فإن قيل : لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه ، فأي نعمة له عليهم ؟ قيل : نعمتان : الأولى منهما الجهاد عنهم وهم قاعدون ، فإن من أنصف علم أنه لولا سيف علي عليه السلام لاصطلم المشركون من أشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره في بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، وأن الشرك فيها فغر فاه ، فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة - والثانية علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف عمر له بذلك ، والخبر مشهور : لولا علي لهلك عمر . ويمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر ، وذلك أن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل ، وتفضل الأدنى منه نسبا ، فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة ؛ فإن بني دارم يفتخرون بحاجب وإخوته ، وبزرارة أبيهم على سائر بني تميم ، ويسوغ للواحد من أناء دارم أن يقول : لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم ، ولا يستوي بهم من جرت رئاستهم عليه أبدا ، ويعني بذلك أن واحدا من بني دارم قد رأس على بني تميم ؛ فكذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رئيس الكل ، والمنعم على الكل ، جاز لواحد من بني هاشم ، لا سيما مثل علي عليه السلام أن يقول هذه الكلمات .
واعلم أن عليا عليه السلام كان يدعي التقدم على الكل ، والشرف على الكل ، والنعمة على الكل ، بابن عمه صلى الله عليه وسلم ، وبنفسه وبأبيه أبي طالب ، فإن من قرأ علوم السير عرف أن الإسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا .
وليس لقائل أن يقول : كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره ، سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما ! لأنا نقول : فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا ياقل : إنه هدى الناس من الضلالة ، وأنقذهم من الجهالة ، وإن له حقا على المسلمين . وإنه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض ، وألا يمدح أبو بكر ، ولا يقال : إن له أثرا في الإسلام ، وإن عبد الرحمن وسعدا وطلحة وعثمان وغيرهم من الأولين في الدين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لاتباعه له ، وإن له يدا غير مجحودة في الإنفاق واشتراء المعذبين وإعتاقهم ، وإنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة ، وظهرت دعوة مسيلمة وطليحة ؛ وإنه لولا عمر لما كانت الفتوح ، ولا جهزت الجيوش ، ولا قوي أمر الدين بعد ضعفه ، ولا انتشرت الدعوة بعد خمولها .
فإن قلتم في كل ذلك : إن هؤلاء يحمدون ويثنى عليهم ؛ لأن الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم ، ووفقهم لها ، والفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى ؛ وهؤلاء آلة مستعملة ، ووسائط تجري الأفعال على أيديها ، فحمدهم والثناء عليهم ، والاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك ، قيل لكم في شأن أبي طالب مثله .
واعلم أن هذه الكلمات ؛ وهي قوله عليه السلام : الآن إذ رجع الحق إلى أهله . . . ، إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه عليه السلام من صفين ، لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر ، منتشر الحبل ، بواقعة التحكيم ، ومكيدة ابن العاص ، وما تم لمعاوية عليه من الاستظهار ، وما شاهد في عسكره من الخذلان . وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال ، وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته ، قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة ، وأن الرضي رحمه الله تعالى نقل ما وجد ، وحكى ما سمع ، والغلط من غيره والوهم سابق له . وما ذكرناه واضح .
পৃষ্ঠা ৯১