ونحن نذكر في أمسنا القريب شعراء المهجر الذين صاحبوا حركة الإحياء الثانية - أي الحركة الرومانسية في الشعر العربي التي تلت حركة الإحياء الأولى - وكلنا مدين بالفضل لهذا التفتح الكبير على العالم؛ إذ كان من ثماره بزوغ التيارات الحديثة في الأدب والنقد، ولولاه ما تبلورت في الشعر نظرات أصحاب مدرسة الديوان (العقاد والمازني وشكري) فالمهاجر الأدبية ليست بدعة، وليس الاغتراب الأدبي مقصورا على شعب دون شعب، ولا على لغة دون لغة .
إن احتكاك الثقافات وتصارعها عامل مهم من عوامل الوعي الذي لا غنى عنه للأديب، وقد فعل الطيب صالح الروائي السوداني المعاصر في «موسم الهجرة إلى الشمال» ما فعله «فورستر» في «رحلة الهند»، وما فعلته الشاعرة «هيلدا دولتيل» في ديوانها الجميل «هيلين في مصر» الذي يروي في قصيدة تلو قصيدة رحلة هيلين إلى مصر وليس إلى «طروادة»؛ استنادا إلى رواية شاعر آخر هو «ستيسيكورس الصقلي» الذي يسلك طريقا آخر غير الذي سلكه «هوميروس» في تفسير الأسطورة اليونانية القديمة. وجوهر الديوان الذي يتخذ صورة الرواية الغنائية
Lyric narrative
هو امتزاج الثقافة اليونانية بالثقافة المصرية والتقاء الأساطير عبر البحر المتوسط في جذور تضرب في أعماق التربة المصرية، مثل تحول «هيلين» إلى صورة «إيزيس» المصرية وتحول «باريس» إلى الصقر «حورس» في ظلام المعبد الكبير على شاطئ النيل في الأقصر - معبد الكرنك - ومن ثم فهي تستلهم من مصر معنى جديدا للأسطورة الأساسية التي تقوم عليها ملحمة «الإلياذة».
وقد جرى العرف على اعتبار القرن التاسع عشر فترة اكتشاف الغرب للشرق، واكتشاف الشرق للغرب، ولكن القرن العشرين قد أذاب هذا التقسيم القديم.
وقد هدتنا أبحاثنا في تراثنا العريق إلى جذور إنسانية وقيم ثابتة جعلت من التقسيم الجغرافي القديم تقسيما غير دقيق؛ فالشاعر الأوروبي الذي يعتمد اعتمادا كبيرا على الأساطير في تراثه الحاضر، والشاعر العربي الذي يستخدم - واعيا أو غير واع - النماذج الفطرية
archetypes
التي اكتشفها العالم النمسوي «كارل يونج» يقول بصورة ضمنية أيضا إن وحدة المعرفة حقيقة، ووحدة الأدب لا تفرق بين الأمكنة والمياه، والرموز الثقافية في جوهرها واحدة ومتكررة، وهي مبحث مهم من مباحث الأدب المقارن الحديث.
كيف ندهش إذن عندما نشهد هذا الاهتمام الكبير بدراسة الآداب العربية في أوروبا وأمريكا، بل وفي الصين وفي الهند، مثلما ندرس نحن الآداب الأجنبية؟ وكيف ندهش إذن حين يغترب بعض أدبائنا فيعيشون في بلدان لا تتحدث العربية، ثم يكتبون بالعربية أعمالا أصيلة، ترجمت أم لم تترجم؟ ليس هذا مبعث دهشة، ولكن لدينا ظاهرة ما أحسبها إلا مقصورة علينا، وهي أن البعض ينفصل عن التراث عند الذهاب، أو ينبذه عند الإياب، وربما كان هذا هو مبعث القلق لدى الكثيرين ممن يتابعون أحوال بعض نقادنا وأدبائنا بعد الذهاب وعند الإياب.
أما الانفصال فمعناه لا يقف عند عدم متابعة حركة المجتمع والأدب في مصر (إذ كثيرا ما يتصور من هجر مصر في الستينيات مثلا أن مصر لم تنجب أحدا بعد كتاب تلك السنوات)، ولكنه يتعدى ذلك إلى الخلط بين المعايير الاقتصادية والمعايير الإنسانية في الحكم على أبناء وطنه وآدابهم؛ إذ يرى البعض (في أعماقه) أن الفقر المادي يستتبع بالضرورة فقرا إنسانيا، وأن قوة السلاح تستتبع بالضرورة قوة إنسانية. ومن ثم فهم ينبذون التراث ربما لأنهم لا يعرفونه حق المعرفة (فكم من أستاذ للعربية بجامعات أمريكا وأوروبا لا يعرف من الأدب العربي إلا نجيب محفوظ)، وربما لأنهم يرونه مرتبطا بصورة حضارية زالت، أو ربما اعتقدوا أنها ينبغي أن تزول من الوجود. وأما نبذ التراث عند الإياب فمعناه وقفة تعال غريبة، تهب بعض العائدين نبرة صلف محزنة، مبعثها الأول في نظري شذرات من الكلمات الأعجمية (ربما لا يحسنون نطقها)؛ توحي بالتميز والانتماء إلى حضارة أخرى أو بالعالمية (لأنهم يكتبون بلغة منتشرة على نطاق العالم الكبير)، ولكل من هذين الجانبين - الانفصال والنبذ - حديث مستقل.
Unknown page