Abu Hanifa Wa QIyam Insaniyya
أبو حنيفة والقيم الإنسانية في مذهبه
Genres
29
ولنا أن نضيف إلى هذه المسائل أخرى يتضح فيها شدة حرص أبي حنيفة على الأخذ بالحديث متى صح عنده ، ومن هذه مسألة اختلف فيها في الرأي مع معاصريه: ابن أبي ليلى وابن شبرمة، وكان مستند كل من الثلاثة حديث مفرد اتصل به ولم يتصل به في المسألة سواه، وقد روى هذه المسألة وملابساتها ... ابن السيد البطليوسي المتوفى عام 521ه، فنكتفي بالإشارة إليها:
30
وهي أن رجلا سأل كلا من الثلاثة هذا السؤال: ما تقول في رجل باع بيعا وشرط (أي فيه) شرطا؟ وكانت إجابة أبي حنيفة: أن البيع باطل والشرط باطل، وإجابة ابن شبرمة أن كليهما جائز، وإجابة ابن أبي ليلى أن البيع جائز والشرط باطل. وكان من السائل أن عجب من هذا الاختلاف، وقال: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة! وحين وقف كل من الثلاثة على رأي كل من صاحبيه، لم يجد لأحد منهما مستندا لرأيه إلا حديثا عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
يتمسك به إذ لم يعرف حديثا آخر مما اتصل بمعاصريه الاثنين.
وعلينا بعد هذه الناحية وتلك، لتقدير موقف أبي حنيفة من الحديث والآثار والرأي، أن نفطن لأمر فطن له المتقدمون، ويجب أن يضعه نصب عينيه كل من يتصدى للفقه وتاريخه وتقدير رجاله.
وهذا الأمر، هو أن من الحق أن معين الفقه الأول هو كتاب الله وسنة رسوله؛ ولكن هذه المواد الغزيرة لا يحسن استنباط الأحكام الفقهية منها إلا العارف بعلوم القرآن وعلوم الحديث؛ وذلك ليكون على بينة حين يستند إلى هذه الآية أو هذا الحديث، أو حين يتجاوز تلك الآية أو ذلك الحديث. وبهذا يكون الفقيه مثله مثل الطبيب الذي يجد أمامه كثيرا من العقاقير، فيفيد مما ينبغي الإفادة منها عن علم وبينة.
ولعل هذا الذي نقول هو ما جعل يزيد بن هارون، وقد جاءه مستفت، فسأله عن مسألة، وعنده يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وآخرون، فقال له: اذهب إلى أهل العلم، فقال له ابن المديني: أليس أهل العلم والحديث عندك! فقال: أهل العلم أصحاب أبي حنيفة، وأنتم صيادلة.
31
Unknown page