حلفًا كاذبًا كما جاء المنافقون، وتحسينًا لضرب آخر منه وهو أن يجيء مستغفرًا فالمقصود الحث على تقدير المجيء على المجيء مستغفرًا، فالثابت منها أنه على تقدير المجيء الإتيان مستغفرًا قربة، لا أن نفس المجيء مع الاستغفار قربة، والمطلوب الثاني لا الأول فلا يتم التقريب.
(الثالث عشر) أنه لو صح الاستدلال المذكور بالآية المذكورة لصح بالأولى الاستدلال بالآية الواقعة في سورة الحجرات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ . على عدم كون زيارة القبر المعهودة في زماننا قربة الذي هو نقيض مطلوب صاحب الرسالة١ فإن الآية دلت على ذم نداء النبي ﷺ من وراء الحجرات، وهذا لا ينقطع بموته ﷺ تعظيمًا له كما قال الخصم في تقرير الآية بل هو أولى، فإن النداء من وراء الحجرات بعد الموت بيا رسول الله وغيره من الألفاظ فرد من أفراد نداء النبي ﷺ من وراء الحجرات بلا ريب ولا شبهة، بخلاف المجيء إلى قبره ﷺ، فإن كونه فردًا من أفراد المجيء إلى النبي ﷺ فاسد كما تقدم، ودلت أيضًا على تعليق ثبوت الخيرية لهم بالصبر على النداء من وراء الحجرات، والآية الكريمة وإن وردت في قوم معينين في حال الحياة تعم بعموم العلة كل من وجد فيه ذلك الوصف في حال الحياة وبعد الممات كما قرر الخصم في الآية، بل عمومه أولى بالنسبة إلى الآية التي استدل بها الخصم فإن في هذه الآية ﴿الَّذِينَ﴾ لفظ موصول وهو من الألفاظ العامة، بخلاف الآية المتقدمة فإن فيها ضميرًا وهو ليس من العموم في شيء، ولذلك فهم العلماء منها العموم للمنادين.
قال القاضي عياض في الشفا: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قومًا فقال: ﴿لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ . ومدح قومًا فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ الآية، وذم قومًا فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ
_________
١ أي دحلان.
1 / 36