وقال أبو معاوية الضَّرير: صبّ على يدي بعد الأكل شخص لا أعرفه، فقال الرشيد: تدري من يصبّ عليك؟ قلت: لا، قال: أنا، إجلالًا للعلم (^١).
وقال القاضي الفاضل: ما أعلم أن لملك رحلة قطّ في طلب العلم، إلا للرشيد؛ فإنه رحل بولديه الأمين والمأمون لسماع الموطّأ على مالك ﵀، وكان أصل الموطّأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين، قال: ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندريّة، فسمعه على ابن طاهر بن عوف، ولا أعلم لهما ثالثًا (^٢).
وحدث أبو معاوية الضرير الرشيدَ يومًا عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عمّ الرشيد: أين التقيا يا أبا معاوية؟ فغضب الرشيد من ذلك غضبًا شديدًا، وقال: أتعترض على الحديث؟ عليّ بالنّطع والسيف، زنديق يطعن في الحديث، فأحضر ذلك، فقام الناس إليه يشفعون فيه، وما زال أبو معاوية يُسَكِّنه ويقول: بَادِرَةٌ منه يا أمير المؤمنين، حتى سكن، ثم قال: هذه زندقة، فأمر بسجنه، وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمّه بالأيمان المُغَلَّظَة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بَادِرَةٌ منه، وهو يستغفر الله ويتوب إليه منها، فأطلقه (^٣).
ودخل بعضهم عليه وبين يديه رجل مضروب عنقه، والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد: قتلته لأنه قال: القرآن مخلوق، فقتلته على ذلك قربة إلى الله ﷿ (^٤).
_________
(^١) سير أعلام النبلاء (٩/ ٢٨٨)، وتاريخ الخلفاء (ص ٤٥٤، ٤٥٥).
(^٢) تاريخ الخلفاء (ص ٤٦٨ - ٤٦٩).
(^٣) سير أعلام النبلاء (٩/ ٢٨٨)، والبداية والنهاية (١٠/ ٢١٥)، وتاريخ الخلفاء (ص ٤٥٤).
(^٤) الموضع السابق من البداية والنهاية.
المقدمة / 26