باسم الشيطان كما ورد في ميلتون؛ حتى يعفينا ويعفي نفسه عن البحث في هوية الشيطان، وربما كان من واجبي أن أذكر للدكتور محمد عناني أنه تساهل في ترجمة بعض العبارات في «الفردوس المفقود»، فإذا ما نحن نظرنا إلى مطلع الملحمة قرأنا: «عن أول عصيان يقترفه الإنسان، وعن ثمرة تلك الشجرة المحرمة ذات المذاق الفاني الذي أتى بالفناء إلى الدنيا، وجر علينا الأحزان لضياع جنات عدن زمنا، ريثما يعيدنا رجل أعظم ويسترد لنا عرش النعيم.
أنشدي يا ربة الشعر قاطنة السماء، يا من تدنيت إلى الذروة الخبيئة لجبل حوريب أو طور سنين ...»
هنا نجد أن ميلتون لا يحدثنا عن شجرة «ذات مذاق فان»، وإنما يحدثنا عن شجرة ذات
Mortal Taste
أي «مذاقها يجلب الفناء» أو يجلب الموت أو يجلب الهلاك، كما نقول في تعبير
Mortal Wound
إنه «جرح قاتل» بمعنى أنه «يسبب الموت». ولو أنه التزم بهذه الترجمة لتجنب تكرار كلمة «الفناء» في البيت التالي، واكتفى بقول ميلتون
Brought Death into The World
Unknown page