الشماليين تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه، فكيف يسمعه النبي ﷺ ويرد عليه ولو سلم حياته ﷺ في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله ﷺ بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة؟ فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة؟ ومجرد الإمكان العقلي لا يغني من شيء، على أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي وابن حجر المكي، وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي، وأنى له ذلك؟
(الرابع عشر) أنه لو صح الاستدلال بالآية المذكورة لجاز أن يستدل على جواز بيعة رسول الله ﷺ بعد الموت، لقوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ . وبقوله تعالى في سورة الفتح: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ . وهذا لا ينقطع بموته ﷺ تعظيمًا له ﷺ كما قال الخصم، ودلت الآية على أنه لا فرق في الجائية بين أن يكون مجيئها بسفر أو غير سفر، لوقوع "جاءوك" في حيز الشرط الدال على العموم كما قال الخصم، ولكون "الذين" من الأسماء الموصولة وهي من ألفاظ العموم، مع أن أحدًا من الأمة لم يقل بجواز بيعة رسول الله ﷺ بعد الموت، ولم يفعلها أحد من السلف والخلف.
(الخامس عشر) أنه لو دلت الآية على كون زيارة القبر قربة، وعلى أنه شرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين وأجلها، وهذه مضادة صريحة لما قاله رسول الله ﷺ "لا تجعلوا قبري عيدًا".
1 / 40