Acdad Wa Bina Insan
الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية
Genres
إن الجمع بين التأريخ والتأويل يوضح بعض ما تتضمنه رسومات الكهوف الأوروبية من عناصر أساسية متكررة قديمة للغاية، وغالبا ما نجد في هذه الرسومات ظهورا للحيوانات؛ فللثيران البرية وغيرها من أنواع الأبقار، دور بارز للغاية، إضافة إلى الثور الأمريكي والخيول وغيرها من الثدييات الكبيرة. ويتكرر في هذه الرسومات أيضا ظهور عنصر آخر، وهو اليد البشرية؛ إذ تظهر في أقدم الرسومات الأوروبية، كالرسومات الموجودة في كهف إل كاستيلو في إسبانيا (عمرها 40000 عام تقريبا)، وفي كهف شوفيه (32000 عام تقريبا)، وكهف لاسكو بجنوب فرنسا (17000 عام تقريبا). وربما يكون لشكل اليد في هذه الكهوف وظيفة عد من نوع ما، غير أن ذلك تخمين فحسب. أما رسومات الأيدي المطبوعة في كهفي كوسكار وجارجاس في فرنسا، التي يعود تاريخها إلى 27000 عام تقريبا، فقد كان لها على الأرجح وظيفة عددية؛ فالرسومات المطبوعة في هذين الكهفين تصور أياد يسرى تمتد أصابعها من 1 إلى 5، وفي جميع الرسومات، يظهر الإبهام مرفوعا وكأنه يعبر عن العدد الأول في تسلسل العد. وقد ذكر عالم الآثار كارينلي أوفرمان، والذي أجرى أبحاثا رائعة عن التمثيلات العددية في السجل البشري المادي، أن رسومات الأيدي المعنية في هذين الكهفين تعبر عن أسلوب العد من الإبهام (1) إلى الإصبع الصغيرة (5). (ومعنى هذا أن الإبهام بمفردها مرفوعة تمثل العدد 1، وحين تكون الأصابع كلها مرفوعة، بما فيها الإصبع الصغيرة؛ فإن ذلك يمثل الكمية 5.) وإذا قبلنا بتلك الافتراضات فإنها تشير إلى أن ما دون ذلك من تمثيلات الأيدي البشرية في العصر الحجري القديم، ربما كانت تستخدم هي الأخرى لتمثيل الكميات.
8
إن ما يلفت النظر تحديدا في سياق ما نطرحه الآن، هو أن اليد البشرية وأصابعها عنصر أساسي يتكرر في جميع رسومات الكهوف على مستوى العالم، لا الكهوف الأوروبية فحسب. وبالفعل، فإن بعضا من أقدم الرسومات المعروفة في العالم، في كهف سولاويسي بإندونيسيا، مزخرفة برسومات ملونة للأيدي، تظهر فيها كل إصبع بوضوح. يبلغ عمر رسومات كهف سولاويسي ما يقرب من 40000 عام، وكغيرها من العديد من الرسومات الموجودة في الكهوف الأخرى، قد صنعت من خلال وضع الصبغة على يد ثم وضع اليد على الجدار. وفي السياق نفسه، فإننا نجد بعض رسومات الطباعة بالأيدي في كهف فيرن في أستراليا، ويعود تاريخ هذه الرسومات إلى ما يقرب من 12000 عام. وحتى في أمريكا الجنوبية، يظهر عنصر اليد بدرجة كبيرة في الأشكال الفنية التي يبلغ عمرها 10000 عام تقريبا، والموجودة في كهف «كويفا دي لاس مانوس» أي «كهف الأيدي» - وهو اسم على مسمى - الذي يوجد في منطقة بتاجونيا بالأرجنتين. ويضم هذا الكهف عشرات الصور الملونة للأيدي، وهي تظهر في الشكل
2-3 .
9
شكل 2-3: رسومات الأيدي المطبوعة في كهف كويفا دي لاس مانوس، بالأرجنتين. ويكيميديا كومونز (
CC BY-SA 3.0 ).
لقد أدى تصوير الأيدي والأصابع دورا بارزا يتضح في جميع قارات العالم، في تطور الفن والرموز ثنائية الأبعاد. وبناء على هذا التوزيع العالمي لرسومات الأيدي، فمن المحتمل أن يكون البشر قد مارسوا رسم الأيدي قبل مغادرة أفريقيا. ويحمل هذا التفسير لتصوير الأيدي قدرا لا بأس به من التخمين، وربما يكون قد حدث لظروف فحسب. بالرغم من ذلك، ففي بعض الحالات على الأقل، يوضح التحليل التفصيلي وجود وظيفة عددية لرسومات الأيدي المطبوعة. ونظرا لأهمية الأيدي في التمثيل اللغوي للأعداد، الذي سنناقشه بالتفصيل في الفصل الثالث، ونظرا إلى الوظيفة العددية الواضحة لبعض الأدوات القديمة الأخرى، كعظمة إيشانجو ، فليس من المستبعد أن تكون لبعض هذه التمثيلات الفنية للأيدي وظائف أساسية تتعلق بالكميات؛ فرسومات الأيدي الموجودة في كهفي كوسكار وجارجاس تعبر عن العد بصفة خاصة. وحتى إذا نحينا هذه الافتراضات المنطقية جانبا، فسوف ندرك على الأقل أن رسومات الكهوف تمتلئ بالأدلة التي توضح تركيز البشر على أيديهم؛ فنحن قوم مشغولون بأيدينا. ومثلما سنرى في مناقشتنا عن الإدراك لدى الأطفال في الفصل السادس، فإن تطور التفكير العددي لدى الأطفال يرتبط ارتباطا وثيقا بهذا التركيز على اليد؛ فحتى ونحن لا نزال في الرحم، نبدأ بالانتباه إلى أيدينا. وعادة ما تتضمن محاولاتنا الأولى لتمثيل الكميات استخدام الأصابع، وكذلك فإن العد على الأصابع هو ممارسة منتشرة في جميع ثقافات العالم.
أيا كان ما يشير إليه كثرة ظهور الأيدي في رسومات الكهوف، بشأن تاريخ الأعداد، فالواضح أن العديد من إبداعات مختلف فناني العصر الحجري القديم، التي انتشرت في مناطق جغرافية مختلفة، وعلى مدار عشرات آلاف الأعوام، تصور الكميات. فللنقوش والرسومات القديمة تفسير عددي في معظم الحالات، وقد أدى تمثيل الكميات بالعصي دورا متكررا في عرض أفكار الإنسان على عظام الحيوانات والخشب والأرض وجدران الكهوف.
لم يؤدي تمثيل الكميات مثل هذا الدور البارز في مثل هذه الأعمال الإبداعية القديمة؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال ذات شقين على الأقل؛ أولهما هو سهولة تمثيل الكميات في صورة ثنائية البعد، مقارنة بغير ذلك من جوانب الخبرة البشرية كالوقت (الذي يبدو أنه كان يمثل بطريقة غير مباشرة في أعمال العصر الحجري القديم من خلال علامات العصي التي تمثل الدورات السماوية)، أو الانفعالات أو بعض المواقع الفعلية المحددة كذلك، والتي تستلزم درجة أكبر من التعقيد الفني؛ كي يتم التعبير عنها بدقة من خلال الرسم. وعلى العكس من ذلك، فالخطوط البسيطة وغيرها من العلامات يمكنها تمثيل الوحدات أو الكميات بطريقة سهلة ومباشرة، غير أن ذلك يثير التساؤل عن السبب في أن علامات العصي تعبر عن غيرها من الأشياء بسهولة شديدة وبطريقة مجردة، دون أن تصورها فعليا. وربما تكمن إجابة هذا السؤال في أيدينا، وإن كان ذلك بصورة جزئية على الأقل، وهي تتمثل في التشابه بين العلامات الخطية البسيطة وأصابعنا التي تشبه الخطوط. يمكننا أن نقول بطريقة ما: إن الأصابع هي خطوط تشريحية ثلاثية الأبعاد؛ فليس من المفاجئ إذن أن نجد الأفراد في العديد من الثقافات حول العالم، وليس الأفراد في جميع الثقافات بالتأكيد، قد استخدموا الخطوط لتمثيل الكميات، مثلما يستخدمون الأصابع للغرض نفسه. ومعنى هذا أن الانتقال من أنظمة العد على الأصابع إلى أنظمة العد بعلامات العصي، يستلزم قفزة إدراكية أبسط مما يستلزمه اختراع أنواع أخرى محتملة للتمثيلات البصرية للأفكار. فمن الناحية العملية، تستند أنظمة العد بالعصي إلى طريقة مباشرة لتمثيل الأفكار على مساحة ثنائية البعد، وذلك مقارنة بالعناصر والأفكار التي تزيد صعوبة تمثيلها بأسلوب فني، وما من مدخل تشريحي يسهم في تمثيلها تمثيلا بسيطا.
Unknown page