(السادس عشر) أن أعلم الأمة بالقرآن ومعانيه وهم سلف الأمة لم يفهم منهم أحد إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، ولم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره ويقثول يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم فقد جاهر بالكذب والبهت، أفترى عطل الصحابة والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجب الفرية التي ذم الله سبحانه من تخلف عنها وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا يؤبه له من الناس، ولا يعد في أهل العلم١؟. ويالله العجب! أكان ظلم الأمة لأنفسها -ونبيها حي بين أظهرها- موجودًا وقد دعيت فيه إلى المجيء إليه ليستغفر لها وذم من تخلف عن المجيء، فلما توفي ﷺ ارتفع ظلمها لأنفسها بحيث لا يحتاج أحد منهم إلى المجيء إليه ليستغفر له، وهذا يبين أن هذا التأويل الذي تأول عليه المعترض هذه الآية تأويل باطل قطعًا، ولو كان حقًا لسبقونا إليه علمًا وعملًا وإرشادًا ونصيحة، ولا يجوز إحداث تأويل في آية أو سنة لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه ولا بينوه للأمة٢. وهذان الوجهان الأخيران مأخوذان من الصارم.
_________
١ زاد في الصارم المنكي هنا ما نصه: وكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه والتفسير ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعوا إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة فيما يكرهه وينهى عنه من الغلو والشرك، الجفاة عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية، ولما كان هذا المنقول شجى في حلوق البغاة، وقذى في عيونهم وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحيى منهم من أهل العلم بالآثار قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق ويظهر أدلته ليهتدي المسترشد وتقوم الحجة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع برده وبطره وغمص أهله من يشاء. اهـ.
٢ يعني أن أحكام العبادات العملية المنصوصة في القرآن لا يعقل أن يجهلها أو يترك العمل بها الصحابة والتابعون وسائر علماء السلف، ثم ينفرد بعملها وفهمها مثل السبكي وابن حجر المكي بعدهم ببضعة قرون، وليس معناه أنه ليس لأحد بعد الصدر الأول أن يفهم من علوم القرآن وحكمه ما لم ينقل عنهم، فإن هذا باطل لم يقل به أحد، فعلوم القرآن وحكمه كدرر البحار لا تنفد، ولا تفتأ تتجدد. وكتبه محمد رشيد رضا.
1 / 41