رغما من هذه الصيحة فإن عقلي انتصر على اعتقاداتي التي كسبت من التربية والوسط، وراح يفكر حرا مطلقا ضاحكا من الأشياء التي تعوقه ضحكة جمعت ما بين الإغضاء عنها وعدم العناية بها ومرارة الأسف عليها والأسى من أجل ما فيها من فساد، واستمر في طريقه غير هياب ولا وجل.
وفي الوقت عينه استلفته إلى مسألة كان فكر فيها قديما - مسألة الزواج والعائلة - ولم يقف لها على حل أن غطى عليه إحساسي المتأثر يومئذ ضد ظلامات الجمعية. فبدأ اليوم يريد حلها بعيدا عما يهيجه أو يفسد عليه عمله.
والواقع أن هاته المسألة شغلتني طويلا أي من أيام جاءني الشباب وبدأت أفكر فيمن أحب. وكان من أشد ما ساعد هذا التفكير الوسط الذي عشت فيه، والذي يرى كل صلة بين الرجل والمرأة فيما عدا الزواج أو ما ينتج الزواج صلة خسيسة سافلة. لتكن أيا ما تكون! لتكن حبا طاهرا أو مجرد صداقة أو إعجابا، فهي مادامت خارجة عن دائرة الزواج وما يستتبعه مقرونة بفكرة سيئة من الناس.
ساعدني ذلك الوسط لأن فساده ظاهر، من السهل اكتشافه خصوصا إذا كان الناظر فيه مثلي يومئذ من جماعة الذين يحتقرون الصلات التناسلية بين الرجل والمرأة، ويعدون كل ما خرج عن سرور القلب ولذة الروح من حب طاهر أو قبلات متبادلة، تدل علي عظيم صلة ما بين شخصين تدنيا إلى الحيوانية. وإجراما ضد الأبرياء الذين ننزلهم من أجل قضاء شهواتنا من أوج سعادتهم وسرورهم. فقلت حينذاك: إنما يجري الناس وراء الزواج لقضاء مطامعهم الشهوانية الصرفة.
أما هذه المرة الأخيرة فكان تفكيري غير هذا حيث أخرجته من أن يكون نظريا صرفا ليطابق العالم الخارجي ويسير فيه.
الكون عجلة تدور لا ندري أين أولها. وكل نقطة في المحيط ليست إلا جزءا تكميليا في هذه العجلة. كذلك ليس الجيل الحاضر إلا تكميليا في محيط الكون الأزلي الخالد لا نعرف متى ابتدأ ولا نتصور كيف ينتهي. من أجل الوصول إلى هذا الخلود ركبت في طبيعة الإنسان، كما ركبت في طبيعة كل حيوان آخر، بل في أصل كل موجود، عملية التوالد. ودفعته لها القدرة القاهرة السائر على نظامها كوننا. من أجل هذا رتبها الناس على الشكل الذي يحفظون به مصلحتهم الشخصية، كما أنهم يقدمون به للطبيعة غرضها الأول من تخليد النوع. وأحسب العائلة كانت في الأيام القديمة أكثر قياما بواجبها نحو الفرد ونحو المجموع مما هي اليوم. إذ أن العبودية السائدة يومئذ كانت تسمح للشخص العظيم ذي الجاه، والذي كان بطبيعة تلك الأيام من الأشداء في الحرب والقوة البدنية، وبالتالي من القديرين على إخراج أفراد أقوياء للجمعية، أن يشتري من الموالي من تعجبه. وإذا كان هذا الشكل من التشريع لا يساعد على نماء الحب المتين المتبادل بين رجل وامرأة فإنه كان يسد حاجة الأغلبية ذات الحب المتنقل. ولولا ما بهذه الطريقة من الخسف بحق المرأة لقلت إنها أقرب الطرق للطبيعة وللحق في آن واحد. أما اليوم - مع ما يدعي الناس من الإصلاح - فليست الحالة أقل بلاء إن لم تكن أشد ضررا، شاب يزوج من فتاة لا يعرفها ولا تعرفه ليعيشا معا طول الحياة.
ولما وصلت بتفكيري إلى هنا انحلت أمامي المسألة الأولى، مسألة حبي لابنة عمي. أنا مسوق بفطرتي للحب من أجل أن أسعد نفسي إن كان في الحياة سعادة، ولأن أخلد النوع بما أتركه من الخلف، كما أن الطبيعة تعمل جهدها لتجعلني أقع على من تستطيع بإجتماعها بي أن تكون معي أم أحسن أولاد تقدم للجمعية. وكل ركن من هذه الأركان قائم بنفسه مستقل بذاته. وأنا أميل دائما لمن تجتمع فيها شروط أكثر من غيرها، فإذا لم أحصل على من جمعت ثلاثة هذه الأركان لجأت إلى من كان عندها الأولان. ولذا ترى الشخص أول ما يطلب من الفتاة أن تكون مقبولة الطعم عنده، ثم أن تكون ولودا وذات نتاج حسن. فإن لم يكن هناك موضع للاختيار وقعت النفس على أول من تجد من الأشخاص الذين يقفون معها على سلم واحد من طبقات الجمعية. وذلك لأن ما أصبح بين الطبقات من الفروق صار فظيعا لدرجة أن يعد الكثيرون من دونهم من جنس أحط، ومن فوقهم من جنس أرقى. هذه كانت حالتي في اختيار ابنة عمي.
صحيح أنني إلى يوم اخترتها لم أكن خالطت من دوني من الطبقات، ولا كلفت نفسي مخالطة من يحسبون أعلى مني. ولكني أقر اليوم، وأنا خجل من إقراري، بأني - بالرغم من كل ما وجدته في الوسط الذي أنا منه من العيوب الكثيرة - لا أزال أنظر للطبقات التي ظلمنا نظرة تعاظم فارغ. وإذا كنت قد رأيت من بين الفلاحين من أعجبني شكله وحديثه وخفة نفسه، ومن الفلاحات من هن أفضل بلا شك جمالا وعقلا وأدبا من أكثر فتيات الطبقات الأخرى، فإني اليوم أحس بأن بين الطبقات المختلفة فواصل صعبة الاجتياز (اللهم إلا إذا أردنا أن نتخذ من هذه الطبقات محلا للهونا. هناك نلتصق جسما ونكون وإياهم على مستوى واحد فيما نعمل، ثم نحن مع هذا وفي هذه اللحظة نحتقرهم دائما).
وقع اختياري على ابنة عمي، لأنها من بين من أعرف أصلح من تستطيع أن تجلب لي السعادة، وأن تقوم معي بوفاء غرض الطبيعة. ثم عرفت تلك الفلاحة التي أعجبتني، وحملت نفسي من أجلها عناء، فنازعت الأولى مركزها، وأصبحت هي أقرب للذكر منها إلا إذا ألجأني الوسط إلى أن أرجع إلى فكرة الزواج.
هنا بدأت أفهم شيئا من ماهية الصلة التي كانت تربطني بصاحبتي الفلاحة، أنا لم أكن مسوقا نحوها بدافع طلب الاقتران بها والمعيشة معها ولكن بدوافع أخرى: أولها الإعجاب بها وذلك هو الذي كان يسوقني نحوها ولمجاراتها، وحب التمتع بالنظر إليها أطول زمن ممكن، فكنت في ذلك أعدها تمثالا حيا محكم الصنع. وإذا كنت قد أعجبت بصورة لأنها جميلة، وحرصت على أن أراها أكثر ما يمكن فلا بدع إذا بلغ بي الإعجاب بفتاة أن يدفعني نحوها كل هذا الطريق الذي كنت أقطع بين القرية والمزرعة.
অজানা পৃষ্ঠা