فصل في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه وأول ذلك معرفة الجسم وتحقيق ماهيته.
أما البيان أن الجسم جوهر واحد متصل وليس مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، فقد فرغنا منه، وأما تحقيقه وتعريفه فقد جرت العادة بأن يقال: إن الجسم جوهر طويل عريض عميق، فيجب أن ينظر في كيفية ذلك. لكن كل واحد من ألفاظ الطول والعرض والعمق يفهم منه أشياء مختلفة. فتارة يقال: طول للخط كيفما كان، وتارة يقال طول لأعظم الخطين المحيطين بالسطح مقدارا، وتارة يقال طول لأعظم الأبعاد المختلفة الممتدة المتقاطعة كيف كانت خطا أو غير خط، وتارة يقال طول للبعد المفروض بين الرأس ومقابله من القدم أو الذنب من الحيوان. واما العرض فيقال للسطح نفسه، ويقال لأنقص البعدين مقدارا، ويقال للبعد الواصل بين اليمين واليسار. والعمق أيضا قد يقال لمثل البعد الواصل بين سطحين، وقد يقال له مأخوذا ابتداء من فوق، حتى إن ابتدأ من أسفل سمي سمكا. فهذه هي الوجوه المشورة في هذا. وليس يجب أن يكون في كل جسم خط بالفعل، فإن الكرة ليس فيها خط بالفعل البتة ولا يتعين فيها المحور ما لم تتحرك؛ وليس من شرط الكرة في أن تصير جسما أن تكون متحركة حتى يظهر فيها محورا أو خط آخر. فإنها تتحقق جسما بما يحقق الجسمية، ثم يعرض لها أو يلزمها الحركة. وأيضا الجسم ليس يجب أن يكون فيه من حيث هو جسم سطح، فإنه إنما يجب فيه من حيث يكون متناهيا، وليس يحتاج في تحققه جسما ومعرفتنا إياه جسما إلى أن يكون متناهيا، بل التناهي عارض لازم له، ولذلك لا يحتاج إلى تصوره جسم حين يتصور الجسم. ومن تصور جسما غير متناه فلم يتصور جسما لا جسما، ولا يتصور عدم المتناهي إلا المتصور جسما. لكنه أخطأ كمن قال: إن الجسم آلة، فقد أخطأ في التصديق ولم يخطئ في تصور بسيطة وهما الموضوع والمحمول. ثم إن كان لا بد للجسم في تحققه جسما أن تكون له سطوح، فقد يكون جسم محيط به سطح واحد وهو الكرة. وليس أيضا من شرط الجسم في أن يكون جسما أن تكون له أبعاد متفاضلة، فإن المكعب أيضا جسم مع أنه محاط بحدود ستة، ومع ذلك ليس فيه أبعاد متفاضلة حتى يكون له طول وعرض وعمق بأحد المعاني. ولا أيضا يتعلق كونه جسما بأن يكون موضوعا تحت السماء، حتى تعرض له الجهات لأجل جهات العالم، ويكون له طول وعرض وعمق بمعنى آخر، وإن كان لا بد من أن يكون إما سماء وإما في
পৃষ্ঠা ৩২