وكان خالد غاية في الخبث والدهاء؛ يقسو على موظفي الحكومة السابقين ويساهل الأهالي بلا داع، وكان يضع قرابته في الوظائف، وكان مع اجتهاده في أخذ أموال الأهالي يتجنب كل ما من شأنه أن يحدث استياء عاما، وكان يحتفظ لنفسه بمعظم الإيرادات ويرسل من وقت لآخر هدايا للمهدي والخلفاء، وكانت هداياه عدة فتيات وسيمات أو بعض خيول عتيقة أو بعض الجمال؛ وذلك لكي يبقى محمود الذكر عند مولاه وولي نعمته.
وكان منزله حافلا بالضيوف والولائم، وقد تزوج مريم عيسى باصي أخت سلطان دارفور، مع أن عمرها كان فوق الخمسين. وكان لهذه السيدة حاشية مؤلفة من المئات من العبيد والإماء على الطريقة السودانية، ولم يخطر ببال خالد أنه يجب عليه أن يمارس فضيلة إنكار النفس بعض الشيء كما يأمر المهدي، وكان يأمر كل مساء أن تصف مئات الأطباق والقفع المحملة بمختلف الأطعمة لأتباعه الذين كانوا يقعدون تحت النخيل فيذكرون مدائح المهدي ولا ينسون ذكر الأمير خالد من وقت لآخر.
وحوالي هذا الوقت جاءني خطاب مطول من القاهرة بواسطة مدير دنقلة، حمله إلينا عربي موثوق به، وفي الخطاب أمرني بحصر قوات في الفاشر وأن أسلم المديرية لعبد الشكور بن عبد الرحمن شطوط، وهو من سلالة سلاطين دارفور، ثم علي بعد ذلك أن أخرج بالجيوش والذخائر إلى دنقلة، ولكن هذا الأمير الذي ذكر لي في الخطاب كان لا يزال في دنقلة غير قادر على المجيء إلى الفاشر، وأنا أشك فيما إذا كان وصوله يغير أو يبدل في الحالة، ولم يكن من الممكن حصر قوات الفاشر بالنسبة لروح التمرد الذي فشا بين الجنود، ولو كان في قدرتي أن أجمع الجنود وأذهب بها إلى الفاشر لما كان حينئذ ثم حاجة إلى هذا الأمير؛ فإن الحكومة كانت تجد في الأمانة والكفاية أكثر مما تجد فيه. وأطلعت خالد على هذا الخطاب، وأذن لي أن أكتب خطابا لأحد الأهالي يحمله هذا العربي الذي جاء من دنقلة، فكتبته ولكني لا أظن أنه وصل إلى من أرسلته إليه.
وجاءتنا أخبار في هذا الوقت تنبئ بسقوط بحر الغزال، الذي كان يتولاه لبتون بك وأنفذ المهدي إليه الأمير كرم الله لكي يتولى حكومته. وكان لبتون بك قد اضطر إلى التسليم لأن جميع إخوانه تركوه، فسلم المديرية بلا قتال في 28 أبريل سنة 1884، ولو لم يهجره أعوانه لتمكن لبتون بواسطة قبائل الزنوج من الاحتفاظ بالمديرية ورد غارات المهدي عنها جملة سنوات.
ورغب خالد في أن يرافقني سيد بك جمعة الذي كان لا يزال مقيما في القبة، وقد قبلت مرافقته على الرغم من دسائسه السابقة. وأيضا طلب أحد التجار اليونانيين مرافقتي فلم يعارض خالد، وكان اسم هذا اليوناني ديمتري زيجادة.
وحوالي منتصف شهر يونيو غادرنا الفاشر أنا وزيجادة وكان معنا حرس مؤلف من عشرة رجال، وبلغنا الأبيض بعد سفر شاق فتلقانا السيد محمود حاكم المهدي بلا حفاوة، وأمرنا بأن نسافر في اليوم التالي إلى رهاد حيث يقيم المهدي.
الفصل العاشر
حصار الخرطوم وسقوطها
لما هزم المهدي هكس باشا وأباد تجريدته، تحقق أن السودان كله قد صار عند قدميه، ولم تكن مسألة الاستيلاء على الخرطوم سوى مسألة وقت، وكان أول أعماله عندئذ أن أرسل قريبه خالد إلى دارفور؛ حيث كان يعرف أنه لن يجد أية مقاومة، وبواسطة كرم الله استولى على بحر الغزال، وكل ما حدث أن حول الموظفون ولاءهم للخديو إليه، وكان مك آدم قد خضع وجاء هو وأسرته وسكن الأبيض، ورسخت المهدية في شرقي السودان ووجدت وطنا معدا لها بين العرب الشجعان النازلين هناك، وأبيدت الجيوش المصرية في سنكات وطمانيب، وكانت نكبة الجنرال بيكر قد زادت ثقة العرب بأنفسهم، وكان مصطفى حوال يحاصر كسلة.
أما في الجزيرة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، فإن صهر المهدي واد البصير هزم الحكومة عدة مرات، وقد كانت هذه حالة البلاد عندما وصل غوردون إلى بربر في 11 فبراير سنة 1884.
অজানা পৃষ্ঠা