3. دائرة الحقوق الفردية: وقد سبق تعريفها. فدائرة الحقوق العامة جعلت صلاحية الاجتهاد في أمورها. ولأن الدولة قادرة على الاجتهاد واختيار الأحكام الملائمة، فلم يجد أهل العلم مشكلة في هذا الأمر. ودائرة الحلقات العلمية جعل الاجتهاد فيها مفتوحا لكل من كانت له الملكة. فوجدنا مجموعة كبيرة من العلماء عبر العصور ممن كانت له آراء جريئة خالفت السائد والسابق وبمنهجية علمية عميقة وأصيلة. وقد كانت هذه الحلقات من خلال مؤلفاتها وآراء علمائها بمثابة الروافد التي تغذي حاجة الدولة بالآراء الأصيلة التي تنتقد ما هو سائد، وتقترح بدائل عنه. ولهذا السبب لم يمكن القول: إن للزيدية مذهبا فقهيا محددا، بل كان فيه مدارس فقهية متعددة، بتعدد المجتهدين اجتهادا مطلقا. ونجد كلمة "مذهب" في كثير من المصادر الفقهية الزيدية بعد القرن الثاني عشر، فقد يقال: المذهب هو كذا وكذا، وليس المقصود بتلك الكلمة أن مذهب الزيدية الفقهي هو كذلك، فكما سبق لا يوجد مذهب فقهي للزيدية. وتشير الكلمة إلى اصطلاح تبلور مع القاضي زيد بن علي الأكوع، ثم تابعه القاضي حسن بن أحمد الشبيبي (1169ه)، في تعليقاتهما على كتاب شرح الأزهار، فقد وضعا اصطلاح (مذهب) عند الاختيارات الفقهية التي رأيا وفق اجتهادهما أنها أكثر ملائمة للمنهج الفقهي لبعض أعلام أهل البيت الذين هم: الإمام القاسم بن إبراهيم، والإمام محمد بن القاسم بن إبراهيم، والإمام الهادي يحيى بن الحسين، والإمام محمد بن الإمام الهادي، والإمام أحمد ابن الإمام الهادي. وقد اعتبر رأيهم في تحديد ما ال "مذهب"؟ هو المعتمد بين الزيدية على مستوى الدولة، وعلى مستوى الحقوق الفردية. وأما دائرة الحقوق الفردية، فقد اعتبر فيها أن الأصل هو مجموعة من الآراء التي تمثل في الأغلب رأي الإمام الهادي يحيى بن الحسين في مرحلة أو رأي "المذهب" في مرحلة أخرى. فكانت تلك الآراء هي المعتمدة عند تعليم الناس أمور دينهم. ولكن في الوقت نفسه احتفظ المجتهدون بحق الافتاء بخلاف تلك الآراء في القضايا الفردية، أو في القضايا العامة التي لا يريد أصحابها أن يوصلوها إلى الدولة. كما احتفظ المقلدون بحق أن يقلدوا علماء في آرائهم التي تخالف الآراء المعتمدة. وقد شاع رأي بين الزيدية يسمح للمقلد أن يأخذ الحكم الشرعي من غير الفقهاء من الزيدية. وذلك على أساس ((أن الاجتهاد لا مذهب له)). ولا يطلب من المجتهد المستفتى في تلك الحالة إلا أمرا واحدا: وهو أن لا يكون الحكم مرتكزا في ثبوته على قاعدة أصولية تخالف قاعدة المستفتي. وهذا المطلب يكاد يكون نظريا لندرة نحو تلك الأحكام. لعل أول من صرح بهذا الرأي الإمام أحمد بن يحيى بن المرتضى ت840ه. كما سمحوا للمقلد أن يقلد أكثر من مجتهد في وقت واحد في أوقات مختلفة وذلك على أساس أن الأدلة الفقهية ظنية الدلالة، وأن أي اجتهاد من مجتهد معتبر غالبا يكون حكمه ضمن دلالات الأدلة الظنية. بهذه الطرق استطاع الزيدية أن يحافظوا على كل من: ملكة الاجتهاد في حلقاتهم العلمية وما تثمره من تطوير في الفقه، وعلى استقرار الأحكام على مستوى الدولة وطرق التعليم، وعلى حق الاجتهاد والتنوع في القضايا الفردية. ولأن وجود الاجتهاد سيؤدي إلى تعدد في الآراء في مسائل بعينها. إزاء هذا يرى كثير من الزيدية أن كل مجتهد مصيب، فلا يصح وفق هذا أن يتنازع الناس لاختلاف الاجتهادات التي يتبعونها في القضايا الفردية. وأما القضايا العامة، فمع أن كل مجتهد فيها مصيب أيضا، إلا أنه من حق الدولة أن تفرض على الناس اختيارها في القضايا لكي تحقق الاستقرار اللازم. ومعنى كل مجتهد مصيب أحد أمرين: أولها: إن الاجتهادات لا تتناقض: فلا يعني القول بصواب اجتهاد ما في مسألة محددة خطأ من خالفها باجتهاده. لأن الاجتهاد إنما يكون في فهم وتفسير النصوص العملية والتي تدعو إلى عمل شيء أو نهي عنه. والنصوص العملية لا توصف بالصدق أو الكذب فجملة: اذهب إلى البيت. لا توصف بأنها صادقة أو كاذبة، لأنها جملة إنشائية، والوصف بالصدق والكذب يتعلق بالجمل الخبرية نحو: الشمس مشرقة. والنصوص الإنشائية يمكن أن يفهم منها أكثر من معنى، بغير أن ينفي أحدها الآخر. حيث إن النفي يستلزم أن تكون ذات معيار صدق أو كذب، وهو أمر غير متحقق فيها. فلو فهم أحد من النص معنى غير الذي فهمه آخر، لأمكن تطبيق المعنيين من دون مشكلة لأن الأعمال لا تتناقض، فيمكن أن لكل من العملين أن يصدرا عن كلا الطرفين بغير أن يتناقضا. وهذا بخلاف الاختلاف في تفسير نص خبري، حيث إن كل معنى ينفي المعنى الآخر. ثانيها: البعض يرى أن لله تعالى حكما محددا واحدا في كل نص إنشائي: وبالتالي فإنه لا يصح إلا معنى واحد من المعاني المتعددة؛ ولكن المخطئ معذور. والبعض يرى أن المطلوب إعمال النص في الحياة، وبالتالي فإن التعدد في التفسير ممكن، وكل مجتهد مصيب من حيث إنه قد قام بما طلبه الله منه. ملاحظة: عندما يشار إلى سمة الاجتهاد بين الزيدية، فإن بعض الكتاب المعاصرين يحاولون أن يحصروا وجود هذه السمة بين عدد محدود من أعلام الزيدية وهم محمد بن إبراهيم الوزير (840ه)، والحسن الجلال (1084ه)، وصالح المقبلي(1108ه)، ومحمد بن إسماعيل الأمير( 1182ه)، ومحمد بن علي الشوكاني (1250ه). وكأنه لم يكن قبلهم من كان ذا استقلال في التفكير، أو نزعة للاجتهاد المطلق. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هؤلاء يختلفون فيما بينهم اختلافا بينا، إلا أنهم اشتركوا في قضيتين: أ. الهجوم اللاذع على رجال الزيدية في عصرهم، واتهامهم بالجمود والتقليد. ب. عدم قدرتهم على التمييز بين الدوائر المختلفة لممارسة الاجتهاد والتقليد بحيث لا توجد فوضى علمية، ولا يكثر مدعي العلم والمعرفة. ثم بعد ذلك نجد أنهم اختلفوا بعض الشيء فنجد ما تميز به:
পৃষ্ঠা ৭৭