الزيدية ..قراءة في المشروع وبحث في المكونات
تأليف
عبد الله بن محمد حميد الدين
1420ه
مؤسسة الإمام زيد بن علي (ع) الثقافية
পৃষ্ঠা ১
كلمة شكر
أقدم خالص الشكر والامتنان لكل من أسهم في خروج هذا البحث بشكله الحالي وأخص بالشكر سيدي الوالد العلامة بدر الدين الحوثي، وسيدي الوالد العلامة عبد الرحمن شايم.. وغيرهم من الأفاضل. وأتحمل وحدي مسؤولية الآراء الواردة فيه
تصدير
পৃষ্ঠা ১
هناك حاجة ماسة لتفعيل دور الفكر في حياة الناس لدى النخبة التي يفترض أن تكون من أولويات مهامها رسم صورة المستقبل، وتقديم الرؤى والدراسات، وتحديد مواضع القصور والخلل، والانتقال بالأمة من واقع مستسلم وساحة لتجارب الآخرين إلى صاحبة فعل تصنع الحدث في ظل استقلالية كاملة. وهناك مشكلة أو التباس حول موضوع تقديم الرؤى والأفكار لدى الوسط الفاعل في المجتمع بمختلف توجهاته، فالبعض لا يزال يصر على تقديم نفسه من خلال شعارات عامة، ومجموعة من الخطوات والإجراءات، أو من خلال مجموعة من المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي هي أقرب للشعارات منها للمفاهيم، مستغلا عمق التدين لدى الناس ليقدم تلك الشعارات تحت مظلة عاطفية واسعة، هذا في حين أن الوضع الفكري والسياسي المتخلف الذي كان نتيجة لقدوم النموذج الغربي الذي نزل في كل الأماكن وتواجد على كل الساحات، وفي غياب النموذج الإسلامي الوطني كتجربة تراكمية في الواقع ورؤية فكرية قد أدى إلى ضياع الهوية واختفاء الشخصية الوطنية وتخبط في المشروع الثقافي جعل الخروج بمشروع سياسي تحتضنه دولة شبه أمر مستحيل. وللأسف فإن هذا الوضع لم يدفع بتلك النخب الإسلامية والسياسية إلى مراجعة التأريخ اليمني بكل تجاربه المتعددة والمتنوعة، واكتفت بالنظرة إليه بسذاجة سياسية مبطنة بقطيعة غير مبررة، وفي الوقت الذي ينظر العالم فيه إلى تأريخنا بجدية كبيرة، ويحاول التدقيق فيه لكي يعرف من خلاله طبيعة المجتمع اليمني ومقوماته وخصائصه، حتى يمكنه التعامل معه الدخول إليه وتفسير تصرفاته وتوجهاته في هذه اللحظة التي يتعامل الآخرون معنا من خلال ماضينا وموروثنا الفكري والسياسي نجد أننا نصنع بيننا وبينه قطيعة، ونضع جدارا أملسا بيننا وبين فهم أنفسنا، وأيضا بيننا وبين الاستفادة من الثروة الفكرية لدينا. والدراسة القيمة التي يضعها (مركز الرائد للدراسات والبحوث) بين أيديكم هي محاولة جادة في عرض مكثف للمشروع الفكري والسياسي للزيدية، إضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بهذه الدراسة، مثل: سبب التسمية ب(الزيدية) والعلاقة بكل من الإمام زيد، وأهل البيت، والمعتزلة، والفرق التي نسبت إلى الزيدية، أيضا فيه لمحة عن كل من الزيدية المعاصرة وتأريخ المرحلة التأسيسية لها، مع ذكر لأهم مصادر هذا الفكر، إضافة إلى مجموعة أخرى من القضايا، وقد شمل البحث مجموعة من الإشارات لقضايا مهمة مثل: علاقة الثقافة والفكر وتأثيرهما على الواقع الاجتماعي والسياسي، الطائفة والمدرسة الفكرية، سلبية المذهبية المعاصرة، الموازنة بين ضرورة الاجتهاد لتجديد المعرفة وبين أهمية التقليد لاستقرار التشريع، وغيرها. بعض هذه القضايا توسع فيها قليلا، والأخرى اكتفى بالإشارة إليها. ولما كان الفكر الزيدي جزءا من مكونات المجتمع اليمني تأريخا وحاضرا، حيث أنه حكم اليمن أكثر من ألف عام، فإن ممارسة القطيعة معه لن تعمل إلا على تعزيز مشكلة فقدان الهوية التي نعاني منها، وبذلك فإن فهم هذا الفكر على أي صفة كان، والتعمق في تجربته التأريخية مهما كان شكلها، وطرح كل ما يتعلق بهذين الأمرين للحوار والنقاش والأخذ والرد والإضافة والحذف والنقد والتقويم من الأهمية بمكان في عملية تشكيل هويتنا الوطنية، أما والحال أنه كان فكرا إسلاميا منطلقا من مكانة العقل العالية في فهم الوجود، وإدراك المصالح والمفاسد، وفهم الشريعة وتنزيلها إلى الواقع، وممارسا قدرا كبيرا من القيم السياسية التي ننشدها جميعا، ونتطلع إلى تفعيلها في واقعنا وطنا وأمة، أقول أما والحال ذلك فإنه يمكن حينها أن يسهم في تكوين مشروع نهضة للوطن، بل وللأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي فإن القطيعة معه ليست فقط إرباكا في الهوية، وإنما تفوت على اليمن فرصة الاستفادة الذاتية مما لديه، كما تفوت عليه فرصة أن يكون له دور يتجاوز حدودها الوطنية والإقليمية.
পৃষ্ঠা ৩
وقد تبنى مركز الرائد هذه الدراسة لأنه يرى أنها يمكن أن تحقق هدفين معا، تسهم في طرح القضايا التي لا بد منها في عملية تشكيل الهوية اليمنية المتوازنة، وثانيا لأنها قدمت فكر الزيدية بوصفه مشروعا فكريا وسياسيا في سياق المشكلة الحضارية التي تعاني منها الأمة، مقترحة ذلك المشروع كجزء ضروري من أي حل، وبهذا أبعدت الفكرة عن إطارها الطائفي الضيق، فأخرجتها من كونها قضايا مجردة غرضها الأساسي تكوين هوية، ولا علاقة لها بالواقع اليمي المعاش إلى قضايا غرضها الأساسي تغيير رؤيتنا جميعا زيدية وغير زيدية للحياة، وطريقة تعاملنا معها. وإذا كان يمكن للفكر الزيدي أن يلعب دورا حضاريا على مستوى الأمة، فإن أولى من يستفيد منه هو اليمن الذي رعى هذا الفكر وحافظ عليه عبر أحد عشر قرنا، وإذا كان لليمن أن يكون له دور حضاري فاعل على مستوى العالم فإنه لا غنى له عن استلهام هذا الفكر في مسيرته الحياتية. لقد جاء ولادة هذه الدراسة في اللحظة الزمنية المناسبة. وذلك بعد مضي أكثر من عقد من الزمن على الوحدة اليمنية المباركة، التي حملت في رحمها تباشير التعددية السياسية والحزبية، وجعلت من الديمقراطية توأمها الحي الذي لا يمكن الفصل بينهما إلا بموتهما معا، لقد أصبح من الضروري في هذه المرحلة أن تبحث اليمن عن مشروعها الفكري الذاتي، وأن تؤسس لدروها الحضاري، إن هذين الأمرين لا يتعلقان بفريق معين أو جماعة معينة أو منطقة معينة، بل يعنيان كل مواطن يمني يريد رسم مستقبل حياته وحياة الأجيال من بعده، وكل وطني يريد من اليمن أن يكون منطلقا لنهضة الأمة. وواضع هذه الدراسة شخصية تحمل الهم الإسلامي والهم اليمني، وقد درست العلوم الشرعية والتحقت بالحياة المعاصرة في جوانبها الأكاديمية والسياسية، ويقطع النظر عن النتائج التي توصل إليها، أو المنقولات التي طرحها، وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا، فقد حاول أن يضع الفكر الزيدي في السياق الذي نريده ويبقى علينا، بصفتنا مجتمع حي ذات اهتمامات عالية، أن نتفاعل مع تلك المحاولة، وأن نتناول مضامين البحث ونثريها بالنقاش والحوار وصولا إلى رؤية أعمق وطرح أشمل. والله من وراء القصد. عبد الله هاشم السياني رئيس مركز الرائد22/9/2003م.
পৃষ্ঠা ৪
المقدمة
পৃষ্ঠা ৫
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا محمد، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه يعد لون، وعلى الصحابة الراشدين والتابعين المخلصين. الحديث عن الزيدية قد يكون من حيث إنها طائفة، أو من حيث إنها مدرسة فكرية سياسية. البحث عنها "طائفة" يعني الكلام في تاريخ مجتمع تكون على أساس الانتماء لفكرة. البحث عنها "مدرسة" يعني البحث عن أفكار وحياة جماعة من المفكرين. في الحالتين نحن نعرض أفكارا وننظر في تاريخ أشخاص. عند النظر إلى الزيدية طائفيا، فإن دور الفكرة ينتهي مع تكون هوية اجتماعية سياسية. فيصير زيديا من انتمى إلى تلك الهوية بقطع النظر عن وعيه بالأصول الفكرية لتلك الهوية. وعليه فموضوع البحث سيركز على كل من أثر فيهم. عند البحث عن المدرسة الزيدية فإن الفكرة هي البداية والنهاية. والتاريخ ليس إلا تاريخ رجال قدموا للفكرة بمختلف الطرق. الطوائف الإسلامية موجودة، كما المدارس الفكرية الإسلامية. لعلنا نغمض أعيننا عن أولوية الانتماء الطائفي القائم بيننا، وعن آثاره المقيتة، ولكننا نعلم وجودهما. الطائفية ليس لها إلا أغراض سياسية اجتماعية. تسعى للتميز لكي تكسب مشروعية وجود موقع سياسي أو اجتماعي متناسب مع ذلك التميز. لا مشكلة في وجود جماعات سياسية اجتماعية متميزة في المجتمع المسلم. المشكلة في أن يكون أساس تميز تلك الجماعات الانتماء إلى مدارس فكرية دينية. لا يصح أن يظن مسلم من الطائفة "أ" أن مسلما من الطائفة "ب" يستحق مواقع ومصالح مختلفة، لمجرد اختلاف رأيه، بل المسلمون سواسية في ذلك، والاستحقاق بينهم لا يكون إلا وفق الكفاءات والجهد، والتميز بينهم ينطلق من الاختلاف السياسي الاجتماعي الذي يعم أثره على الكل. أي انتساب فكري لا يصح أن يستتبعه أي تميز سياسي أو اجتماعي، وغرضه الأساس تحديد موقف فكري حيال القضايا الكبرى التي تهم الأمة، وتقديم مشروع سياسي ينفع الأمة بجميع أطيافها وأطرافها. ما يلي بحث مختصر حول المدرسة الفكرية الزيدية. يشير إلى مجموعة من القضايا التي تسهم في إلقاء بعض الضوء على أصولهم الفكرية ورؤيتهم السياسية، إضافة إلى توضيح بعض المسائل التي تطرح حول تاريخهم ورجالاتهم.
لمعرفة هذه الأمور لا بد من الاطلاع على مجموعة من القضايا، أبرزها: 1. المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية. 2. الاجتهاد عند الزيدية. 3. الزيدية والإمام زيد. 4. الزيدية والصحابة. 5. الزيدية والحنفية، والمعتزلة. 6. استعمالات كلمة "زيدية" في المراجع والمصادر. 7. فرق الزيدية. 8. أهل البيت. 9. الإمامة. 10. مصادر الزيدية. 11. الزيدية اليوم ولمحة عن جذورها التاريخية.
পৃষ্ঠা ৬
مسوغات الاهتمام بالمدرسة الفكرية الزيدية
تميزت المدرسة الزيدية بأمرين: مشروع فكري سياسي؛ وتجربة في إسقاط ذلك المشروع على أرض الواقع. مشروعها الفكري السياسي يتضمن رؤية دينية عقلانية يمكن بشيء من التوظيف والتطوير والتجسيد على أرض الواقع أن تشكل أساسا لحركة الأمة نحو نهضتها وعزتها. هذا في مقابل ما ساد بين الأمة من أفكار تشل طاقتها، وتضعف من عمق توجهها نحو ربها، وتعرقل دورها في بناء وتوجيه الحضارة الإنسانية عموما. تجربتها في إسقاط مشروعها تجلى بالحركات السياسية الإصلاحية المتتابعة التي قاموا بها بدءا من ثورة الإمام زيد بن علي"عام 122ه. أيضا تظهر من الدول التي نشأت في كل من المغرب 172ه، وطبرستان 250ه، واليمن 280ه. لتجربتهم أهمية تظهر من:
পৃষ্ঠা ৭
1. أنها تجربة مستندة إلى نظرية: فالتجربة الزيدية كانت في جميع مراحلها منبثقة عن نظرية سياسية إسلامية تنتمي إلى الإسلام في مراحل قوته. فلم تستورد، ولم يؤخذ بها لمواكبة الحضارات الغالبة. أسس النظرية هي: أ. المساواة العادلة بين الناس. ب. الأهمية العليا لإقامة نظام سياسي عادل. ج. وجوب المشاركة السياسية لكل أفراد الأمة؛ د. الدولة لا يجوز لها أن تكون طرفا من أطراف الاتجاهات الاجتماعية. كانت النظرية تسعى لتجسيد نفسها في واقع الأمة؛ فتاريخها يكشف عن تجربة من تجارب الإسلام السياسي بمختلف ظروفه وأوضاعه عبر مئات السنين. إنها دراسة لفكرة تحركت في الواقع وتفاعلت معه. وبهذا تختلف عن دراسة التجارب السياسية الأخرى التي هي دراسات لتاريخ أنظمة حكم تعاقبت عبر مراحل تاريخية مختلفة. إننا اليوم إذ نحاول بلورة نظرية إسلامية سياسية تطبيقها على الواقع بحاجة إلى تجارب تاريخية سابقة. ويكتمل الأمر أهمية حين نجد أصحاب تلك التجربة وروادها من العلم والديانة بمكان.
পৃষ্ঠা ৮
2. أنها تعالج مشكلة "فقدان الأصول التاريخية" التي تواجهها النظريات السياسية الإسلامية الحديثة: أي نظرية سياسية إسلامية معاصرة لا يمكنها أن تستند كلية على الرؤية التقليدية لتيار ما يعرف ب"أهل السنة والجماعة"، والتي سادت في الغالبية العظمى من دول العالم الإسلامي. ذلك لأنها تتضمن عنصرا لا يمكن القبول به وهو "شرعنة الأمر الواقع". فبقطع النظر عن مدى فساد الواقع السياسي، فإن ذلك العنصر يأمر المسلمين بطاعة القائمين بالأمر. ولعل أبرز ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله في هذا المعنى حديث يأمر فيه النبي بطاعة الحاكم ولو كان قلبه قلب شيطان، ولا يستن بالسنة ولا يهتدي بالهدى، ويضرب ظهور رعاياه، ويأخذ أموالهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه(رقم الحديث (1847) عن حذيفة بن اليمان (قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال: نعم، قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال نعم، قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت لك ؟ قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) الحديث. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومعروفة. ولا يمكن أيضا الاستناد تماما إلى الرؤية الشيعية الإمامية التقليدية؛ لأنها منعت من تحقيق مثالها السياسي المنشود؛ لما اشترطت أن يكون القائم به إماما معصوما، في الحين الذي قالت بغيبته. إن تلك الأفكار من أشد ما حال بين المسلمين وبين قيام واقع سياسي عادل. فالنظرية السنية مع كل ما فيها من مثل إلا أنها أعاقت أي إمكانية لتنزيلها لما شرعت للأمر الواقع، واعتبرته مهما كان شكله ممثلا لإرادة الله تعالى ومحرما تغييره من أصله؛ وبذلك كان دورها التاريخي الأبرز إضفاء الشرعية على من تربع سدة الحكم على أي صفة كان. وأما النظرية الإثنا عشرية فقد عملت عكس ذلك؛ حيث سلبت الشرعية عن كل نظام قائم صلح أو فسد، عدل أو جار، فكل ما سوى إمامة المعصوم لا تجوز، ولكنها إذ سلبت الأنظمة كل مشروعية لم تتقدم آنذاك برؤية بديلة يمكن تحقيقها. فلم يكن ممكنا في غالبية الأقطار المسلمة وجود تجربة متوافقة مع المثال المنشود. وكيف ذلك؟ وهناك نظرية تجيز الأمر الواقع، وتأمر بالانصياع له، وأخرى ترى في كل ما هو قائم جورا وضلالة واغتصابا لحق إمام غائب، حتى وإن حكم بالعدل، وأقيم القسط. فكيف والحال هكذا يخلق الحافز الكافي لصنع واقع متوافق مع الحالة المثلى التي ينشدها الجميع؟ ولذلك نجد أن الإسلام في أغلبيته السكانية عاش أكثر زمنه خارج الدولة؛ أي خارج الحياة العامة، واقتصر دوره على التقنين لها دون الأخذ بزمامها. فلم يكن اعتماد الدولة على الفقهاء نابعا من قناعتهم بمرجعية الإسلام بقدر ما كان بسبب غياب مصدر آخر للتقنين. في ظل هذا الغياب التشريعي والتاريخي نجد أن الحاجة إلى إبراز النظرية والتجربة السياسية الإسلامية للزيدية تتجاوز مجرد التاريخ إلى إيجاد امتداد تاريخي عميق لأي توجه يسعى إلى عودة الإسلام إلى الحياة العامة للأمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إلى إبراز أصالة النظرية السياسية المنشودة، وانتمائها إلى الفكر الإسلامي قبل الاصطدام بالحضارات الأخرى التي ألجأتنا إلى إعادة النظر في كل شيء. 3. إن المسار العام لتلك التجربة كان إيجابيا: لقد أنتجت لنا مجموعة كبيرة من نماذج متميزة من الحكام، جمعوا بين العلم والعمل، والتقوى والعدل، وخشية الله والحكمة في الأمر والنهي. هذه الإيجابية تغير من الفكرة الشائعة التي حصرت وجود خلفاء راشدين في ثلاثين سنة من التأريخ الإسلامي، فنجد أنه في كل مرحلة تاريخية وجدت نماذج تحتذى وتقتدى.
পৃষ্ঠা ১০
4. إن التجربة ثرية بالدروس التي يمكن أن نستفيد منها اليوم: تقدم التجربة السياسية دروسا في إنتاج رجال دولة، وفي كيفية تطبيق العدل، وإعمال الشريعة. وتؤكد لنا التجربة حقيقة أنه أي فكرة مهما كملت فإن القائمين عليها بشر، ولا بد أن يعتري تنزيلها ما يعتري البشر من النقص. وضع هذه الحقيقة يؤدي بنا إلى الاهتمام بوضع أنظمة تغطي ذلك النقص، والذي أدى في كثير من الأحوال إلى عدم استمرارية تلك التجربة. إن التجربة السياسية للزيدية جزء من تاريخ الأمة الإسلامية، وليس من تاريخ الزيدية فحسب. بل هي جزء من تاريخ جميع الحركات التي اتفقت معها في أهدافها السياسية، مهما كان دينها أو مذهبها . ومما يحسن ذكره هنا أن كلمة "زيدية" في أول أمرها لم يكن لها دلالة مذهبية أو فكرية بقدر دلالتها السياسية. فقد كانت تشير إلى كل من اتفق مع الإمام زيد بن علي 122ه في دعوته الإصلاحية إلى دفع الظالمين، ونصر المستضعفين، ورعاية المال، والحق العام، والحريات السياسية. فكان من وافقه في تلك يسمى زيديا، وإن اختلف مع الإمام في رؤيته الفكرية أو الفقهية. إن هذا التاريخ هو لتجربة إنسانية إسلامية تمثلت في مرحلة ما ضمن فئة من المسلمين، ويجب أن تخرج من إطارها الديني والمذهبي؛ لتكون ملكا لجميع الأمة والإنسانية؛ فالقيم السياسية الأساسية لا تختص بدين، ولا مذهب، ولا حدود؛ فالأمن والعدل والعلم والرفاه وهي من القيم السياسية الأساسية أمور مطلقة عن كل قيد، فلا يوجد عدل سني، وآخر شيعي، ولا يوجد فقر على الطريقة الإسلامية وآخر على الطريقة الكفرية، ولا يوجد جهل عربي وآخر عجمي، وبالتالي فأي حركة كان شعارها الأبرز تحقيق تلك القيم ملك للناس جميعا باختلاف أفكارهم وأصولهم العرقية أو القومية، وأما الشعارات الفرعية لتلك الحركة، فالغالب أن لا يتفق عليها الناس، وهذا أمر طبيعي، ولا يضر أصل القضية في شيء.
পৃষ্ঠা ১১
قلة الدراسات
مما يؤسف له قلة الدراسات عن هذه المدرسة. وما كان الأمر صدفة، أو عفويا. فمع تقصير الزيدية أنفسهم في إبراز فكرهم، بل وتقصيرهم في إبراز الدور الكبير الذي يمكن لهذا الفكر أن يقوم به في نهضة هذه الأمة، وتوجه كثير منهم إلى توجهات طائفية لا تخدم الأمة؛ ومع صعوبة الوصول إلى مصادر هذا الفكر لكون أغلبه لظروف غير طبيعية ظل حبيس المكتبات الخاصة والعامة بشكل مخطوط، لا يصل إليه إلا القلة من الناس ذوي الهمم العالية، أو ذوي الحظ الجيد. والأدهى من ذلك عدم المعرفة بحجم وطبيعة المادة العلمية الزيدية الموجودة، مما يحير أي باحث يريد أن يخوض غمار هذا الفكر، مع كل ذلك إلا أنه كان هناك تغييب متعمد ومقصود لهذا الفكر. أغلب أسباب التغييب مخاوف لا أساس ولا واقع لها. وللتغييب جذور تاريخية تعود إلى القرن الأول حيث جرت عادة الدولة، ومن ثم كثير ممن تبعها من العلماء على اتخاذ مواقف عدائية من كل ما يمت لأهل البيت " بصلة. فأما الدولة فقد عالجت الأمر من خلال التضييق في المعائش، أو الحبس، أو التنكيل الجسماني وصولا إلى القتل في كثير من الأحيان. وأما علماء الدولة فقد حكموا على كل من يمت بصلة إلى فكر أهل البيت، أو رجالاتهم بالتبديع تارة، والتضليل أو التكفير تارة أخرى.
পৃষ্ঠা ১২
التقارب الإسلامي وطرح مثل هذه القضايا
পৃষ্ঠা ১৩
قد يقال: إن إثارة هذه القضايا تضر بالتقارب بين المسلمين، خصوصا إذا اقترنت بنقد المذاهب الأخرى صراحة. نحن نقدر القلق من استمرار ظاهرة بث الفرقة بين المسلمين، مع ذلك لا نرى في عرض الرؤى المختلفة ما يؤدي إلى ضرر بذاته. إن المسلمين مختلفون؛ وهذه حقيقة لا مناص منها، ولكنها ليست الداهية العظمى ولا المصيبة الكبرى، بل إن مشكلتنا هي في طريقة تعاملنا مع اختلافنا. إننا بين إحدى ثلاثة: داعي فرقة صراحة من خلال التأكيد على الهوة الموجودة بين المسلمين. أو داعي وحدة من خلال المطالبة بفتح حوارات في أصول القضايا المختلف عليها بغرض التوصل إلى وفاق حولها. وبين أولئك يوجد من يدعو إلى التعايش على أحد معنيين: أولهما: تعايش سلبي يعمل على تجاهل القضايا المختلف فيها. أو إنكار وجودها، أو التقليل من أهميتها. ثانيهما: تعايش إيجابي يعمل على تحييد أثر الاختلافات بين المسلمين مع إقرار بأهمية المسائل المختلف فيها. إن الدعوة إلى الفرقة شر. والدعوة إلى التعايش السلبي خطأ؛ لأنه لا يعمل إلا على إبقاء الجمر تحت الرماد . وأكثر الأعمال للتقارب بين المسلمين منصبة على هذا النوع. هذا واضح في مؤتمرات ومؤلفات مشاريع التقريب بين المذاهب الإسلامية. ما يسوغ موقفهم هو صعوبة العمل على التعايش الإيجابي، وأصعب منه العمل نحو الوحدة. ينبغي الدعوة إلى "الوحدة"، فإن لم تكن ف"التعايش الإيجابي". والوحدة المطلوبة هي في القضايا الكلية التي لا يصح أن نختلف عليها. فالدين قد رسم لنا اتجاها ووضع لنا طريقا عريضا للسير إلى ذاك الاتجاه. وعلينا أن نسير فيها معا، ونتنوع ونتعدد ضمن ذلك الطريق العريض، بمعنى آخر يكون التنوع والتعدد في القضايا التي تتعلق بالحياة وتختلط بها، فيكون تنوعا تبعا للتنوع في الحياة، وأما القضايا التي تتعلق بالاتجاه وهي الإيمان بالله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فلا معنى ولا فائدة في الاختلاف حولها. وإلى حين أن تتحق الوحدة، فلا بد من التعايش الإيجابي. والسبيل إليه يكون بالعمل على كل مما يلي:
1. أن ننفي عن القضايا المختلف فيها أثرها في تصنيف الناس؛ وحصر التصنيف في النص الشرعي. فمهما لم نجد نصا يوجب لاختلافنا أثرا كان الواجب علينا أن نبقى على الأصل. فحتى لو اختلفنا في قضايا أصولية، أو في قضايا الإلهيات الكبرى، فإن ذلك وحده لا ينتج وجوبا شرعيا للحكم بالتكفير أو التضليل. إن كل من آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر فالأصل والضرورة الشرعية تحكم أنه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. إن إخراجه من هذه الدائرة يتطلب دليلا شرعيا قطعيا في ثبوته وقطعيا في دلالته. هذا يعني أنه مهما اعتقدت خطأ وشناعة قول مسلم فإن اعتقادي هذا يجب أن لا ينتج حكما شرعيا بتكفيره، ما لم يكن هناك نص قطعي يوجب على صاحب تلك المقالة بعينها الكفر. هذا مع إبقاء حق التعبير عن الرأي مصونا، فلا يعني هذا الكلام السكوت عما يراه أحد خطأ.
2. التذكير المتواصل بقول الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم}[الممتحنة:8]، وهي تدل على أن الاختلاف في الدين ليس مانعا للبر والإحسان. وقد يؤخذ من الآية أيضا أنه لا يكفي الاختلاف في الدين لإيقاع العداء، وإنما لا بد أن يرافقه الظلم.
3. مواجهة الأساليب غير المتوازنة في التعامل مع المخالف.
4. ضرورة إبراز وتصنيف القضايا المختلف عليها، والتي تميزت بها المذاهب وذلك لتحقيق الأغراض التالية: أ. لكي يكون الاختلاف على قضايا موجودة وليس على قضايا وهمية. وهنا يجب الابتعاد عن المجاملة قدر الإمكان.
পৃষ্ঠা ১৪
ب. لفتح مجال البحث فيها، وذلك بتحديد موطن وطبيعة الاختلاف بشكل دقيق، ثم لتحديد أدلة كل فريق، وذلك سيمكن الجميع من الوصول إلى حقيقة مهمة، وهي أننا نختلف على قضايا ليست من القضايا الواضحة 100
، مما يعني فسح المجال لحسن الظن.
ج. لتحييد أثرها في بث الخلاف. فالاختلاف بمجرده لا مشكلة فيه. المشكلة حين يتحول الاختلاف إلى شقاق. ويجب بحث أسباب التحول، وذلك لتجنبه. لا شك في أن تحقيق ما سبق سيحتاج إلى مراحل وإلى زمن وإلى جهود، ولكن الخطوة الأولى هي وضوح الرؤية، ووضوح الهدف، ووضوح المطلب. على ضوء ما سبق ذكره، فإن هذا التعريف لن يضر التقارب بين المسلمين، بل يمكن أن يفيد في التقارب، وذلك لأنه يعمل على إبراز المختلف عليه تحقيقا للأهداف المذكورة سالفا.
পৃষ্ঠা ১৫
التعدد المذهبي
পৃষ্ঠা ১৬
أود في هذا السياق أن أبين وجهة نظر حول التعدد القائم في المذاهب التشريعية والعقائدية. لا يقلل أحد من أهمية وإيجابية وجود التعدد الفكري الذي يعكس التنوع الموجود بين أفراد المجتمع وظروفهم. يذهب البعض إلى أن تعدد المذاهب الإسلامية الفقهية والعقائدية كما هو اليوم يعكس حالة من تلك التعددية الفكرية الإيجابية بين المسلمين. وعليه فإن بقاء هذه الحالة أمر مرغوب ومحمود، وغاية الطموح والأمل هو التعايش السلمي بين أبناء تلك المذاهب، وتجاوز مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل التي شتت المسلمين قرونا من الزمان مع الإبقاء على وجود المذاهب من حيث اسمها، ومن حيث مضمونها. فيبقى المنهج الفقهي الشافعي بإزاء الحنفي، ويبقى المنهج العقائدي الإثنا عشري بإزاء الأشعري، وتبقى التسميات المتعددة أيضا. إزاء هؤلاء هناك من يرى أن الوضع القائم اليوم يخالف المشروع، لأن الأصل الذي كان عليه السلف هو عدم وجود مدارس فكرية، ذات مناهج متميزة في فهم النصوص، واستنباط الأحكام، وبالتالي فلا بد من تجاوز هذه المذاهب جميعا، والعودة إلى الينابيع الصافية من الكتاب والسنة. ما أذهب إليه يؤيد المذهبية فكرة، ولكنه ينقدها ممارسة. إن التنوع المذهبي كما هو اليوم قد يعكس تعددية فكرية، ولكنه قطعا لا يعكس تعددية فكرية تنطلق من واقع العصر وقضاياه، بقدر ما يعكس التعدد الذي نشأ قبل ما يقرب من 12 قرنا من الزمان. وبهذا الاعتبار، فإنها ليست حالة إيجابية، بقدر ما هي تأطير لتفكير المسلمين بأطر ثابتة وقارة صنعت لتعالج ظروفا غير ظروفنا، وواقعا غير واقعنا. إن التعددية الإيجابية إنما تكون انعكاسا للتنوع الموجود في الفهم ووجهات النظر بين الناس، وأيضا في الظروف التاريخية القائمة. أما ما هو موجود اليوم فتجميد للتنوع الذي وجد في مرحلة زمنية محددة هي مرحلة التأسيس للمذهب، وفي فهم ووجهة نظر محددتين، هي تلك التي للمؤسسين للمذهب، ثم فرض ذلك القالب الزمني على جميع الأزمنة التي تلت، وقسر وجهة النظر تلك على كل العقول الذي أتت. إن استقرار المذاهب على ما هي عليه طوال 12 قرنا بالرغم من التغيرات الجذرية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، وبالرغم من ظهور عباقرة فاق بعضهم مؤسسي المذاهب في قدراتهم العلمية، وفي أدواتهم البحثية، لأمر جدير بالنظر. إن التعدد الفكري له عوامل متعددة، بعضها يعود إلى عوامل فردية تتمثل في تميز عبقرية فكرية وتفرد جاذبية شخصية لدى عالم من العلماء. وأخرى إلى عوامل سياسية حيث يسعى أطراف في صراع سياسي إلى تسويغ مواقفهم المتنوعة بالاستناد إلى رؤى فكرية. وأخرى إلى عوامل اجتماعية حيث يكون اختلافها مدعاة لاختلاف الأوليات التي تبحث، أو الإجابات التي تقدم. وجميع هذه العوامل، وغيرها، تتسم بسمة أساسية وهي أنها متغيرة دوما. وعليه فما كان منها سببا للتنوع في مرحلة ما، قد زال، وتغير بحيث إن المفترض أن تكون قد ظهرت مدارس ومذاهب أخرى تعكس التنوع الجديد القائم. والحالة الطبيعية والصحية هو أن يستمر لذلك التغير في نشوء المذاهب بحيث لا يستقر الحال لأكثر من ثلاثة أجيال أو أربعة على الأكثر. ولا يعني هذا إلغاء الأفكار السابقة، وإنما النظر إليها لا بوصفها أفكارا ننتمي إليها، وإنما بوصفها أفكارا نستفيد منها في تأسيس الحالة الفكرية الملائمة مع تفكيرنا، ومع واقعنا. ومع أن الغاية هي تجاوز المذهبية، إلا أن هذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال التعرف عليها. وذلك لأنه لا يمكن لنا الانطلاق الصحيح إلى واقع جديد إلا من خلال فهم واقعنا الحالي. فالمستقبل يبدأ "الآن"، وما لم يكن لنا حاضر راسخ، وماض عريق، فلا مستقبل لنا. ففهم أطروحات المذاهب الإسلامية القائمة، والاطلاع على تاريخها، لا بد منه حتى في مرحلة مذاهب إسلامية حديثة باعتبار أنها تمثل اجتهادات وتجارب لا بد من الاستفادة منها. فالفكر عندما يتطور فإنه يستند إلى الأفكار التي سبقته، ولكنه يتجاوزها، أو يعيد صياغتها بما يلائم ظروفه التي يعيش بينها. وأي مدرسة فكرية ناشئة ستضع أمامها الاتجاهات السابقة لها، وسوف تختار منها ما يحقق شرطين أساسين:
* أن تكون تلك القضايا مما يعالج الواقع القائم إيجابيا.
* وثانيهما أن تكون أسسها الاستدلالية قوية. على ضوء ما سبق، فإنني أرى أن أي مشروع يعمل على إبقاء الحالة المذهبية كما هي عليه يعمل في اتجاه غير صحيح. سواء كان من حيث التركيز على أحقية مذهب واحد، أم من حيث التشديد على حق الاختلاف في المذاهب.
المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية
يقدم الزيدية رؤية دينية للحياة تنطلق من مسلمات العقل وثوابت القرآن الكريم، تبين موقعنا في هذه الحياة، وترسم لنا المسار العام الذي يجب علينا أن نسير فيه. بحيث تشكل تلك الرؤية منطلقا وإطارا للحركة والتقدم. منطلقا من حيث إنها تدفعنا للحركة، وإطارا من حيث إنها تحدد وجهة تلك الحركة، وتشير إلى مقوماتها. وأي حركة واعية في هذه الحياة، سواء أكانت حركة فردية، أم جماعية، أم حركة حضارة برمتها، لا بد من أن تستند إلى رؤية للحياة، وخلاف ذلك دلالة على تدن في الوعي من جهة، وعلى الارتكاز على النزعات الغرائزية، والانفعالات الظرفية التلقائية في توجيه دفة الحياة من جهة أخرى. مقدمة لاستعراض موجز لتلك الرؤية، سأقوم أولا بإشارة مجملة إلى أثر الثقافة على الواقع الحضاري بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ثم بيان بعض مظاهر ثقافة الشلل التي سادت وحكمت المجتمعات المسلمة عبر قرون من الزمان. قطعا، ليس الغرض مجرد سرد لرؤية فكرية وسياسية لمذهب من المذاهب، بل الطموح هو إلى أن ينظر في ما يمكن أن تقدمه هذه الرؤية لحركة الأمة نحو الأمام، ولذلك كانت هذه المقدمة لازمة.
পৃষ্ঠা ১৮
البدايات
পৃষ্ঠা ১৯
مع وجود ظروف تاريخية مميزة توفرت للأمة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، ومع ما أنعم الله عليها من فكر إلهي باعث ناهض، دافع للإنسان نحو تحقيق ذاته وترقية أحواله،وإيجاد أسس لأمة عظيمة، إلا أن الواقع السياسي الجائر الذي عانت منه الأمة إبان سقوط الخلافة الإسلامية عام 41ه، أخذ يضرب في تلك الأسس، وعلى وجه الخصوص الجانب الفكري منه. فنشأت عبر القرون التي تلت ثقافة تميت وتشل وتخدر. كان للأسطورة والخرافة والتفكير اللاعقلاني والكهنوت مساحة ملحوظة فيها. قدس السلطان، ونبذ التفكير، ومنع الحوار. وابتعدت الأمة عن النظرة الفاحصة، وغاب عن ساحتها العقل المستقل. إضافة إلى سقوط الخلافة وما تلاها من تفاعلات سلبية، حصل أمر آخر شكل منعطفا حادا لمسار الأمة الفكري هو إعلان الوثيقة القادرية في 17محرم من العام 409ه ، فعندها أعلن الخليفة العباسي الملقب بالقادر بالله منشوره الشهير الذي منع به التفكير والاجتهاد وكفر فيه المعتزلة واستباح دماءهم. وقد سارع هذا القرار في تدهور الأوضاع الفكرية والثقافية للأمة الإسلامية، فشاعت الخرافة والأسطورة والدروشة والمهدوية والانتظار والخمول، وتعزز كل ذلك من خلال كتابات متعددة ظهرت عبر القرون. ازداد الأمر سوءا مع نشوء الدولة العثمانية التي أوقفت الانهيار المحتوم بقوتها العسكرية، ولكن بغير أن تعالج أسبابه. ويمكن القول إنها بتأخيرها موعد الانهيار قد أضرت بالأمة من حيث لا تدري. ففي وقت سيطرتها على زمام الأمور سياسيا، أخذ الغرب يتحرك نحو الأمام، ولكن سرعته في البدء كانت تجعل من اللحاق به أمرا يسيرا في فترة قصيرة. ولكن الذي حصل أننا لا تقدمنا، ولا سقطنا سقوط اليقظة، فلما أتى المحتوم من الإنهيار كانت المسافة بيننا وبين الغرب قد اتسعت بشكل فلكي. سادنا اليوم الفقر، والجهل، والظلم، والاستبداد. تخلينا عن الفعل واستسلمنا للانفعال. أصبحنا نقتات على فضلات خصومنا وأعدائنا. فقدنا إضافة لذلك أسباب الحياة، والتأثير على مصيرنا فضلا عن مصير غيرنا. بتنا نستمرئ أخلاق الكذب والنفاق والخيانة والحسد والبغضاء. تخلفت أمتنا عن حركة الإنسانية نحو النمو الاقتصادي، والرفاه المادي، والقيم الاجتماعية، والنظام السياسي العادل والمعبر عن إرادة شعوبها. نصبح ونمسي حالمين بحياة كريمة حرة، بحرية القول والتفكير، بالمساواة أمام القانون، بحق الحماية المشترك، بحق المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتنا وحياة من نعول، بحق امتلاك مستوى معيشة لائق صحيا وغذائيا وملبسا ومسكنا، بحق التعلم. نعم!! لا زلنا نحلم بكل ذلك، إلا قلة قليلة. هذا كله في حين أن المسافة بيننا وبين الغرب في ازدياد متواصل. وفي مواجهتنا معه خلال المائتي سنة التي مضت فإنه لم يزدد إلا قوة، ولم نزدد إلا ضعفا. ويزداد المرء منا حسرة حينما يدرك حجم الدور الذي قمنا به نحن في خدمة من استنزفنا، وفي تدمير بنيتنا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بدون تقليل من شأن وحجم الدور الذي لعبته القوى الغربية فيما آلت إليه أوضاعنا، إلا أننا يجب أن نقدر أن العالم عالم الأقوياء، لا يرحم الضعيف، وأنه لم يحل بنا ما حل لولا حالة الضعف الذاتي التي وصلنا إليها قبل مجيء الاستعمار. إن الاستعمار منذ أن دخل بلادنا، ومن بعد ما خرج منها، وإلى اليوم، ما اعتمد إلا علينا في القضاء على أنفسنا. فمهما كان دور الغير، يجب أن نتجاوز أي سؤال غرضه تخفيف وطأة المسؤولية علينا. لننصرف إلى استكشاف الأسباب الذاتية التي بها صرنا نعيش خارج الزمن، وصار السعيد منا من سعد بشقاء غيره. نحن في مشكلة!! نعرف أننا في مشكلة لأننا نريد أن نكون على حال غير الحال الموجود اليوم. نريد نظاما اجتماعيا يؤمن الناس من الفقر والجهل والخوف والظلم. وحال اليوم بعيد جدا عن هذا النظام المراد. بديهي أنه عند معالجة أي مشكلة فلا بد من تحديد أسبابها. تحديد الأسباب ليس بالأمر الهين. ولكن لو افترضنا أنها حددت بدقة، فإننا سنواجه مشكلة تتمثل في أن معالجتها جميعا بشكل فعال وعملي يتجاوز دوما الموارد المتاحة بنسبة عالية. فلو افترضنا على سبيل التمثيل أن مشكلة ((أ)) تحتاج إلى مائة ساعة تفكير لحلها تماما، فما سنجده فعلا متوفرا لنا من تلك المائة قد لا يتجاوز الخمسين في بعض الحالات. بمعنى أننا سنكون مضطرين لمعالجة بعض أسباب المشكلة دون غيرها، أي الوصول إلى حل جزئي فحسب. يغيب عن بعضنا أن أسباب أي مشكلة، وإن استوت في قدر ما تحتاجه من معالجة، فإنها لا تستوي في قدر تأثيرها على أصل وحل المشكلة. فلو افترضنا أن للمشكلة ((أ)) خمسة أسباب، وافترضنا أن كلا منها يحتاج إلى عشرين ساعة تفكير لمعالجتها، أي أنها تستوي في حاجتها للموارد، فإن ذلك لا يعني أن كل سبب يتحمل خمس المشكلة، بل تتفاوت في ذلك تفاوتا كبيرا. فإذا لم يكن لدينا إلا خمسين ساعة متوفرة، فإنه بعد تحديد الأسباب التي أدت إلى المشكلة، علينا أن نحدد نسبة تحمل كل سبب من تلك الأسباب للمشكلة التي نحن فيها. ظهر بالاستقراء، أن ما يقرب من20
من أسباب أي مشكلة، تتحمل80
من المشكلة نفسها، وأن80
من الأسباب لا تتحمل إلا حلا ل20
من المشكلة. هذه المعادلة تعني أن قلة الموارد ليست عائقا أساسيا أمام حل المشكلة، وإنما العائق الأكبر تحديد السبب الذي يجب أن يعالج. فلو لم نملك إلا 20
من موارد حل مشكلة، فإنه مع حسن التدبير سنستطيع حل 80
من المشكلة نفسها.
পৃষ্ঠা ২১
السبب الثقافي
في تصور كثير اليوم فإن "ثلاثية الهيمنة/الاستبداد المحلي/ التخلف الثقافي" تشكل ال20
من الأسباب التي في يدها 80
من المشاكل. والجزء الأهم من تلك ال20
هي الأسباب الثقافية. يظهر هذا الأمر الأخير بالنظر إلى أيها أكثر تأثيرا على تقييد الإرادة وتعطيل التفكير اللذان هما لب مشاكلنا وعمقها. الثقافة في هذا السياق يقصد بها مجموع الأفكار والانطباعات، والقيم السائدة والتوجهات، والافتراضات الأساسية، في أي مجمتع والتي تحدد أهداف وآمال وطموحات ودوافع المجتمع في حركته. فتوجد عوامل ثقافية تطلق إرادة الإنسان، وتفتح الآفاق أمام تفكيره، فتشكل بذلك مناخا ملائما للتطور الاقتصادي والسياسي، وهناك عناصر أخرى تشكل الأرضية الملائمة لإعاقة كل ذلك. وذلك أن كل عمل سياسي أو اقتصادي يعتمد على فاعلية العاملين فيهما،والفاعلية ناتجة عن التفكير والإرادة،وهما مقيدان بالثقافة السائدة. وقد أكد تأثير الثقافة على مسار المجتمع كثير من الدراسات حول التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ثم إنه وبنظرة واحدة إلى مجموعة من العناصر الثقافية السائدة تعطي بداهة القناعة بأن تأثيرها سيكون محبطا للغاية. ولا شك في أن الثقافة لا تعمل وحدها، بل تعمل ضمن عوامل أخرى متعددة، بعضها ناشئ عنها نفسها، وبعضها مستقل عنها، فالثقافة مؤثرة ومتأثرة، وموجودة ضمن شبكة من المؤثرات غيرها، ولكن هذا لا يلغي دورها المركزي في التأثير على غيرها من العوامل من جهة، وفي التأثير على المسار العام للمجتمع من جهة أخرى.
পৃষ্ঠা ২২
على ضوء ما سبق، فإنه لا يوجد أفق للمجتمع العربي المسلم لتحقيق آماله، ما لم تحصل عملية إعادة تشكيل للثقافة الإسلامية العربية، بحيث تشتمل على العناصر الثقافية الفاعلة، وتخلو من العناصر الثقافية المثبطة. وهذه الحالة المثالية قد لا يمكن تحقيقها بشكل تام، كما هو الحال في جميع المجتمعات البشرية، ولكن لا بد من حصول هذا الأمر في القضايا الكبرى المؤثرة على مسار المجتمع.
الرؤية الكونية وصناعة الواقع
يمكن تقسيم النظام الثقافي من زاوية الحضارة إلى ثلاثة أنواع من العناصر، لكل منها تأثير على حركتها:
1. عناصر هي انعكاس لرؤية كونية. قد تكون رؤية كونية تؤمن بإله، وقد تكون رؤية تنفي وجود الإله. وفي الحالتين قد تؤمن بعبثية الحياة، أو بحكمتها. وبخصوص مجتمعاتنا فالسائد هو رؤية إلهية تبين قضايا نحو: كوننا لله، علاقتنا بالله، علاقة الله بنا، دورنا في الحياة ، امكانياتنا وقدراتنا، ومآلنا بعد أن نفارق الحياة. وعليه فسيحصر الكلام حول الرؤية الكونية بما هو موجود لدينا.
2. عناصر هي انعكاس لتجارب المجتمعات، والممارسات التي فيه، وتشمل هذه التقاليد والأعراف والعادات.
পৃষ্ঠা ২৩