وكانت الحكومة المصرية باتفاقها مع الحكومة الإنجليزية قد قر رأيهما على إرسال غوردون للسودان اعتقادا بأن معرفته البلاد تسكن الفتنة، ولكن الحقيقة أن هاتين الحكومتين وغوردون نفسه كانوا يجهلون خطورة الحالة في السودان، فهل كانت الحكومتان تظنان أن غوردون لشجاعته الشخصية واشتهاره بالرفق بالفقراء في دارفور يستطيع أن يقف تيار التعصب؟ وهل نفوذ غوردون يمكنه من تهدئة عرب الجعالين النازلين بين بربر والخرطوم وفي الجزيرة؟
لقد كان عكس ذلك هو المنتظر، فإن الحاكم الذي أمر بطرد الجلابة من الجنوب في حرب الزبير كان خليقا بأن يكرهه عرب الجعالين لا أن يحبوه، فإن أمر غوردون بطرد الجلابة فقد أفقد عددا كبيرا من الجعالين من آبائهم أو إخوتهم أو أقاربهم، ولم يكونوا ينسون أن غوردون هو السبب في كل ذلك.
وفي 18 فبراير وصل غوردون إلى الخرطوم فتلقاه الناس والموظفون بالبشر والحماسة، وكان المتصلون به والمنتفعون منه يعرفون أن الحكومة لن تترك مثل هذا الرجل وحيدا بلا معونة. وكان أول ما عمله أنه أذاع منشورا بتعيين المهدي حاكما على كردوفان، والإذن بالنخاسة والرق، واقتراح الدخول في مفاوضات مع المهدي، وطلب منه الإفراج عن الأسرى، وأرسل إليه هدايا من الملابس الثمينة. ولو أن غوردون أذاع هذا المنشور ومعه قوة في الخرطوم يستطيع أن يسير بها إلى كردوفان، لتم له ما أراد، ولكن الأخبار بلغت المهدي بأنه جاء الخرطوم وليس معه سوى عدد قليل من الحرس، ولا شك في أن المهدي تعجب من غوردون كيف يمنحه بالكلام ما حصل عليه هو بالسيف، وما لا يمكن غوردون أن يسترده منه، وقد رد عليه المهدي بخطاب طلب فيه منه أن يسلم المدينة ويحقن بذلك دمه.
وكان الخليفة عبد الله يد المهدي اليمنى، وكانت قرابة المهدي يكرهونه لهذا السبب ويكيدون له، ولكنه كان يعرف تماما أن المهدي لا يستطيع أن يدبر الأمور بدونه، فشكا إلى المهدي دسائس هؤلاء الناس وطلب منه أن يعترف في وعظه بما قام به من الخدم للمهدية، فأذاع المهدي منشورا لا يزال يشار إليه للآن كلما احتاج الخليفة عبد الله إلى تغيير في الحكومة أو سن قانون من جديد، وهذا المنشور يقضي على جميع أتباع المهدي بالطاعة للخليفة، وأن ينظروا إليه كأنه نائب المهدي الذي يقوم بتنفيذ مشيئته.
ولما قل الماء عزم المهدي كما سبق أن ذكرنا على الرحيل بمعسكره إلى رهاد، وهي على مسيرة يوم من الأبيض. وحوالي منتصف أبريل تم انتقال هذه الكتلة العظيمة المؤلفة من رجال ونساء وصبيان.
وكان المعسكر في رهاد عبارة عن بحر طام من العشش المصنوعة من القش، يمتد إلى أبعد ما يصل إليه النظر، وكان المهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ وسائر واجباته الدينية. وكان قد عين محمد أبو حرجة واليا على الجزيرة، وأنفذه إليها مع عدد كبير من الأتباع، وأمره بأن يرأس الثورة على الحكومة ويحاصر الخرطوم.
وهذا هو وصف الحالة كما وجدناها عند وصولنا أنا واليوناني زيجادة وسيد بك جمعة إلى رهاد. ولما اقتربنا أرسلت أحد خدمي إلى الخليفة لكي يعلمه بقدومنا، ولكنه تأخر فعزمنا على الركوب إليه بأنفسنا .
واتخذنا الطريق المؤدي إلى سوق وسمعنا صوت الأومبية - الطبل - التي تؤذن بمقدم الخليفة، واتفق أني وجدت أحد أهالي دارفور فسألته عن معنى دق الطبل، فقال لي: «الأرجح أن الخليفة عبد الله قد أمر بقتل أحد الناس، وهذا أمر للناس لكي يشهدوا القتل.»
ولو كنت من الذين يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم لتشاءمت من هذه المقابلة؛ حيث يقتل إنسان عند أول دخولي المعسكر، ولكننا سرنا حتى بلغنا مكانا رحبا مكشوفا، ورأيت خادمي ووراءه رجل آخر وكلاهما يسرع إلينا، وصاح بنا هذا الرجل وقال: «قفوا حيث أنتم؛ فإن الخليفة وحرسه قد خرجوا للقائكم وكان يظن أنكم خارج المعسكر.»
ووقفنا وعاد الرجل يخبر الخليفة بوصولنا، وبعد دقائق رأينا جمعا من الفرسان وحولهم جمع آخر من المشاة المسلمين وهم يسيرون على إيقاع الطبل، ووراء هذا الجمع رأينا الخليفة نفسه وكان قد وقف وإلى يمينه ويساره صفان من الفرسان ينتظرون أوامره، وأمرهم الخليفة بأن يشرعوا في رياضة خيولهم، وكانت هذه الرياضة عبارة عن أربعة من الفرسان يخرجون بخيولهم صفا واحدا ويجرون شوطا ثم يعودون أدراجهم، ويكررون هذا الجري عدة مرات حتى يضطرهم الإعياء إلى الراحة، وكانوا يركضون خيولهم إلى مكاننا ورماحهم مشرعة، حتى إذا بلغونا هزوا الرماح قريبا من وجوهنا وقالوا: «في شأن الله ورسوله»، ثم ركضوا خيولهم ثانيا إلى مكان الخليفة.
অজানা পৃষ্ঠা