أحسست بعد هذه المقابلة الأخيرة مع فتاتي وجوابها لي أنها متزوجة، بشيء من الألم يعمل في قلبي وينوء به صدري. ألم شديد لم أقدر على تكييفه ولا على فهم سببه. وأوقعني هذا الألم في حزن أسود قلب على الخير شرا، والسعادة بؤسا، والأمل يأسا. ولو أني وجدت في تلك اللحظة أحضانا مفتوحة ألجأ إليها وأحتمي بها لفعلت. لكني لم أجد عزاء إلا في نفسي، وأنا أكتم ما يداخلني من الهم عن كل الناس مهما كلفني هذا من مضاعفة ألمي وزيادة شقائي. غير أن الساعات كانت تزيد همي وتجعلني أشد إحساسا به من لحظة للحظة. فلما نفد صبرى وحلك ما أمامي ولم يبق سبيل لرؤية شعاع من نور الأمل يخرق هذه الظلمات بدأت أيأس من الحياة.
جاء إلى بلدنا الشيخ مسعود، شيخ الطريق، بعد مقابلتي الفتاة، وأنا أقطع نفسي هما وأسفا، ونصب مجلس ذكره، وجلست أرقب هؤلاء الناس الكثيرين اللذين يصيحون في جوف الليل ينادون ربهم تضرعا وخشية. فراق في عيني منظرهم وقلت في سري: لئن كان هذا الرجل يخفف الهموم لأكونن أول تابع له. ولم أتمهل أن قابلته بعد الظهر وكلمته، وأخبرته بمجمل من حالي فأقرأني بعده الكلمات التي يقرؤها كل من يأخذ عليه عهدا، وخرجت من عنده مسرورا. ولكن لم تكد تطوح شمس النهار حتى ضاعف هذا العمل بقية آلامي على وأحياها، لأني أحسست بالجناية التي ارتكبت.. وبعد أيام جئت هنا إلى العاصمة.
من يومها وأنا أفكر في حالي والحوادث التي وقعت لي في حبي، وانتهى تفكيري وحوادث جديدة حصلت بأن أغادر إخوتي وأهلي محملا بالألم لفراقهم وبالشفقة عليهم ساعة لا يجدونني.. من أجل هذا كتبت كلمتي هذه لك يا سيدي الوالد علك تجد فيها عزاء. ولأقوم إلى النهاية بوظيفتي فإني ذاكر حالي الفكرية والحوادث التي جرت في هذه المدة الأخيرة التي انتجت هجرتي إلى حيث لا أعلم.
تركت البلد إلى العاصمة وأنا حامل هموما يعلم الله شدة وقعها، فكنت أجاهد طول النهار لأجد من العمل ما ينسيني كل ما سوى العمل. ولكن ما إن يشتملني الليل حتى يجد الذكر سبيله إلى نفسي، وأرى أمامي عالما كبيرا من دولة الماضي مرسوما كله بعضه مع بعض من غير ترتيب في الزمان. وكان هذا الذاكر نتيجة ما أوقعني فيه الحب من اليأس، وما جائتني به حالي الجديدة من اللوعة. وليقدر أي انسان مقدار ما يخالط نفس شاب من سني حين يجد أنه أسقط في يده في كل ما أراد، سواء في ابنة عمه أو العاملة الفلاحة أو كل ما يسلي القلب ويزيل الغمة، ليقدر كم تكون حال هذا الشاب التعس! وعلى أي شوك تتقلب نفسه؟!.. غير أن آخر الهم المبرح إن لم يقتلنا فهو حري أن يرد إلينا شيئا من صوابنا ويدع لنا بعض الحرية في التفكير، فأعملت ذهني قصد أن اقف على دقائق حبي وإخفاقي فيه.
وأول ما سألت نفسي: لم احببت ابنة عمي؟ إنني عرفتها في صغرها، وكنا معا طول وقتنا، ثم افترقنا للمرة الأخيرة حين قدر عليها أن تلبس السواد. ثم بعد ذلك وفي لحظة لم نكن فيها معا ولا جاءت مناسبة خاصة، إذا بي أحببتها. أذلك لما توحي الذكرى الناعمة، ذكرى الطفولة من رقيق المعنى وعذب الأثر؟ أم أني قدرت لها من الجمال أن تكون بحيث أحبها حبا يجعل خيالها شريكي الدائم؟ أم أن ذلك لما كان يكرر أمامي وأنا صغير من أني سأتزوجها؟!.. لا يمكنني أن أجزم لأي هذه الأسباب أحببتها، وقد يكون لكل منها في ذلك الحب أثر.
ولكن الذي لاحظته أني بعد الشهور الأولى نسيتها كل النسيان، فلم يكن يراجعني حبها إلا عند حدوث حادثة معينة كأن تذكر أمامي، أو أن تأتي أيام الصيف إلى القرية.. وما أظن أن قلبا سريع التأثر والتقلب إلى هذا الحد يكون قد بلغ منه الحب مبلغا عظيما. بل إني أشك الآن كل الشك فيما لو كان لقلبي دخل في هذه المسألة، وأحسب ذلك مجرد خيال كان يجيئني لأني كنت محتاجا إليه.. ولكن.. أليس الحب في ذاته خيالا يجعلنا نتصور امرأة بشكل نعتقده الجمال كله، ونود لو تكون لنا، ونعيش سعيدين معا؟ وذلك كل الذي كنت أتمنى أن أصل إليه من ابنة عمي فلم لا يكون حبا؟ ولكن! لو أنه كان حبا حقيقيا ومتينا فلم انحلت عراه اليوم، وأصبحت لا أحس معه بشيء؟! أم الأمر على غير هذا، وأني كنت مسوقا بدافع من دوافع الطبيعة إلى جهة المرأة التي تستطيع معي أن تخلد النوع وتحسنه؟ وكانت تلك المرأة في تلك الساعة هي ابنة عمي! وإذا كنت قد تغيرت اليوم فلأني لم أعد أصلح للقيام معها بهذه الوظيفة الطبيعية من تخليد النوع وتحسينه؟.
وردت هذه الأفكار إلى نفسي ولم أستطع معها أن أجيب بشيء عن سؤالي: لم احببت ابنة عمي؟ فانتقلت أريد أن أعلم اى شيء كان ذلك الإحساس الذي شعرت به نحو الفلاحة الجميلة التي أخذت بناظري، وملكت جوارحي، فجعلتني أهاجر إلى حيث تقيم، لأمتع النفس بمشاهدتها والحديث معها، ومصاحبتها ساعة رجوعها إلى الدار. ليت شعري! هل كان ذلك هو الآخر حبا مني لها ؟ أو أنها صيحة الجيل المقبل في أحشاء جيلنا الحاضر يريد أن يخرج إلى الوجود؟ لو كان حبا لما نسيتها ونسيت المزارع التي هي فيها لمجرد حضور ابنة عمي إلى البلد. وإن كان الجيل المقبل ودافع الطبيعة لتخليد النوع هو الذي دفعني نحوها، فإني لم أشعر يوما بالحاجة ولا بالرغبة في أن تكون لي معها علائق تناسلية مطلقا كلا! بل أنا لا أشعر به اليوم.. وإنما كان غرضي أن أحادثها أو أنفرد بها أو أقبلها، وأن أجد من جانبها ما يقابل العطف الذي أحس به عندي لها.. إذن ماذا؟!
عرتني هنا كذلك حيرة كالأولى، ولم أستطع أن أفهم ما كان في نفسي لواحدة من هاتين الفتاتين.. وبعد زمن بقيته مستسلما لآلامي جائتني فكرة ارتعدت لها، فشعرت أولا كأني أستجمع قواي لأمر ذي بال وأهيء نفسي لعمل خطير.. ولا أرى بدا من أن أذكر هنا مقدار مراجعتي لنفسي حين شعرت منها بالتصميم على الإقدام مراجعة تبلغ أقصى درجات التخوف والحذر.. وبعد أن ثبت منها ومن يقينها بما ستقول تركت لها العنان لتذهب من جديد في تفكيرها وأحلامها.
نعم كانت كل غايتي أن أحادث تلك العاملة وأكون معها وحيدين، أو أن أقبلها. ولكن لم كل هذا؟ وأية نتيجة بعده كنت أبغي؟ أليس أن أبلغ أكثر من هذا فأقع في أحبولة الطبيعة، وأصل بخداع نفسي ومراوغتها إلى تخليد النوع وتحسينه؟! نعم، هو هذا. إنها فتاة بديعة الخلق والتكوين، قوية الجسم يفوح منها شذا الشباب؛ فالابن الذي ينتج من بيننا لا بد أن يجمع هذه الصفات ويضيف إليها غيرها ويرقى بالجمعية الإنسانية درجة في سلم التقدم.
هنا جاءتني الرعشة وشعرت كأن كل وجودي يصرخ في وجه عقلي يريد أن يقف عند حدوده: كفى من هذه الفلسفة التي يقذفنا بها مفكرو الإفرنج والألمان، ولنبق عند ما خلفه لنا آباؤنا لنسير فيه بالخطى المتمهلة التي نضمن معها ثباته. هل تريد أن أخرق سياج القانون والعادة وأستمع لهوى نفسي وأتبع في الحياة العملية ما توحي به النظريات، والأولى مرتبة من قبل متبعة والثانية لا تزال في حيز الفكر؟!
অজানা পৃষ্ঠা