Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
وأما الشق الثاني، وربما يكون الأهم، فهو أن علامات العصي الرقمية المنقوشة، وكذلك الرسومات التي تعبر عن ممارسات العد على الأصابع، وإن كان ذلك على نحو افتراضي بصورة أكبر، قد انتشرت بصورة أكبر في السجل الأثري بسبب فائدتها لمبتكريها. إن الوسائل التمثيلية لترميز الكميات ذات فائدة عظيمة؛ فمن السهل جدا أن نرى على سبيل المثال بعض المزايا المحتملة لإعداد جدول بالعدد الدقيق لرجال إحدى القبائل التي ينتظر شن غارة عليها، أو تسجيل العدد الدقيق للحيوانات المفترسة الموجودة بالقرب من المرء. ومن السهل أيضا أن ندرك بعض المزايا المحتملة لتتبع وحدات دورة القمر، وبالرغم من أن البشر يستطيعون العيش والنجاح بالطبع دون تتبع مثل هذه الكميات، فإن مزايا القيام بذلك تساعد في تفسير السبب في أن جميع ثقافات العالم تقريبا تستخدم الأعداد. ويمكن لهذه المزايا أن تحسن من معدلات البقاء على قيد الحياة، سواء في الحرب أو الصيد. إن وظيفة أرقام ما قبل التاريخ، تتجاوز العوامل الروحية والاجتماعية والبلاغية. إنها قد تكون ضرورية، في بعض الحالات على الأقل؛ لمجرد البقاء على قيد الحياة.
ليس من العجيب إذن أن نجد أن أرقام ما قبل التاريخ قد أدت مثل هذا الدور البارز في هذا التمثيل المجرد الذي ابتكره البشر خلال العصر الحجري القديم. ولم يقتصر دورها البارز في هذه التمثيلات ثنائية البعد للأفكار، على العصر الحجري، وإنما تجلى أيضا بعد ذلك بآلاف السنين، حين تحول البشر إلى تمثيلات رمزية أكثر تعقيدا للأفكار؛ ففي فجر الكتابة، احتل دور البطولة الذي تقوم به الأعداد مركز الصدارة مرة أخرى.
الأعداد في مرحلة نشأة الكتابة
الساحة الكبرى للمتحف البريطاني في وسط لندن، محمية بمظلة من الزجاج والصلب، وتعمل هذه المظلة الشفافة بمثابة مصفاة للضوء؛ فهي ترشح سماء لندن الرمادية، وتلقي بضوء سماوي أبيض على مجموعة المصنوعات البشرية الهائلة التي تقطن تحتها. وهي مجموعة منقطعة النظير من نواح عديدة، نظرا إلى الطريقة التي جمعت بها الإمبراطورية البريطانية هذه الكنوز من جميع أنحاء العالم (أو ربما الوصف الأنسب أنها استولت عليها، في بعض الحالات على الأقل). ومن هذه الكنوز حجر رشيد، الذي يحيط به دوما حشد من السياح هم أشبه بالمصورين المتطفلين، وهو يقع إلى اليسار في اتجاه القاعة الجنوبية الغربية المجاورة للساحة الكبرى. أما في الطابق الأعلى للقاعة، فيقبع غرض آخر أصغر وأبسط، ومهمل بعض الشيء، لكنه قد يمدنا برؤى أعظم عن تطور الكتابة البشرية. على جدار عادي غير مزخرف، وفي معرض بسيط لتاريخ الكتابة البشرية، يعلق لوح من الجص يبلغ عمره 5300 عام (أكبر من حجر رشيد بثلاثة آلاف عام). لا يزيد طول هذا اللوح على بضعة سنتيمترات في كل جانب، ويضم خطوطا ونقطا نقشت في الجص، قبل كل هذه الأعوام. ونحن نعرف الآن أن هذه النقط والخطوط تمثل كميات، كميات حبوب على الأرجح، أو ربما سلعة أخرى كانت تستخدم في المعاملات الاقتصادية، وهي نظامية بدرجة أكبر من العلامات التي تظهر في سجل العصر الحجري القديم؛ فهي ليست مجرد علامات عصي تعبر عن الكميات، بل تمثل طريقة قياسية للتواصل في بعدين. إنها أول رموز كتابية فعلية نعرف عنها؛ فكل خط وكل نقطة يعبر عن كمية محددة مجردة. وبعبارة أخرى، فالعلامات الموجودة على لوح الجص هي أرقام فعلية.
من بين ضباب الممارسات الرمزية المنتشرة حول العالم، ظهرت الكتابة الفعلية في بلاد الرافدين في الوقت الذي شكل فيه هذا اللوح. وهذا اللوح المعروض في لندن الآن، هو مثال على التحول الذي بدأه الكتاب في بلاد الرافدين، وهو التحول من استخدام الطرق البسيطة في تصوير الكميات إلى الكتابة مكتملة الأركان. إن علماء الكتابات الأثرية وغيرهم من العلماء، عادة ما يفرقون بين الكتابة التي توفر ترميزا كاملا للغة معينة، وبين الكتابة الأولية، وهي صورة أقدم من الممارسة الرمزية (غير أنها أقل قدما من أرقام ما قبل التاريخ المستخدمة في سياقات العصر الحجري القديم)، وهي لا تصور سوى مجموعة محددة من المعاني المحتملة. واتخاذ قرار محدد بشأن ما إذا كان أحد النصوص القديمة ينتمي إلى فئة الكتابة الأولية أم الكتابة الفعلية، ليس بالأمر السهل، والواقع أن هذه المصطلحات تعتم العملية التدريجية التي تطورت الكتابة من خلالها.
وإذا نحينا الاختيارات الاصطلاحية جانبا، نجد أنه من المتفق عليه عامة أن أول تطور شامل للكتابة، قد حدث في منطقة الهلال الخصيب، وتحديدا في بلاد الرافدين على يد السومريين. غير أنها ليست اختراعا خاصا بمنطقة الشرق الأوسط فحسب؛ فقد تطورت أيضا بصورة مستقلة في الصين وأمريكا الوسطى. ومن هذه الأقاليم، انتشرت الكتابة وتطورت وفقا للاحتياجات اللغوية والاجتماعية والاقتصادية المحلية. واليوم توجد العشرات من أنظمة الكتابة، مثل ذلك النظام الذي أستخدمه الآن للتعبير عن أفكاري إليك. بالرغم من ذلك، يمكننا أن نتتبع أصل جميع هذه الأنظمة الكتابية العديدة ونردها إلى واحد من ثلاثة أساليب أساسية للكتابة، وذلك بطرق فعلية ومثبتة تاريخيا. وسيكون تركيزنا هنا على نشأة أقدم أنظمة الكتابة الفعلية، الذي تطور في بلاد الرافدين. (وفي الفصل التاسع، سنناقش باختصار، أصول بعض أنظمة الكتابة الأخرى.) لقد ولدت الكتابة البشرية لأول مرة في هذه المنطقة، وتوضح قصة الميلاد هذه الدور الأساسي الذي أدته الأرقام في بداية تطور الكتابة.
10
بطريقة ما، ليس هناك ما يدهش في تلك الجاذبية التي طالما اتسمت بها الرموز العددية؛ إذ إن الطلاقة في مثل هذه الرموز قد أدت، ولا تزال تؤدي، دورا اجتماعيا اقتصاديا في حياة الناس. فالعديد من هذه الرموز الكتابية التي تعبر عن الكميات، والتي حفظت جيدا، هي عملات معدنية أو أدوات تشبهها، ترمز لقيم مالية محددة. ومع مراعاة النسب المحدودة لمعرفة القراءة والكتابة على مدار معظم تاريخ وجود الكتابة البشرية، فالعملات المعدنية وغيرها من أنواع العملات المرتبطة بكميات محددة، قد ظلت على مدار فترة طويلة (ولا تزال في بعض مناطق العالم) هي الرموز الوحيدة التي يستطيع الناس تفسيرها. وحتى بعد تطورها المستقل في أوراسيا والأمريكتين، ظلت الكتابة الفعلية على مدار ألف عام، مهارة متخصصة، يمارسها ويعلمها للآخرين مجموعة محددة من الأفراد في عدد قليل من المجتمعات. فدروس الكتابة في نهاية المطاف، هي ترف اقتصادي قد نتج بصورة غير مباشرة عن الزراعة التي أتاحت وجود مثل هذه المهنة المتخصصة. وقد أدت الوظيفة الاقتصادية للأعداد دورا واضحا في تطور نقوش الكتابة في مجتمع بلاد الرافدين الزراعي، وقد أدى هذا الدور في النهاية إلى تشكيل لوح الجص الذي يوجد فوق الساحة الكبرى في المتحف، فلنتناول سريعا إحدى النظريات التي تفسر كيفية حدوث ذلك.
من المحتمل أنه قبل فترة تقدر بثمانية آلاف عام، كان البشر في بلاد الرافدين يتقايضون كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية والحيوانات فيما بينهم. وقد سهل المقايضة في المنطقة إدراكهم لإمكانية تمثيل الكميات بصورة رمزية، ونقلها عبر مسافات بعيدة. إن إحدى الوسائل الأساسية التي تطورت في هذه المنطقة، قد تبدو الآن عتيقة، غير أنها كانت ثورية ولا شك في ذلك الوقت، وهي أوعية متينة من الفخار مملوءة بعملات رمزية، كانت بمثابة العقد. فإذا افترضنا مثلا أن أحد ملاك الأراضي قد وافق على أن يدفع لمالك أرض آخر مقدارا محددا من الأغنام؛ فيمكن تسجيل هذا الاتفاق في كرة من الطين، فتوضع العملات الرمزية التي تمثل الكمية المحددة من الأغنام في الطين الذي يوضع بعد ذلك في أفران حتى يصبح صلبا؛ ومن ثم فقد كانت كرة الفخار بمثابة سجل يمكن نقله وكسره بعد ذلك حين الوفاء بالعقد. ولتيسير عملية التسجيل؛ كان من الممكن الإشارة إلى عدد العملات الموجودة داخل الإناء الفخاري ، على الجانب الخارجي منه. ومع الوقت، اخترعت رموز خارجية محددة لتمثيل أنواع البضائع التي تتكرر كثيرا في المعاملات. وكان يمكن بعد ذلك مضاهاة هذه الرموز الخارجية مع عدد العملات الرمزية الموجودة داخل الإناء. ومما لا شك فيه أن نظام المضاهاة هذا قد سرع وتيرة التعاملات الاقتصادية في هذا الزمن السابق على العملات النقدية الفعلية.
إننا لا نعرف على وجه التحديد طول المدة التي استمر خلالها هذا النظام الكمي الثلاثي الأبعاد لتمثيل السلع، في بلاد الرافدين. وعلى أي حال، فقد بدأ السومريون في نهاية المطاف في التخلي عن العملات الرمزية الداخلية تماما، وتحول النظام تدريجيا من نظام ثلاثي الأبعاد إلى نظام ثنائي الأبعاد (غير أنه من المحتمل أن يكون النظام الثلاثي الأبعاد قد استمر في بعض الأماكن). ومعنى هذا أنه بدلا من ترميز كميات السلع التجارية بعملات حقيقية داخل الأواني الفخارية، كانت الكميات تمثل ببساطة على ألواح طينية صغيرة جاءت لتحل محل تلك الأواني. وبالفعل، كانت تلك الأواني والعملات الموجودة بداخلها زائدة عن الحاجة. فكل ما كان ضروريا لحفظ العقود، هو طريقة منهجية لتسجيل السلع والكميات الموجودة على الفخار. ومن المرجح أن تكون الكتابة المسمارية، وهي أول كتابة اخترعها البشر، قد ولدت تدريجيا من هذه الفكرة. فمع مرور الوقت، امتد استخدام هذا النظام لترميز الكميات والبضائع ليشمل أغراضا أخرى. وتطورت رموز جديدة للسلع وغيرها من الأفكار، مرة تلو الأخرى، من خلال أجيال جديدة من النقوش الكتابية. وأصبحت وسائل تسجيل هذه الرموز المصورة على الطين منظمة، وذلك باستخدام الخوص أو القصب لنقش الرموز بعناية، وبطريقة تتيح فهمها بسهولة، ثم جاء تمثيل قواعد اللغة بعد ذلك، إلى أن أصبح من الممكن في النهاية تمثيل جميع الجمل بالكتابة. وبينما نحن نتحدث بكل يسر عن «اختراع» الكتابة، فقد تطورت بالفعل على مدار آلاف الأعوام. بالرغم من ذلك، فمن الواضح أنه في بداية هذا التطور الطويل في بلاد الرافدين، كان تمثيل الكميات موجودا بالفعل، وقد كان ذلك في الواقع هو صميم الكتابة المبكرة.
Unknown page