ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية الأصل : أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة ، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا ؛ ينحدرعني السيل ، ولا يرقى إلي الطير ، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا ، وطفقت أرتئي بين أصول بيد جذاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا . أرى تراثي نهبا .
الشرح : سدلت دونها ثوبا ، أي أرخيت ، يقول : ضربت بيني وبينها حجابا ، فعل الزاهد فيها ، الراغب عنها . وطويت عنها كشحا ، أي قطعتها وصرمتها ، وهو مثل ، قالوا : لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه ، والكشح : ما بين الخاصرة والجنب . وعندي أنهم أرادوا غير ذلك . وهو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه ، كما أن من أكل وشبع فقد ملأ كشحه ، فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها ، ولم ألقمها . واليد الجذاء بالدال المهملة ، وبالذال المعجمة ، والحاء المهملة مع الذال المعجمة ، كلها بمعنى المقطوعة . والطخية : قطعة من الغيم والسحاب . وقوله : عمياء ، تأكيد لظلام الحال واسودادها ؛ يقولون : مفازة عمياء ، أي يعمى فيها الدليل . ويكدح : يسعى ويكد مع مشقة ، قال تعالى : ' إنك كادح إلى ربك كدحا ' وهاتا ؛ بمعنى هذه ، ها للتنبيه ، وتا للإشارة ، ومعنى تا ذي ، وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا ، وهو العقل ، وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ : أولها : قوله : لقد تقمصها ، أي جعلها كالقميص مشتملة عليه ؛ والضمير للخلافة ، ولم يذكرها للعلم بها ، كقوله سبحانه : ' حتى توارت بالحجاب ' ، وكقوله : ' كل من عليها فان ' ، وكقول حاتم :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى . . . إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
وهذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه : ' ولباس التقوى ' وقول النابغة :
تسربل سربالا من النصر وارتدى . . . عليه بعضب في الكريهة فاصل
الثانية : قوله : ينحدر عني السيل ، يعني رفعة منزلته عليه السلام ، كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان ، قال الهذلي :
পৃষ্ঠা ৯৬