تمهيد
1 - تمهيد
2 - إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
3 - حكومة دارفور
4 - رواية الخليفة عن المهدي
5 - الثورة في جنوبي دارفور
6 - حصار الأبيض وسقوطها
7 - المهدية في دارفور
8 - حملة هكس باشا
9 - سقوط دارفور
10 - حصار الخرطوم وسقوطها
11 - حكم الخليفة عبد الله
12 - بعض الحوادث الأخرى
13 - حملة الأحباش
14 - تشتت وتفرق
15 - ملاحظات متنوعة
16 - ملاحظات متنوعة
17 - وسائل النجاة
18 - فراري
19 - الختام
تمهيد
1 - تمهيد
2 - إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
3 - حكومة دارفور
4 - رواية الخليفة عن المهدي
5 - الثورة في جنوبي دارفور
6 - حصار الأبيض وسقوطها
7 - المهدية في دارفور
8 - حملة هكس باشا
9 - سقوط دارفور
10 - حصار الخرطوم وسقوطها
11 - حكم الخليفة عبد الله
12 - بعض الحوادث الأخرى
13 - حملة الأحباش
14 - تشتت وتفرق
15 - ملاحظات متنوعة
16 - ملاحظات متنوعة
17 - وسائل النجاة
18 - فراري
19 - الختام
السيف والنار في السودان
السيف والنار في السودان
تأليف
سلاطين باشا
تمهيد
وعدنا في التمهيد الذي وضعناه لكتاب «التاريخ السري لاحتلال إنجلترا مصر» لمستر ويلفرد سكاون بلنت؛ أن نصدر من بعده كتاب «السيف والنار في السودان» لسلاطين باشا، وهذان الكتابان يعدان من المستندات التاريخية التي لا بد من الاطلاع عليها؛ لمعرفة الحوادث التي تقلبت على مصر والسودان من خمسين سنة؛ وهي الحوادث التي ما زلنا نعاني نتائجها إلى الآن.
فاليوم ها نحن نبرز كتاب «السيف والنار في السودان»؛ وفاء بذلك الوعد، ورغبة في أن تكون له الفائدة المرجوة في خدمة تاريخ مصر الحديث.
وسلاطين باشا، مؤلف هذا الكتاب، هو ضابط نمساوي ولد سنة 1857 في فينا، وجاء إلى مصر سنة 1878 ودخل في خدمتها، فعينه غوردون باشا حاكما لدارفور سنة 1884، ولكن لم يمض عليه في منصبه هذا قليل حتى اعتقلته جيوش المهدي؛ فبقي أسيرا يدعي الإسلام والإيمان بالمهدوية إلى سنة 1895، وحينئذ فر إلى الجيش المصري واشترك معه في استرداد دنقلة وأم درمان.
وبقي سلاطين باشا بعد ذلك موظفا في حكومة السودان بين سنة 1900 وسنة 1914، ثم أعلنت الحرب العالمية فترك الخدمة في السودان وعاد إلى النمسا، ودخل في خدمة الصليب الأحمر، ولما عقدت الهدنة سنة 1918 انتدب عضوا في بعثة الصلح في باريس.
وقد نقل هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية السر ونجت باشا، الذي كان حاكما للسودان ثم معتمدا لإنجلترا في مصر، وهذه الترجمة الإنجليزية هي التي اعتمدنا عليها في التعريب.
26 يوليو سنة 1930
البلاغ
الفصل الأول
تمهيد
في يوليو سنة 1878، عندما كنت ملازما في ألاي ولي العهد رودلف عند حدود البوسنة، تسلمت خطابا من الجنرال غوردون؛ يدعوني فيه أن أذهب إلى السودان وأشتغل في خدمة الحكومة المصرية تحت إداراته.
وكنت في سنة 1874 قد سحت في السودان عن طريق أسوان، فذهبت إلى كورسكو وبربر، ووصلت إلى الخرطوم في شهر أكتوبر من تلك السنة، وعرجت على جبال النوبة، وبقيت مدة قصيرة في دلين؛ حيث كان مركز الرسالة الكاثوليكية النمسوية. ومن هنا خرجت في اكتشاف جبال جولفان نايمة وجبال كاديرو، وكنت أود أن أطيل بقائي في هذه الأصقاع، ولكن حال دون ذلك قيام عرب الحوازمة.
ولما لم تكن لي مهمة سوى السياحة، فإن الحكومة طلبت عودتي إلى الأبيض عاصمة كردوفان. وكان قيام هؤلاء العرب ناتجا عن جباية الضرائب الفادحة التي فرضتها عليهم الحكومة، وقد أخمدت الحكومة هذه الحركة بسرعة، ولكني لهذه الظروف لم أر من الصواب الرجوع إلى النوبة؛ وعلى ذلك قررت السفر إلى دارفور.
وفي ذلك الوقت كان حاكم السودان العام إسماعيل باشا أيوب مقيما في الفاشر عاصمة دارفور، وعندما بلغت الكاجة والقاطول وجدت ما خيب رجائي؛ فإن الحكومة نشرت منشورا منعت فيه دخول الأجانب في هذا القسم من السودان؛ لأنه كان حديث العهد بالخضوع للحكومة، وكان يخشى على حياة الأجانب فيه، فرجعت بلا توان إلى الخرطوم حيث عرفت أمين باشا - وكان في ذلك الوقت الدكتور أمين - وكان قد أتى من مصر حديثا في صحبة من يدعى كارل فون جرم.
وكان الجنرال غوردون حاكما عاما لمديريات خط الاستواء، وكان مقيما في لادو، فكتبنا إليه نطلب منه أن يشير علينا بما يراه. وبعد شهرين جاءنا جوابه يدعونا إلى زيارته، ولكن في هذا الوقت وافاني خطاب من أسرتي في فينا وهم يحثونني على الرجوع إلى أوروبا. وكنت أعاني مرض الحمى، وكان لا يزال باقيا علي سنة في الخدمة العسكرية، فقررت الرجوع والنزول على رأي أفراد أسرتي.
أما الدكتور أمين فقد قبل دعوة غوردون وشرع في السفر إلى الجنوب، كما شرعت أنا في السفر نحو الشمال، وقبل الافتراق رجوت أمين أن يذكرني بالخير أمام غوردون وقد فعل، وكان إيصاؤه بي لديه سببا في ذلك الخطاب الذي ذكرت أني تسلمته وأنا بالبوسنة بعد ذلك بثلاث سنوات.
وبعيد وصول أمين منحه غوردون رتبة بك وعينه حاكما لمدينة لادو، وعند سفر غوردون تعين حاكما عاما لمديريات خط الاستواء، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 1889، حيث عين مستر ستانلي مكانه.
وعدت أنا إلى مصر عن طريق صحراء بيوضة، ثم دنقلة ووادي حلفا، وبلغت النمسا حوالي أواخر سنة 1875.
وقد فرحت عندما تسلمت خطاب غوردون الذي وصل إلي ونحن في حرب البوسنة، واشتقت إلى أن أعود إلى السودان معينا في منصب ما، ولكن لم يؤذن لي بالسفر إلا في ديسمبر سنة 1878 عندما انتهت الحرب وعادت فرقتي إلى برسبرج، فأخذت في التهيؤ مرة أخرى للسفر إلى أفريقيا.
وكان أخي هنري في الهرسك فقضيت ثمانية أيام في فينا أودع أفراد أسرتي، ثم ذهبت إلى تريستا في 21 ديسمبر سنة 1878 وأنا أجهل تماما أنه سيمضي علي 17 سنة أرى فيها الأهوال والغرائب قبل أن أرى بلادي ثانيا، وكان عمري إذ ذاك 22 سنة.
ولما بلغت القاهرة تسلمت تلغرافا من جيجلر باشا بالسويس، وكان قد عين مديرا لمصلحة التلغرافات بالسودان، وكان على وشك أن يسافر إلى مصوع؛ لكي يفتش على الخط بين هذه البلدة وبين الخرطوم. وقد دعاني إلى السفر معه إلى سواكن، فقبلت بكل سرور الانتفاع بهذه الفرصة التي تكرم فأتاحها لي. وافترقنا في سواكن؛ فذهب هو على ظهر الباخرة إلى مصوع، وشرعت أنا أهيئ نفسي للسفر إلى بربر على الجمال، وقد عاونني علاء الدين باشا الذي كان حاكما في ذلك الوقت، والذي كان بعد ذلك في صحبة هكس باشا، الذي قتل مع الجيش المصري بأجمعه عندما اصطدم به جيش المهدي في شيكان في نوفمبر سنة 1883.
ولما بلغت بربر وجدت في انتظاري ذهبية بأمر الجنرال غوردون، فنزلت إليها ووصلنا إلى الخرطوم في 15 يناير سنة 1879، وقد لقيت هنا احتراما ورعاية؛ إذ قد خصني غوردون بدار ليست بعيدة عن القصر، وأنفذ إلي من يدعى علي أفندي لكي يقوم بقضاء ما أحتاج إليه، وكنت في اجتماعي بالجنرال غوردون أسمعه يتحدث عن الضباط النمسويين الذين عرفهم في طولطشة، عندما كان في بعثة الدانوب، وكان يحفظ لهم في قلبه أجمل ذكرى، وأتذكر قوله لي: إنه من الخطأ أن نغير ملابسنا البيضاء السابقة بملابسنا الزرقاء الراهنة.
وعينني غوردون مفتشا ماليا وطلب إلي أن أقوم بالتفتيش في البلاد، وأفحص شكايات السودانيين الذين كانوا يعارضون في دفع الضرائب التي لم تكن تعتبر فادحة. وإطاعة لهذه الأوامر قمت إلى سنار وفازوغلي عن طريق المسلمية، وعرجت على جبال قوقيلي ورجرج وكاشانكيرو القريبة من بني شنغول، ثم رفعت تقريري إلى الجنرال غوردون وأوضحت في هذا التقرير أن الضرائب غير عادلة، وأن معظمها يقع على عاتق أصحاب الأملاك الصغيرة من الأرض، أما كبار الملاك فكان من السهل عليهم أن يرشوا الجباة بمبالغ صغيرة فينجوا من الضرائب إلا ما قل منها، وعلى هذا كان مقدار كبير من الأرض لا تؤخذ عليه الضريبة، بينما يقوم الفقراء بسد العجز ودفع ضرائب ثقيلة عن أملاكهم. وأبنت - فضلا عن هذا النظام السيئ - أن الأهالي مستاءون من الطرق الجائرة التي يتبعها جباة الضرائب، وجلهم من الجنود والباشبوزق والشايجية، ولم يكن هم هؤلاء الموظفين سوى الحصول على الثروة بأسرع ما يمكنهم على حساب السكان التعساء، الذين كانوا يخضعون لسلطتهم الوحشية القاسية.
وكنت كثيرا ما أجد خلال أسفاري أن الأراضي التي يملكها الموظفون - ومعظمهم من الأتراك والشايجية - لا تجبى عليها ضرائب ما، وعندما كنت أسأل عن علة ذلك كان يقال إن هذا الامتياز للموظفين لما يقومون به من الخدمة للحكومة. وقد كانوا يستاءون أشد الاستياء عندما كنت أقول لهم إنهم يتناولون أجرا على هذه الخدمة.
ولكني عندما قبضت على البعض منهم أقروا جميعا بأنهم متأخرون في دفع الضرائب. ووجدت في المسلمية - وهي بلدة تجارية كبيرة تقع بين النيلين الأبيض والأزرق - جماعة من النساء في سن الشباب، وكان يملكهن أغنى التجار وأكثرهم اعتبارا، ويؤجرونهن للأغراض السافلة بأجور عالية، وكان هذا العمل من التجارات الرابحة، ووقعت في حيرة لا أدري كيف أفرض الضرائب على هذه المنازل، ولا أية خطة يجب إقرارها. وإني أعترف بأن تجاربي الماضية ومعارفي قد خذلتني في هذا الموضوع، وشعرت عندئذ بعجزي التام عن القيام بأي إصلاح، ولم يكن لي من الخبرة بالشئون المالية سوى القليل أو العدم؛ فلذلك وجدت من العبث أن أستمر في عملي وقدمت استقالتي.
وكان غردون قد سافر في هذه الأثناء إلى دارفور بخصوص البحث عن الحملة التي أرسلت لمقاتلة سليمان بن الزبير باشا، ولكنه كان قبل أن يسافر قد رقي جيجلر إلى رتبة باشا وعينه حاكما عاما مدة غيابه، فانتهزت الفرصة وأرسلت إليه مع البريد تقريري واستقالتي، وتسلمت بعد مدة قليلة تلغرافا منه يوافق فيه على استقالتي من منصب المفتش المالي.
وقد ارتحت كثيرا إلى تخلصي من هذا الواجب الكريه، ولم أشعر بوخز الضمير لتركي هذا المنصب؛ لأني شعرت بعجزي التام عن معالجته؛ إذ كان فاسدا من الرأس إلى العقب.
وبعد ذلك بأيام تسلمت من غردون تلغرافا عينني فيه مديرا لدارة، وهي تحتوي على الجزء الجنوبي الغربي لدارفور، وأمرني بأن أقوم إليها في الحال؛ لأنه كان علي أن أقود حملة عسكرية لمقاتلة السلطان هارون ابن السلطان السابق، وكان يسعى للاستقلال ببلاده والخروج على الحكومة المصرية. وطلب مني غردون أيضا أن أوافيه حين رجوعه من سفره إلى مكان بين الأبيض وطرة الحضرة على النيل الأبيض، فأرسلت جمالي إلى هذا المكان؛ حيث كانت باخرة غردون في انتظاره، ونزلت أنا إلى الباخرة التي سارت بنا إلى طرة الحضرة؛ حيث خرجت وركبت مدة ساعتين حتى بلغت محطة أبي جراد التلغرافية، وعلمت من هناك أن غردون لا يبعد عنا سوى أربع ساعات أو خمس، وأنه كان في طريقه قاصدا بلوغ النيل، فركبت ثانيا وسرت ولم يمض علي بضع ساعات حتى لقيته قاعدا في ظل شجرة كبيرة، وكان يبدو عليه التعب والإعياء ويشكو من تورم قدميه، وكان معي لحسن الحظ قليل من الكونياك أحضرته معي من الباخرة، فانتعش منه واستعد لاستئناف السفر، وطلب مني أن أرجع معه إلى الحضرة لكي نتباحث معا في مسألة دارفور، ولكي يعطيني التعليمات الضرورية، وقد عرفني إلى شخصين من حاشيته؛ وهما حسن باشا حلمي الجويزر الحاكم العام السابق لكردوفان ودارفور، ويوسف باشا الشلالي؛ وكان هذا آخر من انضم إلى جيشي في حملته لمقاتلة سليمان زبير والنخاسين. وامتطينا الدواب ولكن غوردون حث دابته حتى ما استطعنا أن ندركه، وبلغنا طرة الحضرة، ووجدنا جمالنا التي تحمل أمتعتنا، والتي كنا قد أرسلناها قبل قيامنا، قد وصلت قبلنا. وأرست الباخرة في وسط النهر وعبرنا نحن إلى البر في قوراب، وكنت أنا في مؤخرة القارب ويليني يوسف باشا الشلالي، ولما كنت أنا عطشان وكان بجانبه كوز رجوته أن يملأه من النهر ويناولنيه حتى أشرب، ورأى غوردون ذلك فابتسم والتفت إلي وقال لي بالفرنسية: «ألا تعرف أن يوسف باشا، على الرغم من وجهه الأسود، في مركز أعلى من مركزك؟ كان يجب ألا تطلب منه أن يسقيك.» فاعتذرت بالعربية إلى يوسف باشا، وقلت له إني طلبت منه الماء وأنا غائب الذهن، فأجابني بأنه مسرور لأن يخدمني.
ولما وصلنا نزلت أنا وغوردون في الإسماعيلية ونزل يوسف وحسن باشا في الباخرة الثانية بردين، وأخذ غوردون يشرح لي حالة دارفور شرحا وافيا، وقال لي إنه يرجو أن توفق الحملة في الانتصار على السلطان هرون؛ لأن البلاد مضى عليها مدة طويلة من الزمن وهي في حروب وسفك دماء، وأنها لذلك في أشد الحاجة إلى السلام والراحة، وأخبرني أيضا أن حملة جسي الموجهة ضد سليمان زبير ستنتهي قريبا، وأنه لن يمضي عليه زمن طويل حتى يقتل أو يهزم؛ لأنه قد فقد معظم من عنده من البازنجر أو حملة الأقواس، وأنه من المحال أن يصمد أمام الخسائر التي أوقعها به جسي، وكانت الساعة فوق العاشرة عندما ودعني غوردون، وكان قد أمر بإشعال النار؛ لأنه كان ينوي السفر إلى الخرطوم، وعندما سلمت وتنحيت قال لي: «فلترافقك السلامة يا عزيزي سلاطين وليباركك الله، إني واثق بأنك ستعمل جهدك مهما كانت الظروف، وربما عدت أنا إلى إنجلترا، ولعلنا نتلاقى بعد.»
وكانت هذه الكلمات آخر ما سمعت منه، ولكن من كان يمكنه أن يتصور ذلك القدر الذي كان مدخرا لكل منا؟! وشكرته أنا لتلطفه ومعاونته، وعندما بلغنا الشط انتظرت هناك حتى تقوم الباخرة، ثم ما هي إلا دقائق حتى سمعت ذلك الصفير الحاد ورفعت المرساة وتحركت الباخرة، وولت ومعها غوردون وقد ذهب بعيدا عني إلى الأبد.
وفي صباح اليوم التالي ركبت الجواد الذي أعطانيه غوردون، وقد حملني أربع سنوات بعد ذلك، فذهبت إلى أبوجراد، ومنها سافرت إلى أبي شوقة وخوصي، ثم إلى الأبيض حيث يوجد الدكتور زوربخين المفتش الصحي، وكان على وشك أن يسافر إلى دارفور، فاتفقنا على السفر معا إلى دارة، ثم استأجرنا الجمال بمساعدة علي بك شريف حاكم كوردفان، وبينما نحن على وشك الرحيل إذا به يناولني رسالة تلغرافية تنبئ بسقوط سليمان زبير في دارة في 15 يوليو سنة 1879، كما كان قد تنبأ غوردون عندما قال لي إنه لا بد خاضع أو مهزوم.
وهنا يجب أن أذكر أنه عندما فتح زبير باشا دارفور تركها لعناية ابنه سليمان وسافر هو إلى القاهرة، وفي سنة 1877 عين غوردون سليمان هذا حاكما على بحر الغزال، ولكن فشا خلاف بينه وبين من يدعى إدريس أبتر؛ أحد أهالي دنقلة، وكان زبير باشا قد وكل إليه العناية ببعض المسائل، ولكن أسرة الزبير تنتمي إلى قبيلة الجعالين، الذين كان بينهم وبين الدناقلة تحاسد وتباغض، وإني أعتقد أن كثيرا من القلق في السودان يرجع إلى هذه الحقيقة.
فإن سكان مديرية بحر الغزال خليط من قبائل الزنوج التي كانت مستقلة كل منها عن الأخرى، حتى جاءهم عرب الدناقلة وعرب الجعالين فاتحين بغية الاتجار بالعبيد. وينسب عرب الجعالين أنفسهم إلى العباس عم النبي، وهم يفخرون بهذا النسب ويباهون الدناقلة به. والدناقلة ينتمون في زعمهم إلى العبد دنقل، والمأثور أن هذا الرجل - على الرغم من أنه كان عبدا - قد ارتفع إلى أن صار حاكم النوبة، وإن كان مع ذلك يدفع خراجا لبهنسة الأسقف القبطي للبلاد الواقعة بين سراس ودبا.
وقد أسس دنقل هذا بلدة سماها دنقلة، وصار سكان هذا القسم بعد ذلك يدعون دناقلة، وغالبيتهم من أصل عربي ولكنهم لاختلاطهم بالسكان قد فقدوا مرتبتهم، وهم بالطبع يؤكدون انتسابهم للعرب، ولكن الجعالين لا ينفكون يذكرون أن أصلهم من العبد دنقل ويعاملونهم بالاحتقار والازدراء. ويجب على القارئ أن يذكر هذه العلاقة بين الجعالين والدناقلة؛ لأنه يتوقف على فهمها فهم كثير من حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك.
وانتهى الخلاف بين سليمان زبير وإدريس إلى شجار، فشكا إدريس سليمان في الخرطوم وطلب معاونة الحكومة وحصل على جيش بقيادة جسي باشا، ثم تلا ذلك تلك الحملات التي انتهت بسقوط سليمان في بحر الغزال، وكان جسي قد وعده بالإبقاء على حياته، ولكن الدناقلة دسوا له فأعدم. وكان له شريك يدعى رابح لم يسلم معه خوفا من انتقام الدناقلة، فأخذ كوكبة من الجنود وسار بهم في الشمال الغربي، فأخذ يجازف ويقتحم الأهوال حتى بلغ قطرا قريبا من بحيرة تشاد، فاستولى عليه وصار ذا خطر عظيم في حظوظ القارة السوداء.
وهناك مسألة أخرى يجب علي ذكرها بخصوص الخلافات بين القبائل؛ لما لها من الأثر في حوادث السودان التي وقعت بعد ذلك، والتي يحسن لذلك شرحها مع بعض التفصيل.
لما زار غوردون دارفور زيارته الثانية، عرف وتحقق من أن تجار الأبيض السودانيين يبيعون الأسلحة والبارود للثائر سليمان، وكانوا بالطبع يعطفون عليه لما ينالون منه من الربح، وكانت هذه الذخائر الحربية ترسل بواسطة الجلابة أو صغار التجار بين الأبيض وبين بحر الغزال، وكان هؤلاء يربحون منها ربحا عظيما؛ مثال ذلك أن ثمن البندقية ذات ذات الأنبوبتين كان من ستة عبيد إلى ثمانية، وكان ثمن صندوق الخراطيش عبدا أو عبدين، وقد حاول الموظفون في الأبيض وقف هذه التجارة، ولكن الصعوبات كانت عظيمة، وكانت قبائل العرب الرحل تسكن المراكز الواقعة بين كردوفان وبحر الغزال، وكان بين هؤلاء العرب قبائل الرزيفات والحوازمة والحمر والمصيرية، وكان من السهل على التجار الجلابة أن يخرجوا قوافل صغيرة، وأن يجتازوا ويختبئوا في الغابات الكثيرة التي لم يكن يسكنها أحد، وإذا اتفق أن موظفا مصريا التقى بهم فإنه كان يمكن التغلب عليه برشوة صغيرة.
وكان غوردون يعرف كل هذا؛ ولذلك أمر بوقف التجارة بكل أنواعها بين بحر الغزال والأبيض، وأمر كذلك التجار بترك المراكز الواقعة جنوب الأبيض والطويشة وطريق دارة، وحصر تجارتهم في الجزء الشمالي والغربي ما دامت الحرب دائرة في بحر الغزال. ولكن على الرغم من الدقة التي اتبعت في تنفيذ هذه الأوامر، كان الربح الناتج عن التجارة مع سليمان أكبر وأقوى إغواء من أن تقفه هذه الأوامر؛ حتى كان التجار لا يعبئون باكتشاف أمرهم، ولم يكن في يد الحكومة ما يمكنها من أن تقف هذه التجارة التي زادت بدلا من أن تنقص بعد ذيوع هذه الأوامر، فعمد غردون لهذا السبب إلى وسائل حاسمة، وأمر المشايخ والعرب بأن يقبضوا على التجار الجلابة، ويرسلوهم بالقوة إلى دارة وطويشة وأم شنجة والأبيض، وألقى عليهم تبعة وجود الجلابة في بلادهم بعد تاريخ معين.
وانتهز العرب الحريصون هذه الفرصة وأخذوا ينبهون الجلابة، بل التجار الوادعين الذين عاشوا بينهم زمنا طويلا، والذين لم يكن لهم أقل دخل في تجارة المهربات الحربية، فجمعوا القمح والزوان بلا تمييز وربحوا بذلك ربحا عظيما، فما هو أن ذاعت أوامر غوردون حتى حمل العرب على التجار حملة عامة، فلم يأخذوا منهم تجارتهم فقط بل أخذوا كل ما يملكونه؛ حتى جردوهم من كل شيء، وساقوهم كالبهائم وهم تقريبا عراة يعدون بالمئات إلى طويشة ودارة وأم شنجة، وكان هذا عقابا عظيما لهم على مساعدتهم أعداء الحكومة.
وكان كثير من هؤلاء التجار قد أقاموا بين العرب سنوات، وكان لهم زوجات وأولاد وسريات وأملاك كبيرة وقعت كلها في أيدي العرب. والحق أن هذا الانتقام من هؤلاء التجار الذين كانوا يتجرون بالمهربات الحربية وبالعبيد؛ كان هائلا، وإن كانوا هم يستحقونه على مبدأ السن بالسن والعين بالعين، وكانت نتائج هذا العمل بعيدة المدى؛ وذلك لأن معظم هؤلاء الجلابة كانوا من الجعالين الذين ذكرناهم، فانغرست بينهم من ذلك الوقت وبين العرب الذين أذلوهم وأباحوا تجاراتهم عداوة لا تزال مستمرة للآن، والدلائل تدل على أنها في ازدياد لا في تناقص.
ولو اعتبرنا المروءة والإنسانية لقلنا إن هذا الاعتداء على الجلابة يستحق المناقشة من حيث عدالته، ولكن عند تدقيق الفحص نجد أن الظروف لم تكن تسمح بمعالجة هذا الظرف الاستثنائي بالوسائل السياسية أو بروح العطف الإنساني؛ فإنه لم يجد في الحالة وقتئذ سوى اتخاذ إجراءات شديدة فعالة، والعرب أنفسهم يقولون: «نار الغابة تلزمه الحريقة!» يعنون بذلك أنه إذا شبت النار في الغابة لم يكن سبيل النجاة منها إلا بإحراق جزء من الغابة؛ بحيث إذا وصلت النار الكبرى لا تجد ما تأكله؛ فينجو الإنسان منها بوقوفه في المكان الذي أحرقه هو نفسه. وهذا المثل يقبل التطبيق على الحالة التي ذكرناها.
ولما كان لهؤلاء التجار الجلابة - وجلهم من الجعالين والشايجية والدناقلة - أقارب في وادي النيل، وكان لهم أصدقاء يشتركون معهم في النخاسة وسائر التجارة، أوجدت أوامر غوردون سخطا بينهم؛ إذ لم يكادوا يفهمون العلة في ضرورة اتخاذ هذه الإجراءات الشديدة.
الفصل الثاني
إقامتي في دارفور وتاريخها السابق
غادرنا الأبيض أنا والدكتور زربوخين المفتش الصحي الذي كنت قد قابلته في القاهرة، وكانت مغادرتنا للأبيض في يوليو سنة 1879، فأخذنا طريقنا إلى الفوجة آخر محطة تلغرافية، وهنا تسلمت رسالة تلغرافية من غوردون يقول لي فيها إنه مسافر إلى الحبشة في مهمة مع الملك يوحنا.
ولما بلغنا أم شنجة وجدناها مزدحمة بالجلابة الذين طردوا من الجنوب، وكانت حالتهم تبعث على الشفقة، ومن الغريب أنه شاعت عني إشاعة مقتضاها أن غوردون خالي؛ ولعل سبب ذلك زرقة عيني وأني كنت حليقا، وكان الجلابة ينظرون إلي بعين الخوف لهذا السبب، وكانوا يعدون غوردون أصل بلائهم الحاضر، وأخذوا يغمرونني بالعرائض لمعاونتهم، فأخبرتهم بأن أم شنجة ليست داخلة ضمن نطاق أعمالي؛ ولذلك لا يمكنني مساعدتهم، وقلت أيضا إنه لو كان في مقدوري مساعدتهم من مالي الخاص لما فعلت.
وقد خالفت هذه القاعدة في حالة واحدة، ولكن قبل أن أقص هذه الحادثة يجب أن أقول إنه لا ينبغي الحكم على عملي من وجهة الآداب المسيحية فقط، بل أنا أقر بأني خرجت عن حدود الشريعة الإسلامية، ولكن عندما يقرأ القارئ القصة بأجمعها سيوافقني على جميع ما عملته، ويشترك معي في العواطف التي بعثتني على هذا العمل.
فقد زارني في أحد الأيام طائفة من التجار، وطلبوا مني أن أتوسط في مسألة شاب عمره 19 سنة وأصله من الخرطوم، وقصوا علي أن هذا الشاب قبل مغادرته الخرطوم كان قد خطب ابنة عم له جميلة ولكنها فقيرة، وتواعدا على الزواج بعد أن يسافر الشاب في تجارة ويجمع بعض المال، فلما وصل إلى أم شنجة عرف عجوزا غنية افتتنت به أشد الافتتان، ولم يخبرني هؤلاء التجار عن الشاب هل هو طمع في أموالها أو لا، ولكن المسألة انتهت بأن تزوجته هذه العجوز، ووجد هو نفسه أنه أصبح ثريا فلم يكن له رغبة في الرجوع إلى الخرطوم وتطليق امرأته، وبلغت أخباره ابنة عمه في الخرطوم فاستولى عليها ذهول، وطلب إلي أن أحل هذه المسألة، فماذا أفعل؟
فاستدعيت الشاب وكان جميلا وجماله فوق المألوف، فتنحيت به في ناحية وأخذت أكلمه بكل جد ووقار، وأظهرت له سوء عمله في التزوج بعجوز أجنبية عنه، وكيف أن خطيبته تبكي حتى كاد يذهب بصرها، وهي وإن كانت فقيرة ولكنه يجب شرفا أن يرعى مودتها ووعده لها، فتردد مدة طويلة ولكنه أخيرا رضي بأن يذهب إلى القاضي ويطلق هذه العجوز، وكنت قد استدعيت القاضي وأخبرته أنه إذا طلق الشاب زوجته يجب عليه أن يخبر المرأة بهذا الطلاق بكل رفق ولطف؛ لأني لا أرغب في ضوضاء، واستوثقت من أقارب الشاب بأنه بعد طلاقه يجب أن يسافر إلى الخرطوم، ثم أوصيت موظف الحكومة في أم شنجة بأن ينفي هذا الشاب بعد يومين من طلاقه ويأمر بعدم بقائه في البلدة بعد هذين اليومين، وأوعزت له بأن يقول ما شاء أمام العجوز ويلقي علي تبعة الخلاف، بشرط أن يجتهد في أن تعطي الشاب مبلغا من المال يقوم بحاجته مدة سفره إلى الخرطوم، ولم أكن أتصور وأنا أعمل هذا العمل الزوبعة الهائلة التي أثرتها على رأسي؛ ففي الساعة الرابعة بعد الظهر وأنا منسطح على العنجريب في عشتي، سمعت صوت امرأة غاضبة ترغب في أن تراني، فحدست من تكون هذه المرأة واستعددت للقائها وأمرت بدخولها، وما هو أن صارت في العشة حتى رأت الدكتور زربوخين الذي كان معي وقتئذ، فصاحت فيه وهي هائجة مجنونة: «لن أقبل الطلاق، هو زوجي وأنا زوجته، تزوجني على أصول الشريعة وأنا أرفض الطلاق.»
فدهش الدكتور زربوخين وتمتم كلمات مكسورة باللغة العربية وأخبرها بأنه لا يعرف شيئا عن هذه المسألة، وأن التبعة تقع علي أنا وحدي، ولم أتمالك من النظر والتأمل في هذه المرأة الغريبة؛ فقد كانت ضخمة قوية عنيدة، وكانت من الغضب بحيث لم تراع أدب اللياقة الذي تراعيه الشرقيات في مخاطبة الرجال؛ فقد انفتل برقعها لشدة هياجها، وبدا رأسها مغطى بمنديل حريري عديد الألوان وقع بعضه على كتفيها، وكان وجهها يضرب إلى الصفرة وقد كسته الأسارير، وفي كل من خديها ثلاثة خطوط من الوشم، بين الواحد والآخر نحو نصف بوصة، وكان معلقا بأنفها قطعة من المرجان الأحمر، ويتدلى من أذنيها قرطان كبيران من الذهب، أما شعرها فكان حلقات صغيرة عديدة قد شمطت لتقدمها في السن، وظننت وأنا أنظر إليها أني لم أر قط امرأة أكثر دمامة منها، وأنا في هذه التأملات وإذا بنعيبها الذي تحول إلي تسألني السؤال نفسه الذي سألته للدكتور المرعوب، فتركتها حتى هدأت قليلا ثم قلت: «إني أدرك تماما ما تقولين، ولكن لا بد من الخضوع لما لا مفر منه؛ فإن زوجك سيتركك وأنت لا يمكنك أن تتركي البلدة معه، وتقولين إنك لا ترغبين في الطلاق، ولكن تذكري أن الشريعة تحل للرجل الطلاق.»
فصاحت بي: «لو لم تتوسط لما طلقني، لعنة الله على يوم جئتنا فيه.»
فقلت: «أرجوك أن لا تقولي ذلك، فأنت امرأة غنية وأظن أنك لن تجدي صعوبة في الحصول على زوج أكبر سنا من زوجك الذي طلقك.»
فصرخت: «لا أريد أحدا غيره.»
فقلت بحدة: «اسكتي، أقارب زوجك السابق يريدون أن يتركك ويسافر، وقالوا إنه لا يربطه بك إلا أموالك، والآن مهما قلت فإنه سيغادرك غدا، ألست تخجلين من التزوج بشاب صغير قد كان يمكن أن يكون أحد أحفادك وأنت عجوز؟!»
فجنت جنونها عندما فهت بهذه العبارة ولم تستطع ضبط نفسها، فمزقت برقعها ورفعت يديها، لا أدري ماذا كانت تريد أن تفعله لو لم يدخل القواص ويجليها عن الغرفة بالقوة وهو يحذرها من الفضيحة التي تجلبها على نفسها بأعمالها هذه، وفي اليوم التالي سافر الزوج وهي في غم شديد.
وبعد سنوات لقيت هذا الزوج وكان قد تزوج ابنة عمه، فشكر لي صنيعي وتخليصي له من مخالب تلك العجوز، وكان في ذلك الوقت أبا سعيدا له أولاد عدة، وليس لي حاجة بأن أقول بأني نمت تلك الليلة مرتاحا لهذا الصنيع الذي لم يكلفني شيئا.
وبعد ذلك بيومين برحنا أم شنجة وبتنا في جبل الحلة، فاستقبلنا هناك حسن بك أم كادوك شيخ قبيلة برني، وكان على ولاء كبير للحكومة، وقد منحه غوردون رتبة بك، وكان رجلا كهلا سمينا جدا عريض المنكبين ووجهه مستدير دائم الابتسام، وقد يمكن أن نسميه «فولسطاف السودان»؛ جريا على شكسبير الذي سمى أكبر شخص مضحك في دراماته «فولسطاف»؛ فإننا بعد سنوات عندما انقلبت الأحوال وصار السادة عبيدا، صرنا أنا وهو ياورين عند الخليفة، وكان مزاجه البهيج هذا كثيرا ما يخفف عنا أعباء حياتنا التي كنا لا نتحملها أحيانا. وكان أخوه إسماعيل، على النقيض منه، رجلا طويلا نحيفا يميل إلى الجد، ولم يكن يتفق هذان الأخوان في شيء إلا في مسألة واحدة؛ هي حب المريسة - الجعة السودانية - والتهالك على شربها، وكان لكل منهما إناء يدعي أنه بلبل توضع فيه هذه المريسة فيتسابقان أيهما يفرغ إناءه قبل الآخر.
وقد دعوانا إلى العشاء معهما وشوي لنا خروف كامل على فحم الخشب، يصحبه عدة من الدجاج المشوي، وطبق من العصيدة التي تؤكل في كل وجبة في السودان. وكان أيضا على المائدة عدة آنية من المريسة، وقد طاب لنا الطعام فأكلنا، وتركنا المريسة لهما وشربنا نحن شيئا مما عندنا من النبيذ الأحمر، وقد شرب حسن وإسماعيل كلاهما من النبيذ والمريسة ما شاءا، وكان أثر الخمر في الأول عندما صدمته حمياها أن جعلته يتدفق في الحديث، أما الثاني فقد انعقد لسانه وصمت! وكان حسن يروي لنا بعض ما يعرفه عن غوردون، وقد اكتأب وحزن عندما عرف بسفره للحبشة.
وقال لي بلهجة الحزن: «قد لا يرجع غوردون من الحبشة، وقد يسافر إلى بلاده فلا نراه ثانيا.» ومن الغريب أن قولته هذه كان فيها شيء من الصحة، ثم ترك الغرفة وعاد بعد برهة ومعه سرج وسيف وهو يقول: «انظر، هذا هو آخر ما أعطانيه غوردون لما رافقته إلى الفاشر، ما أكرمه وأرأفه!» وعرض علينا إسماعيل سترة مطرزة بالذهب أهداها إليه غوردون، وقال حسن: «كان غوردون لا يعرف الكبر؛ في أحد الأيام ونحن في الطريق إلى الفاشر صاد أحد الخدم طائرا، فلما حططنا رحالنا في الظهر وضع الطباخ قليلا من الماء على النار، حتى إذا غلى غمس فيه الطائر لكي ينزع ريشه، ورآه غوردون يفعل ذلك فذهب إليه وأخذ يساعده في نزع الريش، فاندفعت أنا إليه ورجوته أن يكف عن ذلك وأنا أقوم بدلا منه بهذا العمل، ولكنه قال لي: «وهل تظنني أخجل من العمل؟ إني قادر على أن أخدم نفسي، ولست في حاجة لأن يقوم بخدمتي رجل حائز لرتبة بك مثلك».»
ولم يكف حسن عن مسامرتنا حتى ساعة متأخرة من الليل، وقد حكى لنا عن تجاريبه لما فتح الزبير دارفور، ثم ما تلا ذلك من الثورة إلى حالتها الحاضرة، وكان كثيرا ما يعود إلى ذكر غوردون، ومما قاله: «كنت مرة مسافرا مع غوردون فمرضت وجاء غوردون يعودني في خيمتي، وبينما هو يحدثني قلت له إني كنت منغمسا في الشراب، وإن وعكتي الحاضرة لم تحدث لي إلا لانقطاعي عنه منذ أيام، وكان قولي هذا هو الصيغة الغير المباشرة التي أردت منها أن يعطيني غوردون شيئا من الشراب، ولكن ساء فألي؛ فإن غوردون وبخني وعنفني وقال لي: «أنت مسلم وديانتك تحرم تناول الخمر، إني في غاية الدهشة، أقلع عن هذه العادة فكل منا يجب أن يطيع أوامر دينه.» فقلت له: «لقد اعتدت الشرب طول حياتي، فإذا انقطعت عنه الآن فإني أمرض، ولكني سأعتدل في المستقبل.» فبانت أمارات الرضى على وجه غوردون وهز يدي مسلما وودعني وخرج، وفي صباح اليوم التالي أرسل لي ثلاث زجاجات من الكونياك وأوصاني بالاعتدال في شربه.»
وكان أخو حسن صامتا لا ينبس بكلمة، وكان مرتفقا يملأ كوبا وراء آخر من المريسة ويشربه بجد ووقار ونظام كأنه نظام بساعة، ولما انتهى من الشراب وقف في روية وتؤدة ومسح شاربيه وقال بلهجة الحزن: «نعم، نعم، الكونياك شراب طيب، وهو ليس خمرا بل دواء، وغوردون رجل عظيم بار ولن نراه ثانيا.»
وذهبنا إلى الفراش في ساعة متأخرة وأمرنا قبل نومنا أن تعد الدواب للقيام في الفجر، فلم ننم إلا وقتا قصيرا. ولما استيقظنا وأردنا الركوب أنا والدكتور زربوخين، نظرنا حوالينا نبحث عن أهل البيت لكي نودعهم قبل سيرنا، ونحن في ذلك وإذا بإسماعيل يعدو إلينا ورأسه يميل من أثر الشراب السابق، وقال لنا: «أيها السادة إننا سمعنا على الدوام بأن في بلادكم عدلا، وأنا واثق بأن الضيف هناك لا يسيء إلى رب البيت، وأمس عندما أمرتم الدواب التي تحمل أمتعتكم بالسفر سرق رجالكم السجادة التي وضعتها لكم لتقعدوا عليها.»
فبحثت وتأكدت بأن أحد رجالي قد سرق هذه السجادة الثمينة، وأرسلت وراء الجمال قواصا لكي يدرك هذا اللص ويحضره، وقعدت أنتظر، وبعد مدة جاء القواص ومعه السجادة ووراءه عسكري زنجي من الحرس الثمانية الذين كانوا في صحبتا، ولما استجوبنا هذا العسكري قال إنه حملها خطأ، ولكني لتأكدي من جريمته أمرت بجلده وإرساله سجينا إلى أم شنجة، وقد تعكر مزاجي لهذه الحادثة؛ لأني كنت أعرف أن الناس هنا يحكمون على الأسياد بما يرون من الخدم، وكنت واثقا بأني إذا لم أعاقب هذا الخائن، فإن مثل هذه السرقات ستكرر في المستقبل.
واعتذرنا إلى حسن وأخيه، ثم شرعنا في السفر إلى الفاشر التي بلغناها بعد خمسة أيام، ومررنا في طريقنا على بروش وأرجود.
وقد كانت الفاشر طول مدة القرن الماضي عاصمة دارفور، وهي مبنية على قارتين أو رابيتين واحدة في الشمال وأخرى في الجنوب، يفصلهما واد عرضه نحو 400 ياردة يدعى وادي تندلتي، وفي الغرب قلعة على تل حولها حائط من الطوب النيئ عرضه ثلاثة أقدام، وحول الحائط خندق عمقه 15 قدما، وكان في الأركان أربعة أبراج وبها مدافع تطلق قنابلها من فتحات صغيرة.
وكان هذا الحائط يحتوي على مباني الحكومة ومساكن الضباط وثكنة الجنود، وكان الخيالة غير النظاميين يسكنون خارجا، وكان سكان القلعة يستقون الماء من آبار في الوادي تبعد عنهم بنحو خمسين ياردة.
وكان مسدجاليه بك، وهو رجل إيطالي، حاكما على الفاشر، وقد تلقانا بالبشر وخصص لنا أمكنة في مباني الحكومة، وكنا قد أصبنا بحمى من مسيرنا في الأمطار، فقر رأينا على أن نرتاح بضعة أيام.
وبعد أن استرحنا استأنفنا السفر أنا والدكتور زربوخين إلى دارة، ورافقنا على سبيل التشييع مسدجاليه بك، وأخبرنا أن زوجته ستحضر إلى الخرطوم، وأنه قد طلب إجازة لكي يسافر ويستقبلها فيها ثم يحضر وإياها إلى الفاشر، فاقترحت عليه أن ينتظر حتى تنتهي مسألة السلطان هارون ثم يحضر وزوجته بعد ذلك، ولكنه أجابني بأنه ليس هناك أقل خوف، وأن في البلاد جيوشا كافية لقمع أي حركة، ولكني كنت سمعت بأن نفوذ هارون عظيم، وأن هناك خوفا على جنود الحكومة من ضغطه عليهم. ولما كنت حديث العهد بالمجيء إلى السودان وقليل الخبرة بأحواله، لم أقدر على أن أعطي رأيا باتا في الموضوع، فودعته هو وسعيد بك جمعة الحكمدار وسرنا إلى دارة عن طريق كريوت ورأس الفيل وشعيرية.
وكان لزربوخين هيئة تدل على أنه أكبر مني سنا، وكانت له لحية طويلة سوداء، وكان يضع على عينيه نظارة سوداء. أما أنا فكانت هيئتي تدل على أني أقل عمرا من الحقيقة؛ فلم يكن شاربي قد نبت إلا قليلا، وكانت لي سحنة الصبيان، فكنا لا نسير في أي مكان حتى يظنه الناس أنه هو الحاكم والطبيب أو الصيدلي، ولما قاربنا غاية سفرنا كان الدكتور زربوخين مريضا بالحمى؛ ولذلك تأخر بدابته عني ومشى وئيدا حتى وصلت إلى شعيرية قبله، وشعيرية هذه على سفر يوم من دارة، وكان أهل القرية يستعدون لاستقبالنا، فكنسوا المنازل ووضعوا الحصير، ووضع القاضي والشيخ سجادا لكي يستريح الحاكم القادم، وبرك جملي ونزلت عنه، ولما سألوني عن شخصي قلت إنني أحد حرس الحاكم، وأخبرت من معي من الحرس بألا يقولوا شيئا، وأخذ القرويون يسألونني عن الحاكم الجديد، فقلت لهم: «أظنه سيجتهد بأن يعمل ما في جهده وأنه يميل للعدل والتسامح.»
فقال واحد منهم: «ولكن هل هو شجاع طيب القلب؟» وكان هذا السؤال تصعب الإجابة عليه، فقلت: «يبدو عليه كأنه لا يخاف، ولكني لم أسمع شيئا عن شجاعته، وله هيئة الرجال، وأظن أنه طيب القلب، ولكنه بطبيعة الحال لا يمكنه أن يرضي كل أحد.»
فقال آخر: «لو كان لنا حاكم مثل غوردون باشا لرضي كل واحد، وأمنت البلاد بأنه لم يتوقف قط عن الإنعام على الناس وإلطافهم، وما جاءه فقير قط وعاد خائبا، ولم أسمعه يتكلم بقسوة إلا مرة واحدة؛ وذلك حين كان سليمان زبير في دارة؛ فإنه التفت إلى القاضي وقال إن بين السودانيين من لا يستحق أن يعامل بالرأفة به، فقال القاضي: «أجل سمعته يقول ذلك، ولكنه كان يشير بقوله هذا إلى الجلابة وتجار النيل، الذين كانوا يشتركون مع الزبير وابنه في جميع التجارات غير الشرعية التي كانوا يتكسبون منها».»
وقال شيخ القرية واسمه مسلم ولد كباشي: «غوردون بطل؛ فقد كنت أنا أشتغل معه في القتال مع عرب ميمة والخوابير في سهل فافة في يوم شديد الحر، وتقدم العدو وأجلانا عن الخط الأول، وكانت الحراب تقع علينا كثيفة من كل جانب، ورأيت حربة تقع على قيد شعرة من غوردون فما بالى، ولم ننل النصر إلا لثباته هو واحتياطيه المؤلف من مائة رجل، ولما كانت المعمعة على أشدها أخرج سجارة وأشعلها، إني مارأيت شيئا قط في حياتي مثل هذا. وفي اليوم التالي عندما شرع في توزيع الغنائم لم يغب عن ذهنه أحد، ولم يحفظ لنفسه شيئا، وكان رفيقا بالنساء والأطفال، ولم يأذن بسبيهم كما هي عادتنا في الحرب، بل كان يطعمهم ويكسوهم على نفقته، أو كان يردهم إلى منازلهم عند انتهاء الحرب. وفي أحد الأيام سبينا عدة نساء بدون علمه وحجزناهن، ولو علم بفعلتنا لرأينا منه الويل.»
وبعد سكوت سألت عن الأحوال في دارة وصفات الموظفين؛ لأني كنت سمعت أنهم لا يوثق بهم، وأنهم لا ينظرون بعين الرضا إلى مجيئي.
وهنا وصل الدكتور زربوخين وسائر القافلة، فوقف الشيخ والقاضي وأعيان القرية في نصف دائرة لاستقباله، أما أنا فقد تنحيت جانبا واختفيت، وأخذت أنصت لما يقول مسلم ولد كباشي الذي بدأ يحيي الوالي الجديد ويصف له فرحه بقدومه، وكان زربوخين لا يعرف من العربية إلا القليل، فارتبك أشد الارتباك لهذه التحية وقال لهم: «الحقيقة إنني لست الحاكم، أنا مفتش الصحة، ولا بد أن الحاكم قد وصل قبلي، ولكن بالنسبة لأن الرجال الذين معه قليلون ربما لم يحسبه أحد لذلك أنه هو الحاكم.» فتقدمت أنا عندئذ وشكرت للقرويين، وأنا أضحك، لطفهم وحسن استقبالهم، وأكدت لهم بأني سأعمل جهدي لكي أرضيهم، وأني منتظر منهم أن يعاونوني على إنفاذ الأوامر، وأخذوا بالطبع يعتذرون إلي عن خطئهم، ولكني وضحت لهم أنه ليس هناك ما يدعو إلى هذا الاعتذار، وقلت لهم إني أرغب في أن تكون علاقتي بهم متينة حميمة، وإني أرجو أن تكون هذه رغبتهم أيضا، ومن هذا الوقت صار مسلم ولد كباشي من أعز أصدقائي، وبقي كذلك في أوقات الفرح والحزن على السواء حتى برحت البلاد.
وقد هاجت هذه الحادثة الصغيرة شهوتنا للطعام، وقعدنا وتناولنا طعاما فاخرا من الضأن المشوي، ولما انتهينا امتطينا الدواب واسترحنا في الليل تحت شجرة على مسير ساعتين من دارة، وعند شروق الشمس أرسلت رسولا لكي يخبر بقدومنا، ولما صرنا في أرباض المدينة خرجت الحامية واصطفت واستقبلتنا استقبالا عسكريا وأطلقت سبع قنابل إكراما لنا، وكان معها حسن حلمي الحكمدار وزوجال بك نائب الحاكم والقاضي وبعض أعيان التجار، وذهبنا جميعا إلى القلعة حيث دار الحكومة، وقضينا نصف ساعة في التفتيش، ثم ذهبت إلى مسكني وأمرت بتهيئة بعض الغرف للدكتور زربوخين في مسكني؛ لأني أردت أن ينزل عندي ضيفا بضعة أيام.
وما كدنا ننتهي من العشاء حتى سمعت ضوضاء بين الخدم الذين كانوا يدافعون رجلين من الدخول إلينا، وكان هذان الرجلان رسولين يحملان خطابا من أحمد قاطنج وجبر الله؛ وهما الرئيسان للحامية غير النظامية في بير جوى، وهي على مسيرة ثلاثة أيام في الجنوب الغربي من دارة، وقد قالا في الخطاب إنهما علما أن السلطان هارون سيغير عليهما، وأنهما بالنسبة لقلة عدد الحامية قد قررا إخلاء مكانهما ما لم تأتهم أمداد من الحكومة، وقالا أيضا إنهما إذا تركا مركزهما فإن جميع القرى ستنهب.
ولم يكن ثم متسع من الوقت لتأجيل، فأمرت حسن أفندي رفقي بأن يعد مائتي جندي نظامي وعشرين فارسا للقيام في الحال معي إلى جوى.
وما انتصف الليل حتى كان قد أعد كل شيء، وودعت الدكتور زربوخين وقلت له إني أؤمل أن أراه بعد أربعة أيام أو خمسة، وخرجت متوجها نحو الجنوب الغربي، وكنت شابا قويا في اشتياق إلى الحرب، وإني أذكر الآن مقدار فرحي الشديد للقاء السلطان هارون ومناجزته، ولم يخطر ببالي شيء عن المشاق، وإنما كل ما كنت مشتاقا إليه أني كنت أرغب في أن أبين لجنودي أني قادر على قيادتهم، وفي الصباح حططنا رحالنا، وكان جميع الجنود زنوجا حتى ضباطهم، أما الجنود الراكبة فكانوا من الأتراك والمصريين، وخطبتهم جميعا وقلت لهم إني الآن غريب عنهم، ولكن عليهم أن يعرفوا أني مستعد لأن أشاركهم مشاقهم في كل وقت، وإني أرجو أن يكونوا ممتلئين حماسة وأن نسرع للقاء العدو، وكانت خطبتي بسيطة ولكن كان لها وقع في نفوس الجند، وعندما انتهيت منها رفعوا أسلحتهم في الهواء فوق رءوسهم على الطريقة السودانية، وصاحوا بأنهم لن ينثنوا عن الظفر أو الموت.
وفي الظهر حططنا قرب قرية فأخذت أراقب رجالي وأفحصهم، وكانوا كلهم على أهبة ومعهم ذخيرة كافية، وكان مع كل جندي زمزمية من جلد المعز أو الغزال، واسمها سن - وجمعها سنين - ولكن لم يكن معهم طعام، ولما سألت عن سبب ذلك قيل لي: «أينما ذهبت في دارفور تجد الطعام.» فذهبت إلى شيخ القرية وطلبت منه تقديم كمية من الدخن، وكانوا ينقعون الدخن في الماء ثم يعصرونه ويمزجونه بالتمر الهندي ثم يأكلونه، أما العصارة فكانوا يشربونها وكانت لمزازتها تطفئ الظمأ، والغالب أن الأوروبيين لا يستطيعون هضم هذا الطعام ولكنه مغذ جدا، والجنود السودانيون لا يأكلون تقريبا شيئا غيره وهم سائرون إلى القتال، وقد اعتدت تناوله بالتدريج، ولكني وجدت أنه إذا لم يكن الإنسان في صحة تامة فإنه يعقبه سوء هضم شديد، وأحضر لنا شيخ القرية الدخن ومعه عصيدة وزعت على الرجال، وبينما هم يأكلون دعوت الضباط لأن يأخذوا شطرا من اللحم المحفوظ بالعلب الذي كان معي، فأخذوه واستطابوه قائلين إنه أفضل من الدخن والعصيدة. وبعد ذلك طلبت من الكاتب أن يكتب لشيخ القرية صكا بمقدار ما تسلمناه منه من الدخن لكي يحط ثمنه من مقدار ما يدفعه لجابي الضرائب، ولكن هذا الرجل رفض قائلا إن إطعام الجنود ليس فقط من واجباته بل إن أصول الضيافة والكرم تقتضيه، فقلت له إني أعرف أن أهالي دارفور أسخياء ولكني أجد أن طعام 200 نفس يعدو حدود السخاء، وإنه لذلك يجب عليه أن يتسلم ثمن طعامه، فرضي أخيرا واطمأن إلى حديثي، وقال إنه لو سار الجنود على هذا المبدأ لسر السكان، ولكن لسوء الحظ قد اعتاد الجنود اقتحام المنازل وأخذ ما فيها؛ حتى إن الأهالي صاروا يخشونهم، وعندما ينزلون قراهم يجتهدون في إخفاء ما عندهم، فشكرت للشيخ قوله هذا ووعدته بأني سأصلح هذه الحالة.
وعند غروب الشمس وصلنا إلى بير جوى وكان بها حامية غير نظامية عددها 120 رجلا يقودهم أحمد قاطنج وجبر الله، وقد أخبراني بأنهما بعثا جواسيسهما لكي يعرفوا حركات السلطان هرون، وأنهما لا يظنان أنه قد نزل بعد من جبل مرة إلى الوادي، وكنت في غاية الإعياء وقد تملكني النعاس فذهبت إلى فراشي لأنام، ولكن اطراد قرع الطبول إكراما لي وضربان رأسي منعاني من النوم، وفي الصباح شعرت أني مريض، ولما جاءني أحمد ورأى ما أنا فيه قال لي: «يمكننا معالجة هذا بأيسر سبيل، عندي رجل يقف ضربان الرأس في الحال، وهو أفضل من الدكتور الذي في دارة والحقيقة أنه ليس في دارة دكتور وإنما هو صيدلي يقال له دكتور على سبيل التأدب والتجمل.»
فقلت: «ولكن كيف يمكنه أن يعالجني؟»
فقال: «هذا شيء بسيط، يضع يديه على رأسك ثم يقول شيئا فتبرأ، بل تعود أحسن مما كنت قبل أن تمرض!»
فقلت: «إذن ادعه الآن.»
وكنت شابا وجاهلا في تلك الأيام، وخطر ببالي أن أحد هؤلاء العرب ربما قد زار أوروبا وعرف شيئا عن العلاج المغنطيسي، وأنه قد أرصد حياته لفائدة الناس وشفائهم، وإني أعترف بأني شعرت بشيء من القلق لما قاله أحمد لي، وبعد دقائق قليلة أدخل أحمد إلى غرفتي رجلا طويلا أسود له لحية بيضاء، يظهر عليه أنه من سكان بورنو، وقال لي: «هذا هو الطبيب الذي سيشفيك من ضربات الرأس.»
ولم يتردد الطبيب لحظة بل وضع يده على رأسي وضغط صدغي بإبهامه وسبابته، ثم تمتم جملة كلمات لم أفهمها وبصق في وجهي! فهببت واقفا لهذه الفظاعة وضربته ضربة ألقته على الأرض، وكان أحمد واقفا بجانبي متكئا على عكازته، فرجاني ألا أنظر للمسألة هذه النظرة، وقال لي: «ليس بصقه قلة أدب، بل هو جزء من العلاج وستستفيد منه.» ولكن الطبيب المسكين الذي زايلته ثقته بنفسه وقف بعيدا عني وقال: «وجع الرأس من الشيطان ويلزمني أن أطرده، وفي القرآن آيات تدل على إمكان طرده بالنفث، وبذلك يقف عمله السيئ في رأسك.»
ولم أتمالك من الضحك على الرغم من مضايقتي وقلت: «وأنا إذن علي عفريت! وعلى كل حال أرجو أن يكون عفريتا صغيرا، وأن تكون قد نجحت في طرده.» ولم أسمح له بإعادة الرقية وأعطيته ريالا وأمرته بالخروج، فخرج وهو يدعو لرأسي بالشفاء، ولكن بقي - على الرغم من هذا الدعاء - يؤلمني.
ولم تأتني إلى هذا الوقت أخبار عن هرون، فبقيت طول اليوم في فراشي، وزارني صديقاي قاطنج وجبر الله عدة مرات، وقد عرض علي أولهما جواده فرفضت قبوله، أما الثاني فقد عرض علي إحدى خدمه وقال لي: «إنها صغيرة جميلة وقد تربت تربية حسنة في منزلي، وهي تعرف الطبخ وأعمال البيت وتفهم في الأمراض.» فرفضت أيضا قبولها، وتركني جبر الله وهو مكسور الخاطر لأني لم أقبل هديته، ولكني كنت مضطرا إلى هذا الرفض؛ لأني بعد أن جربت رقية الطبيب لم أكن شديد الرغبة في أن أسلم نفسي لمراحم آنسة سودانية، مهما كانت براعتها!
وفي صباح اليوم التالي استيقظت وقد عادت إلي عافيتي، ولما لقيني أحمد وأخبرته بأني تعافيت قال لي فورا: «أنا كنت متحققا من أنك ستشفى؛ لأن عيسى - الطبيب - لم يضع يده على أحد إلا شفاه.»
ومضى يوم آخر بدون أن يأتينا خبر عن هارون. وفي اليوم التالي رجع إلينا حوالي الظهر أحد رسل جبر الله، وقال لنا إن هارون قد جمع رجاله ولكنه لم ينزل بعد من التلال التي اتخذها مقرا له وقت الصيف، وفي اليوم الرابع - من وصولنا لبير جوى - جاءنا رسول آخر وقال إن هارون لما بلغه أني تركت دارة وجئت إلى بيرجوى لمقاتلته، سرح رجاله الذين ذهبوا إلى جبل مرة.
فلما سقط في يدي وذهب أملي في القتال عدت إلى دارة، وكان الدكتور زربوخين قد برحها وترك لي خطابا يقول لي فيه إنه يرجو لي النجاح، ووجدت أيضا الكاتب الذي صحبني منذ أن كنت مفتشا ماليا وجاء معي إلى دارة؛ قد جن مدة غيابه ووضعوه في منزل بجوار منزلي، فلما ذهبت إليه لكي أراه وقف وعانقني وهو يصيح: «الحمد لله ، لم يفعل السلطان هارون شيئا لك، زوجال بك رجل خائن احترس منه، لقد أمرت بإيقاد النار في القاطرة لكي يحملك القطار إلى أوروبا؛ حيث تتمكن من رؤية أهلك، وسأذهب معك، ولكن يجب الحذر من زوجال بك؛ فإنه وغد سافل.»
وكان ظاهرا أنه قد فقد عقله، ولكن المجانين أحيانا يقولون الحق، فأخذت في تهدئته حتى رقد وسمع صفير القاطرة، وأوهمته أني معه في القطار، ثم تركته لعناية الخدم وخرجت، وبعد خمسة أيام مات هذا المسكين، وأظن أن سبب موته انفجار عرق في دماغه.
وشرعت أنا في تدبير أمور مديرية دارة، وبعد شهر تسلمت خطابا من مسدجاليه بك، يقول لي فيه - وكان مكتوبا بالفرنسية - إنه قد عزم على أن ينتهي من هرون؛ ولذلك هو يأمرني بأن أخرج سرا عن طريق منواشي وقبة بقسم من الجنود النظامية، وأتجه نحو جبل مرة وأغير على نيورنه، حيث مقام السلطان هرون، وقال لي إنه قد أرسل قوة من الفاشر عن طريق طرة، وقوة أخرى من قلقل عن طريق أبي حرز، وسيلتقي الجميع في مكان واحد ويعملون معا في مقاتلة هارون.
فأذعنت للأمر وغادرت دارة ومعي 220 جنديا نظاميا و60 من البازنجر، وسرنا حتى بلغنا نيورنه، حيث السلطان هارون في جبل مرة، فوجدناه قد جلا عنها، وفي صباح اليوم التالي خرجت بفصيلة من الجنود أبحث عن هرون، ولكننا لم نذهب بعيدا حتى سمعنا عيارات نارية تطلق بسرعة من ناحية نيورنه، فركضت جوادي راجعا فوجدت الجنود الذين تركتهم قد اشتبكوا في قتال مع قوة أخرى معادية، فأدركت حالا أنها إحدى القوات التي أرسلت لمساعدتي من الفاشر، ولكنها لم تصل في الوقت المعين لها. فلما وصلت إلى نيورنه ووجدت قوة مرابطة تحتلها، أطلقت عليها النار وهي تحسبها أنها تابعة لجيش السلطان هرون، وقد تكلفت مشقة كبيرة في وقت إطلاق النيران التي قتل بسببها سبعة وجرح أحد عشر، ومر عيار في ملابسي وأصيب جوادي بعيارين.
وبقينا في نيورنه عشرة أيام، ولما لم يكن في مقدورنا أن نحصل على أخبار صحيحة عن هارون قررت العودة، وكنا نحن في عودتنا نمر على عدة قرى فنفاجئها؛ لأن أهلها لم يكونوا ينتظرون مجيئنا من الغرب، وكان السلطان هارون قد جند معظم الرجال، أما الباقون فقد فروا إلى التلال، ولكن رجالي تمكنوا من القبض على نحو ثلاثين امرأة سرن معنا مدة قصيرة، وقد فوجئ أهالي إحدى القرى بنا فلم يتمكنوا من الهرب، ولما رأيت أن جميعهم من النساء أمرت الجنود بالوقوف حتى أتيح لهن الفرصة للفرار، ثم أمرت الجنود أيضا بأن يسيروا صفا واحدا حتى لا يتفرقوا في القرى ويعيثوا فيها.
ومما حدث أن أما مسكينة كانت تحاول الهرب، فباغتناها ففرت تاركة وراءها طفلين على صخرة، وأخذت هي تعدو كالغزال على سند الجبل، فذهبت إلى حيث الطفلين فوجدتهما عاريين ليس عليهما شيء سوى عقد من المرجان حول عنقيهما وحزام من المرجان أيضا حول وسطيهما، وكان كلاهما أسود كالغراب، والأرجح أنهما كانا توأمين يبلغ عمر كل منهما 18 شهرا، فنزلت عن الجواد وذهبت إليهما، فأخذا في الصراخ وكل منهما يمسك بالآخر، فحملتهما وأمرت خادمي بأن يحضر قليلا من السكر، فسكتا في الحال وصارا يبتسمان خلال الدموع ويقرضان السكر، الذي كان في الأرجح أحلى ما ذاقاه مدة حياتهما الصغيرة الماضية، وكان عندي مناديل حمر أحملها على الدوام معي لكي أقدمها هدايا، فلففت كلا منها في منديل ووضعتهما على الصخرة كما كانا وسرت بعيدا عنهما، ونظرت إليهما بعد مدة فرأيت إنسانا - هو أمهما - يزحف على الصخر إليهما، فلما بلغتهما عانقتهما ودهدهتهما بعد أن كانت قد يئست من حياتهما، وأخذت هذين الولدين في لباسهما الجديد وعلى شفتيهما أثر السكر الحلو.
وبعد أيام ونحن لم نبلغ بعد دارة، جاءتني الأخبار بأنه في مدة غيابي عن هذه البلدة أغار عليها هارون وانتهبها وفر ثانيا إلى التلال ومعه الغنائم والسبايا العديدة، فأخذت أدلاء من القرى المجاورة وخرجت أتعقبه، ولما أن صرنا على مسافة سفر يومين في الجنوب الشرقي من الفاشر لقيت جنوده الذين لم يتوقعوا مجيئنا.
وقد وفقت للاقتراب منهم بدون أن يروني، ثم حملنا عليهم حتى مزقناهم شر ممزق، واستولينا على مقادير كبيرة من الأسلحة وأفرجنا عن السبايا اللواتي كن في حوزتهم، وقتل جواد هارون ولكن هارون نفسه مع بضعة من أتباعه تمكنوا من الهرب، وبعد أيام قليلة انهزموا أمام جيوش قلقل التي كان يقودها نور أنجرة، وقتل هرون، وبقتله عاد السلام إلى البلاد وانتهت الثورة.
ولما عدت إلى دارة وافاني خطاب من جسي باشا من بحر الغزال، يقول فيه إن الدكتور فلنكن والقسيس ولسون، مبعوث الرسالة الكنسية الإنجليزية، في طريقهما من أوغندا إلى الخرطوم عن طريق دارة ومعهما وفد من الملك متيسا إلى جلالة ملك إنجلترا، ورجاني جسي أن أقدم لهما جميع المساعدات التي في مقدوري، وقال إنهما قد شرعا في السفر إلى دارة في اليوم الذي كتب فيه هذا الخطاب، وقد وصلا إلى دارة بعد ذلك بأيام قليلة وتمتعت بصحبتهما مدة وجودهما عندي.
وقد أخبراني عن أشياء مهمة، أما أنا فقد حكيت لهما عن آخر الأنباء الأوروبية، وهي وإن كانت قد مضى عليها أشهر قد كانت مع ذلك جديدة عندهما.
وفي الصباح سمعت أن رجال وفد الملك متيسا لما رأوا الجمال أول مرة خافوا منها وفروا، فقلت للدكتور فلنكن: «بما أنك ستضطر إلى إتمام سفرك على ظهر الجمال، فمن الصواب أن تعتاد ركوب الجمال أنت ومن معك، فأحضر رجال الوفد حتى ندربهم على ركوبها.»
فذهب وأرسلت أنا في إحضار جمل من أحد التجار، وكان جملا سمينا ضخما، وحضر رجال الوفد وآخرون غيرهم، فما رأوا الجمل حتى طار صوابهم وفروا هائمين، ولم يقفهم عن الاستمرار في العدو سوى ثباتنا أنا والدكتور فلنكن، وأوضح لهم الدكتور فلنكن أن الجمل حيوان وديع صبور، وأنهم سيستأنفون السفر إلى مصر عليه، وليس فيه ما يدعو إلى الخوف، ولكنهم مع ذلك لم يتقدموا إلا على حذر ووقفوا على مسافة منه لا يجسرون على لمسه، وكان تعجبهم عظيما عندما رأوا القواص يمتطيه ويسير به وينيخه، وأخيرا تطوع أشجعهم لأن يركبه وساعدناه على تسنمه، وقام به الجمل وهو خائف ، ولكنه أخذ ينظر إلى رفقائه من مكانه العالي ويوضح لهم سهولة ركوب الجمال وملاذه، والظاهر أنه دعاهم إلى ركوبه؛ فقد برك الجمل وتكأكئوا عليه جملة، وأرادوا جميعا الركوب، وحاول بعضهم أن يركب عنقه، وتعلق آخرون بذنبه، وتعلق نحو ستة برجله، ودهش الجمل لأول وهلة لهذا الازدحام حوله، ثم تنبه وأخذ يضرب برأسه يمينا وشمالا حتى نفض جميع هؤلاء «الوجنديين» عنه، وهب واقفا وهم مبعثرون حوله، وأظنني لم أضحك في حياتي قدر ما ضحكت في هذه الفرصة؛ فقد ظن رعايا الملك متيسا - الوجنديون - أن الجمل جبل يتحمل أي عبء ويقوى على النهوض به، ولبثوا مدة ذاهلين خائفين لا يقوون على الاقتراب منه ثانيا، ولكن أخذوا بالتدريج يتعلمون ركوبه؛ فبدأ واحد ثم آخر يقترب منه ويركبه، حتى إنه عندما جاء ميعاد سفرهم كانوا جميعا يعرفون كيفية قيادته.
وكان في منزلي عدة أولاد من الذين استخلصناهم من أيدي النخاسين، ولما لم يكن للدكتور فلنكن خادم يخدمه، فقد اقترحت عليه أن يأخذ معه أحد هؤلاء الأولاد، فقبل ذلك مسرورا، وأعطيته صبيا من الغرتيت يدعى كبسون، وكان ذكيا، فعزم الدكتور على أن يربيه في أوروبا، وبعد سنتين ونصف سنة وأنا بالفاشر جاءني خطاب مكتوب بالإنجليزية من كبسون هذا، يشكرني فيه لأني أذنت له بالسفر مع الدكتور فلنكن إلى «بلاد كل من فيها طيب القلب رءوف»، ويقول إنه قد تنصر وإنه أسعد الأولاد، وأرسل مع الخطاب صورته في ملابس إفرنجية.
وجاء ميعاد سفر صديقي وكانا في اشتياق إليه، فركب الجميع جمالهم وقاموا إلى الخرطوم عن طريق طويشة.
وبعد مدة جاءني خطاب من مسدجاليه بك، يقول فيه إنه مسافر إلى الخرطوم لكي يحضر زوجته، ولكنه ما كاد يصل إلى الخرطوم حتى نشب خلاف بينه وبين ولاة الأمور هناك، فاستقال وعين بدلا منه مديرا على دارفور علي بك شريف، الذي كان قبلا مديرا على كردفان.
وقريبا من ختام سنة 1879 أو في أوائل سنة 1880 تسلمت خطابا مكتوبا بالفرنسية من غوردون، كتبه منذ شهرين قبل وصوله إلى ضبرة طابور في الحبشة ، وقد مزق الخطاب منذ سنين ولكني أتذكر كلماته بالحرف تقريبا وهي:
عزيزي سلاطين
لما انتهت مهمتي مع الملك يوحنا عزمت على أن أرجع في الطريق التي جئت منها، ولكني وأنا بالجلابات أدركني رجال تابعون للرأس عدل وأجبروني على الرجوع، وسيأخذونني محروسا إلى كسلة ومنها إلى مصوع، وقد أحرقت جميع الأوراق التي يخشى منها، وسيسقط في يد الملك يوحنا عندما يعرف أنه ليس رئيس بيته.
صديقك غوردون
الفصل الثالث
حكومة دارفور
كانت سنة 1880 سنة سلام وهدوء نسبيين في دارة، وكانت أهم أعمالي إدارية؛ فقد زرت تقريبا جميع القرى بنفسي، وعرفت جميع القبائل العربية القوية التي كانت على الدوام مشتبكة بعضها مع البعض في قتال متواصل أو موشكة على القتال، وقد قمت بينها عدة مرار بالصلح.
ووجدت في ختام سنة 1880 أن لدي عدة أشياء تستحق مراجعة الحاكم العام، فطلبت الإذن بالذهاب إلى الخرطوم لكي أقابل رءوف باشا الذي صار حاكما عاما بعد سفر غوردون، وقد أجيب طلبي فبرحت دارة في سنة 1881 وبلغت الخرطوم بعد أسبوعين.
هناك وجدت زربوخين الذي رحب بي وأنزلني بمنزله القريب من مكان الرسالة الكاثوليكية الرومانية، وكان ملكا للمرحوم لطيف دويونو، وهو رجل ملطي كان نخاسا شهيرا.
وفي مدة إقامتي في الخرطوم كنت أحادث رءوف باشا كثيرا عن أحوال دارفور، واقترحت أنه يحسن عدلا وإنصافا أن تخفض الضرائب في الفاشر وفي كبكبية، وطلبت منه أيضا أن يأذن لي بأن أجبر العرب على أن يعطوني كل عام عددا من العبيد؛ لكي أملأ بهم الفراغ الذي يقع في الجيش بالأمراض والوفيات والحوادث، وطلبت أيضا منه أن يأذن للعرب بأن يدفعوا الضرائب عبيدا بدلا من المواشي؛ لأني أؤمل بهذه الطريقة أن أسترجع إلى جيشنا جنود «البازنجر»، الذين كانوا ملتحقين بجيش سليمان زبير وصاروا الآن متفرقين في القبائل، وقلت إن معرفتهم بالأسلحة من أسباب الخطر الدائمة للحكومة، فوافق رءوف على جميع طلباتي وأعطاني صكا مكتوبا بذلك.
ولما كنت في الخرطوم جاءني في يوم ما من يدعى حسن ولد سعد النور، وهو دارفوري ، وكان أبوه قد قتل مع وزير أحمد شحاتة في شقة، فرجاني أن أتشفع له لكي يعود إلى دارفور، فقابلت رءوف باشا وطلبت ذلك منه فرضي، ولكنه بعد أيام أرسل لي وقال إنه عاد فألغى أمره، وإنه لا يسمح بعودة هذا الرجل إلى دارفور، فقلت إن كل جنايته أنه اشترك في الثورة وقد فعل غيره ذلك، وإنه لا سبيل له الآن إلى إيصال الأذى بالحكومة، ولكن رءوف باشا أبى أن يوافقني على رجوعه، وشعرت أنا بالإهانة لأني كنت وعدت هذا الرجل بأنه سيرجع، فقلت لرءوف باشا إنه بين اثنتين؛ إما رجوع الرجل وإما قبول استقالتي، وخرجت مغضبا فاستدعاني بعد ذلك بيومين، وقال لي إني كنت مخطئا في وعد هذا الرجل بالرجوع فأقررت بذنبي، فقال لي إنه سمح برجوعه وإنه يعتقد أني موظف عنيد ولكني ذو كفاية؛ ولذلك طلب من الخديو توفيق باشا أن يعينني حاكما لدارفور وأن يمنحني لقب بك، فشكرته وأكدت له أني سأعمل جهدي لكي أحقق ثقته في.
ثم طلب مني رءوف باشا أن أكتب له ضمانا أتحمل فيه تبعة مسلك نور في المستقبل، فكتبت هذا الضمان وأنا مسرور؛ لأني شعرت أنه بعد كل ما تحملت من المشاق لأجل رجوعه إلى وطنه سيحسن سلوكه ويثبت ولاءه وأمانته، ولما عدت إلى منزلي أرسلت في حضور نور، وكان قد مضى عليه يومان وهو لا يدري ما تنتهي إليه مسألته، فلما أخبرته بأنه قد أذن له بالرجوع إلى وطنه انكب على قدمي وأخذ يشكرني ويكثر من الدعاء لي، وشعرت بأنه رجل شريف يمكن الاعتماد عليه، ولكني كنت وقتئذ أجهل أني قد ضممت إلى صدري ثعبانا.
وانتهت إجازتي بالخرطوم بسرعة بين الأصدقاء الكثيرين، وقد وصل إلينا في أواخر يناير سنة 1881 الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر والأب دختل، وكانوا قد جاءوا من القاهرة، ووصل إليها أيضا حسن باشا رئيس المالية وبوساني وهانسل القنصل، وقد نزل أوهروالدر ودختل في منزلي، وكم كان لنا من حديث معا عن وطننا المحبوب.
وفي 25 يناير 1881 وصل جسي باشا إلى الخرطوم وصحته في غاية السوء، قد برح مشرى الرق وركب النيل قاصدا إلى الخرطوم فحجز السد سفينته؛ والسد هو تلك النباتات التي تنمو في النيل بحيث يحتاج أحيانا إلى قطعها بالفئوس لكي يشق طريقا للسفينة، وبقي ثلاثة أشهر وهو يعالج اجتياز السد، ولقي الأمرين من جوع وأمراض بين رجاله، ومات أكثر رجاله وصار بعضهم يأكل بعضا للجوع، ثم أنجده أخيرا ملنرو في الباخرة بردين وحمله عليها إلى الخرطوم حيث عنيت به الراهبات، ولكن الصدمة التي نالت جسمه كانت قد هدته، فلم ينجح الدكتور زربوخين مع كل ما بذله في رد عافيته إليه، ثم قررنا جميعا أن يرسل إلى مصر وبذلنا كل مجهود لكي يشعر بالراحة والرفاهية في سفره، وكان يرغب في أن يأخذ معه خادمه ألماظ وكان خصيا، ولكن رءوف باشا خشي أن تتقول الأقاويل عن إدارته في السودان بوجود هذا الخصي مع جسي باشا، فرفض أن يأذن له بمرافقته، ولكن إلحاحي وإلحاح زربوخين عليه جعلاه يلين في النهاية ويسمح له بالسفر معه، وفي يوم 11 مارس حملنا جسي إلى ذهبية الحاكم العام حيث سارت به إلى بربر، ومن هناك حمل إلى سواكن ونزل في الباخرة التي نقلته إلى السويس، وكان قد تغلب عليه الضعف حتى لم يكن يقوى على الحركة، ووصل إلى السويس في 28 مارس ونقل إلى المستشفى الفرنسي، ولكنه مات بعد وصوله بيومين.
ولم تكن الحال في هذه الأثناء على ما يرام في دارفور؛ فقد كتب إلي زوجال بك يقول إن عمر واد دارهو قد سار سيرة سيئة في شقة، وقدمت خطابه هذا إلى رءوف باشا فأرسل إليه في الحال تلغرافا يأمره فيه بأن يسافر إلى الفاشر.
ولم يعد لي في الخرطوم ما يؤخرني عن السفر فعزمت على أن أقوم بأسرع ما يمكن لكي أتسلم أعمالي، ووضع رءوف باشا باخرة تحت تصرفي فتركت الخرطوم في 29 مارس، ورافقني الأسقف كومبوني والأب أوهروالدر الذي وعدته بأن أحمله على جمالي إلى الأبيض، وقد شيعنا هانسل القنصل وماركو بولي بك وزربوخين وماركيه إلى طرة الحضرة حيث ودعناهم، ولم أفكر وأنا أودعهم أنني لن ألاقي منهم بعد ذلك سوى واحد وأن تقدر لي العودة إلى عاصمة السودان في ظروف غريبة، وكنت شابا يملؤني إحساسي بالمركز الجديد الذي شغلته والتبعات العظيمة التي تحملتها بحماسة وأمل في المستقبل، ولكن الأقدار كانت تخفي عنا حظا آخر.
وبعد مسيرة خمسة أيام بلغنا الأبيض فبرحها الأسقف وقام بسياحة في جبل نوبة، أما الأب أوهروالدر فقد بقي فيها مدة ثم سافر في أعمال الرسالة إلى دلين في جنوبي كردفان، ومكثت في الأبيض بضعة أيام ثم تسلمت تلغرافا لكي أقوم إلى فوجة فودعت صديقي وسافرت إليها، وكان مقدرا لي ألا أرى صديقي الأسقف؛ فإنه مات في الخرطوم في سنة 1881.
أما الثاني أوهروالدر فقد حكم علينا القدر بأن يمنى كل منا بمحن عديدة قبل أن نتلاقى أسيرين عند المهدي، الذي كان يوشك أن يقلب وقتئذ كل نظام أو حكومة في السودان.
ولما برحنا الأبيض أغذذنا السير حتى وصلنا دارة ومنها إلى الفاشر حيث بلغتها في 20 أبريل، ووجدت الأحوال الإدارية قد بلغت درجة عظيمة من الارتباك والفوضى، فقضيت بضعة أشهر وأنا أجتهد في إيجاد شبه نظام فيها، ونجحت في ذلك بعد أن جلت في أنحاء المديرية، وباشرت عدة أعمال بنفسي وكبر رجائي في الإصلاح.
ولم أكن قد رأيت بعد الجزء الشمالي الغربي من المديرية، فتعللت بأخبار القتال بين عرب البادية وعرب المهرية وعولت على زيارة هذا الجزء، وفي منتصف شهر ديسمبر سنة 1881 برحت الفاشر ومعي 200 من الجنود المشاة وبعض الخيالة غير النظاميين، وكان يقودها عمر واد درهو.
وبعد مغادرتنا الفاشر حططنا رحالنا للمبيت قرب آبار مدجوب، وهي تقع في منتصف الطريق إلى قبة، فلما خيم الظلام خرجت أتمشى نحو الآبار وكانت ملابسي تشبه ملابس الجنود، فلم يكن من السهل معرفة شخصي، وقعدت قريبا من الآبار أنظر إلى النساء وهن يستقين، وجاء بعض الخيالة لكي يسقوا خيولهم وطلبوا من النساء أن يعطينهم دلاءهن، فرفضت النساء وقلن لهم: «سنملأ جرارنا أولا ثم نعطيكم الدلاء.»
فقال أحد الجنود : «لكأنكن تحكمن علينا بالعقاب من الله، وهذا جزاء منح الحرية للبلاد، والله لو لم يكن سلاطين معنا لأخذناكن أنتن وجراركن ملكا لنا.» فأجبنه قائلات: «الله يطول عمره.»
فرجعت وأنا في غاية السرور لأني سمعت بأذني شهادة السودانيين بارتياحهم إلى الأوروبيين الذين نجوهم من المظالم التي كانت تتسم بها حكومة البلاد السابقة.
ولما برحنا كبكبية وصرنا على مسيرة نصف يوم منها، أدركتنا رسل أرسلها إلينا آدم عمر برسالة مكتوبة بالشفرة الفرنسية بعثها إلي مركو بولي بك باسم الحاكم العام، وكانت قد أرسلت ليلا إلى فوجة ثم إلى كبكبية عن طريق الفاشر وهذا نصها:
أغار درويش يدعى محمد أحمد بدون مسوغ على راشد بك وجنوده، قريبا من عذير، وأباده هو والجنود، الثورة خطرة جدا، اعمل اللازم في مديريتك حتى لا ينضم إلى هذا الدرويش أي واحد من الساخطين.
فكتبت الرد في الحال وهو:
وصلت إلي الرسالة، وسأتخذ الإجراءات اللازمة لإنفاذ أوامرك.
وقد كنت سمعت قبل وصول هذه الرسالة إلي بمدة أن شيخا من مشايخ الدين قد ظهر وأخذ يناوئ الحكومة ويحث الناس على العصيان، ولكني لما لم أسمع شيئا عنه من الحكومة بصفة رسمية استنتجت أن مسألته قد سويت، ولكن إبادة المدير راشد بك وجنوده صارت تبدو لي الآن في غاية الخطر، والظاهر أن الحركة قد امتدت فجأة ولكن من كان يمكنه وقتئذ التنبؤ بالنتائج الهائلة التي بلغتها فيما بعد هذه الحركة.
ولم يكن من الممكن الآن أن أرجع بعد أن شرعت في السير نحو عرب البادية وعرب المهرية بدون أن أثير القلق في النفوس عن علة رجوعي في نصف الطريق، فعولت على أن أتمم هذه المهمة قبل رجوعي.
ومن الغريب أن عرب البادية هؤلاء مع أنهم محاطون من كل جانب بالمسلمين، يكادون يؤلفون القبيلة الوحيدة التي لا تزال متعلقة بعادات الوثنية القديمة في وسط أفريقيا، فإذا سئل أحد رؤسائهم أن يصرح بدينه قال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكنه لا يعرف شيئا غير هذه العبارة؛ فهو يجهل القرآن ولا يصلي مع المسلمين.
وكانت عرب البادية يجتمع رجالها تحت شجرة كبيرة جدا من شجر الهجلك وقد فرشت أرضها بالرمل، فيتمنون على إله مجهول ما يريدون ويدعونه إلى حمايتهم.
ولهم أعياد دينية تقع في أوقات غير معينة، فيصعدون إلى التلال ويقفون على القمة التي يطلونها بالجير ثم يذبحون أضحياتهم، وهم طوال الأجسام لهم هيئة شريفة ولونهم أسود شديد السواد، ولكن أنوفهم دقيقة وأفواههم صغيرة؛ وهم لذلك أشبه بالعرب منهم بالزنوج، ونساؤهم مشهورات بشعرهن الطويل السبط، وبينهن جميلات يشبهن جميلات العرب، وهم يلبسون وزرة من جلود الحيوان، ولكن النساء والطبقة العالية من الرجال يلبسون ملابس طويلة مصنوعة من قطن دارفور، وطعامهم غاية في البساطة.
فهم لا يعرفون القمح ولا يزرعونه وإنما يأخذون لب القرع الذي ينمو عندهم بكثرة وينقعونه في آنية مصنوعة من لحاء الشجر، ثم يقشرونه ويتركون اللب في الماء حتى تذهب عنه مرارته، ثم يصفونه ويمزجونه بالبلح، ثم يجففونه ويطحنونه دقيقا يخبز مع اللحم فيكون طعاما.
ولهم عادات غريبة في الميراث، فإذا مات أحدهم اجتمع أقاربه وحملوه إلى قبره في الجبانة التي تقع عادة خارج الحلة أو القرية التي يعيشون فيها، فإذا دفن وقفوا مستعدين فتشار لهم إشارة خاصة فيعدون إلى بيت الميت متسابقين، فمن بلغه قبل غيره غرز رمحه أو قوسه، فيصير بذلك الوارث الوحيد لما ترك الرجل من مال ونساء ما عدا أم المتوفى، وله الحق عندئذ في أن يتزوج النساء أو يسرحهن حسب حالته المالية، فإن عدد النساء يتوقف على غنى الرجل أو فقره.
ووصلنا أخيرا إلى كامو حيث أخبرني الزغاوة الكبير الشيخ صالح دنقوسة بأن رؤساء عرب البادية سيحضرون في الغد، واتفقت معه على أن تكون شجرة الهجلك مكان اللقاء والمفاوضة، وأن يكون ميعاد المفاوضة بعد ساعة من شروق الشمس، ويكون هو ترجمانا بيني وبينهم، وأمرت رجالي بنصب خيامهم على بعد نصف ميل من شجرة الهجلك ثم صففتهم في صباح اليوم التالي؛ استعدادا للقاء رؤساء البادية الذين أخبرنا صالح المذكور بقدومهم، ووقفت مع ضباطي ومع السنجق عمر واد دارهو متقدمين على الجنود بنحو مائة ياردة ومعنا الخدم وقوفا إلى جانب الخيول، ثم ظهر لنا رؤساء البادية قادمين إلينا ومعهم صالح وأيديهم مكتوفة إلى صدورهم ورءوسهم منكسة، وقد أحضروا معهم ترجمانا فتبادلنا التحية بواسطته، ثم أمرت ببسط السجاد على الأرض ودعوتهم إلى الجلوس عليه، أما أنا وضباطي فقد جلسنا على الكراسي ثم تناولنا شيئا من السكر والماء والملح وشرعنا في المفاوضة.
وكان رجال البادية أربعة كلهم طويل شريف الهيئة ذو ملامح حسنة في سن الكهولة، وكانت ملابسهم جلابيب بيضاء أحضرها لهم صالح، وكانوا يحملون السيوف العربية المستقيمة، وكانت أسماؤهم: جار النبي، وبوش، وعمر، وكركرة. ولكني لست متأكدا بأنهم لم يتخذوا هذه الأسماء العربية المطنطنة وقتيا للظرف الحاضر فقط، وكان أتباعهم يبلغون من ستين إلى سبعين رجلا يلبسون القمصان والجلود وقد وقفوا وراءهم على بعد منهم، وقعد صالح دنقوسة قريبا من الشيوخ ومن المترجم.
وتكلم جار النبي مخاطبا المترجم قائلا: «كرسي سلم». فقال المترجم سلم يعني أنه مستعد للترجمة، ثم شرع في المفاوضة قائلا:
نحن من قبيلة البادية، وقد كان آباؤنا وأجدادنا يدفعون الخراج لسلطان دارفور كل سنتين أو ثلاث عندما كان يرسل جباته لجمعه، وأنتم الأتراك قد تغلبتم الآن على دارفور ولم تسألونا قط أن ندفع لكم خراجا، وأنت (لسلاطين) قد صرت حاكما للبلاد كما أخبرنا بذلك صديقنا وأخونا دنقوسة، ونحن نقر بطاعتنا لك، وقد أحضرنا معنا رمزا لهذه الطاعة عشر خيول وعشر جمال وأربعين بقرة، فهل لك الآن أن تقرر قيمة الخراج المطلوب منا؟
وصارت النوبة إلي في الكلام، فبعد أن قلت «كرسي سلم» قلت: «أنا أشكركم على خضوعكم وسأطلب خراجا صغيرا، ولكني جئت هنا لكي أطلب منكم أن تردوا إلى المهرية جمالهم التي سرقتموها وتردوا إليهم أسراهم الذين تحبسونهم الآن.»
فتريث جار النبي هنيهة ثم قال: «منذ عهد آبائنا ونحن في ثارات مع العرب المحيطين بنا، فإذا قاتلناهم وأسرنا منهم أسرى فمن حقنا أن نطلب فداءهم، وكثيرا ما قبلنا قبلا فكاك أسرى المهرية.»
فسألت الشيخ حسب الله عن صحة هذه الدعوى فأجاب بالإيجاب، فسألته ثانيا: «هل كانت هذه العادة تجري مدة سلاطين دارفور فقط، أو أنها جرت أيضا بعد دخول دارفور في حكم الحكومة المصرية.»
فأجاب: «قبل أن تفتحوا البلاد ومنذ سنتين غزت المهرية بلادنا فصددناهم فارتدوا عنا.»
فنظرت إلى حسب الله ووجدت من عينيه أن الرجل يقول الحق فقلت: «قد يكون ذلك ولكني في ذلك الوقت لم أحكم هذه البلاد، وأنا أعرف أنكم في تلك الأيام كنتم تعملون ما كنتم تظنونه صوابا، ولست ألومكم على ما فات ولكني أنا الآن الحاكم وأطلب منكم السير على رغبتي، فيجب إذن أن تردوا الأسرى، ولكن بما أن المهرية قد بدءوكم بالهجوم فأنا أسمح لكم بأن تحتفظوا بنصف الجمال برهانا على شجاعتكم في رد غارتهم.»
فخيم سكوت طويل ثم أخذ الأربعة يتفاضلون معا، وأخيرا أجاب جار النبي بقوله: «سنطيع أمرك، ولكن بما أن جمع الجمال يحتاج إلى مدة طويلة لتفرقها في أنحاء البلاد، فإنه من الأسهل علينا أن نرد الأسرى.»
فقلت: «إذن التفتوا لما أقول ونفذوا هذه الأوامر بأسرع ما يمكنكم، ردوا الجمال وأنا أعفيكم من خراج هذا العام؛ لأني أعرف أن من الصعب أن تدفعوا الخراج وتردوا الجمال في وقت واحد.»
ورأينا أن هذه التسوية قد وافقتهم حتى صاروا يكثرون من الشكر والدعاء، فطلبت منهم البقاء لصباح اليوم التالي وقلت: إن صالح سيعنى بكل حاجاتكم. ثم امتطينا خيولنا وأمرت الجنود بأن يطلقوا ثلاث طلقات، وقد ذعروا عندما صكت آذانهم؛ لأنهم لم يسمعوا إطلاق العيارات النارية قبلا، ثم أمرت صالحا بأن يحضرهم لي في صباح اليوم الثاني، وركضت جوادي إلى مضرب خيامنا.
وقضيت طول النهار وأنا مشغول البال بشأن رجوعي إلى الفاشر بدون أن يؤثر رجوعي في نجاح بعثتي، ولم يكن من المتيسر لي أن أبقى حتى أرى رد الأسرى، وكنت أيضا قلقا بشأن قرب الماء الذي أعطاه لنا المهرية، وقد وبخت حسب الله لعدم إتقانه هذه المهمة.
ولما جاءوا في صباح اليوم التالي سألتهم هل أرسلوا الرسل لجمع الأسرى والجمال، فأجابوني بالنفي، فقلت لهم في لهجة التغيظ إني لن أقدر على الانتظار لكي أرى تنفيذ أوامري بنفسي، فقال جار النبي: «نحن هنا يا مولاي لكي ننفذ أوامرك، فيمكنك أن تسافر حين تشاء، ونحن نسلم الأسرى والجمال إلى دنقوسة وحسب الله.»
فقلت: «عندي اقتراح آخر، فإني لا أشك في إخلاصكم وولائكم، ولكني أحب أن أزيد معرفتي بكم؛ ولذلك أرى أن تصحبوني أنتم ومن تريدون أن يرافقكم إلى الفاشر، وفي أثناء غيابكم تنتدبون من ترغبون في ندبه لكي يسلم الرجال والجمال لحسب الله الذي سيبقى هنا مع دنقوسة، وعندما تبلغني الأخبار وأنا بالفاشر بأن مندوبيكم قد فعلوا ذلك، أردكم أنا إلى بلادكم مثقلين بالهدايا، إنكم لم تزوروا الفاشر قبلا، ويلذ لكم رؤية عاصمة المديرية وقوة الحكومة، وإني واثق بأنكم ستوافقون على اقتراحي هذا، وستسرون لما تشاهدونه هنالك؛ حتى إنكم ستوافقون بعد ذلك دائما على كل ما أطلبه منكم في المستقبل.»
فقال صالح إن الاقتراح حسن ولكنه قد سبق أن رأى الفاشر؛ ولذلك هو لا يرغب في زيارتها ثانيا، ورأيت من وجوه الآخرين أنهم يستحسنون الفكرة، وبعد محادثات طويلة وافقوني على السفر معي. وكانوا لعلمهم بأن سفرنا يتوقف على انتداب من يثقون به لتسليم الأسرى والجمال؛ أخذوا يتشاورون بسرعة في انتداب عدد منهم لكي يقوموا بهذا العمل، ولما انتهوا من ذلك زودوهم بستة رجال لخدمتهم وأخبروني باستعدادهم للسفر، ولكنهم قبل أن يسافروا طلبوا مني أن يقسموا يمين الولاء فوافقتهم على ذلك، وكان لأخذ هذه اليمين حفلة نظامها كما يلي:
أحضروا سرج جواد ووضعوه على الأرض، ثم وضعوا فوقه قدرا تحتوي على فحم خشبي متقد وغرزوا في السرج رمحا، ثم تقدم شيخ بعد شيخ منهم وصار يتلو كل منهم كلمات ثم يقسم في نهايتها اليمين التالية:
لا تمس ساقي هذا السرج، وليطعنني هذا الرمح، ولتأكلني هذه النار؛ إذا أنا نكثت بهذا العهد الذي أتعهد به أمامه.
وبعد هذه اليمين المحرجة لم يكن ثم ما يريبني في ولاء هؤلاء الناس أو في شرفهم، وأمرت بالشروع في السفر بعد الظهر، وبرحنا كاموا برفقة رؤساء البادية وحاشيتهم، وأمرت صالحا وحسب الله بأن يخبراني عن تنفيذ الاتفاق وتسليم الرجال والجمال، وكنت راغبا في الوصول إلى الفاشر بأسرع ما يمكنني؛ ولذلك تركت رؤساء البادية مع فرقة المشاة، وأوصيت الضباط بالعناية بهم طول مدة سفرهم، ثم اصطحبت عمر واد درهو وحرس الشايجية وأسرعنا في السفر إلى الفاشر.
وكان أول ما سمعته من الأخبار عند وصولي وفاة إميلياني دانزنجر الذي كان في شقة، وقد كان قبلا مأمور القبة، ولكني كنت أرسلت إليه لكي يمثل الحكومة في جنوبي دارفور، وكان يشكو من مرض القلب منذ سنوات ثم قضى عليه أخيرا، ولم يفهم الموظفون الذين حوله سبب موته هذا الفجائي؛ ولذلك اشتبهوا في أنه قد مات مسموما فحملوه على جمل وأرسلوه إلى دارة، ففحص الجثة الصيدلي المقيم هنالك وقال إن الموت طبيعي، ودفنت الجثة في دارة وأقمت أنا نصبا من الحجر عليه؛ تذكارا لهذا المواطن المسكين الذي لقي حتفه في هذه البلاد النائية.
ثم بلغني أن في شقة قلاقل قد جرت حديثا، وأني محتاج لذلك للسفر إلى دارة والإقامة بها جملة أيام، وجاءتنا أيضا أخبار مزعجة عن الحالة في كردوفان والخرطوم، ولكن كان المظنون في دوائر الحكومة أن الثورة ستقمع بالحملة العسكرية التي أرسلت لهذا الغرض، وبعد أيام وصل رؤساء البادية، وقد أمرت - بغية التأثير فيهم - جميع جنود الحامية بالخروج والعرض أمامهم، وفي الليل أطلقنا جملة أسهم نارية إكراما لهم، وقد انتدبت المدير لكي يقوم بحراستهم وراحتهم ولكني لسوء الحظ لم أتمكن من البقاء معهم طويلا، فما كادت الخيول تستريح حتى شرعت في السفر إلى دارة يصحبني عمر واد دارهو ومائتان من الشايجية، وانتدبت السيد بك جمعة لكي يمثل الحكومة مدة غيابي.
الفصل الرابع
رواية الخليفة عن المهدي
ظهر لنا أن حركة الدراويش كانت خطيرة جدا، ولقد ولد هذا الرجل محمد أحمد قريبا من جزيرة أرغوا من عائلة فقيرة خاملة، ولكن أفرادها كانوا يدعون أنهم من نسل النبي، ولكن هذه الدعوى لم يكن أحد يأبه لها، وكان يعرف محمد أحمد هذا باسم الدنقلاوي، وكان أبوه فقيها عاديا وقد علمه القراءة والكتابة وهو صبي وأخذه إلى الخرطوم ولكنه مات في الطريق في كريري، حيث بنى ابنه له بعد ذلك ضريحا سماه «قبة سيدي عبد الله».
ولم يجد محمد أحمد من يعتمد عليه بعد وفاة أبيه، فأخذ يدرس ويثابر على القراءة، وكانت نفسه تنزع إلى التفقه في الدين، فأحبه أستاذه وأوصاه بحفظ القرآن عن ظهر قلبه، ثم سافر إلى بربر وتتلمذ لمحمد الخير فأتم عليه تعليمه الديني وبقي جملة سنوات في بربر يدرس ويقرأ، وكان لتواضعه وذكائه محبوبا وفي حظوة من جميع المعلمين، ولما بلغ سن الرجولة غادر بربر إلى الخرطوم فصار تلميذا للشيخ محمد الشريف، وكان رجلا وقورا مشهورا وكان أبوه نور الدائم صاحب الطريقة السمانية المعروفة.
وواجب شيخ الطريقة أن يكتب فقرات من الأدعية والحديث، فيحفظها تلاميذه عن ظهر قلب ويكررون تلاوتها حتى يتمهد بذلك لهم الطريق إلى قصور الجنة التي هي غاية كل مؤمن، ولكل شيخ مذهبه وهو يحمل اسم مؤسس الطريقة مثل طريقة الخاتمية والخضرية والتغانية والسمانية إلخ، وتلاميذ أصحاب الطرق هؤلاء يطيعونهم ويلزمونهم.
وأظهر محمد أحمد تعلقه بالطريقة السمانية وتعلق بصاحبها الشيخ محمد شريف، ثم رحل إلى جزيرة أبة في النيل الأبيض قريبا من كاوة وحوله جماعة من تلاميذه المخلصين المتعلقين به، وكانوا يرتزقون بزرع الأرض، كما كانت تأتيهم هدايا عديدة من المؤمنين الذين كانوا يمرون عليهم في النيل صعودا أو هبوطا، وكان عم محمد أحمد مقيما في الجزيرة منذ سنوات فتزوج ابنته محمد أحمد، وكان أخواه محمد وحامد يعيشان هناك، وكانا يشتغلان بصنع القوارب ويعاونان أخاهما على العيش، وحفر محمد أحمد لنفسه شبه صومعة في شاطئ النيل، وكان يعيش هناك بعيدا عن الناس، وكان يصوم عدة أيام ولا يزور رئيس الطريقة إلا من وقت لآخر لكي يثبت له إخلاصه.
وحدث في أحد الأيام أن محمد شريف جمع لمناسبة ختان أبنائه مشايخ الطريقة والتلاميذ وأذن لهم في الغناء والرقص؛ لأن الله يغفر في مثل هذه الظروف الخاصة في الأفراح ما يحدث من الخطايا والذنوب المخالفة، ولكن محمد أحمد لما انطبع عليه من التقى والصلاح استنكر الغناء والرقص وضروب الطرب الأخرى، وأوضح لأصدقائه مخالفتها كلها للدين، وأنه لا يمكن أي إنسان مهما كان قدره ولو كان شيخ طريقة أن يترخص فيها، وبلغت هذه الأقوال محمد شريف فأكبر من محمد أحمد وعظ تلاميذه واستنكر الحجج التي أدلى بها وطلب منه أن يبرر أقواله، وكانت نتيجة ذلك أن تقدم محمد أحمد بالاعتذار وهو يتذلل أمام التلاميذ والأتباع ويطلب الصفح، ولكن محمد شريف أخذ يلعنه وينسب إليه الخيانة والخروج على شيخه بعد أن أقسم يمين الولاء له، ثم محا اسمه من قائمة الأتباع المذكورين في الطريقة السمانية.
فذل محمد أحمد وصغر وذهب إلى أحد أقاربه وطلب منه أن يصنع له «شعبة»؛ والشعبة عبارة عن خشبة مشقوقة يوضع العنق في شقها فتنضم وتؤلم الإنسان بذلك ألما شديدا، ثم ذر على وجهه رمادا وعاد إلى محمد شريف في هذه الهيئة يرجو الصفح ويقر بالتوبة والندم، ولكن شيخ الطريقة رفض أن يخاطبه، فعاد محمد أحمد خائبا إلى أهله في أبة، وكان يحترم مؤسسي الطريقة السمانية الشيخين نور الدائم والطيب احتراما عظيما؛ ولذلك كان لطرده من طريقتهما وقع عظيم في نفسه لا يكاد يحتمله.
وحدث بعد ذلك أن سافر محمد شريف إلى بلدة قريبة من أبة، فذهب إليه محمد أحمد في الشعبة ووجهه ملطخ بالرماد يستغفر ويتوب، ولكن الشيخ طرده أفظع الطرد وقال له: «اخسأ عني يا خائن، اخسأ أيها الدنقلاوي الشقي الذي لا يخاف الله والذي يخرج على معلمه ومولاه، لقد حققت قول من قال: الدنقلاوي شيطان مجلد بجلد إنسان، إنك تثير الشقاق بين الناس، فاخسأ عني فإني لن أغفر لك.»
وكان راكعا يسمع هذا الكلام الجارح ثم انتصب وخرج والدموع تنهمل من عينيه، ولكن هذه الدموع لم تكن دموع الندم بل دموع الغيظ والحقد اللذين كان يتلظى بهما قلبه، وكان مما يزيده غيظا قلة حيلته في غسل هذه الفضيحة عن نفسه، فعاد إلى أهله وأخبرهم أن محمد شريف قد طرده ولن يقبله في الطريقة ثانيا، وأنه قد عزم على أن يطلب من الشيخ القريشي أن يقبله في طريقته، وكان هذا الشيخ قد خلف الشيخ الطيب جد محمد شريف، وقد أذن له في تعليم الطريقة السمانية وإعطاء العهد عنها، وكان بينه وبين محمد شريف لهذا السبب غيرة شديدة.
وجاء جواب الشيخ القريشي يقول فيه إنه مستعد لقبوله، وتهيأ محمد أحمد هو وتلاميذه للذهاب إلى مسلمية حيث الشيخ القريشي وأخذ العهد منه، وبينما هو في ذلك وإذا برسالة من محمد شريف قد وصلته، يقول له فيها إنه يأمره بالقدوم وإنه قد عزم على الصفح عنه وعلى الإذن له بأن يعود إلى ممارسة الطريقة، فرد عليه محمد أحمد ردا أبيا قال فيه إنه لا يطلب الصفح لأنه لم يذنب، وإنه لا يحب أيضا أن ينقص مكانة الشيخ بأن يجتمع به علنا أمام الناس وهو «دنقلاوي شقي»!
واستقبله الشيخ القريشي مرحبا، وانتشرت حكاية رفض محمد أحمد قبول الصفح من شيخه في جميع أنحاء السودان، ولم يكن الناس قد سمعوا بمثل هذا العمل من قبل، وأخذ محمد أحمد يصرح بأنه ترك مولاه القديم؛ لأنه قد خالف الدين جهرة، فعطف عليه الناس عطفا كبيرا لهذا السبب وجعلوا يتحدثون به، وكبر مقامه في عيونهم، وقد بلغت هذه الحادثة أهل دارفور وصارت حديثهم وصار هو بطلا يعجب به؛ لرفضه الطاعة لمولاه.
وحصل على إذن من الشيخ القريشي بأن يعود إلى أبيه حيث كان يزوره الناس من جميع البلاد يتبركون به، وصارت العامة تهرع إليه وترى فيه مظلوما خرج على ظالمه وأبى الضيم، وكانت تأتيه الهدايا فيفرقها بين الفقراء ولا يأخذ شيئا منها لنفسه؛ حتى صار يلقبه الناس بلقب «الزاهد».
ثم سافر إلى كردفان حيث يكثر الفقهاء، وهم من أجهل الناس وأكثرهم خرافات، فلقي نجاحا عظيما بينهم، ووضع رسالة وزعها بين أتباعه المخلصين، حضهم فيها على تطهير الإيمان الذي فسد وانحط بفساد الحكومة وعدم احترام الموظفين أركان الدين.
وبعد أشهر مات الشيخ القريشي فذهب محمد أحمد وأتباعه إلى مسلمية؛ حيث بنوا له ضريحا له قبة تذكارا له.
وحدث في هذا الوقت أن جاء رجل يدعى عبد الله بن محمد التعايشي من قبيلة البقارة؛ أي الذين يقتنون البقر، وطلب من محمد أحمد أن يدخل في الطريقة السمانية فقبله محمد أحمد وأقسم أمامه يمين الولاء، وكان عبد الله هذا أكبر إخوانه الأربعة، وكان أبوهم يدعى محمد التقي من قسم الحبيرة من فخذ التعايشي، وكان هذا الفخذ ينتسب إلى «أولاد أم صورة»، وكان لعبد الله أربعة إخوة؛ ثلاثة ذكور وهم: يعقوب ويوسف وسماني، وأخت تدعى فاطمة. وكانت علائق أبيهم بأسرته سيئة؛ ولذلك عزم على مهاجرة السودان والحج إلى مكة ثم الإقامة في جوار الرسول بالمدينة، وقد وصف أولئك الذين عرفوا محمد التقي هذا بأنه كان رجلا صالحا متحرجا، يؤدي واجباته الدينية بدقة ويشفي الأمراض بالتعاويذ والتمائم، وكان أيضا يعلم الناس القرآن.
وكان عبد الله ويوسف أشد أولاده عصيانا وقد لقي منهم الأمرين في تعليمهم بعض الآيات الضرورية للصلاة، أما يعقوب وسماني فكان فيهما شيء من طبع والدهما وهدوئه، وقد حفظا آيات القرآن وبعض الشروح وكانا يعاونانه على تأدية واجباته الدينية.
وقد اشتركت أسرة التعايشي في مقاومة الزبير عند فتحه دارفور، وقد حكى الزبير بأنه عندما كان يقاتل في الشقة وقع عبد الله أسيرا، وكان أوشك أن يقتله لولا أن توسط بعض الفقهاء، وعرف له عبد الله هذه المأثرة فجاءه يوما يقول له إنه رأى في نومه رؤيا، تتلخص في أن الزبير هو المهدي المنتظر وأنه هو عبد الله أحد أتباعه، قال الزبير: «فقلت له: إنني لست المهدي ولكني لعلمي شراسة العرب وأنهم أقفلوا الطرق، قد جئت لفتحها وإعادة التجارة إلى ما كانت عليه.»
ولما انتهى الصلح مع الزبير عاد التقي هو وأولاده عن طريق قلقة وشقة، التي بقوا فيها سنتين ثم غادروها إلى دار قمر عن طريق دار حمر والأبيض، وكانوا قد نزلوا ضيوفا على شيخ دار قمر وبقوا عنده عدة أشهر، ومات هناك أبوهم التقي فدفنوه في شرقلة، وقبل موته أوصى أكبر أبنائه عبد الله بأن يحتمي ببعض المشايخ ثم يهجر هو وأسرته السودان إلى مكة؛ حيث يعيشون بقية حياتهم ولا يرجعون إلى السودان.
وسافر عبد الله وترك إخوته طبقا لوصية أبيه في عناية الشيخ عساكر أبو كلام، وسمع في طريقه عن الشقاق بين محمد أحمد وشيخ طريقة السمانية التابع لها، وعزم على أن يذهب إلى محمد أحمد وأن يطلب منه الإذن بالاندماج في طريقته.
وقد قال لي بعد ذلك الشيخ عبد الله بن السيد محمد خليفة المهدي: «كان سفري شاقا جدا، وكان كل ما أملكه في الدنيا حمار له دبرة في ظهره، فلم أكن أستطيع ركوبه، وإنما كنت أضع عليه قربتي وغرارة القمح وأبسط فوقهما ثوبي المصنوع من القطن وأسوقه أمامي، وكنت في ذلك الوقت ألبس ثوبا فضفاضا من القطن مثل سائر رجال قبيلتي، أظنك تتذكر هذا الثوب يا عبد القادر.» «وكان يسميني عبد القادر، فإذا كان أحد آخر قاعدا وله هذا الاسم فإنه كان يدعوني باسم عبد القادر صلاح الدين أي سلاطين.»
وكانت ملابسي ولهجة كلامي تدلان على أني غريب، وبعدما عبرت النيل كان كلما قابلني أحد قال لي: ماذا ترغب هنا، اذهب إلى بلدك، ليس هنا شيء تسرقه! وأهل النيل يسيئون الظن بنا؛ لأن التجار الذين كانوا يذهبون إلى الغرب للزبير كانوا يلاقون عنتا كبيرا من العرب، وكنت عندما أسألهم: أين المهدي المعروف باسم محمد أحمد وأين يقطن؟ كانوا ينظرون إلي متعجبين ويقولون: وأنت ماذا ترغب منه، إنه لا ينجس شفتيه بذكر اسم قبيلتك. «ولكن لم ألق هذه المعاملة من كل الناس؛ فإن بعضهم كان يشفق علي ويدلني على الطريق، وكنت مرة أجتاز قرية فأراد بعض أهلها أن يستلبوا مني حماري متعللين بأنه سرق منهم في العام الماضي، وكادوا ينجحون في ذلك لولا أن توسط رجل صالح وأجازني القرية بحماري، وكنت طول الطريق عرضة للسخرية والتهزئة، ولولا أن البعض كان يشفق علي ويعطيني شيئا من الطعام لمت جوعا. وبلغت بعد الجهد مسلمية فوجدت المهدي مشغولا ببناء ضريح للشيخ القرشي، فما هو أن رأيته حتى ذهب عني كل ما عانيته من المشاق، وقعدت راضيا أعاينه وأسمع أقواله وتعاليمه، وبقيت ساعات لا أجسر على فتح فمي أمامه، ثم تشجعت وأخبرته بقصتي والحالة السيئة التي صار إليها إخواني، وعزمت عليه بالله والرسول إلا ما أدخلني في طريقته، ففعل ومد إلي يده فقبلتها مشتاقا وأقسمت له بالطاعة العمياء طول حياتي، وقد حافظت على هذا القسم حتى رفعه ملك الموت، وسيرفعنا أيضا يوما ما؛ ولذلك يجب أن نستعد للقائه في كل وقت.»
وكان عبد الله التعايشي كثيرا ما يحادثني بمثل هذه الأحاديث، يبعث إلي في الليل لكي أسامره، فأقعد أنا على الأرض ويقعد هو على العنجريب الفاخر المفروش بحصير السعف، وكان يثق بي ولا يخفي عني شيئا في الأول، أما بعد ذلك فصار يتشكك من جهتي.
وكان يحب التملق وكنت أغلو أنا في ذلك فأفوت الحدود، ولكني كنت أرغب في أن يتم حديثه، فقلت له: «أجل يا مولاي، لقد حفظت وعدك وكافأك الله، فبعد أن كنت محتقرا مهينا قد صرت الآن رئيس البلاد وملكها، ولقد كان يحق لأولئك الذين سبوك وأهانوك أن يشكروك ويعترفوا بفضلك، فإنك لم تنتقم منهم بل حلمت وتمالكت، فثبت بذلك أنك خليفة النبي.»
قال عبد الله: «لما أقسمت يمين الولاء للمهدي أحضر أحد تلاميذه ويدعى علي وقال له ولي: أنتما منذ الآن إخوان، فليؤيد كل منكما الآخر وأنت يا عبد الله أطع ما يأمرك به أخوك.
وكان علي يجاملني وكان فقيرا مثلي، وكان كلما أرسل إليه المهدي طعاما يشاركني فيه فأصيب منه، وكنا في النهار نحمل الطوب لبناء الضريح، وفي الليل ننام على فراش واحد، وتم بناء القبة بعد شهر، وكان الزائرون يتوافدون على المهدي بالمئات، فلم يكن لديه من الوقت ما يمكنه أن يراني أو يفكر في، ولكني كنت أعرف أن لي في قلبه مكانة؛ حتى إنه جعلني أحد حملة البيارق ، ولما غادرنا المسلمية كان الناس يهرعون إلينا لكي ينظروا المهدي، وكانوا يسمونه في ذلك الوقت باسم محمد أحمد فقط، وكانوا ينصتون إلى أقواله ويرغبون في بركته.
ولازمتنا هذه الحال حتى بلغنا جزيرة أبة، وكان نعلاي قد بليا، وكنت قد اضطررت إلى إعطاء حماري للمقدم - وهو رئيس التلاميذ - لكي يحمل عليه رجلا مريضا، ولكنا وصلنا في النهاية إلى بيت المهدي، وهنا أصابتني دوسنطاريا شديدة، فأخذني «أخي» علي إلى عشته المصنوعة من القش، ولم تكن تكاد تسع اثنين، وكان يأتيني بطعامي ويحمل إلي الماء للوضوء.
وذهب في مساء أحد الأيام لإحضار الماء ولكنه لم يرجع، وفي صباح اليوم التالي أبلغت أنه - وهو يستقي من النيل - هجم عليه تمساح وافترسه، الله يرحمه، الله يغفر له.»
فكررت أنا هاتين العبارتين وقلت: «ما أعظم صبرك يا مولاي! من أجل ذلك قد رفع الله مرتبتك، وهل لي يا مولاي أن أسألك هل أعارك المهدي التفاتة مدة مرضك؟»
فقال: «كلا فقد أراد المهدي أن يبلوني، ولم يخبره أحد بمرضي إلا بعد وفاة علي، وجاءني بعد ذلك في مساء أحد الأيام وكنت منهوكا لا أقوى على النهوض، فقعد بجانبي وأعطاني مديدة سخنة من قرعتي وقال لي: اشرب هذا وثق بالله فإنك ستشفى.
ثم غادرني وجاء بعض الإخوان فحملوني بأمره إلى عشة قريبة من عشته، وكان هو نفسه يعيش في عشة بسيطة، ومنذ أعطاني المديدة وأنا آخذ في التحسن والشفاء على حد وعده لي، فإنه لا يكذب ولا يقول إلا الصدق.»
فأقول أنا هنا: «المهدي لا يكذب ولا يقول إلا الصدق، وأنت خليفة وقد سرت في أثره واتبعت أوامره.»
ويتم الخليفة حديثه فيقول: «فلما اقتربت منه عادت إلي صحتي بسرعة؛ لأني كنت أراه كل يوم وكنت أرى فيه نور عيني وأسكن إلى قربه، وكان يسألني عن عائلتي ويقول إنه يحسن بهم البقاء في كردوفان في ذلك الوقت، وكان آخر شيء يفوه به لي قوله: «ثق بالله». ثم أكثر من زيارته لي وكان يأتيني كل يوم مرارا، وباح لي يوما بسره وقال لي إن الله قد بعثه مهديا، وإن النبي قد أخذه إلى حضرة الأنبياء والرسل، ولكن قبل أن يقول هو ذلك لي كنت أنا أعرف منذ رأيت وجهه أنه هو المهدي المنتظر، أجل ما كان أسعد أيامنا في ذلك الوقت! لا هموم ولا متاعب، والآن يا عبد القادر لقد سهرت وتأخرت، قم واذهب إلى فراشك.»
فأسلم عليه وأقول وأنا خارج: «أطال الله عمرك وقواك على هداية المؤمنين في الطريق السوي.»
ووجد المهدي في شخص عبد الله أداة مطاوعة تقوم بما يطلبه منها، ومما يعجب له الإنسان أنه لولا شجار محمد أحمد مع محمد شريف لما ارتفع شأنه، فإنه أصبح ذا شهرة بعيدة في جميع أنحاء الجزيرة - أي القسم الواقع بين النيل الأبيض والنيل الأزرق - وصار يمني نفسه بالمراكز العليا التي كتبت له في صحيفة القدر، وجعل يخبر أتباعه في السر أن الوقت قد آن لتطهير الدين وأنه سيقوم هو نفسه بهذا العمل، فمن يرغب منهم الاشتراك معه فلينضم إليه، وكان يسمي نفسه «عبد الله» ويوهم من يحضره أنه يعمل عن وحي من الله، وقد أعلمه الخليفة بكل ما تجب معرفته عن قبائل الغرب، وأخبره بأن في هذه القبائل شجاعة وأيد، وأنها إذا لاحت لها الفرصة للدفاع عن دين الله ورسوله فإنها لن تتأخر عن اغتنامها فتهب للموت أو الظفر.
ونصح الخليفة للمهدي بأن يقوم بسياحة في كردوفان لكي يجذب إليه القبائل، وقام كلاهما إلى دار قمر - جمر - حيث كانت عائلة الخليفة التي انضمت إليهما، وقد أخبر المهدي أعضاء هذه العائلة بأن الوقت لم يحن بعد لتركهم بيتهم، أما الآن فمن الأنفع أن يحضوا القبائل النازلة حولهم على الانضمام للمهدي.
وبرح المهدي دار قمر إلى الأبيض؛ حيث زار الأعيان والمشايخ وكان يحادثهم ويستطلع آراءهم ويؤسس لترسماته المستقبلة، وكان يسر إلى أولئك الذين يثق بهم كل الثقة أنه أمين على رسالة تطهير الإيمان الذي أفسده الموظفون، وكان السيد المكي رئيس مشايخ الأبيض أمينه الذي وثق به، وقد نصح له بأن الوقت الحاضر لا يلائم الثورة؛ لأن الحكومة قوية والقبائل منشقة بعضها على بعض، ولكن المهدي كان أكثر تفاؤلا، واتفق كلاهما على ألا يتحرك الشيخ حتى يشرع المهدي في الحركة التي سيكتم أمرها إلى حين إعلانها.
ولما غادر المهدي الأبيض سار إلى تاج الله؛ حيث التقى بمك آدم حاكم المركز الذي استقبله استقبالا حسنا ولكنه لم يعده بالتأييد؛ لأن القاضي نصح له بألا يعد هذا الوعد، ثم عاد إلى أبة عن طريق شرقلة.
وكان محمد أحمد في أثناء سياحته ينظر في أحوال البلاد ويتدبرها، وقد أدرك أن الطبقات الفقيرة في الأمة تكره الحكومة أشد الكره؛ وذلك لكثرة الضرائب الفادحة المضروبة عليها كما بينت ذلك في أحد فصولي الماضية، وكانت هذه الطبقات تعاني ما يوقعه بها الجباة الغلاظ السفلة من ضروب الظلم والعسف، وكان بين هؤلاء الجباة عدد من السودانيين لم يكن تفلت منهم فرصة لإثراء أنفسهم وتوظيف أقاربهم بغية تحقيق هذا الغرض أيضا، وقد عين غوردون التاجر السوداني الثري إلياس ومنحه رتبة باشا، فكان لهذا التعيين أثر سيئ في نفوس الأهالي، وهذا القول ينطبق على تعيين قريبه وهو تاجر ثري أيضا يدعى عبد الرحمن بن نجا، وكان كلاهما على كفاية يعرف حالة البلاد وكيفية حكم الأهالي، ولكنهما كانا يشتغلان لمصلحتهما.
ونتج عن تعيينهما أن انتشر روح التحاسد بين كبار السودانيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أهلا لمثل وظيفة إلياس أو قريبه عبد الرحمن، ولما أرسل إلياس باشا إلى مك آدم يطلب منه دفع الضرائب، رفض مك آدم هذا الطلب رفضا باتا مدعيا بأنه من سلالة ملوكية، وقال في رفضه: «إني أدفع للتجار أثمان البضائع التي أشتريها ولكني لا أدفع لأحد خراجا.» وفي الوقت نفسه أرسل إلى الأبيض يسأل هل مات الأتراك وسائر البيض حتى صارت الحكومة تعين التجار حكاما بدلا من أن تعين الأشراف وذوي البيوتات! وكان هذا سبب فصل إلياس باشا وعبد الرحمن من وظيفتهما وتعيين الأتراك والمصريين في مكانهما.
أما عن الموظفين الأوروبيين فلم يكن في السودان سوى عدد قليل ، وكانوا محبوبين ومحترمين؛ لأن الناس كانوا يثقون بهم، ولكني لا أشك في أن بعض الاستياء كان يعزى إليهم، فربما أصدروا أوامر مصدرها حسن النية ولكنها كانت تخالف عادات الأهالي وتقاليدهم، ثم إني لا أشك في أن موقفنا تجاه مسألة الرقيق قد أحدث استياء عظيما بعيد المدى، فإن الدين يأذن بالرقيق، وقد كانت الأرض منذ عهد بعيد تفلح بالعبيد، وكان العبيد يوكلون بالعناية بالماشية، ولست أشك في أن النخاسة كانت تتطلب ارتكاب فظاعات وسفك دماء، ولكن هذه الفظاعات لم يكن يبالي بها أو يفكر فيها مشترو العبيد، وكانوا على وجه العموم يعاملون عبيدهم معاملة غير سيئة، ولم نقتصر نحن على منع تصدير الرقيق، بل كنا أيضا نسمع شكاوى العبيد، وكنا على الدوام نحرر العبد الذي يشتكي مولاه.
وانتهز محمد أحمد فرصة الاستياء هذه من وجوهها العديدة، وكان يعرف أن الدين هو العامل الوحيد في ربط هذه القبائل المتنازعة، فأعلن أنه «المهدي المنتظر»، فصارت له بذلك شخصية فوق شخصية أي إنسان آخر، وكان يأمل بذلك أن يطرد من السودان جميع الأوروبيين والمصريين والأترك، ولكنه لم يكن يعتقد أن الوقت قد حان بعد لأن يعلن جهارا هذه الدعوة، فعمد إلى تأييد دعوته بزيارة الأنصار، واستمر على ذلك حتى صارت دعوته سرا مكشوفا.
وكان محمد شريف قد أخبر رءوف باشا الحاكم العام سرا بنية محمد أحمد، ولكن نزاعه السابق معه جعل ولاة الأمور لا يصدقونه، واستنتجوا أنه يدس لخصمه الذي ذاعت شهرته لصلاحه وتقواه، ولكن الحكومة علمت بعد ذلك من مصدر آخر أن محمد أحمد خطر على الأمن العام، ونوت نية صادقة على أن تنتهي منه.
ولهذا الغرض أرسل رءوف باشا يطلب محمد بك أبو السعود وأمره بالمسير في الباخرة إلى أبة وإحضار محمد أحمد إلى الخرطوم، ولكن أصدقاء المهدي وأنصاره أحاطوه علما بنية الحكومة وأخبروه أنه إذا حضر للخرطوم فسيعتقل بها، وأن اعتقاله ليس إلا من دس محمد شريف، فلما وصل أبو السعود بك إلى أبة استقبله عبد الله التعايشي وشقيق لمحمد أحمد وقاداه إلى حيث مقام الشيخ، فأخبره أبو السعود عن التقارير التي بلغت للحكومة عنه، وهي بالطبع كاذبة، وعن الإشاعات التي تشاع عنه، وطلب منه لذلك أن يسافر إلى الخرطوم ويكذب هذه الإشاعات التي أشيعت عنه أمام الحاكم العام، فأجاب محمد أحمد وقد وقف فجأة وضرب صدره بيده قائلا: «ماذا تريد مني؟! وحق الله ورسوله ما أنا إلا سيد هذه البلاد، ولن أذهب إلى الخرطوم لكي أبرئ نفسي.»
فتراجع أبو السعود للوراء مذعورا من هذه اللهجة وأخذ يهدئ روع المهدي بكلمات رقيقة، ولكن المهدي الذي كان كان قد رتب هذا المنظر التياتري مع عبد الله ومع شقيقه صار يتكلم بحماسة وحرارة، ويحض أبا السعود على أن يؤمن بما يقوله.
أما أبو السعود فكان الآن مهموما بنفسه لا يبالي إلا بأن يرجع إلى الخرطوم، ورجع بالفعل وأخبر الحاكم العام بحبوط مهمته.
وأدرك محمد أحمد أنه ليس هناك مجال لإضاعة الوقت، وأن مستقبله يتوقف على مجهوده، فلم يتوان عن الكتابة إلى جميع أنصاره في أنحاء السودان يستثيرهم على الحكومة، أما الأنصار القريبون منه فقد أمرهم بأن يستعدوا للجهاد.
وفي هذه الأثناء لم يكن رءوف باشا مهملا أمر المهدي؛ فقد عرف من حديثه مع أبي السعود أن خطورة المسألة عظيمة جدا، فعزم على إرسال فصيلتين للقبض على المهدي، ووعد كلا من قائدي الفصيلتين بأن يرقيه إلى رتبة بكباشي إذا كان هو القابض عليه قبل الآخر، وأراد من ذلك أن يحثهما على الاجتهاد والمنافسة، ولكن عواقب هذا العمل كانت وخيمة جدا!
فإن الجيش الذي كان يقوده أبو السعود نزل الباخرة «إسماعيلية» وكان بها مدفع فبرحت الخرطوم في أغسطس سنة 1881 وسارت إلى أبة، وكان هذا الجيش مؤلفا من فصيلتين على كل منهما قائد، وقد اختلف هذان القائدان؛ الواحد مع الآخر والاثنان مع أبي السعود، وعرف محمد أحمد بالحملة الموجهة إليه فاستعان بقبيلتي دغيم وكنانة فأعانتاه، واستعد هو للمقاومة، وأخبر من حوله بأن النبي قد ظهر له وقال له إن كل من اشترك معه في هذا الجهاد سيعطى لقب «الشيخ عبد القادر الكيلاني» ولقب «أمير الأولياء»؛ وهما لقبان محترمان عند المسلمين، وعندما تفاقمت الحالة وعظم الخطر لم يتقدم للجهاد سوى عدد قليل سلموا أنفسهم وأموالهم للمهدي.
ووصلت الباخرة إلى أبة عند غروب الشمس، وعلى الرغم من أوامر أبي السعود نزلت الفصيلتان؛ لأن كل ضابط كان يرغب في الحصول على رتبة بكباشي قبل الآخر. أما أبو السعود الذي كان قد انغرس الخوف في قلبه منذ قال محمد أحمد إنه مولى البلاد، فقد وقف بالباخرة في وسط النهر ومعه مدفعه، وكان الضابطان كلاهما يجهلان المكان وكلاهما يرغب في الحصول على رتبة بكباشي، فسارا في طريقين مختلفين على الشواطئ المتوحلة قاصدين عشة محمد أحمد، ولكن محمد أحمد كان قد ترك عشته وأخذ أنصاره وتسلحوا كلهم بالسيوف والحراب والهراوات واختبئوا في الديس، والتقت الفصيلتان عند القرية كل منهما قد أتت من جهة مقابلة للجهة التي أتت منها الأخرى، وأطلقت كلتاهما النار على القرية الخالية من السكان فأصابت كل منهما الأخرى وحدثت خسائر خطيرة من الطرفين، وفي وسط هذا الارتباك هب أتباع المهدي من كمينهم وضربوا الجنود الذين كان قد فقدوا قوتهم المعنوية فتشتتوا في كل مكان، وتمكن بعض الجنود من أن يصل إلى الشاطئ وأن يسبحوا إلى الباخرة، ورعب أبو السعود وأراد أن يبحر بالباخرة إلى الخرطوم في الحال، ولكن الربان أشار عليه بالبقاء للصباح لعل بعض الفارين من الجنود يتمكنون من الوصول إلى الباخرة، ولكن لم يأت أحد، وفي الفجر أقلعت الباخرة تسير بأقصى سرعتها حاملة هذه الأخبار المحزنة.
ويمكن أن ندرك نتيجة انتصار محمد أحمد، فإن رجاله خرجوا من المعركة سالمين لم تنلهم خسائر قط، أو إذا كانوا قد أصيبوا فإصاباتهم كانت طفيفة جدا، وقد جرح محمد أحمد في ذراعه فضمد جرحه عبد الله التعايشي ونصح له ألا يخبر أتباعه به، وإلى هنا كان عدد أتباعه لا يزال صغيرا؛ لأن الناس كانوا يعتقدون أن الحكومة ستتخذ إجراءات فعالة لإخماد حركته.
وأخذ عبد الله وإخوته يحضون محمد أحمد على أن يجعل المسافة بينه وبين الحكومة بعيدة، فعول بناء على حضهم أن يقوم إلى جنوبي كردفان، ولكي لا يفهم أتباعه أنه ينوي الفرار من وجه الحكومة أذاع بينهم أنه قد أوحي إليه أن يذهب إلى جبل ماسة، والمأثور في السودان أن المهدي يخرج من جبل ماسة، وهذا الجبل في شمالي أفريقيا، ولكن المهدي تغلب على هذه الصعوبة بأن أطلق اسم جبل ماسة على جبل غدير الكائن بكردوفان، وقبل أن يغادر أبة عين خلفاءه الأربعة طبقا للوحي: وأولهم الذي كان يمثل أبا بكر الصديق كان عبد الله التعايشي، وثانيهم الذي يمثل عمر بن الخطاب كان علي واد هلو من قبيلة دغيم، وثالثهم الذي يمثل عثمان بن عفان لم يعين وقتئذ، وقد عرض بعد ذلك هذا المنصب على الشيخ السنوسي فرفضه، أما الرابع فكان علي الكرار، وكان من أقارب المهدي، وكان صبيا.
ورفض أصحاب القوارب أولا نقل أتباع المهدي على النيل؛ لأنهم كانوا يخشون أن تعدهم الحكومة مشتركين مع محمد أحمد وأتباعه، وكان قد انضم إليهم فريق من قبيلتي دغيم وكنانة العربيتين، ولكن محمد أحمد تغلب على معارضتهم وجعلهم ينقلونه في النهاية هو ورجاله إلى الشاطئ الآخر، وسار الجميع إلى دار قمر، وكان محمد أحمد يدعو السكان إلى الانضمام إليه ويطلب إليهم أن يذهبوا معه إلى جبل ماسة، واشتدت الحماسة عندئذ بين رجاله، وكانت لا تفوت فرصة يخبرون فيها السكان عن المعجزات التي يأتيها المهدي.
وحدث مرة أنه وقف برجاله في أحد الأمكنة وكان قريبا منه ضابط معه ستون جنديا، وكان هذا الضابط المدعو محمد جمعة يجمع الضرائب، وخطر في باله أن يهاجم المهدي ويقبض عليه، ولكنه خوفا من تبعة هذا العمل أرسل إلى الأبيض يستشير ولاة الأمر، ولكن قبل أن تأتيه التعليمات من الأبيض كان المهدي قد جاز المكان برجاله. وبعد سنوات لقيت محمد جمعة وهو في حالة تعيسة في أم درمان وقال لي: «لو كنت أعرف بأنه سيقضى علي بأن أمشي حافيا وأن أستجدي من الناس كسرة الخبز، لما طلبت تعليمات من الأبيض وتركت هذا الدنقلاوي الشقي يفر من يدي، لقد كان أفضل لي أن أقتل من أن أعيش هذه المعيشة التعسة.»
وأتيحت فرصة أخرى للقبض على المهدي ولكنها فاتت أيضا؛ فقد كان جيجار باشا قد انتدب لمهمة تحقيق اختلاس حدث باتفاق بين موظف في الأبيض وبين تاجر سوداني ثري يدعى عبد الهادي، وسمع جيجار باشا بأن المهدي قريب منه، وذلك حوالي آخر سبتمبر، فأنفذ إليه محمد سعيد باشا ومعه أربع فصائل من الجنود للقبض عليه وإحضاره للأبيض، ولكن الحملة، إما عن قصد أو إهمال، أخفقت في مهمتها؛ فإن الجنود على ما يظهر حطوا رحالهم في المكان الذي نام فيه أتباع المهدي في الليلة السابقة، وبعد أن أضاعوا ثلاثة أيام بلا فائدة عادوا إلى الأبيض وهم موسومون بالخوف من قتال المهدي؛ فزادت بذلك كرامة المهدي ووجاهته.
وكانت نية محمد أحمد أن يقضي بعض الوقت في جبل تاج الله، وسمع مك آدم بذلك فأرسل إليه أحد أبنائه بهدايا من القمح والغنم ومعه رسالة منه ينصح له فيها بالتوغل بعيدا في الداخلية، فاستمر في سيره، وبعد مشقات طويلة بلغ جبل غدير حيث كان يوجد قسم من قبيلة كنانة غير السكان الأصليين.
وكان راشد بك في ذلك الوقت حاكما على فشودة، وكان يعرف حركات المهدي؛ ولذلك عول على الغارة عليه قبل أن يتقوى بمن ينضم إليه، وكان في فشودة رجل ألماني يدعى برجوف، وكان في الأصل يشتغل بالفتوغرافية في الخرطوم، فأرسله رءوف باشا مفتشا لقمع تجارة الرقيق في أعالي النيل.
وتقدم الآن راشد بك ومعه برجوف وكايكو بك ملك الشلوك قاصدين غدير، وكان راشد يقلل من أهمية المهدي فلم يكن يحفل باتخاذ الحرس والاحتياطات، فكمن له المهدي وأوقع به وقتل من رجاله ألف وأربعمائة ألف نفس، وكان هجوم المهدي مفاجئا وسريعا، حتى لم يستطع راشد إرسال صاروخ في الهواء، وصمد راشد وقليل ممن معه للقتال، ولكن رجال المهدي تكاثروا عليهم وقتلوهم.
ووقعت هذه الهزيمة في 9 ديسمبر، ومن ذلك الوقت لم يتردد محمد أحمد في المجاهرة علنا بأنه المهدي المنتظر، وكبر مقامه في أعين العرب، ومع ذلك لم تكن علاقته مع أجواره على ما يحب، وقد أشار الخليفة عبد الله التعايشي إلى هذه المدة، وحكى لي عنها فقال: «لما بلغنا الغدير كنا في غاية الإعياء بعد هذا السفر الشاق الطويل، وكان للمهدي فرس واحد من تلك السلالة الحبشية الرديئة، أما أنا فقد سرت المسافة كلها تقريبا على قدمي، ولكن الله يهب القوة للمؤمنين الصادقين الذين يسلمون أنفسهم وما يملكون لأجل الإيمان، وكان إخوتي يعقوب ويوسف وسماني قد انضموا إلينا، وكذلك زوجة أبي التي كانت ترضع ابني على صدرها، ولم يرض أخي هارون البقاء فأتى معنا أيضا، وكنت على الدوام في قلق بشأن إخوتي وزوجة أبي وعائلتي وابني هذا الذي تراه عثمان شيخ الدين، ولم تكن مشاق السفر تهمنا نحن الرجال؛ فإن المصائب والكوارث تأتينا من عند الله ونحن نتحملها راضين شاكرين؛ لأن الله قد اصطفانا لنعلي كلمته ونرفع دينه الذي ديس مع التراب، وكنا نعلم إخواننا، ولكن (وهنا كان يبتسم) تعليم الدين لم يكن ليأتينا بالطعام لأولادنا ونسائنا، وكان الناس يهرعون إلينا زرافات، ولكن معظمهم كان في فاقة تزيد عن فاقتنا وكانوا يأتون إلينا لكي نعولهم، أما المتيسرون فكانوا يتجنبوننا، أجل إن المال لعنة ومن كان غنيا في هذه الدنيا فإنه لن ينعم بنعيم الفردوس، ولم نكن نحصل على معونة ما من الناس الذين كنا نجوز بلادهم، وكان المهدي مع ذلك يقسم ما يحصل عليه من القليل الذي لديه بين الحجاج الذين كانوا يقصدونه، وكان قلبي يتفطر عندما أسمع بكاء الأطفال والنساء، ولكني كنت عندما أنظر إلى وجه المهدي تعود إلي الطمأنينة وأثق بالله، أجل يا عبد القادر إن الصبر مفتاح الفرج، كن صبورا والله يكافئك.»
وقد نبهت هزيمة راشد بك الحكومة إلى خطورة الحالة وهيئت تجريدة بقيادة يوسف باشا شلالي، وكان قد ظهرت مواهبه في حملة جسي باشا في بحر الغزال، وكان مشهورا بصدق عزيمته وبسالته، وهيئ أيضا مدد آخر مؤلف من فرقة من الطوبجية ومعهم بعض المتطوعين بقيادة عبد الله واد ضيف الله - شقيق أحمد واد ضيف الله - وعبد الهادي وسلطان ديمة، وأرسل هذا المدد إلى كردوفان.
وفي هذه الأثناء أرسل المهدي الرسل إلى جميع الجهات تحمل بشائر انتصاراته وهدايته، ودعا جميع الأهالي إلى الانضمام إليه في الجهاد، وأطلق اسم «الأنصار» على أتباعه ووعدهم بأربعة أخماس الغنائم التي تغنم في الحرب، أما من مات منهم فقد ضمن له نعيم الفردوس، وبذلك استثار الصفات الكامنة في نفس السوداني وأهمها الطمع والتعصب.
وكان جيش يوسف باشا شلالي يبلغ أربعة آلاف جندي يقودهم محمد بك عثمان وحسن أفندي رفقي الذي كنت قد فصلته أنا من وظيفته قبلا، أما الخيالة غير النظامية فكانت بقيادة طه بن صدر، وهو رجل شجاع، وغادرت هذه القوة الخرطوم في 15 مارس سنة 1882، وعرجت على كوة حيث حطت رحالها تنتظر المدد الآتي من الأبيض.
وقد وجد عبد الله واد ضيف الله أن جمع المتطوعة ليس من المهمات السهلة؛ فقد كان الشعور العام أنه من الخطأ أن يقاتل رجل صالح مثل المهدي ثم لم يكن هناك مطمع في الغنائم؛ لأن أتباع المهدي لم يكونوا أحسن حالا من الشحاذين. وزيادة على ذلك كان إلياس باشا أغنى تجار كردوفان وحاكمها المعزول يكره ضيف الله أشد الكره، وقد استعمل سطوته في منع الناس من التطوع، ومع ذلك تمكن ضيف الله من تجنيد بعض المتطوعة باتفاقه مع ولاة الأمور، وصارت قوته بمن فيها من النظاميين 2000 قبل أن يبرح الأبيض، والتقى بالجيش في كوة فصار مجموع الجيش 6000، وذلك حوالي منتصف شهر مايو.
واستراح يوسف باشا قليلا ثم تقدم نحو الغرب وضرب خيامه في 6 يونيو في مسات القريبة من جبل غدير وهو واثق بالظفر. والحق أنه لم يكن هناك، حسب ظاهر الأحوال، ما يدعو مثل يوسف باشا ومحمد بك وأبو صدر إلى الخوف من طائفة من العرب قد أضناها المرض والجوع والعري، ألم ينتصروا في الماضي جملة انتصارات في النيل الأبيض وفي دوفيلة؟ ألم يفتحوا بحر الغزال ويخضعوا سلطان دارفور ؟ فماذا يمكن أن يفعل معهم هذا الفقيه الأعزل الجاهل؟
ولكن عبد الله واد ضيف الله لم يكن مغترا بقوته؛ فقد حذر هؤلاء القواد من تصغير شأن المهدي، وقد وقع من ظهر جواده وهو خارج من الأبيض، وهنا الوقوع يعتبر في السودان شؤما يخشى منه، ولكنه كان يصرخ في الصحراء فلم يسمع له أحد، بل لم يعن أحد منهم ببناء «زريبة» من الأشواك والأغصان حول الجيش، وإنما اكتفوا بالتقاط قليل من القش وصنعوا منه سياجا واهيا لم تكن منه فائدة قط، وما جاء الفجر حتى جاءت طائفة المهدي التي أضناها الجوع والعري والمرض وأوقعت بجيش يوسف باشا، وكان ذلك في 7 يونيو، فقد جازوا السياج الواهي وباغتوا الجنود وهم نيام فأجهزوا عليهم، فقتل يوسف باشا وأبو صدر وهما في قميص النوم على باب خيمتهما، ولم تمض دقائق حتى أبيدت جميع الجنود تقريبا، وكان لأبي صدر امرأة سرية، فلما رأت مولاها يقتل هبت إلى القتلة وقتلت اثنين منهم بمسدس في يدها، ولكن وقعت فوق مولاها بطعنة حربة بلغت قلبها! وصمد عبد الله واد ضيف الله بعض الوقت ولكنه هو ورفقاؤه قضي عليهم بعد مدة وجيزة من القتال.
وفي البلاد غير المتحضرة عندما يحدث شيء غريب يعزى على الدوام إلى قوة إلهية، وكان هذا تأثير نكبة يوسف باشا في عقول السودانيين المستسلمين للخرافات، فقد مضى ستون سنة كان القطر السوداني محكوما فيها بالمصريين والأتراك.
فقد كانت العادة المتبعة أن تعاقب القبائل التي لا تدفع الضرائب المطلوبة منها، ولم يكن أحد يجادل في حق الحكومة في هذا العمل، أما الآن فهذا الفقيه قد ظهر وجمع حوله شراذم الرعاع الذين لم يتمرنوا على الأعمال الحربية وليس معهم عدة السلاح وأوقع بجيوش الحكومة، فلم يكن هناك من يشك إذن في أنه المهدي المنتظر.
وكانت هزيمة يوسف باشا سببا في خضوع كردوفان كلها للمهدي، فصار في إمكانه الآن أن يهيئ لنفسه العدة التي كانت تنقصه، فأخذ في جمع الأموال والأسلحة والخيول وسائر الغنائم يوزعها على رؤساء القبائل التي انضمت إليه، وكانت هذه القبائل تعتقد أنه المهدي المنتظر الذي لا تحدثه نفسه إلا بإقامة الدين ولا قيمة للأموال والأمتعة في نظره.
وفشت أخبار المهدي في كل ناحية، وكانت هذه الأخبار إذا تنوقلت بين أهالي كردوفان الذين لم يصيبوا إلا قليلا من التعليم يبالغ فيها مبالغة عظيمة، وخرج من الأهالي عدد عظيم تركوا بيوتهم يؤمون جبل غدير الذي كان يسمى الآن جبل ماسة، وبعض من الأهالي تجمعوا حول رؤسائهم لمقاتلة موظفي الحكومة المشتتين في أنحاء البلاد.
وكانت هذه الأحوال توافق أهواء العرب الرحل، فكانوا بدعوى الحرب الدينية يقتلون وينهبون الأهالي وكانوا يتهمونهم بالولاء للأتراك، وفي الوقت نفسه أيضا وجدوا في هذه الحالة طمأنينة من حيث عدم دفع الضرائب لتلك الحكومة المكروهة.
واتصل المهدي بتجار الأبيض الذين كانوا بواسطة ثروتهم ونفوذهم يحكمون البلدة بل جزءا كبيرا من سائر البلاد، وقد أدركوا هم الحالة تماما، وكانوا يعرفون ضعف الحكومة وتوانيها واستعد كثير منهم لمشايعة المهدي، وكان إلياس باشا من أعظم المستائين من الحكومة، وكان يكره أحمد بك ضيف الله صديق محمد باشا سعيد؛ ولذلك جد واجتهد في السر في جمع الأنصار للمهدي، وكان عدد كبير من صغار التجار ينتظرون تحسن الأحوال التجارية إذا سقطت الحكومة، وكان هناك قليل من التجار يكرهون المهدي ولكنهم كانوا يترقبون فوزه؛ فلم تكن لهم حيلة سوى الانضمام إليه؛ لئلا تقع زوجاتهم وأملاكهم غنيمة لرجاله عندما يعقد له النصر.
أما مشايخ الدين فقد رأوا في هذه الحركة ما يرفع مقامهم، وكانوا يفخرون بأن واحدا منهم قد تجرأ على أن يعلن عن نفسه أنه المهدي، وكانوا يترقبون الوقت حين يطرد هذا المهدي جميع الأتراك من البلاد ويبقى هو الحاكم لها، وكان هناك عدد قليل - قليل جدا - من أولئك الذين كانوا يقدرون الخطر الذي تستهدف له البلاد إذا فاز المهدي وقد فعلوا كل ما يمكنهم لتنبيه الحكومة، ولكن عدد هؤلاء كما قلنا كان قليلا فلم يكن لهم أثر في الحركة.
وأرسل إلياس باشا ابنه عمر لكي يقف المهدي على الحالة ويدعوه إلى المجيء إلى الأبيض، وكان محمد باشا سعيد ينتظر مجيء المهدي للأبيض؛ ولذلك حفر خندقا حول المدينة ظنا منه أن السكان سيصمدون للحصار، وأشار عليه أحمد بك ضيف الله بتحصين مباني الحكومة ففعل وبنى حولها جدارا بارتفاع الصدر، ولكنه لبخله وقع في خطأ فاحش؛ إذ بدلا من أن يختزن الحبوب استعدادا للحصار ويشتريها بأثمان عالية رفض أن يشتريها إلا بالأثمان التي تباع بها وقت السلم، ولم تمض مدة حتى بيعت الحبوب لأولئك الذين شعروا بالانقلاب في الحالة وعرضوا ثمنا أكبر مما عرضه محمد باشا سعيد.
وفي هذه الأثناء كان الأهالي يقتلون في كل مكان، وكان العرب السفاكون لا يلتقون بجباة الضرائب أو شراذم الجنود أو الموظفين المتفرقين حتى يقتلوهم، وأغار عرب البديرة على سكان أبي حرز وكادوا يبيدونهم، وكانت أبو حرز على سفر يوم من الأبيض، ولم يتمكن من الهرب إلى الأبيض سوى عدد قليل من الأطفال والنساء والرجال، أما باقي السكان فإما أنهم قتلوا أو أخذوا أسرى وقت فرارهم في الصحراء المحرقة، وكان العرب يسقون الفتيات إذا عطشن أما النساء المسنات فكن يلاقين الأهوال؛ فقد كان هؤلاء العرب لكي يحصلوا على خلاخيلهن وأساورهن يقطعون أيديهن وأرجلهن!
وبعد أيام قلائل أغار العرب على بلدة أشاف في شمال كردوفان فنهبوها، وقد دافع عنها نور أنجرة الذي كان هناك في ذلك الوقت وساعده سنجق محمد أغا يابو الذي كان قواص غوردون، ولكنهما اضطرا إلى التقهقر، وكان يابو هذا كرديا وقد فعل العجائب في تقهقره، فقد جمع النساء والبنات في الوسط وأمرهن بأن يغنين غناء الحرب، وكان يقول إن هذا الغناء ينفي الخوف عن القلوب، وكان يكر على العرب من وقت لآخر حتى نجح في استرداد جميع الفارين تقريبا ووصل سالما إلى دارة.
وأغار العرب على دارة هذه، ولكنهم ارتدوا عنها أولا، ثم عادوا وجمعوا جموعهم يقودهم الشيخ رحمة الله فطوقوا البلدة ومنعوا عنها المؤن.
واجتمع جمع آخر من العرب في كشجيل، فأرسل إليهم محمد باشا سعيد فصيلة من الجند فرقتهم، ولكن الفصيلة فقدت من أفرادها عددا كبيرا حتى ليصح أن يعد انتصارها هزيمة، واجتمع هؤلاء العرب ثانيا في بركة، وكانت بها حامية مؤلفة من ألفي رجل فقتلوا، وحدثت نكبة أخرى مشابهة لهذه في الشط على النيل الأبيض؛ حيث قتل مائتا جندي، وأغار العرب أيضا على الدويم فارتدوا عنها وخسروا ألفي رجل.
وفي هذه الأثناء لم تكن رسل المهدي الذين أرسلهم إلى الجزيرة وانين، فإن عرب جهينة والحوارنة والأجليين ساروا إلى سنار يقودهم أبوروف فحصروها، ولكن جاء السنجق صالح واد المك بقوة من الشايجية فرفع الحصار عنها.
وحاصر الشريف أحمد طه مدينة أبي حرز الواقعة على النيل الأزرق، وكان جيجلر باشا يقوم بوظيفة الحاكم العام رءوف باشا، وقد وصل إلى جوار المدينة فأرسل مك يوسف من الشايجية لمهاجمة الثوار ولكنه هزم، واستحى مك يوسف من الفرار فنزل من ظهر جواده وبسط فروته على الأرض وأمر أحد عبيده بأن يقتله، وسافر جيجار في الحال إلى الخرطوم وهيأ مددا عاد به وأغار على أحمد طه وقتله وأرسل رأسه إلى الخرطوم، ثم طهر جوار سنار من الثائرين بدون أن يفقد عددا كبيرا من رجاله، ولكن على الرغم من هذا النجاح الوقتي كانت الحكومة تتسلم كل يوم أخبارا مزعجة عن الكوارث التي كانت تقع بجيوشها وبالسكان في عدة أنحاء من السودان.
وكانت نتيجة ذلك إرسال عبد القادر باشا حاكما عاما للسودان فوصل إلى الخرطوم في 11 مايو سنة 1882، وشرع بهمة في العمل على تحصين المدينة، وكان لعمله هذا تأثير في الأهالي الذين اتضح لهم أن الحكومة تنوي العمل بهمة، ولكنه في الوقت نفسه أوضح لهم خطورة الحال، وقد أمنت دور الحكومة مثل مخازن المؤن والذخيرة والدفترخانة من جميع الطوارئ، وسحب الحاكم العام إلى الخرطوم حاميات القلابات وسنهيت وجرة، وكان الهدوء التام يشمل هذه المراكز.
وفي هذه الأثناء أدرك محمد أحمد أن حضوره ضروري لكي يشعل النار الخامدة ويحيلها لهيبا آكلا؛ ولذلك قبل دعوة إلياس باشا للتوجه إلى الأبيض وترك عمه محمود شريف مع بعض الأتباع في جبل ماسة للعناية بزوجاته وأولاده، ثم هبط إلى الوادي وجمع جموعه وسار بهم إلى عاصمة كردوفان الغنية.
الفصل الخامس
الثورة في جنوبي دارفور
لما غادرت الفاشر قاصدا دارة في أوائل سنة 1882 كان معي 350 جنديا راكبا بقيادة عمر واد دارهو، ولم يكن هذا الحرس ضروريا ولكني رأيت أن أؤثر في العرب وأريهم أن لدى الحكومة قوات كبيرة تخمد بها أية حركة تدفعهم إليها نزعاتهم.
ولما بلغت دارة زرت قبر إميلياني ونصبت شاهدا من الحجر عليه للذكرى، وكان زوجال بك يقوم مقامه في إدارة الأعمال وكانت الظواهر تدل على أن الحالة قلقة جدا؛ فقد خرج عرب الجنوب وهم الرزيفاف والحبانية والمعالية على الحكومة؛ فقد عقدوا عدة اجتماعات أعلن فيها أن الدراويش يهرعون للانضواء إلى راية المهدي الذي أرسله الله لإعلاء كلمة الدين، فأمرت منصور أفندي حلمي بأن يسافر في الحال إلى شقة لكي يعيد النظام إلى نصابه، وكان معه 250 جنديا نظاميا و25 جنديا راكبا.
فسار عن طريق قلقة - كلاكة - وعدت أنا إلى الفاشر لكي أجمع فصائل الجنود التي كانت متوزعة في أنحاء البلاد لجمع الضرائب ولكي أستعد بهم للطوارئ، وقبل أن أغادر دارة تحادثت طويلا ومليا مع زوجال، وقد كنت أعرف هذا الرجل معرفة تامة عندما كنت حاكما هنا، وقد علمت أنه تحادث مع عمر واد دارهو كثيرا عن أحوال المهدي وأعماله، واتفق معه على أنه إذا استمر النصر معقودا بلوائه فإنهما ينضمان إليه، وكان هذان الرجلان أغنى من في المركز، وكان لهما نفوذ عظيم بين الأهالي؛ ولذلك كان انشقاقهما علينا خطرا جدا، فرأيت أن أتحبب إليهما وأن أعمل كل ما يمكن لمنع هذا الشقاق، فلما حادثت زوجال لم أشر إلى مقابلاته العديدة دارهو، ولكني حصرت كلامي في الإشارة عليه بأنه بالنسبة لقرابته للمهدي وبالنسبة لأنه موظف كبير ينبغي له أن يعاون السلطة الشرعية في البلاد.
ولما ودعت الضباط والموظفين شرحت لهم وجوب انتباههم الدقيق لواجباتهم، وأخبرتهم بأني سأعود من الفاشر في أقرب وقت، ثم تركت الجنود الراكبة في دارة وسرت إلى العاصمة التي بلغتها بعد سفر ثلاثة أيام، وهنا علمت أن المحطة التلغرافية في فوجة قد استولى عليها الثائرون، ورأيت لذلك أن آمر بإرسال المدد إلى أم شنجة.
وكان نظام البريد قد تعطل تماما واضطررت لهذا السبب إلى أن أرسل خطاباتي إلى الأبيض والخرطوم في داخل قوائم الرماح، أو بين نعلي الحذاء، أو أخيطها داخل ملابس حاملها. وكنت قد طلبت من الخرطوم إمدادي بالذخيرة ولكنها لم تصل إلي لإهمال الموظفين، فإنها أرسلت إلى الأبيض متأخرة ولانقطاع المواصلات لم يمكن إرسالها إلي.
وعلمت من دارة أن مادبو زعيم الرزيفات قد رفض أن يأتي، فلم أشك بعد ذلك في أن جميع القبائل الجنوبية قد خرجت على الحكومة وأنها تنوي كل النية الانضمام للمهدي، فقررت أن يكون مقامي في دارة، فأخذت 200 جندي من المشاة و75 من الجنود الراكبة وسرت بهم إلى دارة.
وعند وصولي أبلغت وقوع حادثة كانت في ذاتها تافهة ولكن نتائجها كانت خطيرة جدا؛ فقد سبق أن ذكرت بأني وأنا مسافر إلى الخرطوم التقيت في الطريق بالشيخ علي واد هجير من قبيلة المعالية فرافقني إلى الخرطوم، وقد أثبت ولاءه للحكومة فعينته رئيسا لقبائل المعالية الجنوبية، وقد سمع هذا الشيخ بقرب عقد اجتماع عرب الرزيفات بقيادة الشيخ بلال نجور بغية الانضمام إلى المهدي، فعول الشيخ علي على أن يحضر هذا الاجتماع ويقبض على الشيخ بلال متهما إياه بالثورة.
فسار إلى مكان الاجتماع مع حميه وبعض أصدقائه، ورأى بعض الرجال المنتمين إلى قبيلته قد حضروا أيضا فطلب إليهم أن يخرجوا وينحازوا إلى جانبه، ولكن لم يبال أحد بطلبه وحدثت في أثر ذلك مشاغبة عومل فيها هجير وأصدقاؤه معاملة قاسية عنيفة، حتى اضطروا إلى أن ينجوا بأنفسهم، ولكن حكاية فرارهم انتشرت على غير وجه الحقيقة؛ بحيث إنه عندما وصل هجير إلى زوجته ومعه حموه وأصدقاؤه تلقتهم بقولها: «راجلي اضليم وأبويا ربطة، سفر يومين سووهم في جبطة.»
ومعنى ذلك: «زوجي ظليم: ذكر النعام، وأبي أنثى نعام، حتى إنهما قضيا سفر يومين في لحظة.»
واقتفى بلال نجور أثر الهاربين تصحبه المعالية فهجم على دار الشيخ هجير، وأخذ الذين حول الشيخ هجير يحثونه على الفرار إلى شقة ليدخل في حماية منصور، ولكنه كان يتضور من آلام الكلمات القاذعة التي عيرته بها زوجته فرفض الفرار وقال: «لن أفر لكي أنجو بنفسي. خير لي أن أقع بالسيف من أن تضحك مني امرأة.»
وقد وعد وأوفى وعده؛ فإنه قاتل الجموع حوله قتال الأبطال حتى شقت حربة رأسه نصفين فوقع وهو يتلو الصلاة حتى مات، وقتل حموه ووقع في جانبه، أما زوجته التي كانت سبب كل هذا البلاء فقد وقعت أسيرة واستعبدت، ودعاني منصور حلمي لكي أذهب إلى شقة لرغبته في الاتفاق مع القبائل؛ لأني أمثل الحكومة وبهذه الصفة يكون لي تأثير أكبر فيهم، واقترح أن نبني قلعة حصينة في شقة ونضع فيها مدفعين، ولما كان الاتفاق مع العرب ضروريا فإني قررت إجابة طلبه وسافرت إلى شقة ومعي 150 من الجنود النظامية و25 جنديا راكبا ومدفع.
وكنت في أثناء سفري أسمع من الأخبار ما يثبت انتشار الثورة وانتصار المهدي، ولما وصلت إلى قرية المادبو في دعين جاءني رسول وأخبرني هذا الخبر الغريب؛ وهو أن منصور قد أغار على هذا الشيخ قريبا من شقة وفقد معظم من معه وبات في شبه حصار في مراي، فأرسلت في الحال في طلب إمداد من دارة وبقيت مدة الانتظار في دعين وأنا لا أشك في أن المادبو ينوي أن يهاجمني، وقد تحقق ظني، وقد انضم إلي الشيخ عفيفي من قبيلة الحبانية ومعه 25 من الخيالة، والحق أن مآثر هذا الشيخ الموالي لجديرة بأن تدون!
ففي مساء أحد، والشمس توشك أن تغرب، خرج رجالي يجمعون الحطب، فأغار علينا المادبو بخيوله التي تراءت لنا بأنها تقصد إلى زريبتنا وهي تعدو، فلما رآهم الشيخ عفيفي أسرج في الحال جواده وامتطاه وأشرع حربته وقال لي: «عارفني زين، أنا نور الطقش أبو جلب من آدم، أنا بدور عالموت.»
ومعنى هذا: «أنت تعرفني جيدا، أنا الثور الناطح، قلبي من صخر، أنا أبحث عن الموت.»
قال ذلك واندفع خارجا من الزريبة ثم اختفى بين الأشجار، وبعد لحظة عاد وحربته تقطر الدم ووراءه جواد قد استلبه، وخرج شيخان آخران اشتبكا في قتال خفيف ففقدا جوادا وغنما جوادا آخر، وبعد هنيهة سمعنا طلقات البنادق فخشيت أن يكون جيش المادبو قد وصل فطلبت الخيالة من العرب وجعلتهم يقفون موقف الدفاع في الزريبة، ولكني عرفت بعد ذلك بقليل أن ما وصل من جيش المادبو قوة صغيرة قد احتمت في أدغال الأشجار، فأرسلت خمسين رجلا لطردهم من مكمنهم فطردوهم وقتلوا منهم ثلاثة.
وفي صباح اليوم التالي ظهر العدو وهو يتقدم نحونا بقوات كبيرة، فنفخنا في البوق وذهب كل جندي إلى مكانه، وأغاروا علينا من الشمال الغربي وهم يحتمون بدغل من نارنا، وكان في وسط زريبتنا ربوة فوضعت فوقها ديوانا كنا قد وجدناه في إحدى عشش المادبو، فجعله أحد المصريين كرسيا، فقعدت عليه وأخذت أشرف منه على حركات العدو وأراقب أيضا حركات جنودنا في الزريبة، وتقدم العدو حتى صار على مدى إطلاق النار وصار البندق يصفر حول آذاننا، وقمت أنا لكي أعطي الأوامر، وما كدت أترك الكرسي حتى مزقته رصاصة! فرأيت من الأنسب ألا أعرض نفسي للرصاص، واقترب العدو منا كثيرا واشتدت ناره، ولكن رجالنا كانوا محتمين فلم نصب إلا بأقل خسارة، ولكن إصابات الدواب كانت كثيرة بحيث خفت أن تفنى جميعا، فأمرت خمسين رجلا بالخروج بها من الجهة الجنوبية، وداروا بها إلى الغرب وأعملوا النار في العدو بينما كنا نحن في الزريبة نطلق النار عليهم أيضا، فتكلف العدو من ذلك خسارة جسيمة حتى جلا من مكانه، ولكنا لم ننل هذا النصر بدون أن ندفع ثمنه، فإني أتذكر أننا خسرنا 12 رجلا.
وفي المساء استولى التعب على الرجال فناموا وكنا ننتظر قضاء الليل في هدوء، ولكن حوالي الساعة الحادية عشرة فوجئنا بإطلاق نار حامية، ولكن كان الظلام شديدا فلم يمكن تسديد الرماية، فأمرت رجالي بألا يجيبوا، وفتر إطلاق النار ثم وقف نهائيا.
وطلبت الشيخ عفيفي واقترحت عليه أن يرسل بعض رجاله لكي يبحثوا عن مكان المادبو، ووعدتهم بالمكافأة الحسنة إذا هم أخبرونا عن مكانهم الحقيقي، فذهبوا وعادوا بعد ساعتين وأخبرونا بأن المادبو مع رجاله من البازنجر في قريته، أما العرب فقد خيموا في جنوب القرية وغربها، وكانت قوتهم كبيرة ولكنهم لم يتخذوا أية احتياطات للدفاع، وزحف جواسيسنا إلى جوارهم وسمعوا أحاديثهم وضحكهم واستهزاءهم بنا لأننا لم نجب على إطلاق النار علينا في الليل، وقالوا إنه لم يمنعنا من ذلك إلا شدة خوفنا.
فاستدعيت سبعين من رجالنا وأخبرتهم أمام الضابط بأني أرغب منهم في مفاجأة المادبو في قريته، وإننا إذا قاتلنا قوة تزيد على قوتنا في العراء فإننا في الأرجح نخسر خسارة جسيمة، ولكننا قد تحققنا الآن أن العرب غير مستعدين، فإذا هاجمناهم في الليل وهم على غرة فإنهم يفقدون كل ما عندهم من قوة معنوية، وتتاح لنا الفرصة بذلك للعودة إلى دارة والحصول على مدد جديد. فوافق الجميع على هذه الخطة وأراد الضباط أن ينضموا إلى رجال هذه الغارة ولكني رفضت ذلك.
وقد تركت خلفي ضابطين وأربعين من حملة الأبواق وسبعين رجلا، وخرجت أنا من الزريبة ومعي عفيفي الذي رفض أن يفارقني، وخشيت أن يخرج أحد من رجال أبي سلامة ويفشي أمرنا، فأمرت الضباط وشددت عليهم بألا يأذنوا لأحد بالخروج من الزريبة وأن يكونوا على يقظة تامة، وصرنا نتقدم بحذر يدلنا الجواسيس على الطريق، فلم تمض ساعة حتى وجدنا أنفسنا على مقربة من العدو، وقد ثبت لي أن جواسيسنا قد أبلغونا الصدق، وكنت أنا أيضا أعرف هذه الجهة من قبل، فقسمت قوتي قسمين: أحدهما يقوده محمد أغا سليمان أحد أهالي بورنو، والآخر أقوده أنا. وأخذنا نزحف إلى أن صرنا على بعد 600 أو 700 ياردة من العدو، وهنا أمرت حامل البوق بعمل إشارة لإطلاق النار على العدو الوادع، وعقب ذلك ارتباك رجال العدو واختلاطهم، فترك رجال المادبو - البازنجر - أسلحتهم وفروا، وأجفلت الخيول لهذه الحركة الفجائية في وسط الليل فجمحت في كل جهة والعرب في أثرها، وبعد دقائق كانت القرية خالية وكنا نسمع جلبة الفارين الذين هربوا من شرذمة قدرها سبعون رجلا فقط!
فقد نجحنا تماما واحتاج المادبو إلى جملة أيام لكي يجمع فيها رجاله الفارين، وأحرقت قريته وارتفع لهيبها إلى السماء، وأنار مكان المعسكر المهجور، وغنمنا عددا كبيرا من السروج والبنادق القديمة وألقيناها كلها في النار، ولكننا أبقينا بنادق رمنجتون وعدنا إلى الزريبة، حيث حيانا الجنود هناك أجمل تحية، وكانوا في أشد القلق وهم ينتظرون رجوعنا.
ولم تكن قد وافتني أخبار عن دارة فقررت العودة إليها، وبعد مسير ثلاثة أيام وصلت إلى البلدة، حيث وجدت الأمداد والذخيرة، ولما كان الرجال الذين رجعوا معي منهوكين فقد قررت أن أستبدل بهم رجلا من الأمداد الجديدة وأذهب لإنجاد منصور حلمي، ولكني في الصباح دهشت إذ وجدت خطابا يقول إن منصور في طريقه إلى دارة، وإنه سيبلغها في اليوم التالي، وكان هذا الخبر من أسوأ ما سمعت؛ لأن معناه مضاعفة الصعوبات في استعادة شقة واحتلالها.
ووصل منصور في صباح اليوم التالي ومعه قليل من العبيد الذين كانوا يتهافتون من الإعياء، وعلمت أنه قد ترك رجاله لما ألقاه العدو في قلبه من الرعب وعاد وحده إلى دارة، فلم أتوان في معاقبة هذا الضابط الجبان وقبضت عليه وأرسلت الجواسيس في كل ناحية أبحث عن جنوده، ولم أعد أفكر في إعداد حملة لاستنقاذ شقة، وبعد عشرة أيام جاءتني الأخبار السارة بأن هؤلاء الجنود قريبون من دارة، وظهر أن من يدعى علي أغا جمعة تراجع بهم لما تركهم منصور إلى دارة، وحماهم من مناوشات العدو وحمل جرحاهم وجاء معه بعض تجار شقة الذين طلبوا حمايته.
وكان سعيد بك جمعة في هذا الوقت حاكما على الفاشر، وكنت قد كتبت إليه مرارا لكي ينجدني بالجنود والذخائر، ولكني وجدت أنه لا يود أو لا يقدر على إجابة طلباتي، وسافرت إلى الحبشة؛ حيث كنت قد اتفقت مع القبائل الموالية على لقائي هناك.
الفصل السادس
حصار الأبيض وسقوطها
كبرت آمال المهدي بانتصاراته العديدة السابقة، وكان إلياس باشا يحضه على القدوم إلى الأبيض، فترك جبل غدير ومعه آلاف من العرب النخاسين والمعتصبين وانحدر بهم إلى كعبة؛ وهي قرية صغيرة في أرباض الأبيض.
وأرسل من هناك الخيالة للاستكشاف ولدعوة الراغبين في الانضواء للمهدي، وأرسل أيضا إلى محمد باشا سعيد يأمره بالخضوع، وقرئ خطاب المهدي أمام الضباط فاقترح محمد بك إسكندر قتل الرسل حملة هذا الخطاب، وكان محمد باشا سعيد غير موافق على هذا الاقتراح أولا، ولكنه وافق في النهاية وأعدم الرسل فورا.
ولم يضن المهدي بأي مجهود لإثارة من حوله؛ فكان يعظ الدهماء الذين حوله، ويصف جنات النعيم التي وعد بها المؤمنون الذين يشتركون في الجهاد. وفي صبيحة يوم الجمعة 8 سبتمبر سار الناس وهم يغلون حماسة وليس معهم سوى السيوف والحراب وجموعهم تموج نحو المدينة، وكانوا قد تركوا ما غنموه من الأسلحة في حملة راشد وشلالي، وأخذ المتحصنون في المدينة يصبون عليهم نار البنادق، ولكن هذه الجموع التي لم تكن تطمح إلا إلى الغنائم والأسلاب لم تكن تبالي بمن يقتل منها، فكانوا يتقدمون ويملئون الخنادق ويجوزون الحواجز ودخل بعضهم المدينة، وفي هذه اللحظة أمر الضابط نسيم أفندي حامل البوق بأن يعطي الإشارة للتقدم، وأخذ الإشارة حملة الأبواق في كل مكان، فنادوا بالهجوم فخرجت الجنود إلى سطوح المنازل وتعلقوا بالأسوار والحيطان وصبوا النار والرصاص فوق رءوس رجال المهدي، ورأت هذه الجموع الرصاص ينزل عليها كالبرد فتراجعت ببطء إلى الوراء، وحاولوا مرة أخرى أن يتقدموا فردتهم الجنود ثانيا وقتلاهم يعدون بالآلاف، وأخيرا خرجوا وتنحوا عن المدينة وانتصرت حامية الأبيض انتصارا باهرا.
وقد قتل في هذا الهجوم شقيق المهدي المدعو محمد، وشقيق الخليفة عبد الله المدعو يوسف، وقتل أيضا القاضي وعدد من الأمراء، وكان المهدي مدة الهجوم محتميا وراء منزل صغير، ولو كان محمد باشا سعيد سمع نصيحة أحمد بك ضيف وطارد الدراويش بعد اختلاطهم وتقهقرهم، لكان نجح في القبض على المهدي وتمكن من حقن الدماء الغزيرة التي أريقت بعد ذلك.
ولكن سعيد باشا قنع بهذا الانتصار الوقتي واعتقد أن المهدي قد سحق وأنه لا يجرؤ على معاودة الهجوم، وأن هذه الهزيمة ستحبط أغراضه وتزيل سطوته، وقد أدرك أقارب المهدي وأصدقاؤه هذه الحالة أيضا ونصحوا له بأن ينتقل إلى تل جانزارة، الذي يقع في الشمال الغربي من المدينة، ومكث هناك يحاصر المدينة حصارا مكشوفا وينتظر الأسلحة والذخائر التي أرسل في طلبها من جبل غدير.
وفي هذه الأثناء كانت دلين وهي مركز المرسلين المسيحيين في حالة خطرة، وكانت بها حامية مؤلفة من 80 عبدا، وكان المهدي في طريقه إلى الأبيض، وقد أرسل أحد أنصاره - وهو مك عمر - لكي يأسر أو يقتل من بها، وكان الأب أوهروالدر والأب بونومي قد اتفقا على الهرب إلى فاشودة ولكن تدبيرهما حبط لجبن الضابط الذي كان يقود فصيلة الجنود، فاضطرا إلى الإذعان وسرق منهما كل شيء وسيقا أسيرين إلى الأبيض، وحاول هنا المهدي هو والخليفة عبد الله أن يجعلاهما مسلمين هما وسائر الراهبات، ولكنهم رفضوا جميعا.
وفي اليوم التالي أخذهم الجنود وحولهم الدراويش يزعقون ويزيطون إلى ساحة فسيحة؛ حيث أقيم عرض كبير، ثم أوهموا جميعا بالقتل ولكن عفي عنهم في النهاية، ووكل أحد السوريين المدعو جرجي إستامبولي بالعناية بهم، وكان هذا السوري من أهالي الأبيض الذين انضموا إلى المهدي.
وفي هذا الوقت ظهر نجم مذنب في السماء، فاعتبره السودانيون نذيرا بسقوط الحكومة وأن المهدي قد ظهر على الأرض.
وأرسلت الحكومة تجريدة بقيادة علي بك لطفي لرفع الحصار عن بارة والأبيض، ولكن بينما كان الجنود يسيرون وقد بلغ بهم العطش أغار عليهم عرب الجوامة يقودهم فقي رحمة، وكان عدد الجنود ألفين، ولم ينج منهم سوى مائتين تمكنوا من الوصول إلى بارة، وبعد ذلك هوجمت بارة وكانت بها حامية صغيرة فصمدت وقاومت مدة، ولكنها اضطرت في نهاية سبتمبر إلى التسليم.
وسقطت بارة بعد حصار طويل منظم، وكانت الحامية قد أوقعت بالمحاصرين وكلفتهم خسارة جمة، ولكن شبت نار في مخازن الحبوب ثم فعل الجوع والمرض أفاعيلهما، ولم يكن هناك أمل في المعونة فطلبت جنود الحامية من مسرور أفندي الحكمدار ونور أنجرة ومحمد أغا جابو أن يسلموا، فسلموا المدينة في يناير سنة 1388 لعبد الرحمن واد النجومي الذي ساقهم إلى جانزارة.
واحتفل المهدي بسقوط بارة فأطلق مائة مدفع، وسمعت الحامية في الأبيض إطلاق النار فظنت أن الحكومة أرسلت جيشا لرفع الحصار، ولكن عندما عرف الجنود الحقيقة وأن بارة قد سقطت تراخت عزائمهم وفت في أعضادهم؛ فقد مضت عليهم أشهر وهم يعانون فتك الجوع؛ فقد ارتفعت أسعار الأقوات بحيث إن ثمن الدخن كان قبل تسليم المدينة بشهر قد بلغ أربعمائة ريال للأردب، وثمن الجمل 1500 ريال، وثمن الفروج 30 أو 40 ريالا، وثمن البيضة ريالا أو ريالا ونصفا، ولست أحتاج إلى وصف هذه الحالة؛ فقد أغناني عن ذلك أخواي في الأسر الأب أوهروالدر والأب وسنيولي، اللذان وصفا فظائع هذه الأيام فلن أعيد ما قالاه، إنما يكفي أن أقول إنه بعد حصار دام خمسة أشهر ذاق فيه المحصورون أنواع الحرمان ومات فيه عدد عظيم من الأهالي ومن الحامية جوعا، اضطر محمد باشا سعيد إلى التسليم، وكان يرغب في إحراق مخازن البارود، ولكن الضباط رجوه ألا يفعل ذلك؛ ضنا بحياة زوجاتهم وأولادهم، فكتب إلى المهدي يقول إنه مستعد لتسليم المدينة، فأجاب المهدي بأنه لا خوف عليه هو وسائر الضباط، وفي صباح اليوم التالي أرسل وفدا مؤلفا من التجار برياسة محمد واد عريف إلى سعيد باشا؛ يطلب منه ومن كبار الضباط أن يحضروا لديه.
وقد أحضر الوفد معه أكسية من المرقعات وهي لباس الدراويش المؤلف من رقع مختلفة لكي يلبسها سعيد باشا وضباطه، فلبسوها وركبوا جميعهم الخيول وساروا والحزن مخيم على وجوههم، وغادروا تلك القلعة التي دافعوا عنها دفاع الأبطال. وكان مع سعيد باشا محمد بك إسكندر الحكمدار ونسيم أفندي وأحمد بك ضيف الله ومحمد بك يس وعدة ضباط آخرين.
واستقبلهم المهدي وهو قاعد على عنجريب قد فرش بجلد جدي وبسط يده لهم لكي يقبلوها وعفا عنهم، وقال لهم إنه يعرف أنهم لم يقاوموه إلا لأنهم كانوا مخدوعين لا يعرفون أنه المهدي الذي جاء يؤدي رسالة إلهية، وهو يعفو عنهم الآن ويطلب منهم أن يقسموا له يمين الولاء ويطيعوه في جهاده، ولما انتهى من ذلك أعطاهم ماء وبلحا وحضهم على الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ثم التفت إلى سعيد باشا وقال: «لست ألومك باعتبارك تركيا لدفاعك عن المدينة، ولكنك لم تحسن في قتل الرسل؛ لأن الرسول لا يقتل.»
وقبل أن يجيب سعيد باشا أسرع إسكندر بك وقال: «مولاي المهدي، إن سعيد لم يأمر بقتل الرسل ولكني أنا الذي فعلت ذلك بصفتي حكمدارا للقلعة؛ وذلك لأني اعتبرتهم ثائرين، وإني أقر بأني لم أحسن في عملي هذا كما قلت.»
فقال المهدي: «لم أقصد بكلامي إلى أن تبرر عملك، فإن الرسل قد نالوا كل ما كانوا يرغبون فيه، فإنهم لما أخذوا الخطابات مني كانوا يرغبون في الاستشهاد وقد تحققت رغبتهم، وقد أنعم الله عليهم بالنعيم، ولعل الله يمنحنا ما نالوه.»
وفي أثناء المحادثة كان أبو النجا ورجاله قد احتلوا القلعة بتدبير سابق واحتلوا أيضا مباني الحكومة ومخزن البارود، أما الأمراء فقد احتلوا مساكن الضباط، وأمر المهدي واد العريف - وكان صديقا سابقا لسعيد باشا - بأن يأخذه هو والضباط إلى منازلهم، ولكنهم عندما بلغوها علموا أن الأمراء قد احتلوها وأن أملاكهم قد صودرت، وبعد قليل دخل المهدي المدينة وأمر بخروج الحامية من الخنادق، أما النساء والأولاد الذين كانوا ينتظرون إسعافهم فقد أمروا بأن يخرجوا من المدينة ويذهبوا إلى معسكر المهدي وألا يأخذوا شيئا معهم، وفتشت النساء تفتيشا يثير النفس؛ إذ كن يعرين من ملابسهن! وكل ما وجد معهن أرسل إلى بيت المال؛ حيث وزعت الأموال بين الأمراء وسائر الأعيان، وكانت مناظر التفتيش تؤلم النفس؛ فإن جنود المهدي كانوا في طلب الذهب يجلدون الأهالي لكي يعترفوا بما عندهم!
وطلب أمير بيت المال أحمد واد سليمان سعيد باشا لكي يسلمه ما عنده من الأموال، فأجاب سعيد باشا بأنه لا يملك شيئا، وكان المشهور أنه رجل غني ولكنه أنكر وكابر، وبلغ إنكاره المهدي فاستدعى واد سليمان وطلب منه أن يبحث مع خدم سعيد باشا، ثم طلب هو سعيد باشا وأخذ يحادثه عن الدين، وكان كثيرا ما يسأله أمام المجتمعين من الناس لماذا لا يدلهم على خزانته التي يحفظ فيها أمواله، وكان سعيد باشا ينكر ويلح في الإنكار ويقول إنه لا يملك شيئا، ومضي وقت ثم جاء واد سليمان الذي كان قد نجح في أن يحمل إحدى الخادمات على أن تعترف بالمكان الذي خبأ فيه مولاها أمواله، وأسر إلى المهدي حتى لا يسمع الناس بأنه وجد الأموال مخبوءة في حائط!
أما المهدي فأشار عليه بالجلوس ثم أخذ يعظ الجموع أمامه عن غرور الدنيا وضرورة الزهد، ثم التفت فجأة إلى سعيد باشا وقال: «لقد حلفت يمين الولاء فلم تخفي أمر أموالك؟ المال أصل البلاء فهل تنتظر أن تجمع أكثر مما جمعت؟»
فقال سعيد باشا: «ليس عندي مال ربحته ظلما أو عدلا، فافعل بي ما تشاء.»
فقال المهدي: «هل تظنني رجلا مثل سائر الناس، ألا تعرف أنني المهدي المنتظر، وأن أبي قد كشف لي عن خزانتك التي أخفيتها في الحائط؟! اذهب يا أحمد واد سليمان إلى بيته ثم ادخل إلى غرفته فتجد على الحائط الأيسر قريبا من الباب مكان الأموال، فجرد الحائط من الجبس تجد أموال التركي فأحضرها إلينا.»
وكان سعيد باشا مدة غياب واد سليمان قاعدا مقطبا عابسا في جوار المهدي، وعرف أن مكان أمواله قد أفشي ولكنه كان من الكبرياء والأنفة بحيث رفض أن يصرح بأنه قد كذب، وسكت عن الكلام، وبعد دقائق عاد سليمان ومعه صندوق من التنك وضعه أمام المهدي، فلما فتحه وجده مملوءا بالذهب المجموع في أكياس، وقد عدوا فيه سبعة آلاف جنيه.
ثم قال المهدي: «يا محمد سعيد، لقد كذبت ولكني سأعفو عنك، خذ يا أحمد هذا المال وقسمه بين الفقراء والمحتاجين.»
فنهض محمد سعيد باشا وهو يقول: «إنك تدعو إلى الزهد ثم تأخذ أموالي، فافعل بها ما شئت.» ثم سار خارجا.
فقطب المهدي وقال بصوت خافت: «دا ما ينفعنا.» وبعد أيام تعلل عليه بعلة وأمر بقتله كما قتل أيضا أحمد بك ضيف الله وعلي بك شريف ويس، وهذه كانت نهاية هؤلاء الرجال الأربعة الذين دافعوا عن الأبيض، والحق أنهم كانوا جديرين بحظ أحسن من هذا.
الفصل السابع
المهدية في دارفور
لما وصلت إلى خشبة جهدت جهدي لكي أنظم قوة لمقاتلة المادبو، وكانت القبائل التي طلبتها لمعونة الحكومة قد وصلت وصار جيشي يتألف كما يأتي:
جنود نظامية ببنادق رمنجتون
550
جلابة
200
بازنجر مسلحون
1300
جنود مختلفة
100
المجموع (ومنه 600 يحملون رمنجتون)
2150
وكان يقود البازنجر شرف الدين، وكان لدينا مدفع جبلي و13 رجلا من الطوبجية.
وكانت القبائل الموالية تتألف من البيجو والبركة والزغاوة - في جنوب دارفور - والمصرية والتاجو والمعالية الذين كانوا يعادون الشيخ أبا سلامة، وكان عددهم كلهم نحو 7000 رجل يحملون الحراب و400 حصان.
وكانت الحامية التي غادرتها في دارة مؤلفة من 400 جندي نظامي و7 مدافع والطوبجية اللازمين لها و30 فرسا و250 من البازنجر، وكانوا كلهم تحت قيادة زوجال بك الذي كان يؤدي وظيفة قائمقام بدلا من إميلياني بك، وقد تركت معه من يدعى جوتفرث روث، وهو سويسري كان قد أرسل إلى السودان بشأن وقف النخاسة، وكان عالما في اللغة العربية، وقد أسررت إليه أني لا أثق بزوجال بك وطلبت منه أن يعرف كل ما يمكن معرفته عنه من قرابته ويقفني على كل شيء يعرفه عنه.
وفي نهاية أكتوبر غادرت خشبة مع جميع الجيش وسرنا في إقليم الرزيفات، وكان مغطى بالديس الكثيف والأحراج، وكنا معرضين بذلك للهجوم، فجعلت سير الجيش بحيث لا يمكن أن نباغت بكمين يبعث فينا الارتباك والاختلاط.
وكان البازنجر في جناحي الجيش ومعهم الأبواق لتنبيهنا عن أي خطر، وجعلت مؤخرة الجيش أقوى من الجناحين؛ وذلك حتى إذا هوجم جناح يمكننا أن نجد الوقت الكافي لنزيده من قلب الجيش، وكان واجب المؤخرة من أشق الواجبات؛ لأنه كان عليهم أن يعنوا بالجمال التي تقع وألا يغفلوا عن الفارين أو الذين يتخلفون؛ ولذلك جعلت السير في المؤخرة مناوبة؛ فيمنة الجيش تصير مؤخرة ثم تصير ميسرة ثم تعود يمنة وهلم جرا، وكنت أيضا أخفف الأعمال عن البازنجر والجنود النظاميين بهذه الطريقة.
وكنت أؤمل بهذه الطريقة أن أبلغ شقة بدون أية خسارة جدية ، وكان قصدي عند وصولي أن أبني قلعة هناك وأضع عليها المدفع ثم أترك الحامية هناك وأخرج بتجريدات خفيفة إلى البلاد المضطربة؛ حيث تتاح الفرصة لحملة الحراب بأن يغنموا ما يمكنهم من ماشية الرزيفات.
وعند وصولي إلى ديين وجدنا كميات من الحبوب التي اختزنها المادبو في القرية الجديدة التي بناها، فقسمتها بين الجنود واطمأننت بأن عندهم من الزاد ما يكفيهم جملة أيام، واسترحنا ثلاثة أيام وبثثنا طلائعنا لكي يدلونا على أمكنة المياه في الطريق، ثم استأنفنا المسير إلى شقة.
وكنت محموما في هذه الأيام فسلمت قيادة الجيش لشرف الدين - وهو يليني في القيادة - وأمرته ألا يبرحني. وفي اليوم التالي عندما غادرنا قرية كندري، وبعد أن استرحنا قليلا، تصايح الجنود في المؤخرة بأن بعض الخيالة يتقدمون للهجوم علينا، ووقف في الحال كل رجل في مكانه، وعلى الرغم من الحمى المستولية علي، ذهبت إلى حرس المؤخرة ورأيت بعض الخيالة الذين ربما كانوا يبلغون بعض مئات ولكن الأشجار كانت تخفيهم، وكان لذلك من المستحيل تقديرهم تقديرا صحيحا، فأشرت لحرس جناحي الجيش بأن ينضموا إلي ثم تقدمت ومعي خيالة الجيش وفرسان العرب، وحصلت مناوشة بين الأشجار انتهت بتقهقر العدو بعد أن غنمنا منه ستة خيول، وبلغت خسارتنا سبعة خيول قتلت وفقد رجلان وجرح البعض، ثم طاردنا العدو مسافة وعدنا واستأنفنا السير حتى الغروب فعسكرنا في مكان يدعى أم ورقة.
وكنت لا أزال أعاني الحمى، فأخبرت شرف الدين بأن يتبع التدبيرات التي أنهيها إليه بشأن ترتيب الجيش، وفي الصباح شرعنا في المسير حتى إذا مضى ساعتان بلغنا أرضا نزة، رأينا في جنوبها الشرقي بعضا من العشش التي يبنيها عبيد الرزيفات الذين يشتغلون في الحقول، وذهبت بمقدمة الجيش إلى هذه العشش لفحصها، وكان الجنود يعاونون الخيل على السير في هذه الحمأة التي كانت تنغرز فيها أرجلها، ونحن في ذلك وإذا بنا نسمع من المؤخرة إشارة الخطر، تلاها في الحال إطلاق الرصاص، فتركت المقدمة في العشش وركضت جوادي إلى الميسرة، وأخذت تسعين جنديا نظاميا وذهبت إلى المؤخرة، ولكن كان مجيئنا متأخرا؛ فقد أطلق البازنجر والجنود النظاميون في المؤخرة أول طلقة، وبينما هم يملئون أنابيب البنادق لإطلاق الثانية هجم عليهم العدو بجموع كثيفة فزحزحهم إلى الوراء في ناحية، ورأى جنودنا في القلب هذا الاختلاط بين العدو والولي فامتنعوا عن إطلاق النار، فأشرت لحملة الأبواق بأن يشيروا على جنودنا بالرقاد، ثم يسددوا مرماهم إلى أفراد العدو الذين اختلطوا بنا ويصيبوا أيضا من يأتي بعدهم من الأعداء، وبهذه الطريقة وقفت الهجوم وقسمت العدو قسمين: واحدا إلى اليمين وآخر إلى اليسار. وذهب هذان القسمان إلى ميمنتنا وميسرتنا للاشتباك معهما في القتال.
وكان الاختلاط الآن هائلا لا يمكن وصفه، فإن الأعداء العرب الذين دخلوا إلى قلب جيشنا كانوا لا يزالون فيه، وقد أعملوا سيوفهم في البازنجر ولم يكن مع البازنجر ما يدافعون به؛ لأنهم كانوا لا يحملون سوى البنادق، أما الجنود النظاميون الآخرون فلم يجدوا من الوقت ما يساعدهم على تجريد السيوف؛ وذلك لمفاجأة الغارة، ولكنا تمكنا في النهاية من قتل جميع العرب الذين جازوا إلى قلب جيشنا، أما حرس الميمنة وحرس الميسرة فقد هوجموا من الأمام والخلف فلم يستطيعوا تحمل الصدمة وفروا في كل جهة، فتلقاهم فرسان الرزيفات المختبئون في الغابات وقتلوهم.
ولم تدم المعركة أكثر من عشرين دقيقة، ولكن خسارتنا في هذا الوقت القليل كانت عظيمة جدا، ومن حسن حظنا أن العدو ألح في مطاردة الفارين من جناحي جيشنا، وتمكنا نحن من تطهير القلب من جنود العدو، ولكن ضحايانا كانت كثيرة، وكانت الخسارة بين أولئك الذين أطاعوا إشارتنا بأن يرقدوا قليلة، ولكن إصابات البازنجر الذين لم يدربوا كانت غير قليلة وقتل أيضا عدد كبير من جمالنا.
وفي وسط الاختلاط رأيت أحد الأعداء يمر بالقرب مني ويحمل معه كيسا أحمر يحتوي على الفتائل التي نطلق بها البنادق، وكان يبدو عليه أنه يظن أنه غنم شيئا عظيما، والحق أنه كان بالنسبة إلينا شيئا عظيما؛ لأنه لا فائدة من البنادق بدون هذه الفتائل، وكان بجانبي خادم أسود لا يتركني فقلت له: «هاك يا كير فرصة تثبت بها شجاعتك التي كثيرا ما وصفتها لي ، خذ حصاني واذهب وراء هذا الرجل وأحضر منه الكيس الأحمر.»
فقفز إلى الحصان وفي يده حربة وطار به وبعد دقائق قليلة عاد ومعه الكيس الأحمر، ومعه أيضا حربة حمراء بالدم!
واختفى فرسان العدو فعملنا إشارة الاجتماع، ولكن لم يلب النداء سوى بضع مئات، فقسمتهم قسمين: أحدهما للحرس، والآخر يشتغل بجمع الذخيرة من أولئك الذين قتلوا. ووضعنا ما جمعناه على الجمال ثم سرنا إلى قرية عالية يمكن منها مشارفة السهل حولها، ثم جمعنا مقدارا من الأشواك وصنعنا بها زريبة بأسرع ما يمكننا؛ خوفا من أن يفاجئنا العدو في أي وقت. وبعد أن انتهينا من ذلك فكرنا في الجرحى الذين حملناهم إلى داخل القرية، وعملنا كل ما في استطاعتنا لتخفيف آلامهم.
وكانت الجثث مبعثرة فوق الأرض لا يحصيها العد، دع عنك من قتلوا في الغابة، والعجب أنه في هذا المكان نفسه انهزم آدم طربوش وزير السلطان حسين وقتل في المعركة.
ثم حان حين نداء الأسماء وهو واجب محزن، ووجدنا أنه قتل من ضباط المشاة الأربعة عشر، عشرة وجرح واحد، وقتل من رؤساء الجلابة: الشيخ خضر ومنجل مداني وحسن واد ستارات وسليمان واد فتح وفقي أحمد وحسيب وشكلوب. ومن الطوبجية الثلاثة عشرة لم يبق سوى واحد، أما اليوناني إسكندر الذي جرح في ديين ولم يكن جرحه قد برئ بعد فقد قتل أيضا، وجمعنا ونحن في حزننا الموتى لكي نقدم لهم آخر تجارتنا، ووجدنا بين أكداس الجثث جثة شرف الدين مطعونا في قلبه، ثم حفرنا في هذه النزة قبورا وصرنا ندفن اثنين أو ثلاثة معا في كل قبر.
أما الجرحى المساكين فلم يكن في مقدورنا أن نساعدهم كثيرا؛ فإن أولئك الذين كانت جروحهم خفيفة كانوا يشتغلون بتضميدها بأنفسهم، أما الذين كانت جروحهم خطرة فلم يكن عندنا لهم سوى الكلمات الطيبة.
وكانت رؤية هؤلاء الجرحى مما يؤلم النفس ويجعل الإنسان يشعر بعجزه التام عن تخفيف ما بهم، ورأيت أحد الخدم ومعه حقيبتي وكان بها بعض الأقمشة للتضميد، فأخذتها وجعلت أضمد بعض الجراحات، وأنا في ذلك خطر ببالي أني لم أر خادمي مرجان حسن وكان معه أحد جيادي، وكان صبيا سريا ذكيا، لم يكمل بعد السادسة عشرة من عمره، وكان هادئا شجاعا شريف النفس، فقلت للصبي الذي يحمل حقيبتي: «قل لي يا عيسى، أين مرجان الذي كان يسوق جوادي مبروك - وكنت قد وضعت في جيوب سرجه مذكراتي وخرائطي - قل لي أين هو، إنه صبي نشيط ولا بد أنه قد ركب الجواد وتمكن من الفرار.»
ولكن عيسى بدت عليه أمارات الحزن والوهن عند سؤالي هذا، فهز رأسه وشرقت عيناه بالدموع، ثم سلمني قطعة من لجام الجواد، فقلت له: «ما هذا؟!»
فقال: «مولاي، لم أحب أن أزيد حزنك، لقد وجدت مرجان قريبا من هنا راقدا على الأرض وبصدره طعنة الرمح، ولما رآني تبسم وقال: «لقد عرفت أنك ستأتي لكي تراني، ودع مولاي وقل له إني لم أجبن ولم أسلم الجواد إلا بعد أن وقعت مطعونا في صدري وقطعوا اللجام من يدي وجروا به، قل لمولاي إن مرجان كان أمينا، خذ السكين من جيبي فإنها لمولاي، أعطها له ثم سلم عليه كثيرا».»
ثم غص عيسى بريقه وسلمني السكين وهو ينشج، فآلمني هذا الخبر ألما شديدا ووهنت قواي عند سماعه، أجل يا مرجان، ما أصغر سنك! وما أشرف نفسك! وما أفدح مصيبتي في فقدان هذا الخادم الأمين، بل الصديق المخلص!
وقلت لعيسى: «قل لي، كيف كانت النهاية؟»
فقال عيسى: «كان عطشان، فحملت رأسه بين يدي ولم تمض بضع دقائق حتى مات، فنهضت وتركته؛ فقد كان علي أن أؤدي أعمالي ولم يكن ثم وقت للبكاء.»
ثم قوينا سياج الزريبة وحفرنا الخنادق وراءه، ثم أمرت بدق الطبول ونفخ الأبواق وأطلقنا بضع عيارات؛ وذلك لكي يعرف الفارون أو الجرحى الذين ارتطموا في الوحل أننا قد وجدنا ملجأ قريبا منهم، وجاءنا عدد كبير من هؤلاء في النهار، وفي آخر النهار نادينا الأسماء فوجدت أن عندنا 900 رجل هم البقية المهزومة الحزينة لجيش كان يبلغ 8500 رجل، ولكننا مع ذلك رضينا بالنتيجة، ولم يبق من فرساننا وخيالتنا سوى ثلاثين، ولا بد أن العدو قد غنم عددا كبيرا من الخيول، وأن بعضها قد فر ورجع إلى دارة، كل إلى مسكنه، ولكن الذخائر كانت كثيرة لدينا لأنها تخلفت عمن قتلوا.
وعند الغروب عاد رجال الرزيفات فدهشوا إذ رأونا متحصنين مستعدين لمقابلتهم، وأرسل المادبو رجاله من البازنجر لمقاتلتنا، ولكن بعد مناوشة قصيرة رددناهم ثم خيم الظلام ووقف القتال.
وبينما أنا قاعد وأتكلم مع الضباط اقترب منا الشيخ عبد الرسول ومسلم واد كباشي وسلطان بيجو، واقترحوا علينا التقهقر من مركزنا الحاضر ونحن في جنح الظلام؛ لأنه لم يبق لنا أمل في الانتصار على العدو بعد خسارتنا الفادحة، فقلت لهم: «ترغبون في التقهقر الآن! ولكن ماذا نصنع بجرحانا؟! هل نتركهم لرحمة العدو؟!»
فخجلوا وصمتوا، فقلت لهم: «ليس اقتراحكم حسنا، لقد كنت أنا أحادث الضباط في هذا الشأن الآن ورأينا أن نبقى هنا عدة أيام، وليس أمامنا ما نخشاه سوى الجوع، ويمكننا أن نذبح الجمال المجروحة والضعيفة ونقوت بها الجنود، ثم لا بد أن نجد ما نقتات به أيضا هنا، والمؤكد أن العدو سيهاجمنا، ولكننا سنرده بسهولة؛ وبهذه الطريقة تعود الثقة إلى رجالنا بعدما فقدوها للخسارة الفادحة التي وقعت بنا. إني أعرف الرزيفات فهم لن يقعدوا هادئين يترقبوننا، وأنا واثق بأنه لا بد من الاصطدام مع المادبو والشيخ جانكو وسائر رجاله من البازنجر الذين سبق أن طردناهم إلى بحر الغزال، وسيستريح الجرحى ويتعافون قليلا فأولئك الذين ليس بهم سوى جراح طفيفة سيمشون على أقدامهم، أما من جراحهم بليغة فإننا نحملهم على خيولنا، وأظن أن اقتراحي هذا أفضل من اقتراحكم.»
وفي أثناء كلامي سمعت سلطانا يوافق على رأيي، ولم أنته من كلامي حتى أمن الجميع عليه واتفق رأينا على البقاء.
ثم تكلمت موجها كلامي إلى جميع الحاضرين وقلت: «هل تعرفون سبب هزيمتنا اليوم؟»
فأجابوا بالنفي جميعا، فقلت: «إليكم السبب، في هذا المساء وجدت بين الجرحى قائد المؤخرة حسن واد ستارات، وقد قال لي إن شرف الدين لم ينفذ تعليماتي بشأن تبديل المؤخرة كما فعلنا في الأيام السابقة، فاغتاظ الجنود النظاميون لهذا السبب، وتركوا مكانهم وانضم كل منهم إلى فرقته بدون إذن ولم يرسل مكانهم رجال جدد، وفي الوقت نفسه ترك العرب الموالون المؤخرة وانضموا إلى الجناحين، وعندما هوجم حسن واد ستارات لم يكن معه من الرجال سوى 250 من البازنجر لا يحملون سوى البنادق القديمة، وقد دفع شرف الدين ثمن إهماله حياته ووقعت بنا الخسارة جميعا، وليس هذا وقت التلاوم فلنفكر في شيء آخر، اذهبوا إلى رجالكم وشجعوهم ثم ناموا حتى تصبحوا مستعدين لما يأتي به الغد، ولكن أنت يا سيد أغا فولة لا يمكنك أن تنام للجرح الذي بك؛ ولذلك سنضع لك عنجريبا قريبا من باب الزريبة، وإذا حاول أحد أن يخرج بدون إذني فاضربه بالرصاص.»
فانفضوا من حولي وصرت وحدي، فطفقت أفكر في موقفنا وأتدبر، ورأيت أن من المرجح أن نتمكن من التقهقر إلى دارة وكان لدينا أكثر من 800 بندقية، ولكن شعرت بمرارة الخسارة الماضية؛ فقد قتل أحسن ضباطنا وخشيت أن يبلغ نبأ هزيمتنا دارة فيكون له أسوأ أثر في رجال الحكومة والأهالي معا، فأيقظت الكاتب وأمرته بأن يكتب خطابين قصيرين؛ أحدهما لزوجال والآخر للحكمدار محمد فرج، وأخبرتهما بأنه على الرغم من خسارتنا الكبيرة فإن حالتنا حسنة، وإننا نرجو أن نرجع إلى دارة بعد أسبوعين.
ولكن إذا وصل إلى دارة بعض الفارين وأخذوا يشيعون الإشاعات المقلقة عن حالتنا، فيجب اعتقالهم حتى أعود، ثم كتبت أنا بضعة أسطر لجوتفريث روث أصف له الحالة وأخبره بأني سأرجع إلى دارة قريبا مع الباقي من جيشنا، وأنه يجب أن يتشجع ويبعث الرجاء في نفوس من حوله، وكتبت أيضا بضعة أسطر لأمي وإخوتي أودعهم؛ لأنه لم يكن من الممكن أن نتنبأ بما تنتهي إليه هذه القلاقل، ورجوت جوتفريث روث أن يوصل هذه السطور في حالة قتلي إلى أهلي في وطني.
وتناولت الخطابات الثلاثة وقمت إلى عبد الله أم درامة شيخ العرب المصرية الذين يقطنون قريبا من دارة، فأيقظته وقلت له: «أين أخوك سلامة؟»
فقال وهو يشير إلى رجل نائم في جانبه: «هاكه» ثم أيقظه.
فقلت: «يمكنك يا سلامة أن تخدمني الآن أجل خدمة، وهي خدمة تفيدك أنت أيضا؛ إني أريد منك أن تأخذ هذه الخطابات التي تراها وتذهب بها إلى دارة، وتسلمها للرجل الأوروبي المسمى روث وقد رأيته معي مرارا، واركب جوادي الذي كثيرا ما مدحته في هذه المهمة، وعليك أن تسافر الآن، وعندما تبلغ خط العدو المحيط بنا الآن اركض جوادك؛ فإنهم كلهم نيام فيمكنك أن تختفي في الظلام قبل أن يعدوا خيولهم للعدو وراءك، ومتى جزت خطوطهم فأنت آمن، وعندئذ تبلغ دارة في بحر يومين، وسأكافئك بإعطائك فرسي السوداء التي في الإصطبل في دارة.»
وبينما أنا أتكلم كان سلامة يشد حزامه على وسطه وكل ما قاله لي: «أين الخطابات؟»
فناولتها له فأخذها وقال: «إن شاء الله وبمعونة الله سأوصل هذه الخطابات إلى أصحابها، ولكني أفضل أن أركب فرسي؛ فإنه وإن لم يكن يجري بسرعة فرسك إلا أنه يقوى على حملي، فهو يعرفني وأنا أعرفه، وفي مثل هذه المهمة يكون التعارف مفيدا.»
وأخذ يسرج فرسه، وكتبت أنا رقعة إلى روث وطلبت منه أن يسلم الفرس السوداء لحامل الخطابات وناولتها لسلامة بعدما أخبرته بمضمونها، ثم قاد فرسه إلى الباب وكان هناك سيد أغا فولة يتململ على فراشه؛ إذ كان مجروحا في ساقه اليمنى وذراعه اليسرى، فأخبرته بمهمة سلامة فأمر له بفتح الباب، وامتطى سلامة فرسه وحمل في يده اليمنى رمحه وفي اليسرى جملة مطارد صغيرة يزرق بها العدو على بعد وشرع في السير.
فقلت له: «مع سلامة الله.» فقال: «أنا واثق بالله.» واتأد في سيره أولا حتى اقترب من خطوط العدو وهو يسير على حذر، ثم سمعت دبدبة سريعة ثم عيارا أو عيارين، ثم خيم السكوت كأنه الموت! فقلنا جميعا: «ليكن الله معه.» وعدنا إلى الزريبة وقد بلغ منا الإعياء، وما هو أن انطرحنا حتى نمنا.
ولما استيقظت في الفجر وجدت الرجال يشتغلون في التحصين، وكان كما تنبأت، فإن العدو عاود الهجوم، ونشط إطلاق النار من الجانبين مدة ، ولكن بالنسبة لمكاننا المشرف اضطر العدو إلى التقهقر بعد أن أوقعنا به وكبدناه خسارة جسيمة، وقد قتل وجرح منا عدد قليل، وكان من القتلى علي واد حجاز وهو جعالي شجاع، ولما كانت نيتنا البقاء هنا بضعة أيام، فإن رجالنا جدوا في تحصين الزريبة، وأخذنا ندفن من ماتوا منا، وكان الفساد قد انتشر في أجسامهم وامتلأ الهواء برائحتهم.
وقضينا في الزريبة خمسة أيام كان العدو يهاجمنا فيها مرة أو مرتين كل يوم، وقد حدث في اليوم الثالث أن كريمة نور قائد مدفعية المادبو قتل، فثبطت عزائم العدو وفتروا في هجومهم عن ذي قبل.
ولكن نهض لنا عدو آخر وهو القحط، فقد أكلنا كل شيء يؤكل فانتهت لحوم الجمال ولم يكن لدينا حبة ذرة، وقد اقتتنا أنا والضباط في المدة الأخيرة بكسرات من خبز الذرة كنا نطبخها مع ورق نبات يدعى كوال، ونضرب هذا الخليط حتى يصير شبه عصيدة لا طعم لها، ولم يكن ثم ما يرجينا بتخفيف وطأة العدو أو بمجيء جيش لإنقاذنا، فلم يكن من الممكن أن نبقى أكثر مما بقينا وكان الجوع قد أثر فينا وأضعفنا.
وعلى ذلك جمعت جميع رجالنا وكان عددهم نحو 900 رجل، كلهم ما عدا قليلا من العرب مسلح بالبنادق، أما العرب فكانوا لجهلهم بالبندقية يؤثرون عليها حرابهم، ثم خطبتهم خطبة قصيرة قلت فيها إن دماء ضباطهم ورؤسائهم تهتف بهم أن اثأروا لنا، وإن نساءهم وأولادهم ينتظرونهم مشتاقين لرؤيتهم، ولكن من المحال أن يصلوا إليهم ما لم يتحملوا الآلام بالصبر ويواجهوا المشاق بالجلد والشجاعة. ثم ختمت خطبتي بقولي إن أولئك الذين قد سكن الخوف قلوبهم قد فروا يوم المعركة، وأما الذين يقفون أمامي الآن فقد صمدوا وعانوا المشقات، وإن الله سيكافئهم على جهودهم بالنصر.
فأجابوا بالهتاف وبرفع البنادق فوق رءوسهم، وهذه إشارة للطاعة، ثم صرفتهم وأمرتهم بالاستعداد للرحيل في اليوم التالي، ثم نزعت من البندقيات القديمة التي تخلفت عن القتلى زنودها وجمعتها ثم ألقيتها في بركة، أما البندقيات فقد أحرقتها، وألقينا كل ما لا حاجة لنا به في الماء وقسمنا الباقي بين الجنود، فخص كل رجل ما بين 16 إلى 18 دستجة من الخراطيش، ولكننا أتلفنا البارود الذي يستعمل في البنادق القديمة؛ لئلا يستفيد منه العدو، أما رصاص الخراطيش فقد وضعناه تحت رءوس من ماتوا حديثا.
فلما كان السبت، وهو اليوم السابع لنكبتنا، بعيد طلوع الشمس خرجنا من الزريبة، وألفنا القلب وحوله المقدمة والمؤخرة والميمنة والميسرة وشرعنا في التقهقر، وكان عندنا جملان فقط فجعلناهما يجران المدفع في القلب، وأرسلت أنا في كل جانب فارسين للاستكشاف، وكان في القلب 160 جريحا، فكان القادر يمشي على أقدامه ومن لم يقدر حملناه على خيولنا القليلة، كل فرس يحمل رجلين أو ثلاثة، وكنت أنا راضيا بالسير على قدمي ولكن ألح علي الضباط في الركوب فركبت لكي أشرف على الفلاة حول الجيش، وكنا جميعا نعرف بأن العدو سيهاجمنا بعد خروجنا من الزريبة، فملأنا المدفع وعولنا على ألا نبيع حياتنا رخيصة، وكنا واثقين بأننا إذا نجحنا في رده مرتين أو ثلاثة فإنه لن يعاود الغارة علينا، وقررنا أن نسير في الجهة الشمالية الغربية؛ لأن الأرض هناك مكشوفة، ولكننا كنا نجهل مكان مياه الأمطار، لأن أدلتنا قد فروا أو قتلوا.
وقبل أن يمضي على مسيرنا ساعة هوجمت مؤخرتنا فأدركت أن الساعة الحاسمة قد أزفت، فأمرت بالوقوف في الحال وضممت الجناحين إلى القلب، ثم اصطحبت حرسا مؤلفا من خمسين رجلا وسرت نحو المؤخرة وكانت تبعد عنا نحو مائتي ياردة، ونقلنا المدفع إلى آخر القلب من جهة المؤخرة، وكلفنا الجرحى بملء البنادق حتى لا يضيع وقت الجنود المقاتلة.
وقبيل أن يظهر مشاة العدو كنا نسمع وقع أقدامهم فاستعددنا لهم بحيث إنهم عندما ظهروا سددنا إليهم النار من حرس المؤخرة، فتوقفوا قليلا ولكنهم كانوا يستندون إلى كثرة عظيمة وراءهم، فتشجعوا بها وهجموا وكل منهم قد شرع حربته في يده اليمنى وحمل تحت ذراعه اليسرى عدة مطارد، وتمكنوا من الاقتراب منا حتى أصاب بعضهم بعض رجالنا بالمطارد التي تزرق على بعد ، ولكننا أعملنا فيهم النار وكان مدفعنا يرميهم من القلب ، فتقهقر رجالهم من حملة الحراب وصرنا وجها لوجه مع البازنجر، وأصبح القتال بالنار من الجانبين، ولكن جاءتنا أمداد من القلب فاستطعنا بهم أن نرد العدو بعد قتال عنيف دام عشرين دقيقة.
وكنت عند إطلاق أول عيار قد نزلت من ظهر جوادي؛ وهذا معناه في السودان عدم الأمل في الفرار والإصرار على واحدة من اثنين: الظفر أو الموت. ولما انتهى القتال تحلق الجنود حولي وأخذوا يهزون يدي بالنصر الأول الذي انتصرناه على العدو.
وبينما نحن نشتغل بالقتال من المؤخرة كانت ميسرتنا قد اشتبكت أيضا وانتصرت في النهاية، ولكن خسارتها كانت جسيمة، وجرح أحسن قائد باق لدي؛ وهو زيدان أغا جرحا بليغا، وكان نوبي المولد وظهرت كفايته في حملة دارفور؛ إذ قاد فصيلة مؤلفة من 12 رجلا واستخلص بها مدفعا من العدو وكان قد غنمه منا، ولهذا العمل كوفئ بترقيته إلى رتبة ضابط، والآن أراه مصابا بعيار في رئته اليمنى، فسألته عن صحته فقال لي بعد أن مد يده إلي: «أما وقد انتصرنا فما بي من بأس.» ثم ضغط يدي وبعد دقائق مات.
وقتل أيضا من جانبنا 20 وجرح عدد كبير، فدفعنا القتلى بعجلة؛ إذ لم يكن لدينا من الوقت ما يسمح بالحفر العميق، ولكننا غطيناهم حتى لا نعير بأننا تركنا قتلانا بلا دفن، ثم استأنفنا مسيرنا بحيطة وحذر، ولكن ثقتنا في أنفسنا زادت عن ذي قبل.
وفي الساعة الثالثة عاود العدو الغارة على المؤخرة، ولكن الغارة كانت خفيفة فطردنا المغيرين بدون أن نخسر أحدا، ثم وقفنا وأحطنا الجيش بزريبة منتظرين من العدو غارة أخرى، ولكننا دهشنا إذ لم نتلق هجمة واحدة من العدو طول الليل، وفي الصباح بعد أن نفذ ماؤنا استأنفنا السير، ونحن في مسيرنا عاود العدو الغارة ولكن هجومه هذه المرة كان أضعف من هجومه في الأمس فطردناه بأقل عناء، واستمر سيرنا حتى الظهر بدون أن نجد ماء، فتفيأنا في ظل بعض الأشجار وأخذ رجالنا يبحثون عن نوع من الفجل يدعى «فايو »، وهو كثير العصارة وله ثلاث ورقات صغيرة تدل عليه ، فكان رجالنا يقلعونه من الأرض ويمصونه فيطفئ عطشهم بعض الشيء، ولكن كنا مع ذلك في حاجة لازمة للماء، وبعد أن استرحنا استأنفنا المسير ثانيا فالتقينا مصادفة براع من الرزيفات يسوق غنما، فتسابق الرجال إلى الغنم واحتازوها من راعيها الذي وقف مبهوتا مروعا لا يحاول الفرار، وكان رجالنا ينوون قتله لولا وساطتي، فأمرت بوضع الغنم في القلب وأحضر الراعي إلي ويداه موثقتان إلى ظهره، وقبل أن أستجوبه أمرت بتوزيع الغنم كل رأس لخمسة رجال وما يتبقى لنا، وكان عدد الخراف يبلغ نحو مائتين، ما أجل هذه النعمة التي أنعم الله بها علينا ونحن في جوعنا هذا!
ثم التفت إلى الرجل وقلت له إني لن أقتله إذا هو هدانا إلى غدير ماء، وإذا أثبت أمانته فإني أكافئه وأسمح له بالذهاب إلى أهله، فرضي وقال إن الغدران التي حولنا صغيرة ولكن إذا تكلفنا المسير مسافة فإنه يضمن لنا بلوغ «الفولة البيضاء»؛ وهي غدير كبير نجد فيه ماء يكفينا أشهرا، وكنت غير واثق به فأمرت صف ضابط وثمانية رجال بمراقبته وألا يجعلوه يبعد عني، ثم استأنفنا المسير، وفي المساء وقفنا وصنعنا زريبة بتنا فيها كالعادة ومررنا ببضعة غدران، ولكن ماءها لم يكن يكفينا وكنا نقاسي الشدائد من العطش، فما جاء الفجر حتى قمنا واستأنفنا المسير بعد ليلة قضيناها في الأرق من شدة العطش.
وعند الظهر أشار الدليل إلى بضعة أشجار قال إن الغدير تحتها، فوقفنا في الحال وملأنا المدفع والبندقيات واستعددنا للمقاومة، فقد ترجح لدي أن العدو سيقدر عطشنا فينتظرنا تحت الأشجار ويفاجئنا بالنار، فأمرت الرجال بأن يراعوا النظام بكل دقة أو لا يستسلموا للفوضى، ولكن ما كاد يظهر الماء حتى هرع إليه الرجال يترامون عليه بلا نظام.
وكانت قبيلة الميما ثائرة الآن، فأرسلت التعليمات إلى عمر واد دارهو لكي يقوم بمائتي جندي نظامي ومائتين من الخيالة إلى بلاد الميما، وقررت في الوقت نفسه أن أقاتل الخوابير الذين كانوا قد اتحدوا مع الميما، وذهب دارهو إليهم وأدى مهمته بنجاح؛ إذ هزم الميما في فاقة وفي وودة، وقمت أنا بمائة وخمسين جندي نظامي وخمسين من الفرسان، وسرت في طريق شعيرية وبير أم الوادي؛ حيث كان الخوابير ينتظرونني للهجوم علي، ولكن بعد قتال قصير هزموا وتشتتوا وغنمنا منهم عددا كبيرا من الخراف والثيران.
ولما انتهيت من القتال بعثت إلى دارهو لكي ينضم إلي في بير أم الوادي بمن تبقى من رجاله، وبعد أيام قلائل أدركنا وأخبرنا بكل أعماله وانتصارات المهدي في كردوفان التي أقلقتني قلقا عظيما.
وكنت في الليلة التي أرسلت فيها إلى دارهو التعليمات لكي ينضم إلي، قد جاءني رجل يدعى عبد الرحمن واد شريف وألح في مقابلتي، وكان هذا الرجل تاجرا معروفا في دارة، وقد سبق أن زار الخرطوم، وبدأ كلامه معي بقوله إنه بالنسبة لمعاملتي الحسنة له فإنه رأى من واجبه أن يخبرني عن تسليم الأبيض؛ وذلك حتى أتمكن من اتخاذ الاحتياطات اللازمة في مثل هذا الحادث. وكان هذا الخبر صدمة قوية فشكرته وطفق هو يصف لي كيفية سقوط البلدة، فقد كان حاضرا فيها وقت التسليم ثم سافر إلى أهله في دارة، وسمع وهو في طويشة عن وجودي في بير أم الوادي، فأسرع في إدراكي حتى يبلغني أمر هذا السقوط.
ورأيت أنه من غير المفيد أن تبقى المسألة سرا، فاستدعيت دارهو وسليمان بسيوني وأخذنا نتحدث معا في هذا الموضوع، وكان واضحا لكل منا أن هذا الخبر سيكون مشجعا لأولئك الذين يكرهون الحكومة، وصار من الضروري لذلك أن أذهب إلى دارة.
ولما كنا قد عاقبنا الميما والخوابير، فقد رأينا أن نرسل حملة إلى طويشة، وكنت في اليوم التالي إلى سعيد بك جمعة بأن يجلو عن أم شنجة، ويأخذ معه الحامية وجميع الأهالي الذين يرغبون في تركها ويأخذهم جميعا إلى الفاشر، وكنت كتبت له أنه بالنسبة لسقوط الأبيض فإن العرب الآن سيوجهون نظرهم إلى أم شنجة، وهم إذا حاصروها صار من المحال تخليصها منهم، وأنه يجب بالنسبة للظروف الراهنة أن يجمع الجيوش في الفاشر، وأمرته بإقامة حرس في فيفا ووودة حتى تبقى الطريق مأمونة بين الفاشر وبين دارة، ثم أمرت عمر واد دارهو بأن يقوم هو وجيشه في الحال إلى الفاشر، وأن يوزع الغنائم التي غنمها من الميما بين جنوده وحامية الفاشر، أما ما غنمه من الخوابير فيعطى للجيوش المقيمة في دارة، وفي نفس اليوم انفصلنا فذهبت أنا إلى دارة وذهب دارهو إلى الفاشر.
وانتشر خبر سقوط الأبيض في كل مكان، وظهر أثر ذلك في القبائل العربية فصاروا يجتمعون ويقررون الثورة على الحكومة.
ولما وصلت إلى دارة أمرت بشراء كل ما يمكن من الذرة، وكان مدخرا لدينا كمية كبيرة منها، ولكني رأيت من الأنفع ادخار أكثر مما عندنا. وأرسل إلي الشيخ عفيفي يقول إن قبيلته قد ثارت وانضمت إلى الرزيفات، ولكنه هو لا يريد أن ينكث بعهده؛ ولذلك قد ترك أسرته وعشيرته وقصد إلي عن طريق حلبة، وإنه أرسل أخاه عليا برسالة إلى بشاري بك واد بكير رئيس قبيلة بني حلبة، حيث أقسم له بأن يمر في بلاده آمنا، وأنه لذلك يأمل الوصول إلي في بضعة أيام.
وبينما أنا في انتظاره وإذا بأخبار سيئة تقول إنه قتل، وقد فقدت فيه أكثر العرب ولاء لي، وتبين بعد ذلك أن بني حلبة الذين أمرهم رئيس قبيلتهم بأن يجيزوه أرادوا أن يأخذوا منه أغنامه وثيرانه فرفض، فقاتلوه فأظهر بأسا عظيما، ولكن كمن له بعض العرب وراء الأشجار واغتالوه بحرابهم بينما كان يطارد العرب الذين هزمهم مرتين.
ورجع إلي محمد واد عاصي الذي كنت أرسلته مع خالد واد إمام إلى كردوفان وأخبرني بالحالة هنالك، وقد بشرني بأن الحكومة في الخرطوم تهيئ جيشا للاستيلاء ثانية على كردوفان ولكن لا بد من مضي وقت طويل قبل أن تهيأ التجريدة وتشرع في السفر.
فأخبرته بإذاعة هذه الأخبار في كل مكان ثم سألته عن علاقة زوجال بالمهدي، فأجابني بأنه على الرغم من أبحاثه لم يتحقق على وجه التأكيد هل تجري بينهما مكاتبات، ولكنه لا يشك في أن المهدي يرسل رسله إلى زوجال فيخبرونه شفويا بما يرغب، وهؤلاء الرسل هم التجار الجائلون، وقد وافقني على رأيي بأن زوجال لمركزه وتربيته يعرف بواعث هذه الثورة؛ ولذلك ليس من المرجح أن يشترك مع الثائرين.
ولا شك في أن تسليم الأبيض قد أضعف مركزنا، وكان علينا أن نعمل بحذر وحيطة ما دامت مديرية كردوفان كلها قد صارت في يد المهدي، وكنت أرجح أن أخبار واد عاصي عن استعداد الحكومة في الخرطوم لإرسال حملة للمهدي، سيجعل المهدي يحتفظ بقواته ويجمع جيشه في مكان واحد للمقاومة، وعلى ذلك ليس من المحتمل أن يوجه جيشه إلينا، ورأيت أن أرصد كل وقتي للقبائل العربية التي هيجها سقوط الأبيض ومنشورات التعصب، وكان يخشى منها أن تتمادى في هياجها وترتكب أي شطط، ولم يكن من المنتظر أن يتم تهيئة التجريدة الخاصة بكردوفان قبل الشتاء، فكان علينا أن نثبت ونقاوم بأية وسيلة حتى هذا الفصل.
وعلى الرغم من إقامة مراكز حربية في فافا وفي ودة، فإن عرب الخوابير تجمعوا في أم الوادي، وانضم إليهم بعض رجال الميما الذين غاظهم انقطاع المواصلات إلى بلادهم وحمسهم سقوط الأبيض، وكانوا يثيرون الهياج والفتن في جميع البلاد بين دارة والفاشر، ولم تقو حامية فافا على مهاجمتهم، فعزمت لذلك على غزوهم لكي أريهم أن سقوط الأبيض لم يثبطنا، وانتقيت 250 جنديا مدربا على الحروب، ثم دربتهم بضعة أيام على قتال السنجة، وأخفيت يوم شروعي في السفر عن كل أحد.
ثم أخذت جميع الخيول وكانت تبلغ نحو السبعين، وأشرت على واد عاصي بأن يقفنا على أخبار دارة، ثم خرجنا وأسرعنا في المسير، فلم يمض يومان حتى بلغنا جوار بير أم الوادي، حيث قد اجتمع عرب الميما والخوابير، ولم يكن معنا سوى أسلحتنا وذخيرتنا، ولم نحمل ميرة؛ لأن نيتنا كانت الهجوم ثم الرجوع، وفي اللحظة التي ظهر فيها العدو أمرت رجالي بتثبيت السنجة. وقاتلنا البازنجر، وبعد عشرين دقيقة نجحنا في تفريقهم، ودخل بعض عرب الميما في صفوفنا فقتلوا كلهم بحراب البنادق - السنجة - ثم أمرت الفرسان بأن يطاردوهم، وأمرت الجنود النظاميين بأن يسيروا وراء الفرسان ليبحثوا عن مكان البطيخ؛ لأن الفارين سيقصدونه بالطبع لكي يقصعوا عطشهم، وقد نفذت هذه الأوامر وقطعنا البطيخ، وقبضنا على عدد من النساء والأطفال وتفرق الرجال في كل مكان يبحثون عن الماء، ومات كثير منهم عطشا. وفي اليوم التالي أحرقنا خيام العدو، وأخذنا النساء والأطفال إلى بير أم الوادي التي اعتزمنا الهجوم عليها الآن، فدافع العدو دفاع اليأس عنها، وخسرنا 16 رجلا قتلوا و20 جرحوا، وأدركت من هذه الخسارة أن الجنود النظاميين عندي قد قلوا جدا في حين أن العدو يزداد حتى بعد هزيمته.
ولما كنت الأوروبي الوحيد في بلاد غريبة، وكان السكان حولي يدسون لي ويكرهونني؛ فإني كنت ألجأ إلى وسائل عديدة لكي أعرف المؤامرات والترسيمات التي تدبر حولي، وكنت أحيانا بواسطة النقود أو الهدايا التي أرسلها سرا أعرف ما سيحدث لي قبل حدوثه وأحتاط له.
وكنت بواسطة الخدم أستغل البغايا اللواتي كن يصنعن المريسة - أي الجعة الوطنية - وكان يشربها عندهن رجال الطبقات الدنيا، وكان الخدم يخبرونني بأن رجالنا وهم يتعببون هذه الخمر ويسكرون يتكلمون عن ثورة المهدي الذي لم يكونوا يعطفون عليه، ولكنهم كانوا يقولون إن الحكومة قد عينت في المراكز العليا ناسا من النصارى لمحاربة المهدي؛ ولذلك فالنتيجة يجب أن تكون سيئة، ومما قالوه إنهم وإن كانوا يحبونني إلا أنهم يعزون ما أصابنا من الخسارة وما قاسيناه من الآلام إلى أني مسيحي، وكنت متحققا بأن هذه الآراء ليست من ثمار ذهن الزنوج الذين لا يبالون بالدين، وإنما هي من ذهن أولئك الجنود الذين يكرهونني ويشتهون إزالة سلطتي وبث روح العصيان بين رجالي.
وعند قيامي من بير أم الوادي جاءتني أخبار سيئة أيضا؛ فقد أخبرني الخدم بأن بعض الجنود الذين يذهبون إلى حانة البغي، التي كنت أرشوها لكي تخبرنا بكل ما يدور في حانتها، قد ائتمروا على ترك الجيش. وعلمت بعد البحث أن الداعين إلى ترك الجيش هم بعض من رجال قبيلة الفور وصفوف ضباطهم؛ فإنهم على قولهم قد سئموا هذا القتال وقد تحققوا أن أيام الأتراك قد باتت معدودة في السودان، وأنهم ينوون ترك جيشنا والذهاب إلى جبل مرة للانضمام إلى سلطان دودبنجة خليفة سلطان هارون. ولما كان أكثر رجالي من قبيلة الفور، فإني شعرت بخطورة الحالة، وأرسلت في الحال إلى البكباشي محمد أفندي فرج وأخبرته بما سمعت، فدهش وأكد لي أنه لم يسمع شيئا قط عن هذا الموضوع، وأنه لن يهمل في الاستقصاء ومعرفة الجناة ومعاقبتهم، فأمرته بأن يلتزم التكتم وألا يفعل شيئا يلقي بينهم الشك والتوجس.
وأرسلت وهو معي إلى خادمي وأعطيت له صرة بها نقود، وأمرته بأن يذهب بها إلى البغي ويعطيها لها، ويطلب منها أن تدعو هؤلاء الرجال إلى منزلها وتسقيهم على حسابها ما شاءوا، وفي الوقت نفسه طلبت منها أن تخفي الخادم بحيث يسمع ما يدور من الحديث بين الجنود، وأخبرتها بأنها إذا نفذت هذه الأوامر فإني أكافئها مكافأة سنية. وعاد خادمي بعد قليل وأخبرني بأن كل شيء قد رتب على ما تهوى.
وفي اليوم التالي أرسلت للبكباشي وأعطيته أسماء ستة من الزعماء وأمرته بالقبض عليهم، وزيادة على ذلك أعطيته أيضا التفاصيل الخاصة بفرارهم من الجيش وتاريخ ذلك، وبعد نصف ساعة عاد ومعه الستة المقبوض عليهم وهم مقيدون من خلف وكانوا كلهم من الفور، وكان وراءهم عدد من القواصين والنظارة فطردتهم، ثم سألت هؤلاء الستة أمام ضابطهم عن سبب خروجهم على الحكومة، فأنكروا إنكارا باتا وجود هذه النية عندهم، وأنهم براء من كل ما نسب إليهم، فقلت لهم: «ولكنني أعرف أنكم عقدتم جملة اجتماعات في منزل خديجة، وقد أتحت لكم كل فرصة لكي تتعقلوا، ولكنكم أبيتم إلا الطغيان، فأمس كنتم عندها تشربون المريسة واتفقتم على أن تنفذوا تدبيركم اليوم، وكان غرضكم أن تضموا إليكم الجنود وتخرجوا بأسلحتكم من الباب الغربي للقلعة، وبعد ذلك تذهبون إلى السلطان عبد الله، وكنتم تنوون إنفاذ خطتكم بالقوة. ألم تقل أنت يا محمد إنه لديك مائتا رجل يطيعونك ويعملون ما تشير به عليهم؟ ألا ترون أني أعرف كل شيء؟ فما فائدة الإنكار؟»
وسمعوا كلامي وهم سكوت وعرفوا أنهم قد أفشي تدبيرهم، فاعترفوا بكل صراحة وطلبوا الصفح والمغفرة، فقلت لهم: «ليس هذا في يدي الآن، اذهبوا إلى ضابطكم واعترفوا له بكل شيء أمام سائر الضباط، والفصل بعد ذلك للقانون.»
ثم أمرت الضابط بتأليف محكمة عسكرية وأن يجعل جميع صفوف الضباط يشهدون المحاكمة، ولكني أفهمته بأن يجعل المحاكمة مقصورة على المقبوض عليهم؛ وذلك حتى لا يفر سائر الجنود المشتركين في المؤامرة، وفي عصر اليوم نفسه تسلمت محضر التحقيق والاعترافات، ولكن لم يكن قد حكم بعد عليهم، فرددت الأوراق وطلبت النطق بالحكم، فجاءني ضابطهم وأخبرني بأن المحكمة حكمت بضربهم بالرصاص ولكنها تطلب تخفيف الحكم، ولكني شعرت بضرورة التنكيل بهم حتى يتعظ بهم غيرهم، فأيدت الحكم وأنا في أشد الألم والجزع وطلبت تنفيذه في الحال.
ثم أخرجنا المحكوم عليهم وحفرنا ست حفر، ووقفنا كلا منهم على حفرة خارج الزريبة وركع كل منهم ركعتين، ثم ضربوا بالرصاص ولم يبدوا أقل خوف. وخطبت الجنود الحاضرين عن خطر المؤامرات، وأن كل من يحدث نفسه بالثورة والفتنة سيعاقب مثل هذا العقاب، وقلت لهم إني أؤمل أن تكون هذه المأساة الأولى والأخيرة من نوعها، وأن تكون علاقتنا في المستقبل علاقة الصداقة.
وكنت حزينا مغيظا لهذا الحادث؛ فقد تذكرت العدد الكبير الذي فقدناه في المعارك الماضية، والآن أضطر أنا إلى اتخاذ أقسى الاحتياطات لحفظ النظام، وكان الدساسون حولي يعملون جهدهم لإضعاف سلطتي، وهم يجهلون أنهم لو نجحوا في ذلك لما تحسنت حالهم، والحقيقة أنه جاءهم زمن بعد ذلك كانوا يتحسرون فيه على عصيانهم أوامر ذلك الأوروبي الذي يكرهونه الآن.
وأرسلت في ذلك المساء في طلب محمد أفندي فرج، وسألته عن ماجريات النهار وماذا كان وقع ضرب الجنود بالرصاص في سائر الجيش. وأضفت إلى ذلك أنه يجب أن يعرف الجنود عدالة الحكم وأن الجانين يستحقونه، وأننا استعملنا الرأفة مع سائر من اشتركوا في المؤامرة، ثم قلت: «والآن يا فرج أفندي إني أرغب في أن تكون صريحا مخلصا لي، وأنا أعرف أنك تميل إلي وتطيعني، ولولا ذلك لما طلبت أن أخاطبك وحدك هنا، فأخبرني الآن كيف ينظر إلي الجنود والضباط ؟ وهل يحبونني أو يكرهونني؟ ولست بالطبع أقصد أولئك الذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية.»
فقال فرج أفندي: «إن رجالنا لم يتعودوا هذه الصرامة في الأحكام، ولكنهم مع ذلك متعلقون بك لأنك مواظب على دفع المرتبات في مواعيدها، وهذا شيء لم يألفوه قبل، ثم هم يعرفون لك صنيعك في توزيع الغنائم بينهم، ولكننا خسرنا هذا العام خسارات فادحة؛ ولذلك سئم رجالنا القتال.»
فقلت: «ولكننا مضطرون إلى القتال، فنحن لا نخرج للفتح أو للمجد الحربي، وأنا شخصيا أوثر الراحة والدعة.»
فقال فرج أفندي: «إني أفهم هذا بالطبع ولكن هذه الخسائر التي كان يمكن تجنبها قد أثرت في الجنود؛ فقد فقد أحدهم أباه وآخر أخاه وآخرون فقدوا بعض قرابتهم أو بعض أصدقائهم، وإذا استمر هذا فإن القتال يشق عليهم.»
فقلت: «وأنا أيضا أدرك ذلك، وإن كنت لم أفقد أبا أو أخا فإني فقدت أصدقاء، ثم إني أخاطر بحياتي العزيزة كما يخاطر الجنود بحياتهم، فأنا على الدوام معهم وجسمي عرضة للرصاص أو للحراب مثل أجسامهم.»
فقال: «إنهم يعرفون ذلك تمام المعرفة، ويجب عليك أن تشكرهم لإطاعتهم رجلا أجنبيا يخاطرون بحياتهم معه.»
فقلت: «حقا إني أجنبي أوروبي، وليس هذا سرا مكتوما ولا أنا أتعير منه، فهل رجالنا مستاءون من ذلك؟ اصدقني.»
وكان محمد فرج من أحسن الضباط تربية، وقد درس في عدة مدارس في القاهرة، ولكنه دخل الجيش جنديا بسيطا، وكان يعرف في غيره الميزات التي يمتاز بها، وكان على الدوام مستعدا لأن يتعلم من أولئك الذين حصلوا على تربية أعلى من تربيته، ولم يكن متعصبا أو متدينا ولكنه كان حاد المزاج كثير التذمر، وكان تذمره وحدته جماع ما عنده من الصفات السيئة، وقد قادته إلى ارتكاب بعض الجرائم فنفي من أجلها إلى السودان.
فلما طلبت منه أن يصدقني رفع رأسه ونظر إلي وقال: «ترغب مني في أن أخبرك الحقيقة، فهاكها؛ إنهم لا يعترضون عليك لأنك أوروبي، بل لأنك غير مسلم.»
والآن عرفت منه ما أردت معرفته، فقلت له: «ولم يعترضون على ديانتي؟ لقد أمضيت السنين الطوال في دارفور وهم يعرفون أني مسيحي فما اعترض أحد علي.»
فقال: «تلك أيام أخرى تختلف عن أيامنا الآن، فإن هذا الوغد المدعو المهدي قد تستر بالدين، وله أنصار يحضون الناس على اتباعه لكي يبلغوا أغراضهم السافلة.
وقد انتشر بين جنودنا رأي لا أعرف من أول من أذاعه، مقتضاه أن هذه الحرب دينية، وأنك لن تربح معركة فيها، وأن الهزائم ستتوالى عليك حتى تقتل في النهاية، وأنت تعرف أن الجنود الجهلة يصدقون هذه الأقوال، وهم يعللون هزائمهم بأنك مسيحي، ورجالنا لا يدركون أن خسائرنا ناشئة عن تفوق العدو علينا في عدد الرجال، وأننا ما دمنا لا نؤمل في مجيء أمداد فإننا سنستمر على الهزيمة.»
فقلت له: «هبني صرت مسلما فهل رجالنا يصدقون إسلامي ويؤملون في النصر؟ وهل هذا يزيد من ثقتهم في؟!»
فقال لي: «يصدقونك بلا شك، أو على الأقل كثرتهم تصدقك، ألم تتحين كل فرصة لإظهار احترامك لديانتنا وأجبرت غيرك على احترامها؟ تأكد أنهم سيثقون بك، ولكن هل تغير دينك عن عقيدة؟» قال هذا وهو يبتسم.
فقلت له: «اسمع يا محمد أفندي، أنت رجل ذكي قد حصلت على تربية وتعرف أن العقيدة لا شأن لها فيما نحن فيه الآن، وفي هذه الدنيا يحتاج الإنسان إلى أن يعمل أعمالا تخالف عقيدته، إما اضطرارا وإما لسبب آخر، وحسبي أن يصدقني الجنود ويثقوا بي ويقلعوا عن خرافاتهم السخيفة، ولست أبالي بتصديق سائر الناس، وأنا أشكرك الآن شكرا جزيلا، وأطلب منك ألا تجعل هذا الحديث يخرج من فيك لأحد.»
وتركني محمد أفندي فرج فتأملت وترويت قليلا في الموضوع، ثم استقر رأيي على أن أظهر في اليوم التالي أمام الجيش كأني مسلم، وكنت على تمام المعرفة بأني في اتخاذي هذا الموقف سيلومني البعض، ومع ذلك قد عزمت على إمضاء نيتي؛ لكي أقطع على الدساسين حبل دسائسهم، وتتاح لي الفرصة لأن احتفظ بالمديرية التي عهدتها إلي الحكومة المصرية. وكنت في شبابي لا أبالي كثيرا بالدين ، ولكني كنت أعتقد أني بالتربية والعقيدة مسيحي مؤمن بالمسيحية، وإن كنت أميل إلى التسامح وإلى أن يختار كل إنسان طريقة الصلاح التي يشتهيها، ولم يكن ذهابي إلى السودان بصفتي مرسلا مسيحيا، وإنما كانت المهمة التى أعرفها ومن أجلها ذهبت أني موظف في خدمة الحكومة المصرية.
وعند طلوع الشمس أمرت بعرض الجيش وانتظاري، ثم أرسلت إلى زوجال لكي يبعث إلى القاضي أحمد واد بشير وأيضا التاجر المعروف محمد أحمد، فلما حضرا حادثتهما في الشئون العامة، ثم طلبت منهما أن يحضرا العرض معي داخل القلعة، ثم اتخذت القيادة في العرض وأمرت الجنود بأن يصطفوا في هيئة مربع، ثم امتطيت جوادي ودخلت المربع ومعي الضباط والموظفون ثم قلت: «أيها الجنود، لقد كابدنا المشاق العديدة معا ونزلت بنا الكوارث الفادحة، وما الكوارث إلا محك الرجال، ولقد جاهدتم وقاتلتم ببسالة الأبطال، وليس عندي شك في أنكم ستداومون على ذلك، فإننا نقاتل من أجل مولانا الخديو حاكم البلاد ومن أجل أنفسنا أيضا، ولقد اشتركت معكم في الأفراح والأتراح، وعندما كان يلوح الخطر كنت على الدوام معكم لا أخيم في اللقاء، وإني وإن كنت رئيسا فحياتي ليست أغلى من حياتكم.»
فصاح معظمهم: «الله يخليك».
فاستأنفت قولي: «وقد سمعت أن البعض يعدني أجنبيا غير مؤمن بالإسلام، ولكني أقول لكم إني مؤمن كما أنتم مؤمنون، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.»
وعندما نطقت بهذه الشهادة رفع الجنود بنادقهم ثم هزوا رماحهم وصاحوا بالتهنئة، وتقدم الضباط والموظفون لتهنئتي بالإسلام، ولما عاد النظام قلت إني سأصلي معهم، ثم أمرت فرج أفندي بإعادة الصفوف ثم صرف الجنود.
ولما انتهى كل شيء دعوت زوجال بك والضباط لكي يشربوا القهوة ويتناولوا الغذاء معي، وودعني الجميع وهم يؤكدون لي فرحهم وطاعتهم وأمانتهم، ولما غادروني أمرت فرج أفندي بأن يشتري عشرين ثورا وأن يوزعها بين رجالنا «كرامة»، وأن يعطي لكل ضابط ثورا، ودفعت أنا ثمن هذه الثيران.
وكان الأثر الذي أحدثه عملي في رجالنا أكبر مما انتظرت؛ فلم أعد أرى منهم ذلك الإكراه الذي كنت أراه منهم عندما أطلب منهم الخروج في التجريدات، وإن كان عدونا يزداد كل يوم في العدد والقوة.
وكان التجار الذين كنت أدفع لهم نقودا لكي يرسلوا إلي الأخبار قد أخبروني بأن الجيوش ترسل من القاهرة إلى الخرطوم، وأن الحكومة تتهيأ بسرعة لإرسال تجريدة بقيادة ضباط أوروبيين لاسترجاع كردوفان، أما الأهالي فقد انضموا جميعا بلا استثناء إلى المهدي، وكانوا مصممين على المقاومة.
وكانت جميع القبائل في جنوبي دارفور قد ثارت، ولكن الجزء الشمالي بالنسبة لمراكزنا الحربية وبالنسبة لاتصال قبائله بمصر واستفادتهم من القوافل الصادرة عن مصر إليهم؛ لم تكن قد بدت فيه بعد أمارة للثورة، ولم نجمع بالطبع أية ضرائب منذ وقت طويل؛ ولذلك كنا ندفع مرتبات جنودنا من المال الاحتياطي.
وبدأت انتصارات المهدي المتوالية تظهر أثرها في زوجال بك، ولاحظت تغيرا في سلوكه وإن كان على الدوام يراعي إظهار الولاء والطاعة، وقد وضح لي أنه في قلبه يحب الفوز للمهدي ابن عمه؛ لأنه كان يعرف أنه في مثل هذه الحالة سيعود فوز المهدي عليه بأكبر المنافع، وكان محبوبا لدى مرءوسيه، وكان بالنسبة إلى أهالي السودان يعتبر حاصلا على قسط من التربية والتعليم، وكان يخدم الناس ما دامت هذه الخدمة لا تمس جيبه، وكان يشاع عنه أنه سخي، وكان ثريا له منزل كبير ومائدة مبسوطة، وأظن أن سبب حب مرءوسيه له أنه كان يغتفر لهم ذنوبهم ويسمح لهم بملء جيوبهم بطرق خفية غير مشروعة، وقد توصل أكثر قرابته بواسطة نفوذه إلى الحصول على مناصب حسنة وصاروا بذلك أثرياء، وعلى ذلك رأيتني مضطرا إلى أن أحتاط له، فإن حب الجمهور له وموافقته على آرائي وإطاعته أوامري جعلتني أكره وجود شقاق صريح بيني وبينه، ومثل هذا الشقاق لو حدث كان يؤدي إلى نقض سلطتي، وعلى ذلك اضطررت وقتيا إلى أن أتركه وشأنه، والمثل السوداني يقول: «ابعد النار عن القطن وأنت ترتاح.» وكان هذا المثل ينطبق على حالتنا؛ ولذلك لزمته.
ثم طلبت فرج أفندي وواد عاصي وقاضي البشير، وكانوا كلهم يوالون الحكومة ويرجون بقلوبهم نجاحها، فأفضيت إليهم بالخطة التي انتويتها فأجمعوا على الموافقة، ولما خرجوا استدعيت زوجال بك وقلت له: «اسمع يا زوجال، أنت معي هنا ولا يشهدنا نحن الاثنين إلا الله، فابن عمك المهدي قد فتح كردوفان وقد سقطت الأبيض وانضم إليه جميع الأهالي، والبلاد التي بيننا وبين حكومتنا واقعة تحت يديه، وقد مال قلبك إليه عندما رأيت نجاحه، فهل نسيت كل ما صنعته لك الحكومة؟ وهل نسيت الوسام والرتبة اللذين منحكهما الخديو بوساطة حكومة السودان؟ وهل يمكنك أن تنسى واجباتك المكلف بها بحكم منصبك؟»
فقال زوجال: «إن المهدي ابن عمي، ولا يمكنني أن أنكر أن قرابته لي تجعلني أميل إليه، ولكني مع ذلك قد قمت في الماضي بجميع واجباتي، وأؤمل أن أقوم بها أيضا في المستقبل.»
فقلت: «لقد قمت بواجباتك على وجه العموم، ولكنك على اتصال مع المهدي، فلم تنكر ذلك عني؟»
فأجابني زوجال بسرعة: «إني غير متصل به مباشرة، ولكن التجار الذين يفدون علينا من كردوفان ينقلون إلي رسائل شفوية منه، وقد أقسمت لحملة هذه الرسائل ألا أخبرك، وهذا هو السبب في كتماني أمر هذه الرسائل، ولكني أؤكد لك أنه ليس فيها سوى أخبار عن كردوفان، وأنه لم يحاول أن يجعلني أنضوي إلى لوائه.»
فقلت له: «ليكن الأمر كما قلت، فإني لا أطلب منك أن تبرر نفسك، ولكن أخبرني ماذا سمعت عن تلك التجريدة التي تهيئها الحكومة لاسترجاع كردوفان.»
فقال: «سمعت أن جيشا عظيما وصل إلى الخرطوم، وأنهم سيحاولون به فتح كردوفان.»
فقلت له: «لن يحاولوا ذلك فقط بل هم سينجحون في فتح كردوفان، وأنت يا زوجال رجل تفهم وتعرف أني إذا اضطررت بالظروف فإنه يمكنني أن أمنع أذاك، ولكني لا أظن أنه من الحكمة أن أفعل ذلك الآن، دع عنك أنه مما يؤلمني أن أتخذ إجراءات ضدك؛ فقد خدمت الحكومة بولاء مدة طويلة، كما أنك صادقتني مدة طويلة؛ ولذلك فأنا مستغن عنك الآن ويمكنك أن تذهب إلى كردوفان، فإن الحركات الدينية يكون لها لمعة ورونق على بعد فيعطف عليها الإنسان، ولكن عند الاحتكاك بها تظهر حقيقتها فتذهب عنها جاذبيتها وتزول منها روعتها، وسأكلفك بحمل رسائل إلى الخرطوم سرا، وسيكون مضمون هذه الرسائل شرح المهمة التي أرسلك في شأنها، وبما أن التجريدة ستشرع في السفر إلى كردوفان في الشهر الآتي، فأنا أطلب منك أن تجهد جهدك في منع المهدي من إرسال تجريدة إلى دارفور أو تحريض الناس على الثورة، فإذا فعلت ذلك فإن الفائدة تعود عليك وعليه، وإذا نجحت التجريدة فأنا أتحمل كل التبعات التي تقع عليك فليس هناك ما تخشاه، ولكن إذا نجح المهدي - لا قدر الله - فهناك يقطع ما بيننا وبين الحكومة فلا يمكن تخليصنا، والمرجح وقتئذ أننا نخضع للمهدي، وفي هذه الحالة يتسلم البلاد وهي في حال حسنة، ولكي أضمن ولاءك وقيامك بهذه المهمة خير قيام، سأحتفظ بزوجاتك وأولادك هنا في القلعة، وسيحسب المهدي حسابا لهذا العمل ولا يعرض أهلك للخطر.»
فقال زوجال: «سأنفذ تعليماتك وأثبت لك إخلاصي، وهل تريد أن تكتب خطابا للمهدي؟»
فقلت: «كلا لا أريد أن يكون بيني وبينه أية معاملة، وأنا عارف تماما بأنك ستتلو عليه حديثنا هذا، وابن عمك رجل ماكر وسيستغل ذهابك إليه بقدر إمكانه ولكن ما دمت تفي بوعدك لي فإني أعنى كل العناية بأسرتك، ومع أننا قد استغنينا عنك اسميا، فإننا سنستمر على دفع مرتبك بالكامل، أما إذا لم تف بوعدك فإن ضماننا لا يستمر، وأود منك أن تشرع في السفر بأسرع ما يمكنك ويكفيك ثلاثة أيام تستعد فيها.»
فقال زوجال: «إني أوثر البقاء مع أهلي، ولكن بما أنك تريد مني تأدية هذه المهمة كي تمتحن إخلاصي، فأنا أقوم بها وملء قلبي الحزن.»
ثم أرسلت في طلب فرج أفندي وواد عاصي والقاضي، وأخبرتهم بحضور زوجال بالمهمة التي كلفته بها، فبدا عليهم شيء كثير من الانفعال والدهشة وطلبوا من زوجال أن يقسم يمينا بالولاء، فأقسم بالقرآن وبالطلاق بأن يلزم الاتفاق الذي بيننا.
فكتبت الخطابات إلى الحكومة ووصفت الحالة في دارفور، وبعد ثلاثة أيام خرج زوجال في رحلته ومعه ثلاثة من الخدم قاصدا الأبيض عن طريق طويشة، وكان معروفا في كل مكان أنه من قرابة المهدي، فلم يكن لذلك يخشى أحدا، وعلمت بعد ذلك أنه قوبل في كل مكان بحفاوة وإكرام.
وأخذت على عاتقي الآن أن أركز مدافع جديدة في زوايا القلعة، وجمعت كل ما أمكنني جمعه من القمح، ولكن هذه المدة القصيرة من السكينة لم تدم طويلا؛ فقد حرض الشيخ الطاهر الدجوي زوج ابنته بشاري بك واد بكير على الغارة على دارة، وكان بشاري بك رئيس قبيلة بني حلبة، فأرسلت له خطابا أهدده فيه، ولكنه أغار على عرب المصرية وقتل منهم عددا وأسر نساء وأطفالا، فعبأت 250 من الجنود النظاميين و100 من البازنجر، وسلمت قيادتهم إلى مطر؛ أحد قرابة زوجال، ولم أستطع أن أجمع من الخيول سوى 25 فرسا؛ لأن مرضا غريبا انتشر بينها، وبهذه القوة خرجت قاصدا دارة.
وبعد مسير ثلاثة أيام بلغنا أمكة، حيث أغار علينا بنو حلبة بقيادة بشير بك، وكان معهم صديقي القديم جبر الله، ولكن لم يكن معهم من الآلات النارية إلا عدد قليل؛ ولذلك فرقناهم بسهولة. وفي اليوم التالي عاودوا الغارة في كلمباسي، وهي على مسيرة يوم ونصف من أمكة، وهنا أيضا اضطررناهم إلى الفرار بسهولة.
وقد عزا رجالنا قلة خسائرنا إلى صلاتي يوم الجمعة معهم لا إلى قلة البنادق عند العدو، ثم سرنا إلى خشبة وأخرجنا شيخها وعرضنا عليه صلحا ولكنه رفض، ثم سرنا إلى جورو على مسيرة نصف يوم، وبينما نحن في الطريق كانت تتقدمنا طليعة مؤلفة من 12 فارسا، فأغار عليهم بشاري بك وحده واخترق صفهم وجرح أحدهم جرحا بسيطا، ثم ثني جواده هو بين الطليعة وبيننا على حدود الغابة وعلى بعد 800 ياردة تقريبا منا.
ثم تقدمت نحوه ثلاثمائة خطوة فعرفته، ولكني لم أرمه، وأرسلت إليه خادما أعزل لكي يقول له: «إن الحاكم يقدم لك تحيته ويخبرك بأنك إذا كنت ترغب في أن تظهر بسالتك لزوجتك، فليست هذه هي الطريقة لإظهار ذلك، وأنك إذا عدت إلى مثل ما فعلت فإنك لا بد مقتول.»
وكانت الطريق بيننا وبينه خالية إلا من بعض الأشجار هنا وهناك، ورأيت الخادم يذهب إليه ويقف أمامه بضع ثوان ثم عاد إلينا مسرعا وقال: «إن بشاري بك يقدم لك تحيته وهو يقول إنه لا يرغب في الحياة بل يشتهي الموت.»
يا لغفلة الرجل، لقد وجد ما اشتهاه!
ولما بلغنا جورو صنعنا زريبة وكنت متأكدا بأن بشاري بك سيتهور ويغير علينا؛ ولذلك أمرت الجنود بأن يخرجوا من الزريبة نحو ثلاثمائة خطوة، ووضعت الخيالة على الجانبين وأرسلت عشرين فارسا إلى الغابة لكي يغتر العرب بهم ويخرجوا إليهم، وما كاد هؤلاء العشرون يخرجون في مهمتهم هذه، حتى رأينا عربيين راكبين قد ركضا فرسيهما إليهم وفي يد كل منهما حربة قد أشرعها، وكان هذان الرجلان بشاري بك وخادمه، وقبل أن يبلغ رجالنا عثر فرسه ووقع، وبينما كان خادمه يساعده على النهوض والركوب أغار عليه رجالنا ورموه بمطرد في وجهه نفذ في عينه فكبه. أما خادمه فقد أصيب بحربة نفذت في ظهره وقتلته، وركضت فرسي أنا إليه فوجدته في النزع، فإن رجالنا طعنوه بعد وقوعه مرتين بالحراب، وهجم علينا ابنه لكي يخلصه فجرح ولكنه نجا بنفسه، وقد كان معه شيخان؛ وهما شرطيه حبيب الله والتوم، قتلا كلاهما، فقبضنا على خيولهم جميعا ثم هتفت بالجنود فحضروا إلينا، فأركبت وراء كل خيال واحدا من المشاة وطلبت منهم أن يطاردوا العدو؛ لاعتقادي أنهم لن يثبتوا للقتال بعد موت قادتهم.
وركضنا خيولنا نحو ميلين فوجدنا العرب وهم في فرارهم، فأمرت الجنود بالنزول عن الخيول وإطلاق النار عليهم، ثم حولت الخيالة إلى بني حلبة، ولم نشفق على أحد في هذا القتال؛ لأن رجالنا كانوا مصرين على الانتقام للشيخ عفيفي الذي قتل قريبا من هذا المكان.
وبعد ساعات قليلة تم تشتيت العدو فعدنا إلى الزريبة، ونحن في طريقنا وجدنا جثة بشاري بك فطلب مني الضباط أن يقطعوا رأسه لكي يرسلوه إلى دارة، ولكني احتراما لابن أخته الذي طلب الصلح بالأمس كففتهم عن هذا العمل، وأعطيته الجثة في كفن من القماش ، وحضرت أنا بنفسي حفلة دفن هذا الصديق القديم، الذي صار عدونا على الرغم منه واشتهى الموت فوجده.
وفي هذا القتال قتل منا رجلان وجرح عدد آخر، وكان بين هؤلاء سلامة الذي حمل خطابي وأنا في أم ورقة إلى دارة، وكان على الدوام في مقدمة المغيرين.
ثم عدنا إلى جورو، وكنت قد أصبت بدودة غينيا في كلتا ساقي، فلم أكن أستطيع البقاء على السرج لشدة ما كان بي من الألم، ولم تكن ثم فائدة من البقاء بعد أن سحقنا بني حلبة، فعدنا إلى دارة.
الفصل الثامن
حملة هكس باشا
بعد أن سقطت الأبيض في يد المهدي أخذ يلتفت إلى زيادة قوته، وكان أنصاره على ضفتي النيل يوافونه بكل ما يجد من الأخبار؛ فكان يعرف أن عبد القادر قد طلب أمدادا من القاهرة، وكان يعرف أن هذه الأمداد قد وصلت، وأن الحكومة عازمة على استرجاع المديريات التي خرجت من يدها، وكان هذا هو سبب الحاجة في الدعوة إلى الجهاد، وكان يذكر أتباعه بأن الحرب توشك أن تشب وأنهم منصورون فيها.
وكان جيجلر باشا قد نجح في دويم في نوفمبر سنة 1882، كما نجح أيضا عبد القادر باشا في معتوق في يناير سنة 1883، وأحرز كلاهما النصر، ولكن المهدي لم يكن يبالي بهذه الهزائم، وإنما كان همه منصرفا إلى تلك التجريدة التي كانت تهيئها الحكومة في الخرطوم بقيادة ضباط أوروبيين لكي ترسل إلى كردوفان؛ ولذلك سارع إلى نشر المنشورات يدعو فيها القبائل إلى ترك بلادهم والانضمام إليه، وعندما كانت تجتمع هذه الجموع العديدة عنده كان يعظهم بحماسة ويحضهم على الزهد في هذه الدنيا والاهتمام بالآخرة، وكان يقول: «أنا أخرب الدنيا وأعمر الآخرة.»
وكان يعد الأنصار والمطيعين له بملذات النعيم التي لا يمكن عقلا أن يصفها، وينذر المخالفين بعقاب الجحيم، وكانت تذاع المنشورات في هذا المعنى في كل مكان، وكان يبعث للأمراء يطلب منهم ألا يبقوا أحدا في خدمتهم سوى أولئك الذين يحتاجون إليهم في الزراعة، وأما من كانوا في غنى عنهم فعليهم أن يرسلوهم إليه لينضووا إلى لوائه.
وكان الأولاد والنساء والرجال يهرعون إلى الأبيض؛ لكي يروا هذا الولي ويسمعوا ولو كلمة واحدة من وعظه، وكان الجهلة يرون في وجهه ما يدل على الوحي وأنه الرسول الحق من عند الله.
وكان يلبس الجبة والسروالين ويتحزم عليهما بحزام من قش، ويضع على رأسه طاقية يتعمم عليها، ثم يقف خاشعا أمام أنصاره ويحضهم على حب الله والزهد في هذه الدنيا، فإذا دخل بيته تغير كل هذا؛ إذ كان يعيش في ترف ونعيم بحيث تسترقه شهوة الطعام والنساء، فينغمس فيهما انغماس سائر السودانيين، وكانت النساء أو الفتيات اللواتي يؤسرن يحضرن أمامه فيختار أجملهن ويضمهن إلى حريمه، أما اللواتي كن يجدن الطهي فكن يرسلن إلى مطبخه.
وبعد سقوط الأبيض أخذ يفكر في تعيين الخليفة الرابع، وقر رأيه على أن يعين محمد السنوسي، وهو أكبر شيخ ديني في شمالي أفريقيا لهذا المنصب، فأرسل طاهر واد إسحق برسالة إلى السنوسي لهذا الغرض، ولكن السنوسي نظر بازدراء إلى الرسول ولم يكلف نفسه مشقة الإجابة.
وشرع المهدي في تنظيم حكومته، وكانت إدارته غاية في البساطة، فأسس أولا بيت المال ووضع في رياسته صديقه الأمين أحمد واد سليمان، وكان يجبي إلى بيت المال هذا جميع العشور والفطرة، والزكاة المأخوذة على جميع الغنائم أو الأملاك التي استصفيت من أصحابها، والغرامات التي تفرض في السرقات وشرب الخمور والتدخين، ولم يكن هناك نظام لإيرادات الحكومة ومصروفاتها؛ ولذلك كان أحمد واد سليمان حرا في الإعطاء والمنع لمن يشاء.
وكان القضاء في يد القاضي الذي أطلق عليه المهدي اسم «قاضي الإسلام» وكان له مساعدون، وكان أول من حصل على هذا المركز أحمد واد علي، الذي كان قاضيا تحت إدارتي في شقة، وكان بعد الثورة في مقدمة المغيرين على الأبيض، وكان المهدي وخلفاؤه يحفظون لأنفسهم حق معاقبة أي مجرم، وخاصة ذلك الذي يشك في مهدوية المهدي، وكان الموت عقاب المجرم في هذه الحالة. ولما كانت هذه العقوبات تخالف الشريعة، فإن المهدي منع درس الفقه وأمر بتحريق جميع هذه الكتب، ولم يكن يسمح بقراءة شيء غير القرآن، ولكنه مع ذلك لم يكن يأذن لأحد بشرحه علنا.
وكانت المواصلات بين المهدي وسكان الجزيرة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنصاره المخلصين لا تنقطع، وعرف منهم أخبارا عن سفر عبد القادر إلى كاوة وسنار ومعه قوة كبيرة، وكانت هذه المدينة قد حاصرها أحمد الكاشف، ولكن عبد القادر باشا هزمه في مشروع الوادي ورفع الحصار، وطارد صالح بك الثائرين حتى جبل سخيدي، وألجأهم إلى صحراء بين هذا الجبل وبين كارة، ولم يكن بها ماء فمات كثير منهم بالعطش، وهذا المكان لا يزال يدعى عند السودانين «تبكي وتسقط»؛ لذكرى الذين ماتوا عطشا فيه.
ولكن هذه الهزائم لم تضعف حب الجمهور للمهدي، وليس شك في أنها كانت تخفف عبء الموظفين وقتيا، ولكنها لم تكن تمنع مجيء اليوم المتوقع من الجميع، ولو كانت نصائح عبد القادر باشا قد سمعت لتغير حال السودان؛ فقد كان لا يوافق على إرسال تجريدة كبرى لتخليص كردوفان، ولكنه كان ينصح بتوزيع الأمداد التي تأتي من القاهرة على مراكز على النيل، بحيث تكون هناك حاميات، ثم يترك الثوار وشأنهم مؤقتا، وكان عنده ما يكفي لقمع الثورة في الجزيرة بين النيلين الأبيض والأزرق، وأيضا لمنع تقدم المهديين من الغرب.
ولو اتبعت هذه النصائح لكان الأرجح أن سوء إدارة المهدي تؤدي إلى الخلل والشقاق، فيمكن الحكومة استرجاع ما فقدته بعد مدة قليلة، ولم يكن في مقدوري الاحتفاظ بدارفور أكثر مما احتفظت به، وحتى لو فرضنا أنه وقع في يد المهدي لكان هذا أيسر الشرين، ولكن ولاة الأمور في القاهرة لم يكونوا من رأي عبد القادر باشا، وكانوا يرون أنه يجب أن تعاد للحكومة كرامتها وسلطتها مهما كلفها ذلك، ودبروا لذلك تجريدة يقودها هكس باشا الإنجليزي ومعه ضباط أوروبيون، فاستدعي عبد القادر باشا إلى القاهرة وقام مقامه علاء الدين باشا الحاكم العام للسودان الشرقي سابقا، وعرف المهدي كل ذلك واستفاد منه.
وفي هذه الأثناء وصل زوجال إلى الأبيض، حيث احتفل باستقباله فأطلق مائة مدفع تكريما له، وأشيع في كل مكان أن دارفور قد سلمت نفسها للمهدي الظافر، واعتبر أيضا رجوع زوجال إلى دارفور ضمانا قويا على دخول دارفور في طاعة المهدي، وأنها لذلك ليست في حاجة إلى إرسال قوة من الجيش، ووجه المهدي الآن كل عنايته إلى درس الحالة في النيل.
وبعد وصول هكس باشا قام في الحال إلى كاوة وهزم الثائرين في مرابية في 29 أبريل سنة 1882 وقتل أحمد المكاشف.
وكان عثمان دجنة أحد النخاسين في سواكن قد بعثه المهدي لكي ينشر الدعوة إلى الجهاد في بلاد مختلفة، وقد أثبت المهدي بعد نظره في اختيار هذا الرجل الذي ذاع اسمه بعد ذلك، وكان يقدر أنه إذا ثار السودان الشرقي فإن الحكومة ترتبك وتؤخر تجريدة كردوفان، أو لا ترسلها مطلقا.
ولست أدخل في تفاصيل الوقائع التي دارت بين هذا الأمير الجسور وبين الحكومة؛ فإنها معروفة مشهورة ولا تحتاج إلا للإشارة إليها هنا فقط، ويكفي أن أقول إن المهدويين نجحوا في شرقي السودان ولكن نجاحهم لم يؤثر في الحكومة كما رغب المهدي، بل بقيت على عزمها من تهيئة التجريدة لكردوفان، وفي أوائل سبتمبر سنة 1883 غادر هكس باشا الخرطوم إلى الدويم على النيل الأبيض، حيث انضم إليه علاء الدين باشا الذي طلب إليه أن يصحب التجريدة.
وإني لا أشك في أن ولاة الأمور في القاهرة كانوا يجهلون الحالة في كردوفان؛ إذ كانوا يتصورون أن إرسال مثل هذه التجريدة لكردوفان يقضي على المهدي، الذي صار الآن الحاكم المطلق في المديريات الغربية وليس فيها أحد سوى أنصاره، فهل نسوا أن المهدي أباد القوى التي كان يقودها راشد وشلالي ولطفي، وأن بارة والأبيض وغيرهما من البلاد قد خضعت له، وأنه أصبح يملك من البنادق أكثر مما يملكه هكس في تجريدته؟
وهل غاب عنهم أن هذه البنادق قد صارت إلى أيدي رجال ماهرين يعرفون كيفية استعمالها، وأن من هؤلاء الرجال من كان يستخدم البازنجر ويصد الفيلة والنعام، وأنه قد تألفت تحت أيديهم فرق حربية ماهرة؟ ثم ألم ينضو إلى راية المهدي آلاف من الجنود النظاميين وغير النظاميين الذين كانوا في خدمة الحكومة قبلا؟ وهل خطر لهم أن هؤلاء الرجال كانوا ينوون ترك الانضمام إلى هكس باشا عند رؤية جيشه؟
لقد جهلت الحكومة في القاهرة كل ذلك وخاطرت بحياة الألوف لجهلها هذا، وأظن أنه كان بين أعضاء الحكومة من كان يعرف السودان ويعرف المثل القائل «اللي بياخد أمي هو أبويا»، والمهدي قد استولى على البلاد ويمكن أن نقول مجازا إنه تزوجها؛ لذلك نظر إليه السكان كما ينظرون إلى مولاهم وحاكمهم، ولم يكونوا يبالون وقتئذ بما نالوه من رعاية في الحكم السابق، ولا أنكر أن هناك شواذ ولكن ملاحظاتي هنا تنطبق على الكثرة.
وكانت تجريدة هكس مؤلفة من عشرة آلاف رجل تسير في هيئة مربع في وسطه ستة آلاف جمل، وكان سيرها في أعشاب ونبات يزيد طولها عن قامة الإنسان، فلم يكن في مقدور الجنود أن يروا إلى أبعد من مائتي ياردة إلى ثلاثمائة، وذلك في الجهات المزروعة المكشوفة، حيث يقطن بعض الناس ويكشفون بعض الأرض للزراعة، وكان عليهم أن يكونوا مستعدين على الدوام لملاقاة عدو أكثر منهم عددا وعدة وتجربة بالحروب، وقد اشتهر رجاله بالفوز والشجاعة والاندفاع، ولم يكن في طريقهم سوى آبار قليلة وإن كان بها مستنقعات عديدة.
ولو أنهم كانوا أخذوا الطريق الشمالي، طريق جبروة وبارة، لوجدوا الأرض مكشوفة أمامهم والماء وفيرا في عدة أماكن، وهذا الماء إذا لم يكن يكفي الجيش، فإنه باستعمال الوسائل الحديثة في الاستقاء واستنباط الماء كان يكفيه، وفي هذه الحالة كان يمكن الاستعانة بقبائل الكبابيشي في مقاتلة المهدي، وكان يمكن عندئذ الاستغناء عن عدد كبير من الرجال والحيوانات التي استعملت في النقل.
وكانت الجمال في وسط الجيش تؤلف غابة كثيفة من الأعناق والرءوس، وكان من المستحيل أن يطلق العدو عيارا واحدا دون أن يصيب أحد هذه الجمال، فإنه إذا أخطأ أحدا من الأمام لم يخطئ الإصابة في الوسط أو المؤخرة.
وكان يمكن ترك هذه الجمال مع الحرس في دويم أو في الشط، ثم إرسال فصائل من الجيش لإعداد الطريق في الشمال أو الغرب أو الجنوب، وإنشاء مراكز حربية في البلاد التي تخضع، وبدهي أن هذا العمل كان يحتاج إلى عام ولم يكن في ذلك من بأس؛ إذ لم يكن ثم داع للعجلة، ثم يجب أن نذكر أن الخلاف بين هكس والضباط الأوروبيين كان عظيما، كما كان هناك أيضا خلاف بين علاء الدين باشا وبين الضباط المصريين.
ثم كان هذا الجيش مؤلفا في الأغلب من جيش عرابي المنحل الذي انهزم أمام الإنجليز، ولا شك في أن الجنرال هكس كان يعرف هذه الأشياء، وقد سئل مرة في الدويم عن الموقف فقال: «أنا مثل المسيح بين اليهود.» ومع ذلك سار في طريقه، وربما كان يعتقد أنه إذا رفض السير فإن شرفه يجرح.
وأخذت هذه الكتلة المؤلفة من البشر والحيوان تسير سيرا بطيئا، وكان السكان الذين يقطنون في طريق الجيش قد فروا، وكان العرب يظهرون فجأة ثم يختفون من وقت لآخر، وكان هكس ينظر خلال نظارته في إحدى المرات فرأى فرسانا مختبئين بين الأشجار، فأمر بالوقوف وأنفذ قسما من الخيالة لكي يتقدم، وبعد دقائق عاد الخيالة وهم في ارتباك شديد بعد أن فقدوا عددا من رجالهم وجرح عدد آخر، ورووا أنهم رأوا قوة كبيرة، فأنفذ هكس الجنرال فاركار ومعه نصف أورطة لكي يذهب إلى مكان المناوشة ويعاين الحالة هناك، فعاد وقال إنه رأى ستة مقتولين وقد جردوا من كل شيء ولكنه لم ير أحدا من العدو، وكان هناك آثار عشرة من حوافر الخيل، فكأن قسم الخيالة قد انهزم أمام هؤلاء العشرة.
وفي اليوم التالي ظهر ثلاثة من الفرسان فهجم عليهم فاركار وليس معه سوى خادمه، فقتل اثنين وقاد الثالث أسيرا. وقد أخبرني عن هاتين الحادثتين بعض من بقي من التجريدة، وكانوا يصفون سير الجيش وهو في هيئة المربع كأنه سلحفاة تزحف، ولم يكن من الممكن وهو في هيئته هذه أن تسرح الجمال للرعي؛ فلم تأكل هذه الجمال سوى ما وجدته وهي محصورة في هذا المربع، وكان ما وجدته قليلا، فكان ينفق منها كل يوم مئات، وكانت تأكل بطانة الرحال المحشوة بالتبن، ولما خلت الرحال من التبن لصق الخشب بلحمها فآذاها أذى كبيرا، ومع ذلك كانت هذه الجمال تجر سيقانها وتسير حاملة أثقالها وأثقال من يقع من أخواتها.
ولا شك في أن فاركار والبارون شكيندورف والماجور هيرلت وغيرهم من الضباط الأوروبيين وبعض كبار الضباط المصريين؛ كانوا يجهدون جهدهم لكي يساعدوا هكس باشا في هذه الظروف الحرجة، ولكن معظم الجيش كان يجهل تماما الأخطار الموشكة أن تقع به، وكان فيزتلي المسكين يرسم صوره، وكان دونوفان يكتب مذكراته، ولكن أين ذلك الذي يمكنه إرسالها إلى بلادهما؟
وما هو أن عرف المهدي أن الجيش قد شرع في السير حتى أذاع المنشورات بين القبائل يدعوهم فيها إلى الجهاد، ويعد فيها المطيع بالمكافأة والعاصي بالعقاب. وغادر هو الأبيض وضرب خيمته تحت شجرة كبيرة ينتظر قدوم الجيش المصري، واقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فتكون من ذلك معسكر ضخم. وكانت جيوش المهدي تعرض كل يوم وتقرع الطبول وتطلق المدافع وتدرب الجنود والخيول، وكلهم يستعد للمعركة الكبرى. وكان المهدي قد أرسل الأمراء: الحاج محمد أبو جوجة، وعمر واد إلياس باشا، وعبد الحليم مسعد، إلى الدويم لكي يراقبوا تقدم الجيش ويقطعوا مواصلاته، ولكنهم أمروا بألا يهاجموا الجيش بالذات، وقد علموا قبل سفرهم مقدار القوة المصرية ورجوا المهدي في أن يسمح لهم بمهاجمتها ولكنه رفض.
وقبل أن تصل القوة إلى رهاد رأى جوستاف كلوتز - وهو صف ضابط ألماني وكان قبلا خادم البارون سكندروف ثم صار خادما عند مستر أودنفان - أن المهدي سيقضي عليها إذا التقى بها، ففر من الجيش بنية أن يذهب إلى المهدي لكي ينضم إليه، وكان يجهل البلاد، فأخذ يجول في صباح اليوم التالي وعثر عليه المهديون وكانوا يوشكون أن يقتلوه، ولكنه صار يجاهد بالقليل الذي يعرفه من العربية لكي يفهمهم أنه يرغب في مقابلة المهدي، فأرسل مع الحرس إلى الأبيض، وكان لابسا ملابس الخدم، ومع ذلك توافد عليه الناس زرافات لكي يروا هذا الإنجليزي الذي جاء للمهدي يرجوه في طلب الصلح، ولما أحضر إلى المهدي صار هذا يسأله عن التجريدة أمام الأوروبيين الحاضرين ، ولم يتردد جوستاف في وصف الجيش أسوأ وصف وأن صفوفه خلو من الشجاعة والوفاق، وارتاح المهدي إلى هذه الأخبار، ولكن جوستاف أخبره أيضا أن الجيش لن يسلم وأنه لا بد من معركة يباد فيها عن آخره، ودعا المهدي جوستاف إلى الإسلام فأجاب وأسلم، ثم وكل المهدي به عثمان واد الحاج خالد.
ووثق المهدي من الظفر إلى حد أنه وضع المنشورات العديدة في طريق الجيش يدعو هكس باشا إلى التسليم، وبدهي أن هكس باشا وضباطه لم يجيبوه، ولكن كان لهذه المنشورات بعض التأثير في أولئك الذين كانوا يخافون على حياتهم، واستعمل بعضهم هذه المنشورات لأغراض وبطريقة اغتاظ منها المهدي أشد الغيظ، وكان بعد ذلك يعاقب الذين نجوا من القتل بأشد العقوبات إذا علم أنهم دنسوا هذه المنشورات الملهمة بأية طريقة!
وقبل أن يبرح هكس باشا الدويم كانت الحكومة قد أبلغته أنه سينضم إليه ستة آلاف رجل من جبل تاج الله وبضع مئات من عرب الحبانية، وكان كل يوم يتشوف لرؤية هذه القوة لكي ينشط بها جنوده الذين خارت قواهم وضعفت آمالهم، ولكن هذه القوة لم تصل إليه بل لم يصل إليه أي خبر عنها.
وعندما غادر هكس رهاد قصد إلى علوية في دار غدايات أملا في أن يجد هناك ماء يستقي منه الجيش، وفي 3 نوفمبر وصل إلى كشجيل التي تقع على بعد 30 ميلا في جنوبي الأبيض.
وكان المهدي في هذه الأثناء قد حمس جنوده، وأخبرهم أن النبي قد أوحى إليه أن عشرين ألفا من الملائكة سيقاتلون الكفار مع جنوده يوم المعركة. وفي أول نوفمبر برح الأبيض قاصدا إلى بركة، فانضمت قواته إلى جيش الأمراء الذي كان قد أرسله قبلا، وأخذ الجميع في مناوشة المصريين والتضييق عليهم، وكان العطش والإعياء قد فعلا فيهم فعلهما. وفي 3 نوفمبر كان أبو أنجة والجهادية السود مختبئين في غابة كثيفة، فصبوا نارهم على قلب المصريين حتى اضطر الجيش إلى الوقوف وإقامة زريبة حوله، وكانت الدواب والرجال هدفا ظاهرا لا يخطئه أي رام، فكان في كل لحظة يقع جمل أو بغل أو إنسان قد أعياه السير. واستمر هذا التقتيل ساعات وكل فرد من الجيش يعاني الآلام من العطش ولا يستطيع السير إلى أي جهة، ولم يغادر العدو مكانه حتى الأصيل، وبقي بعد ذلك يراقب الجيش كما تراقب القطة الفأر. وكانت خسائر العدو قليلة فلم يقتل منهم سوى أمير أو اثنين، وكان أحدهما ابن إلياس باشا، ولا غرابة في قتله؛ فقد تحمس وتهور حتى صار على قيد ذراع من الزريبة، وما أشد ما كان يعانيه هكس في هذا الوقت؛ إذ بدلا من أن يجد رجاله الماء كان العدو يمطرهم رصاصا، ومع ذلك كان الماء قريبا منهم لا يبعد ميلا واحدا، ولكن لم يكن معهم أحد يعرف هذه الجهات، وهم لو كانوا يعرفونها لما انتفعوا بهذه المعرفة الآن لفوات الفرصة.
وفي الليل زحف أبو أنجة ورجاله ثانيا، وصبوا النار طول الليل على هذه الكتلة المؤلفة من الناس والدواب، وخارت قوى المصريين فكانوا يندبون حظهم قائلين: «مصر فين يا ستي زينب دلوقت وقتك.» أما السود فكانوا منبطحين على بطونهم فلا ينالهم رصاص المصريين الذي كان يذهب في الهواء فوقهم، وكانوا يردون على المصريين بقولهم: «دي المهدي المنتظر.»
وفي صباح اليوم التالي تقدم هكس وقد خلف وراءه أكواما من القتلى وبعض المدافع التي قتل رجالها، ولكنه قبل أن يقطع ميلا هجم عليه نحو مائة ألف من المتحمسين المتوحشين الذين خرقوا الجيش ودخلوا إلى القلب، وحدثت عندئذ مقتلة هائلة، ولم يحاول الثبات للعدو سوى بعض الضباط الأوروبيين والخيالة الأتراك، ولكنهم هوجموا من كل جانب فقتلوا تقريبا عن آخرهم، ثم قطع رأس البارون سكندورف ورأس الجنرال هكس وحملا إلى المهدي، فطلب في الحال كلوتز - الذي صار اسمه الآن مصطفى - وطلب إليه أن يعرفه صاحبي هذين الرأسين، ولكن المهدي لم يكن في حاجة إلى التعريف؛ فإن كل أحد قد عرف أنهما قتلا، وبعد هذا النصر المبين عاد المهدي وخلفاؤه إلى بركة وقد أسكرهم هذا الفوز.
وكان في ميدان القتال عدد كبير من الأمراء وأتباعهم قد تخلفوا لجمع الغنائم وإرسالها إلى بيت المال، وقد جردت الآلاف من القتلى من جميع ملابسهم، وأرسلت إلي بعد ذلك بمدة مذكرات فاركار وأيضا مذكرات أودنفان، فقرأت كل ما كتباه، وما أعظم ما قاسيته من الحزن من هذه القراءة؛ فقد كتب كلاهما شيئا كثيرا عن الخلاف والشقاق في الجيش، وعن الشجار بين الجنرال هكس وبين علاء الدين باشا. وقد حمل فاركار على رئيسه حملة قاسية لأغلاطه الحربية؛ فقد أحس كلاهما بالنكبة قبل وقوعها؛ ولذلك كان فاركار يلوم رئيسه؛ لأنه مع معرفته بالحالة المعنوية السيئة للجيش خرج به للقتال. ولم يحصل الضباط الأوروبيون على أية معونة، ولكن يظهر أن أحد الضباط المصريين المدعو عباس بك عاونهم بعض المعاونة. وأذكر أني قرأت العبارة التالية بقلم فاركار: «سألت أودنفان اليوم عن المكان الذي سنكون به بعد ثمانية أيام، فأجابني بقوله: في العالم الآخر.»
وكانت مذكرات أودنفان مكتوبة بهذه اللهجة أيضا، وكان قلقا بشأن فرار كلوتز، وذكر هذا الفرار كمثال على شعور سائر الجنود. وأذكر قوله: «كيف تكون حالة جيش إذا كان خادم أوروبي يهجره وينضم إلى العدو.» ويقول في مكان آخر: «ها أنا ذا أكتب مذكراتي وتقاريري، ولكن من هو ذاك الذي سيحملها إلى وطني؟»
وبعد خمسة عشر يوما عاد المهدي إلى الأبيض ومعه الغنائم التي أودعت بيت المال، وكانت هذه الغنائم تحتوي مبلغا كبيرا من النقود غير المدافع والبنادق، ومع ذلك قد نهب العرب شيئا كبيرا من هذه الغنائم، على الرغم من العقوبات الوحشية التي كان يعاقبهم بها أحمد واد سليمان. وقد كان من المألوف أن تقطع يد السارق اليمنى وساقه اليسرى، أما الزنوج المكرة فقد سرقوا كمية وفرة من الذخائر خبئوها في الغابات وفي معسكرهم، وأفادتهم بعد ذلك فوائد عظيمة.
وكان دخول المهدي إلى الأبيض دخول الظافر الذي يستقبل بضروب الحفاوة الوحشية؛ فقد كان الناس يترامون أمامه ويكادون يعبدونه، وليس شك في أن انتصاره في شيكان قد جعل السودان بأجمعه طوع أمره؛ فكان الأهالي من النيل إلى البحر الأحمر ومن واداي إلى كردوفان ينظرون إلى هذا الولي ويترقبون حركاته، وكان أولئك الذين آمنوا قبلا بهدايته يستمسكون بإيمانهم وينشرون نفوذه أكثر من ذي قبل، أما أولئك الذين استرابوا أولا في دعوته فقد ثابوا إلى اليقين بعد هذه الانتصارات العظيمة المتوالية. وأولئك الذين كانوا يعرفون في قلوبهم أن هذه المهدية غش ومكر، رأوا أنه يجب عليهم أن ينضموا إلى المهدي ما دامت الحكومة غير قادرة على تثبيت سلطتها حتى في مديريات النيل.
وقد عرف في هذا الوقت عدد كبير من الأوروبيين وبعض المصريين المقيمين في المدن خطورة الموقف، ولم يتوانوا في الخروج من القطر السوداني، أو على الأقل في إرسال ما يخشون عليه من أمتعتهم ومنقولاتهم إلى الشمال، وقد أيقنوا أنه لا بقاء لهم بعد الآن في السودان الذي بسط عليه المهدي نفوذه.
الفصل التاسع
سقوط دارفور
في ذلك الوقت كنت قد شفيت من مرضي - الدودة السودانية - وشعرت بأني أقوى على الخروج في تجريدة أخرى، ولكن عدد أتباعي المخلصين كان قد نقص نقصا سيئا، وأيضا قلت ذخيرتنا، وكان سيد بك جمعة يرسل إلي بأنه غير قادر على أن يسعفني بما أطلب من الذخائر، واحتج في ذلك بأن عرب الزبدية والمهرية قد بدا منهم شيء من العصيان، حتى إنهم استولوا على مواشي بعض الناس المقيمين في جوار الفاشر، وعندما طلب منهم ردها رفضوا.
وكانت كل آمالي معلقة الآن بنجاح جيش هكس باشا، وكان من حسن حظي أني كنت أجهل الطريق الذي اتخذه، كما كنت أجهل أيضا الحالة المعنوية السيئة التي كان فيها الجيش، وكان قد مضى علي الآن نحو عام لم أتسلم فيه أية رسالة من الخرطوم، وكنت قد لجأت إلى الحيلة لكي أحتفظ بحماسة رجالنا؛ فادعيت بأنه جاءتني أخبار عن انتصارات الحكومة، وقد أذعت هذه الأخبار في شكل رسائل ملفقة قرئت علنا على الجيش وقوبلت بإطلاق المدافع وهتاف الجنود، والحقيقة أني أنا الذي لفقت هذه الأخبار، ومن الحق أن أقول إني تسلمت في هذا الوقت رسالة صغيرة من علاء الدين باشا، يقول فيها إن الخديو قد عينني قائدا عاما لجيوش دارفور، وإن الحكومة قد عزمت على إرسال قوة لمعاقبة الثائرين، وأرسلت نسخا عديدة من هذه الرسالة إلى الفاشر وكبكبية، وأمرت بإذاعتها بين الجمهور وإطلاق النار عند قراءتها، واحتفلت بمقدم حامل هذه الرسالة احتفالا كبيرا وأثقلته بالهدايا، وأعلن أمامنا أنه عندما غادر الخرطوم كانت الحكومة تهيئ التجريدة التي قال عنها إنها لا بد منصورة، وكان الواقفون على الحالة مترددين في تصديق هذه الأقوال، ولكنهم سروا مع ذلك لهذه الأخبار.
وبعد أيام قليلة عاد إلي خالد واد إمام، الذي كنت أرسلته إلى كردوفان ليأتيني بصحيح الأخبار، وأفضى برسالة شفوية من زوجال، يقول فيها إن الحكومة تهيئ تجريدة لمقاتلة المهدي. ولكن بعد أيام قبض على رجل قريبا من شقة ومعه خطاب من خالد للمادبو يطلب منه أن يستعد للقائه قريبا لكي يساعده في إتمام مشروع، فلم يبق عندي شك في أن خالدا قد انضم إلى زوجال وصار خادمه المخلص.
وللحال أمرت بالقبض على خالد وإحضاره إلي، فاعترف بأن زوجال قد أمره بأن يأخذ زوجاته إلى مكان مأمون خارج عن منطقتي، وأن يحضر زوجتين منهن إليه في كردوفان، وهذا هو سبب كتابته تلك الرسالة للمادبو.
فأمرت بالقبض على أسرة زوجال وتقييد خالد، ثم استصفيت أملاكهما وضممتها إلى بيت المال، وأقمت حراسا على أملاك المقبوض عليهم الآخرين.
وصارت الصعوبات تتكاثر علي يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة. ولم أكن لأبالي كثيرا بخيانة زوجال؛ فقد كنت دائم التوجس منه قليلا، ولكني قلقت قلقا شديدا للأخبار السيئة التي جاءتني عن تجريدة هكس.
وكان وقتي مقسما بين ذهابي وإيابي من القتال في قمع الفتن التي أخذت في الانتشار بسرعة مدهشة؛ ففي أحد الأيام أخرج لمنازلة المادبو، وبعد يوم أخرج لقمع فتنة قام بها رئيس آخر، ثم جاءتني في أحد الأيام أخبار هزيمة دارهو أمام الميما، فاقترحت على الضباط إخلاء دارة وحصر قوانا للدفاع عن الفاشر، ولكنهم رفضوا.
أضف إلى كل هذا ذلك الخلاف الذي فشا بين أولئك الذين كنت أحسبهم من أخلص المخلصين لي؛ فإن حسن واد سعد النور، الذي حصلت له على العفو في الخرطوم - كما يذكر القارئ - والذي ضمنت ولاءه للحكومة وأذنت له بالإقامة في دارة، والذي أعطيته منزلا بجانب القلعة، وحين مات جواده أعطيته جوادا آخر، والذي استخلصته لجلب الأخبار واثقا من ولائه وطاعته؛ قد خانني وتناسى كل هذه المروءات والأفضال التي تكرمت بها عليه، وركب الجواد الذي أعطيته له وذهب إلى المهدي فصار من أخلص أتباعه.
وكانت المواصلات بيني وبين الخرطوم قد انقطعت منذ مدة بعيدة؛ فإن المهديين كانوا يقظين وكانوا يقبضون على أي إنسان أرسله بخطاب إلى الخرطوم. وتمكنت في إحدى المرات وأنا أقاتل بني حلبة من إرسال خطاب للقاهرة بواسطة قافلة كانت سائرة إلى أسيوط في طريق الأربعين.
ولكن طرق تخبئة الرسائل التي اتبعتها إلى الآن كانت قد عرفت، فلم يعد في الإمكان استعمالها، ومن هذه الطرق وضع الرسالة بين نعلي الحذاء أو بين أديمي المزادة أو في قصبة الرمح.
وكنت في أحد الأيام أنظر في شئون القلعة فرأيت الجنود يعالجون حمارا به عرج في ساقه الأمامية، فألقوه على الأرض ثم فتحوا في جلده على الكتف فتحة أدخلوا فيها خشبة صغيرة، ثم حززوه تحزيزات وذروا النطرون على الجروح وأخرجوا الخشبة، فخطر في بالي أن أرسل تحت جلد حمار بهذه الطريقة إلى الخرطوم، وانتخبت حمارا طيب الجرم ثم أدخلته منزلي حيث لا يرانا أحد، وكررت هذه العملية ووضعت في الفتحة التي فتحتها مذكرة صغيرة لففتها في مثانة جدي، ولم يكن حجم هذه الرسالة يزيد عن طابع بريد، ثم خطت الجرح بخيط من الحرير ونهض الحمار بعد ذلك كأن لم يكن به شيء، وأخبرني الرجل الذي ندبته لإرسال هذه الرسالة بأنه سلمها لعلاء الدين باشا في الشط قبل أن تقوم التجريدة بيوم أو يومين إلى الأبيض، وأنه أخبر الرسول بأن الرد غير ضروري، وأنه سيصحبه إلى الأبيض حيث يرسله من هناك إلي بخطاب.
وكانت حالتنا من حيث المدخر من الذخائر سيئة جدا؛ فإن مجموع ما كان لدينا من الخراطيش لم يكن يزيد عن 12 علبة لكل بندقية، فإذا غامرنا بقتال فإن نصف هذه الكمية يذهب في أول معركة، ولم يكن هناك أمل بالإسعاف، فأخذت أفكر في أحسن طريقة للثبات بدون أن نفقد ذخيرتنا القليلة، واضطررت لذلك إلى أن ألجأ إلى الحيلة كسبا للوقت.
فوسطت بعض العرب الموالين لنا لكي يفاوضوا الثائرين ويقولوا لهم إننا مستعدون للتسليم، ولكن لا يمكننا أن نسلم لهم؛ إذ لا ثقة لنا فيهم بعد قتالنا المتواصل مدة طويلة؛ ولذلك إذا أرسل المهدي رسوله فإننا نسلم له البلدة وحكومة المديرية.
وكنت في هذا الانتظار أتسقط الأخبار عن حملة هكس وأحسب المدة التي يجب أن تصل في نهايتها إلى الأبيض؛ حيث يقاتل الفريقان وتقع الوقعة الحاسمة، وكنت أختلف إلى السوق وأتحادث مع الأهالي عن الأحوال، وكان كل أحد يعرف أن جيشا عظيما قد أنفذ إلى الأبيض، ولكن لم يكن أحد على يقين من النتيجة.
وأخيرا حوالي آخر نوفمبر شاعت الإشاعات عن هزيمة الجيش، وكان على هذه الإشاعات مسحة الصدق، ولكننا مع ذلك تعلقنا بالشك، ولكن بعد يوم أو يومين جاءنا الخبر الأكيد بأن الجيش المصري قد اصطلم، فانسدل علينا الغم جميعا لهذا الخبر، وهكذا قضي علينا بعد هذه الشدائد والخطوب أن نقع في يد العدو وقد سدت دوننا أبواب النجاة، ولكن هل بقي من بصيص من أمل بأن الأخبار قد بولغ في رواياتها؟
لقد كان عندنا هذا البصيص ولكنه انطفأ فجأة؛ إذ علمنا أن زوجال قد وصل إلى أم شنجة، وأن المهدي قد عينه «مدير عموم الغرب.»
وفي 20 ديسمبر سنة 1883 جاءني الرسول الذي كنت أرسلته إلى المهدي، وكان لابسا جبة، فروى لي خبر الهزيمة المنكرة التي نالت الجيش، وناولني خطابا من زوجال يطلب مني فيه التسليم ويخبرني عن هزيمة المصريين، ولكي يثبت لي هذه الهزيمة أرسل إلي بعض تقارير الضباط ومذكرات فاركار وأيضا مذكرات أودنفان.
وفي المساء جاءني فرج أفندي وعلي أفندي الطوبجي ضابط المدفعية ، وأخبراني بأن الضباط قد قرروا التسليم للمهدي لا لزوجال بك، وقد أوضحوا الأسباب التي ألجأتهم إلى هذا القرار؛ فإن كل واحد منهم قد اقتنع تمام الاقتناع بأنه لا سبيل الآن للحكومة أن تنقذهم، وأن الجيش في دارة لا يزيد عن خمسمائة وعشرة رجال، ومنهم عدد كبير لا يصلح للقتال، وأن الحالة المعنوية للجيش منحطة، ولا أمل في الحصول على أي انتصار، وأن الذخائر لا تكفي معركة واحدة سواء كنا مدافعين أو مهاجمين، وقالا لي أيضا إنه لا يمكنني أن أسوم الجيش على القتال؛ لأن الجميع قد عزموا على التسليم، فأخبرتهما بأني سأفكر في هذا الموضوع وأخبرهما في صباح اليوم التالي عن رأيي الأخير.
وفي تلك الليلة لم تغمض عيناي، فجعلت أتحسر وأندب هذا الحظ الذي يقضي علينا بعد معاناة الشدائد والأهوال بأن نسلم ونخضع، ثم بعد الخضوع ماذا خبأه القدر لنا؟
وعرضت الحالة من البداية إلى النهاية وأنا في هذا السهاد، لقد مضى علي أربع سنوات وأنا أجاهد لتثبيت الحكومة ومقاومة الفتن الداخلية التي قمعتها، ثم مقاومة حركة المهدي التي دخلت إلى أصول الإدارة وفشت فيها كالسوس وأخذت تتأكلها وتسري فيها من الغصون إلى الأوراق حتى ذبلت وجفت.
والخلاصة أن هذه الدعوة المهدية قد تغلغلت إلى قلوب الضباط والجنود؛ فقد كانوا قبلا ينصبون لها العداء ويكافحونها لأني كنت ألوح أمامهم بقوة الحكومة وعودة سلطتها بنجاح حملة هكس، وبالفوائد التي تعود عليهم إذا ثبتوا على الولاء إلى حين يهزم الجيش المهدي. وكنت أجهد جهدي لكي أثبت للجنود والضباط ضرورة فوز الحكومة في النهاية، ولكن جاءت هذه الهزيمة المنكرة فانقطع كل أمل. وقد كافحت الدسائس من الداخل والخارج، والقارئ يعرف مبلغ النجاح الذي نجحته في ذلك، وكان يمكنني بواسطة الكمية القليلة من الذخائر التي لدي أن أقاتل بضع ساعات، ولكن هل كان من المتيسر أن يخضع لي الضباط والجنود في مثل هذا القتال؟ فقد ذهبت رغبتهم في القتال ولم يعد لي حق في أن أجبرهم على أن يضحوا بأنفسهم في قضية لم يعودوا يبالون بكسبها.
وبعد أن عرضت الموقف من جميع جوانبه، تبين لي أن التسليم ليس فقط أسلم السبل، بل هو السبيل الذي لا مفر منه. وبعد أن قررت في ذهني هذا القرار عدت إلى الوجه الشخصي للمسألة؛ فإني باعتباري ضابطا كنت أمقت هذا التسليم، ولم أكن أخشى شيئا أو أخاف على حياتي، وكنت واثقا بأني إذا سئلت عن مسلكي في المستقبل يمكنني أن أبرر كل ما عملته.
ولكن لفظة التسليم نفسها كانت كريهة، وكان يكرهها أكثر في نظري أني أوروبي مسيحي، وأني سأكون بين آلاف من السودانيين كل منهم ينظر إلي كأني دونه في المقام. صحيح أني أسلمت وتركت ديني، ولكني لم أفعل ذلك إلا لكي أهدئ ثائرة الضباط والجنود علي، وقد نجحت في غايتي أكثر مما توقعت، ولكن هذا العمل لم يكن وفق مزاجي، ولم أكن أدعي فهم الآراء الدينية بدقة تخولني الحكم على صلاح عملي أو فساده، ولكني كنت في قرارة قلبي مسيحيا مثل جميع المسيحين الذين أعرفهم، وعلى ذلك لم أكن أستمرئ الظهور بمظهر ادعاء الإسلام، دع عنك أني كنت أعرف أن تسليمي سيضعني في يد هذا المصلح الديني السخيف - المهدي - وأني سأضطر لذلك ألا أظهر فقط بمظهر المسلم العادي، بل بمظهر المؤمن بالمهدي المتحمس لدعوته.
فهل يمكن أحدا أن يعتقد أني كنت أنظر للمستقبل بعين السرور؟ ومع ذلك يجب أن أعترف بأن هذه الاعتبارات الدينية لم يكن لها في نظري وزن يعادل تلك الاعتبارات الأخرى عن تأدية واجبي، وعلى وجه العموم أقول إني شعرت بأنه قد يحتم علي الآن أن أسلم، وأن أحقن الدماء التي لن تجدي إراقتها شيئا، ولم يكن هناك سبب يدعوني إلى الخضوع للذل والهوان وما يشبه الرق بعد التسليم؛ فقد خطر لي أن أنتحر، ولكن نفسي ثارت على هذا الخاطر؛ فقد كنت في شبابي وقد مضى علي أربع سنوات كلها تبعات ومجازفات، ولم أكن أشتهي أن تختم حياتي وأنا في هذا العمر، حتى مع انتظار تلك الأيام السود القادمة، وقد من الله علي برحمته وأبقاني في تلك الحروب المتوالية، وهو لا بد يبقيني حتى أعود فأخدم تلك الحكومة التي حاولت أن أخدمها في الماضي بولاء وأمانة.
هذه هي الخواطر التي كانت تساورني عندما بدأ شعاع الفجر يقشع الظلام في تلك اللحظات التي لن أنساها في حياتي، وانتهيت بعد التفكير الطويل إلى أنه لم يبق لي سوى التسليم، وأن أرضى بأن أكون محكوما لأولئك الذين كنت أحكمهم، وأن أخضع لأولئك الذين كانوا يخضعون لي، ويجب فوق كل هذا وذاك أن أكون صبورا، وإذا مارست هذه الخلائق في نفسي ورضتها عليها وحقنت دمي بها ونلت بعد ذلك حريتي، فإن هذه التجارب ستفيد بلا شك الحكومة التي أخدمها. ونهضت من فراشي وأنا على هذا العزم، ولبست ملابسي الرسمية لآخر مرة؛ إذ استبدلت بها بعد ذلك جبة المهديين التي مثلت فيها دورا جديدا في حياتي. ومع ذلك فقد كان يخفق تحت الجبة قلب كله ولاء للحكومة، وكله عزم على الاستفادة من هذه التجاريب إذا أذن الله بالعودة، ورأيت أن المسألة ستتلخص بيني وبين هؤلاء الأسياد الجدد في أينا يتغلب ذكاؤه على الآخر. ولم أجبن عن هذا الكفاح المنتظر، مع أني لم أكن في حاجة إلى الاعتذار والتبرير لو أني جبنت، إذا اعتبرت السنين الطوال التي قضيتها في الأسر وفي الحياة المزدوجة التي اضطررت إلى الظهور بها.
وفي صباح اليوم التالي حضر إلي الضابطان، فعرضت عليهما خطاب زوجال الذي يطلب فيه مني التسليم وأن أقابله في 23 ديسمبر في حلة الشعيرية حيث يسلمني بيده خطاب المهدي إلي، ومما كتبه إلي زوجال أيضا أنه يضمن حياتي وحياة جميع من معي من الرجال والنساء والأولاد.
ثم طلبت الكاتب وأمليت عليه خطابا لزوجال، أعلنت فيه خضوعي وخضوع الحامية، واتفقت على مقابلته في 23 ديسمبر عند حلة الشعيرية، وسلمت هذا الخطاب لرسول يقوم به لإيصاله إلى زوجال الذي صار اسمه الآن سيد محمد بن خالد.
وفي أصيل الغد جمعت الضباط وأخبرتهم بأنه لما كانت المقاومة غير مجدية فقد قبلت اقتراحهم عن التسليم، ولكني سأغادر دارة في هذا المساء لكي أقابل زوجال في حلة الشعيرية ، وإني سآخذ القاضي معي، أما الضباط فسأتركهم مع الحامية. ثم شكرتهم بكلمات قليلة كانت شجى في حلقي لولائهم واستعدادهم للتضحية بأنفسهم في سبيل خدمة الحكومة وطاعتهم لي، ثم ودعت كلا منهم باليد واحدا بعد آخر، وودعت الموظفين المدنيين جملة وشرعت في السفر.
وكنا في منتصف الليل حين خرجت مع القواصين من دارة، وقد لاقيت المشاق في سفراتي الماضية وأنا بدارفور، ولكن هذا السفر كان أشق ما احتملته؛ فقد كنا جميعا غارقين في تأملاتنا المحزنة حتى لم ينطق أحدنا بكلمة. وعند الغروب استرحنا قليلا ووضع الخدم الطعام أمامنا ولكنا لم نمسه؛ إذ لم تكن لنا شهوة للطعام. ثم استأنفنا السير، ولما اقتربنا من حلة الشعيرية بعثت ياوري لكي يتقدمنا ويرى هل حضر زوجال أم لا، وعاد إلينا في الحال وأخبرنا بأنه هناك ينتظرنا منذ الأمس، وبعد مدة قليلة بلغنا المكان فوجدناه واقفا، وترجلت وتقدمت إليه لكي أحييه، فضمني إلى صدره وأكد لي صداقته ورجاني أن أقعد ثم سلمني خطاب المهدي، ولم يكن في هذا الخطاب سوى تعيين زوجال - أي سيد محمد بن خالد - حاكما على الغرب، وأن المهدي قد عفا عني وأوصى بمعاملتي بالإكرام الذي يليق بمنصبي، وأن يعامل سائر موظفي الحكومة السابقة باللطف والكرم. وبعد أن انتهيت من قراءة الخطاب قال لي زوجال إن المهدي إنما عفا عني للشهادة الطيبة التي شهدها في حقي عنده، وإنه سيقدم لي كل معونة، فشكرت له عطفه. ثم قدم إلي الأمراء والطيب وحسن نجومي، وقد كنت قابلتهم سابقا، ثم تناولنا الطعام وأخبرني زوجال أنه ينوي السفر إلى دارة.
وبينما كنا نتحادث وصل إلينا أحد ضباطي محمد أغا سليمان، فلما رآني لم يكترث لي أقل اكتراث، بل ذهب إلى زوجال وحياه تحية الحفاوة المبالغ فيها، فتذكرت أنه كان قد اتهم مع اثنين آخرين بأنه جاسوس زوجال.
وأخذني محمد - زوجال - وتنحى بي قليلا وخاطبني في شأن أقاربه وأسرته، فأخبرته بأن الجميع في صحة جيدة وأن أقاربه لا يزالون معتقلين، ووافقني على الإجراءات التي اتخذتها وقال إنها أفادتنا نحن الاثنين. ثم قمنا وسرنا إلى دارة وقضينا الليلة في الخيام قريبا منها، ووافانا هناك عدد كبير من الأهالي والموظفين، وكلهم قد لبسوا ملابس الدراويش وحيوا الوالي الجديد.
ولم تغمض عيناي في تلك الليلة، وكانت ليلة عيد الميلاد، فتذكرت أهلي وأعياد الكنائس البهيجة التي يحتفل بها في وطني في ذلك الوقت، في حين أجدني هنا وحيدا مهزوما مضطرا إلى تسليم رجالي وذخائري إلى العدو. وفي تلك الساعات الهادئة التي كانت أحفل ساعات حياتي حزنا وغما، أخذت أعرض أمام ذهني كل ما جرى لي، فتحققت عندئذ أن أولئك الذين قتلوا في ميدان الشرف كانوا أحسن حظا مني.
وفي الغد استقبل زوجال جميع الذين جاءوا إليه لكي يقدموا إليه طاعتهم وولاءهم، ثم احتل الدراويش القلعة فتم له بذلك احتلال المديرية، وتوافد عليه الأهالي لكي يقسموا له يمين الولاء للمهدي، وفي النهاية عرض الجيش وأدى هذه المهمة نفسها.
ولقيت هنا المادبو الذي كان قد لحق بعبد الصمد في برنجل، فشيعني إلى المنزل وطلبت منه أن يقعد فقال: «يبدو عليك كأنك مغتاظ مني، وكأنك تعتقد أني خنتك، ولكن أصغ إلي؛ لقد فصلني إميلياني من وظيفتي باعتباري رئيس المشايخ، فذهبت إلى بحر العرب حيث طلبني المهدي، ولما كنت مؤمنا مسلما اتبعته؛ فسمعت عظاته وتحققت من قداسة رسالته وحضرت هزيمة يوسف شلالي وانتصار رجال المهدي عليه انتصارا مدهشا، فآمنت بدعوته وما زلت كذلك للآن، وقد وثقت أنت بالطبع بقوتك وأبيت أن تسلم بلا قتال، وعلى ذلك تحاربنا، ولكني لم أكن أقاتلك أنت شخصيا وإنما كنت أقاتل الحكومة، والله يعلم أني ما نسيت قط أنك كنت تنظر إلي نظرة الصداقة، فدعك من الغضب وكن أخا لي.»
فقلت: «لم أغضب لما فعلت فإنك واحد من آلاف، ولو كان في قلبي غيظ فإن كلماتك قد أزالته.»
فقال المادبو: «أشكرك وأدعو الله أن يقويك وأن يرعاك في المستقبل كما رعاك في الماضي.»
فقلت له: «إني أضع ثقتي في الله، ولكني أجد من المشقات أن أتحمل ما أنا فيه، وإن كان لا بد من تحمله.»
فقال: «كلا، كلا، أنا عربي، ولكن اسمع ما أقوله لك؛ كن مطيعا صبورا، عليك بالصبر؛ فقد قيل: إن الله مع الصابرين.
والآن أخبرك أني جئت إليك لكي أطلب منك شيئا؛ وهو أن تقبل مني جوادي عربونا للصداقة بيني وبينك وأنت تعرفه وهو «صقر الدجاج».»
وقبل أن أجد الوقت للإجابة غادرني، وبعد دقائق قليلة عاد ومعه جواده، وكان من أجمل وأكرم خيول القبيلة، ثم سلمني رسنه، فقلت له: «لست أقصد إهانتك برفض هديتك، ولكني أخبرك أنه لم تعد لي به حاجة، وإني لن أركب كثيرا في المستقبل.»
فقال: «ومن يدري، اللي عمره طويل بيشوف كتير، فأنت ما زلت شابا وستركب كثيرا إن لم يكن هذا الجواد فجوادا آخر.»
فقلت: «قد يكون ما تقول هو الصواب ولكن هل تقبل مني أنت أيضا هذه الهدية؟»
قلت ذلك وأشرت إلى طبول الحرب التي كنا غنمناها منه، وأخذها خادمي وسلمها له، ووضعت على الطبول سيفا آخر قدمته أيضا هدية مني، وقلت: «لا تزال هذه الأشياء ملكي اليوم، ولذلك يمكنني أن أهديها إليك، أما في الغد فلا أعرف من يملكها.»
فقال: «إني أشكرك وأنا أتقبلها بكل سرور، لقد غنمها رجالك منا ولكن العرب تقول: الرجال ستراده وراده. وهذا حق، فكم من مرة قاتلت وفررت ولكني كنت أعود فأكر وأنجح.»
وأمر المادبو رجاله بحمل الطبول وخرج وهو مسرور، وقد أثر حديثه في وتذكرت كلامه عن الصبر وأن «اللي عمره طويل بيشوف كتير».
وفي صباح الغد أمر الحاكم الجديد الأهالي بالخروج من منازلهم، ثم فتش هذه المنازل وأرسل ما بها إلى بيت المال، وكل من اشتبه في حيازته مالا كان يجلد بلا رحمة، أو تقيد قدماه ويربط إلى حائط ورأسه مدلى حتى يغمى عليه، وكنت أناقش وأحاج ولكن خالد لم يكن ليثنيه كلامي.
ثم أخذ خدم الموظفين من رجال ونساء وقدموا للمهديين، ولكن الفتيات الوسيمات احتفظ بهن للمهدي.
وبعد سبعة أيام من تسليمنا، أخبرني خالد أن سيد بك جمعة قد أرسل كبار الموظفين مع عمر واد دارهو لكي يعرضوا تسليم المدينة؛ ولذلك قر رأيه على أن يسافر بنفسه إلى الفاشر، ولكنه عندما اقترب من المدينة كان الأهالي قد سمعوا بسوء معاملته لأهالي دارة، فقرروا عدم التسليم، واضطر الدراويش لذلك إلى حصار المدينة، وفتق المحصورون فتوقا عديدة في القوة المحاصرة، ولكن الأهالي بعد 15 يوما من الحصار سلموا المدينة، فدخلها خالد ومثل هناك الفصول المروعة التي مثلها قبلا في دارة بشكل أقسى، وعذب عددا كبيرا من الناس تعذيبا وحشيا.
وكان بين المعذبين ضابط يدعى حمادة أفندي، وقد طولب بما عنده من المال فأصر على أنه لا يملك شيئا، وكانت إحدى إمائه قد أخبرت عن وجود مقدار من الفضة والذهب عنده، ولكنها لا تعرف مكانهما، فأحضر أمام خالد الذي قال له إنه كلب كافر، فلم يقدر حمادة أفندي على ضبط نفسه ورد على خالد قائلا إنه دنقلاوي سافل، وهاج خالد لهذه الإهانة وأمر جنوده بجلد حمادة أفندي حتى يعترف بمكان المال. ومضت ثلاثة أيام وهو يضرب كل يوم ألف سوط ولكن بلا أدنى فائدة، ولو كان حجرا لما تحمل هذا الضرب كما تحمله، وكان كلما سأله الجلادون عن ماله يجيبهم قائلا: «أجل عندي أموال ولكنها ستدفن معي.»
وأمر خالد بوقف الضرب ثم سلم هذا المسكين لعرب الميما لكي يحرسوه، وقد دهش عرب الميما أنفسهم لجلد هذا الرجل الذي لم يلن عوده أمام هذا التعذيب.
وخشي إبراهيم نجلاوي الجلد، فسمع أحد الأمراء يدعونه بالعبد فقتل في الحال زوجته ثم أخاه ثم انتحر! وانتحر أيضا أغا فولا مؤثرا الموت على التعذيب، فلما رأى خالد ذلك أمر بوقف الجلد واكتفى بنفي المصريين في أماكن متفرقة قريبة من المدينة.
وبعد سقوط الفاشر طلبني خالد لكي ألحقه، فبلغتها في أوائل فبراير، فأعطاني منزل سيد بك جمعة لكي أقيم فيه، وأذن لي في طلب خيولي وخدمي من دارة، أما أمتعة البيت فيجب تسليمها لبيت المال على سبيل الزهد في الدنيا.
فنفذت كل هذه الأوامر وسلمت جميع أثاث المنزل لبيت المال ليد جابر واد الطيب، ولم أحتفظ إلا بالأشياء الضرورية للحاجات اليومية.
وكنت قد سمعت عند وصولي عن شجاعة حمادة وجلده، فبحثت عنه ووجدته في حالة مروعة؛ فقد كانت جروحه من كتفيه إلى ركبه واسعة متهرئة، وكان الموكلون بتعذيبه يدرون عليها الملح والفلفل؛ لكي يستخرجوا منه وهو في هذه الآلام اعترافا بمكان أمواله.
ولكن كل هذا التعذيب لم يكن ليحدوه إلى الاعتراف، فذهبت وأنا يائس إلى خالد وأخبرته بحالة هذا المسكين ورجوته أن يسمح لي بنقله إلى منزلي لكي أعالجه، فقال خالد لي: «إنه رجل ماكر أخفى أمواله وأهانني علنا؛ ولهذا يستحق أن يموت موتة شنيعة.»
فقلت له: «أرجوك بحق الصداقة القديمة أن تعفو عنه وتسلمه لي.»
فقال: «حسنا، أفعل ذلك إذا ركعت أمامي.» والركوع في السودان علامة الهوان العظيم، فشعرت بالدم يصبغ وجهي، ولو أني دعيت إلى هذا العمل لكي أنجي حياتي لما قبلت، ولكني رضيت بهذه الفضيحة لكي أنجي هذا الرجل التعس من آلامه المروعة، وترددت لحظة ثم ضبطت نفسي وركعت ووضعت يدي على قدميه العاريتين، فرفعهما وكأنه خجل مما طلب مني وأنهضني وقال: «سأعفو عن حمادة لأجلك، ولكن عدني بأنه إذا أخبرك عن أمواله أن تبلغني.»
فوعدته بذلك، وأرسل معي رجلا إلى حمادة، فهتفت بالخدم وحملناه على عنجريب ونحن نرفق به كل الرفق إلى منزلي، ثم غسلنا جروحه ونضحناها بالزبدة لكي تخفف آلامه، ولم يكن من الممكن أن يعيش كثيرا، وقدمت له حساء فطفق يلعق ويلعن أعداءه بصوت خافت، وبقي في منزلي أربعة أيام ثم طلب مني أن أقعد بجانب فراشه، وأشار إلى الخدم بالخروج، ثم همس إلي كلمات لا أكاد أسمعها وقال: «لقد حان حيني، والله يجازيك الجزاء الحسن على ما أسديته إلي من رأفة وشفقة، ولست أستطيع مكافأتك، ولكني أريد أن أظهر لك اعترافي بجميلك، لقد خبأت أموالي ...»
فصحت به: «قف هنا، هل تريد أن تخبرني عن مكان أموالك؟»
فقال: «نعم، لعلك تستفيد منها.»
فقلت: «كلا، لن أستفيد منها، فقد جئت بك هنا على شرط أن أخبر خالد بالمكان الذي أخفيت فيه أموالك إذا علمت ذلك، وأنت قد تألمت وقاسيت كثيرا وتوشك أن تفقد حياتك لإصرارك على إخفاء أموالك ومنعها من أن تقع في يد أعدائك، فدعها إذن في الأرض حيث هي، فستبقى صامتة.»
وكنت وأنا أتكلم قد أخذ حمادة يدي في يده فقال: «شكرا لك، الله يغنيك عن أموالي، الله كريم.» ثم مد ساقيه وذراعيه ورفع سبابته قليلا وقال: «لا إله إلا الله محمد رسول الله.» وأغمض عينيه وأسلم روحه.
وتأملت في هذه الجثة الممزقة فامتلأت عيناي بالدموع وتساءلت: كم بقي لي من السنين أتحمل فيها الآلام حتى أرتاح هذه الراحة الأخيرة؟ ثم ناديت الخدم وأمرتهم بإحضار رجلين صالحين لغسل الجثة ولفها في قماش، وذهبت أنا إلى خالد لكي أخبره بموته، فقال لي: «ألم يخبرك عن مكان أمواله؟»
قلت: «كلا، فإن الرجل قد تصلب فلم يفش سره.» فقال: «لعنة الله عليه، ولكن بما أنه مات في بيتك فادفنه وإن لم يكن ليستحق الدفن وكان أجدر بنا أن نلقيه كالكلب على التل.»
فتركته وذهبت إلى منزلي حيث دفنا حمادة أمام المنزل بعد الصلاة المعتادة.
وكان خالد غاية في الخبث والدهاء؛ يقسو على موظفي الحكومة السابقين ويساهل الأهالي بلا داع، وكان يضع قرابته في الوظائف، وكان مع اجتهاده في أخذ أموال الأهالي يتجنب كل ما من شأنه أن يحدث استياء عاما، وكان يحتفظ لنفسه بمعظم الإيرادات ويرسل من وقت لآخر هدايا للمهدي والخلفاء، وكانت هداياه عدة فتيات وسيمات أو بعض خيول عتيقة أو بعض الجمال؛ وذلك لكي يبقى محمود الذكر عند مولاه وولي نعمته.
وكان منزله حافلا بالضيوف والولائم، وقد تزوج مريم عيسى باصي أخت سلطان دارفور، مع أن عمرها كان فوق الخمسين. وكان لهذه السيدة حاشية مؤلفة من المئات من العبيد والإماء على الطريقة السودانية، ولم يخطر ببال خالد أنه يجب عليه أن يمارس فضيلة إنكار النفس بعض الشيء كما يأمر المهدي، وكان يأمر كل مساء أن تصف مئات الأطباق والقفع المحملة بمختلف الأطعمة لأتباعه الذين كانوا يقعدون تحت النخيل فيذكرون مدائح المهدي ولا ينسون ذكر الأمير خالد من وقت لآخر.
وحوالي هذا الوقت جاءني خطاب مطول من القاهرة بواسطة مدير دنقلة، حمله إلينا عربي موثوق به، وفي الخطاب أمرني بحصر قوات في الفاشر وأن أسلم المديرية لعبد الشكور بن عبد الرحمن شطوط، وهو من سلالة سلاطين دارفور، ثم علي بعد ذلك أن أخرج بالجيوش والذخائر إلى دنقلة، ولكن هذا الأمير الذي ذكر لي في الخطاب كان لا يزال في دنقلة غير قادر على المجيء إلى الفاشر، وأنا أشك فيما إذا كان وصوله يغير أو يبدل في الحالة، ولم يكن من الممكن حصر قوات الفاشر بالنسبة لروح التمرد الذي فشا بين الجنود، ولو كان في قدرتي أن أجمع الجنود وأذهب بها إلى الفاشر لما كان حينئذ ثم حاجة إلى هذا الأمير؛ فإن الحكومة كانت تجد في الأمانة والكفاية أكثر مما تجد فيه. وأطلعت خالد على هذا الخطاب، وأذن لي أن أكتب خطابا لأحد الأهالي يحمله هذا العربي الذي جاء من دنقلة، فكتبته ولكني لا أظن أنه وصل إلى من أرسلته إليه.
وجاءتنا أخبار في هذا الوقت تنبئ بسقوط بحر الغزال، الذي كان يتولاه لبتون بك وأنفذ المهدي إليه الأمير كرم الله لكي يتولى حكومته. وكان لبتون بك قد اضطر إلى التسليم لأن جميع إخوانه تركوه، فسلم المديرية بلا قتال في 28 أبريل سنة 1884، ولو لم يهجره أعوانه لتمكن لبتون بواسطة قبائل الزنوج من الاحتفاظ بالمديرية ورد غارات المهدي عنها جملة سنوات.
ورغب خالد في أن يرافقني سيد بك جمعة الذي كان لا يزال مقيما في القبة، وقد قبلت مرافقته على الرغم من دسائسه السابقة. وأيضا طلب أحد التجار اليونانيين مرافقتي فلم يعارض خالد، وكان اسم هذا اليوناني ديمتري زيجادة.
وحوالي منتصف شهر يونيو غادرنا الفاشر أنا وزيجادة وكان معنا حرس مؤلف من عشرة رجال، وبلغنا الأبيض بعد سفر شاق فتلقانا السيد محمود حاكم المهدي بلا حفاوة، وأمرنا بأن نسافر في اليوم التالي إلى رهاد حيث يقيم المهدي.
الفصل العاشر
حصار الخرطوم وسقوطها
لما هزم المهدي هكس باشا وأباد تجريدته، تحقق أن السودان كله قد صار عند قدميه، ولم تكن مسألة الاستيلاء على الخرطوم سوى مسألة وقت، وكان أول أعماله عندئذ أن أرسل قريبه خالد إلى دارفور؛ حيث كان يعرف أنه لن يجد أية مقاومة، وبواسطة كرم الله استولى على بحر الغزال، وكل ما حدث أن حول الموظفون ولاءهم للخديو إليه، وكان مك آدم قد خضع وجاء هو وأسرته وسكن الأبيض، ورسخت المهدية في شرقي السودان ووجدت وطنا معدا لها بين العرب الشجعان النازلين هناك، وأبيدت الجيوش المصرية في سنكات وطمانيب، وكانت نكبة الجنرال بيكر قد زادت ثقة العرب بأنفسهم، وكان مصطفى حوال يحاصر كسلة.
أما في الجزيرة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق، فإن صهر المهدي واد البصير هزم الحكومة عدة مرات، وقد كانت هذه حالة البلاد عندما وصل غوردون إلى بربر في 11 فبراير سنة 1884.
وكانت الحكومة المصرية باتفاقها مع الحكومة الإنجليزية قد قر رأيهما على إرسال غوردون للسودان اعتقادا بأن معرفته البلاد تسكن الفتنة، ولكن الحقيقة أن هاتين الحكومتين وغوردون نفسه كانوا يجهلون خطورة الحالة في السودان، فهل كانت الحكومتان تظنان أن غوردون لشجاعته الشخصية واشتهاره بالرفق بالفقراء في دارفور يستطيع أن يقف تيار التعصب؟ وهل نفوذ غوردون يمكنه من تهدئة عرب الجعالين النازلين بين بربر والخرطوم وفي الجزيرة؟
لقد كان عكس ذلك هو المنتظر، فإن الحاكم الذي أمر بطرد الجلابة من الجنوب في حرب الزبير كان خليقا بأن يكرهه عرب الجعالين لا أن يحبوه، فإن أمر غوردون بطرد الجلابة فقد أفقد عددا كبيرا من الجعالين من آبائهم أو إخوتهم أو أقاربهم، ولم يكونوا ينسون أن غوردون هو السبب في كل ذلك.
وفي 18 فبراير وصل غوردون إلى الخرطوم فتلقاه الناس والموظفون بالبشر والحماسة، وكان المتصلون به والمنتفعون منه يعرفون أن الحكومة لن تترك مثل هذا الرجل وحيدا بلا معونة. وكان أول ما عمله أنه أذاع منشورا بتعيين المهدي حاكما على كردوفان، والإذن بالنخاسة والرق، واقتراح الدخول في مفاوضات مع المهدي، وطلب منه الإفراج عن الأسرى، وأرسل إليه هدايا من الملابس الثمينة. ولو أن غوردون أذاع هذا المنشور ومعه قوة في الخرطوم يستطيع أن يسير بها إلى كردوفان، لتم له ما أراد، ولكن الأخبار بلغت المهدي بأنه جاء الخرطوم وليس معه سوى عدد قليل من الحرس، ولا شك في أن المهدي تعجب من غوردون كيف يمنحه بالكلام ما حصل عليه هو بالسيف، وما لا يمكن غوردون أن يسترده منه، وقد رد عليه المهدي بخطاب طلب فيه منه أن يسلم المدينة ويحقن بذلك دمه.
وكان الخليفة عبد الله يد المهدي اليمنى، وكانت قرابة المهدي يكرهونه لهذا السبب ويكيدون له، ولكنه كان يعرف تماما أن المهدي لا يستطيع أن يدبر الأمور بدونه، فشكا إلى المهدي دسائس هؤلاء الناس وطلب منه أن يعترف في وعظه بما قام به من الخدم للمهدية، فأذاع المهدي منشورا لا يزال يشار إليه للآن كلما احتاج الخليفة عبد الله إلى تغيير في الحكومة أو سن قانون من جديد، وهذا المنشور يقضي على جميع أتباع المهدي بالطاعة للخليفة، وأن ينظروا إليه كأنه نائب المهدي الذي يقوم بتنفيذ مشيئته.
ولما قل الماء عزم المهدي كما سبق أن ذكرنا على الرحيل بمعسكره إلى رهاد، وهي على مسيرة يوم من الأبيض. وحوالي منتصف أبريل تم انتقال هذه الكتلة العظيمة المؤلفة من رجال ونساء وصبيان.
وكان المعسكر في رهاد عبارة عن بحر طام من العشش المصنوعة من القش، يمتد إلى أبعد ما يصل إليه النظر، وكان المهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ وسائر واجباته الدينية. وكان قد عين محمد أبو حرجة واليا على الجزيرة، وأنفذه إليها مع عدد كبير من الأتباع، وأمره بأن يرأس الثورة على الحكومة ويحاصر الخرطوم.
وهذا هو وصف الحالة كما وجدناها عند وصولنا أنا واليوناني زيجادة وسيد بك جمعة إلى رهاد. ولما اقتربنا أرسلت أحد خدمي إلى الخليفة لكي يعلمه بقدومنا، ولكنه تأخر فعزمنا على الركوب إليه بأنفسنا .
واتخذنا الطريق المؤدي إلى سوق وسمعنا صوت الأومبية - الطبل - التي تؤذن بمقدم الخليفة، واتفق أني وجدت أحد أهالي دارفور فسألته عن معنى دق الطبل، فقال لي: «الأرجح أن الخليفة عبد الله قد أمر بقتل أحد الناس، وهذا أمر للناس لكي يشهدوا القتل.»
ولو كنت من الذين يؤمنون بالتفاؤل والتشاؤم لتشاءمت من هذه المقابلة؛ حيث يقتل إنسان عند أول دخولي المعسكر، ولكننا سرنا حتى بلغنا مكانا رحبا مكشوفا، ورأيت خادمي ووراءه رجل آخر وكلاهما يسرع إلينا، وصاح بنا هذا الرجل وقال: «قفوا حيث أنتم؛ فإن الخليفة وحرسه قد خرجوا للقائكم وكان يظن أنكم خارج المعسكر.»
ووقفنا وعاد الرجل يخبر الخليفة بوصولنا، وبعد دقائق رأينا جمعا من الفرسان وحولهم جمع آخر من المشاة المسلمين وهم يسيرون على إيقاع الطبل، ووراء هذا الجمع رأينا الخليفة نفسه وكان قد وقف وإلى يمينه ويساره صفان من الفرسان ينتظرون أوامره، وأمرهم الخليفة بأن يشرعوا في رياضة خيولهم، وكانت هذه الرياضة عبارة عن أربعة من الفرسان يخرجون بخيولهم صفا واحدا ويجرون شوطا ثم يعودون أدراجهم، ويكررون هذا الجري عدة مرات حتى يضطرهم الإعياء إلى الراحة، وكانوا يركضون خيولهم إلى مكاننا ورماحهم مشرعة، حتى إذا بلغونا هزوا الرماح قريبا من وجوهنا وقالوا: «في شأن الله ورسوله»، ثم ركضوا خيولهم ثانيا إلى مكان الخليفة.
وبعد أن تكرر هذا الركض نحو نصف ساعة جاءني أحد خدم الخليفة وأخبرني بأن الخليفة يرغب في أن أركض على هذا النحو إليه، ففعلت ذلك وهززت في وجهه الرمح وقلت: «في شأن الله ورسوله»، وعدت إلى مكاني.
فأرسل إلي يطلب مني أن أتبعه، وبعد قليل بلغنا منزله، وساعده على النزول عن جواده خادم، أما سائر الفرسان فوقفوا على مسافة منه ثم اختفى وراء السياج، وبعد دقائق أرسل إلينا يطلبنا، فقادنا الخادم إلى مكان فسيح داخله منزل من القش حيطانا وسقفا، وكان فيه عدد كبير من العنجريبات عليها حصر من ورق النخل، وأمرنا بالقعود على عنجريب، ثم قدم لنا مزيج من الماء والعسل في قرعة وبعض البلح، فأصبنا منهما وانتظرنا مجيء الخليفة، ودخل علينا بعد مدة وجيزة فوقفنا، فأخذ يدي وضمها إلى صدره وقال: «الحمد لله الذي جمعنا، كيف حالك في هذا السفر الشاق؟» فقلت: «شكرا لله الذي أبقاني حتى أرى هذا اليوم، لقد ذهب عني تعبي عندما رأيت طلعتك.»
وكنت أعرف أن سبيل الحصول على مكانة ما لديه هو تمليقه، ثم أعطى يده لسيد بك ولديمتري فقبلها كل منهما وسألهما عن حالهما، وصرت أتفرس فيه فرأيت أن لون وجهه هو السمرة الخفيفة ووجهه عربي عليه مسحة من الرقة، وكانت لا تزال آثار الجدري بادية فيه، وكان أنفه منقاريا، وفمه حسن عليه شاربان صغيران وعلى خده شعر خفيف يتكاثف حول الذقن، وكان ربعة بين القصير والطويل، وسطا بين السمن والنحافة، وكان لابسا جبة مرقعة مؤلفة من رقع مربعة، كل رقعة تختلف في اللون عن الأخرى، وعلى رأسه طاقية قد تعمم عليها بعمامة من القطن، وكان إذا تكلم تبسم فتبدو أسنانه البيضاء.
ولما حيانا رغب إلينا في الجلوس، فجلسنا على الحصير فوق الأرض وجلس هو على عنجريب، ثم أعاد السؤال عن صحتنا وأبدى ارتياحه لبلوغنا مقام المهدي، وأشار لأحد الخدم فأحضر لنا طبقا من العصيدة وآخر من اللحم، ووضعهما أمامنا ثم نزل إلينا وطلب منا أن نأكل، وكان يأكل بشهوة قوية كأنه يستمرئ طعامه كل الاستمراء. وكان يسألنا بعض الأسئلة ونحن نأكل، وقال: «لم انتظرتم خارج المعسكر ولم تدخلوا بلا إذن؟ وهل يحتاج الناس للإذن لكي يدخلوا بيوت أصدقائهم؟!»
فقلت: «نحن نرجو عفوك، غاب عنا خادمنا مدة طويلة ولم يخطر ببال أحدنا أنك تخرج للقائنا، ولما اقتربنا من المعسكر سمعنا دق الطبل، فسألنا عن معناه فقيل لنا إن أحد المجرمين يقتل، وكنا ننوي أن نسير وراء الطبل ولكن رسولك جاءنا عندئذ.»
فقال: «وهل بلغ من ظلمي أنه عندما تقرع طبولي يظن الناس أن مجرما سيقتل؟»
فقلت: «كلا يا مولاي، أنت مشهور بالصرامة مع العدل.»
فأجاب: «أجل إني صارم، وهذا ما يجب علي، وستعرف السبب في ذلك عندما تطول مدة إقامتك معنا.»
وكان بعض من يعرفونني قبلا قد استأذنوا الخليفة لكي يدخلوا ويسلموا علي، فأذن لهم الخليفة ودخلوا، ولكنهم لم تتح لهم الفرصة للكلام معي سوى عبد الرحمن بن نجا الذي كان في تجريدة هكس، فقد قال لي بلهجة سريعة خافتة: «خذ حذرك والزم الصمت ولا تثق بأحد.» فأثر كلامه في ونقشته في قلبي.
ثم غادرنا الخليفة. وحوالي الساعة الثانية بعد الظهر أرسل إلينا لكي نتوضأ ونذهب إلى المسجد، وبعد دقائق جاءنا هو وأخبرنا بأن نسير وراءه، وكان يسير على قدميه؛ لأن المسجد الذي كان قريبا من عشة المهدي لم يكن يبعد عن منزل الخليفة سوى نحو 300 ياردة، ولما دخلنا وجدناه مزدحما بالمصلين الذين اصطفوا صفا بعد صف، ولما دخل الخليفة تنحوا له باحترام، وفرش على الأرض لنا جلدة شاة وأشار هو علينا بأن نقعد خلفه. وكان مقام المهدي مؤلفا من عدة عشش كبيرة محاطة بسياج من الشوك في الجنوب الغربي للمسجد، وكان في المسجد شجرة تظل عددا كبيرا ولكن سائر المصلين كانوا يصطلون الشمس المحرقة، وكان في المسجد في أقصى طرفه الأمامي إلى اليمين عشة صغيرة، كان يقعد فيها المهدي بعد الصلاة لمحادثة من يرغب في رؤيتهم على حدة، وبعد الصلاة دخل الخليفة إلى هذه العشة، وظننا أنه يريد أن يخبر المهدي بمجيئنا، وعاد إلينا وقعد معنا، وفي الحال خرج المهدي ويمم نحونا، فوقف الخليفة ووقفنا جميعا وراءه، أما الباقون فقد لزموا مكانهم ولم ينهضوا، وتقدمت أنا قليلا فحياني المهدي بقوله: «السلام عليكم». فرددنا عليه بقولنا: «عليكم السلام». ثم مد يده فقبلتها عدة مرات، وفعل كل من سيد بك جمعة وديمتري مثلي، ثم أشار علينا بالجلوس، ثم وجه الخطاب إلي قائلا: «هل أنت مسرور؟»
فقلت: «أجل يا مولاي، لقد سررت ونلت السعادة بقربي منك.»
فقال: «بارك الله فيك أنت وأخويك - يريد ديمتري وسيد جمعة - لقد كانت تبلغني أخبار المعارك بينك وبين أتباعي فكنت أدعو الله لهدايتك، وقد سمع الله ونبيه لدعائي، وكما خدمت مولاك السابق لأجل المال الزائل يجب أن تخدمني الآن؛ لأن من يخدمني يخدم الله والإسلام ، وينال السعادة في هذا العالم والفرح في العالم الثاني.»
فأبدى كل منا ولاءه، وكنت قد أوصيت قبلا بأن أطلب مبايعته فانتهزت هذه الفرصة وطلبت ذلك، فدعانا إلى أن نركع على طرف جلد الشاة، ثم وضع كل منا يديه في يديه وأقسمنا هذه اليمين:
بسم الله الرحمن الرحيم
بايعنا الله وسوله، وبايعناك على توحيد الله ولا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي البهتان ولا نعصيك في المعروف، بايعناك على ترك الدنيا والآخرة (كذا ...) ولا نفر في الجهاد.
ولما انتهينا من البيعة قبلنا يديه وصرنا معدودين من أنصاره المخلصين، ولكنا كنا أيضا عرضة لأن يقع بنا عقاب هؤلاء الأنصار. وشرع المؤذن في الأذان وكان المهدي يؤمنا فيصلي ونحن نكرر ما يقول، ولما انتهت الصلاة رفع الجميع أيديهم يدعون بالنصر للمؤمنين، ثم ابتدأ المهدي في وعظه.
وكان حوله جموع عظيمة من الناس يعظهم عن غرور العالم وزواله، ويحضهم على الزهد وألا يفكروا إلا في الدين والجهاد، وكان يصف لهم ملذات النعيم التي سيلاقيها المؤمنون بمذهبه، الداعون إلى دعوته. وكان بعض المتحمسين يقاطعونه بصيحات التواجد والطرب، والحق أني مقتنع بأن جميع الحاضرين سوانا كانوا مؤمنين إيمانا حقا بدعوته، وكان الخليفة قد خرج من المسجد في مهمة ما، ولكنه نبه الملازمين لي أن يطلبوا منا البقاء مع المهدي إلى الغروب.
وسنحت لي الفرصة عندئذ بأن أنظر إلى المهدي وأتعرف أوصافه، كان طويلا عريض الأكتاف خفيف السمرة متين البنية، وكان رأسه كبيرا وعيناه براقتين، وكانت له لحية سوداء وعلى كل من خديه ثلاثة حزوز، وكان أنفه وفمه حسني الوضع، وكانت عادته الابتسامة على الدوام، وإذا ابتسم بدت أسنانه الناصعة، وكان أفلج بين ثنيتيه فرجة يتفاءل بها السوادنيون ويسمونها فلجة، وكان هذا سببا في حب النساء له؛ إذ كانوا يسمونه «أبو فلجة»، وكان يلبس جبة قصيرة قد أجيد غسلها وقد عطرت بالمسك والصندل والورد، واشتهرت عنه هذه الرائحة حتى صارت تسمى «ريحة المهدي »، وكانوا يقولون إنها تماثل رائحة الفردوس إن لم تفقها.
وقد قضينا الوقت كله ونحن مكاننا قعود فوق سيقاننا المطوية تحتنا حتى وجبت صلاة المغرب.
وفي هذه الأثناء كان يروح ويغدو من المسجد إلى البيت عدة مرات، ولما انتهت الصلاة استأذنت في الخروج؛ لأن الخليفة كان قد وعدني بلقائه في ذلك الوقت، فأذن لي ونصح لي بأن ألزم الخليفة وأرصد نفسي لخدمته، فوعدته بالطاعة وبلزوم أمره بالحرف، ثم قبلنا يده أنا وديمتري وسيد بك وخرجنا.
وكانت ساقاي قد تخدرتا من القعدة الطويلة حتى ما كدت أقوى على المشي عليهما، ولم يبد على سيد بك ألم؛ لأنه معتاد هذه القعدة، أما ديمتري فسار وراءنا وهو يتلفظ ألفاظا خافتة باللغة الإغريقية يلعن فيها المهدي، ورافقنا ملازم إلى منزل الخليفة حيث قعدنا إلى وقت العشاء.
وأخبرنا الخليفة بأنه بعد أن رآنا في الصباح وفد إليه حسين خليفة مدير بربر، فثبت لدينا من ذلك سقوط بربر، وكانت الإشاعات قد بلغتنا ونحن على حدود دارفور، ولكننا لم نلاق أحدا نتحقق منه هذا الخبر، ويبدو أن المدينة سقطت على يد الجعالين، وبذلك انقطعت المواصلات بيننا وبين مصر، وكان هذا الخبر سيئا للغاية، وكنت أنتظر لقاء حسين خليفة لكي أتعرف منه صدق هذا الخبر.
وغادرنا الخليفة لكي ينام فمد كل منا ساقيه على عنجريبه واستسلم للأقدار.
وفي الصباح بعد فطور العصيدة واللبن، سمعنا قرع الطبول تؤذن بخروج الخليفة، وأسرجت الخيول في الحال، وأشرت على الخدم بأن يعدوا لنا أنا والسيد بك جمعة جوادين امتطيناهما وأدركنا بهما الخليفة الذي كان قد سبقنا، وكان راكبا جواده بقصد النزهة فقط. وكان معه عشرون من المشاة وكان على يمينه رجل أسود ضخم من قبائل الدنكا، وعلى يساره عربي طويل جدا يدعى أبا تشيكة كان يعاونه في الركوب والنزول، ولما بلغ الرحبة التي كان بها في الأمس أمر الفرسان بأن يكرروا الرياضة التي قاموا بها أمس، وبعد مدة سرنا إلى نهاية المعسكر؛ حيث أراني الخليفة آثار زريبة وخنادق وأخبرني أنها من عمل هكس قبل أن تباد قوته، وكان قد مكث هناك ينتظر المدد من تاج الله، وكانت هذه الخنادق مصنوعة لمدافع كروب، وقد أثار هذا المنظر في نفسي ذكرى أليمة عن تلك الآلاف التي أبيدت عن آخرها تقريبا، وأن هذه النكبة هي سبب وجودي في مكاني هذا الآن.
وعند رجوعنا عرج بنا الخليفة إلى منزل أخيه يعقوب الذي كانت عشته قريبة من عشة الخليفة؛ إذ لم يكن بين سياج كل منهما سوى ممر ضيق. وتلقاني يعقوب بالبشاشة، وبدا عليه من دلائل السرور مثل ما بدا على أخيه ونصح لي بأن أخدم الخليفة بأمانة.
ويعقوب أقصر من الخليفة عريض الأكتاف مستدير الوجه وبه آثار الجدري، وله أنف يرتفع من طرفه وشاربان ولحية خفيفة، وحظه من الدمامة أكثر من حظه من الجمال، ولكن طريقته في الحديث عجيبة من حيث إظهاره عطفه على محدثه، وكان يخاطبنا وهو يبتسم كما يفعل الخليفة والمهدي، ولا غرابة في ذلك ما دامت أحوالهم في هذا الرواج، ويعقوب يقرأ ويكتب وقد حفظ القرآن عن ظهر قلبه، أما الخليفة فبالمقابلة إلى أخيه يعتبر جاهلا، وهو أصغر سنا من الخليفة، ولكنه مستشاره الأمين وصاحب الرأي الذي لا يعلى عليه، وويل لمن يرتئي رأيا يخالف يعقوب أو يشتبه في أنه يدس له؛ إذ لا رجاء في حياته.
وأصبنا شيئا من البلح الذي قدمه لنا ثم استأذنا في الخروج وعدنا إلى رقوبة؛ حيث قصدنا إلى المسجد وقعدنا إلى الغروب كما فعلنا البارحة، وجاء المهدي فوعظ الناس في الزهد في الدنيا والجهاد حتى ينالوا نعيم الفردوس، وتحمس المصلون وقد أسكرهم التواجد فصاحوا بمدائح المهدي، أما نحن التعساء فكنا نتألم من قعدتنا ونلعن في قلوبنا المهدي والخليفة وجميع من حولهما من السفلة المنافقين.
وفي اليوم التالي طلبنا الخليفة وسألنا هل نرغب في السفر إلى دارفور، وكنت أعرف أن هذا السؤال لم يوجه إلينا إلا على سبيل الامتحان، فأجبنا بصوت واحد إننا نأسف أشد الأسف لفراق المهدي، ورأيت أنه كان ينتظر هذا الجواب فابتسم وامتدحنا لحسن اختيارنا.
واقترح علينا الخليفة أن نترك عشتنا، وأرسل ديمتري مع ملازم إلى أميره وكان يونانيا أيضا وأمر بمنحه عشرين ريالا، فلما غادرنا التفت إلى سيد بك وقال: «وأنت يا سيد جمعة مصري، وكل إنسان يحب بني وطنه، وعندنا كثير من المصريين وكلهم ابن مجرب، ثم أنت شجاع يمكن الاعتماد عليك؛ ولذلك يجب أن ترافق أمير المصريين حسن حسين وسيعطيك منزلا ويقضي لك حوائجك، وسأعمل أنا أيضا كل ما فيه راحتك.»
وسر سيد بك جمعة لهذا الترتيب ثم التفت الخليفة إلي وقال: «أما أنت يا عبد القادر فغريب وليس لك أحد سواي، وأنت تعرف العرب في جنوبي دارفور معرفة جيدة، فبناء على أمر المهدي يجب أن تبقى معي ملازما لي.»
فأجبت مسرعا: «هذه هي أمنية قلبي، وإنه لحظ حسن لي أن أتمكن من خدمتك، ولك يا مولاي أن تثق بطاعتي وأمانتي.»
فقال: «إني أعرف ذلك، حماك الله وقوى إيمانك، ولا شك في أنك ستكون ذا منفعة كبرى للمهدي ولي.»
ثم اختليت بالخليفة فأعاد على مسمعي التعبير عن سروره بخدمتي ومرافقتي له، ثم حذرني من الاختلاط بأقاربه الذين يحسدونه وربما أحدث اختلاطهم بي قطيعة بيني وبينه، وأمر ببناء بضع عشش لي من القش في الزريبة المجاورة له، والتي يملكها أبو أنجة - وكان غائبا في جبال النوبة - وفي أثناء ذلك أبقى بعششي وأحضر الظهر والمساء وأسمع وعظ المهدي، فشكرته شكرا جزيلا ووعدته بالأمانة والولاء.
وفي اليوم التالي حضر حسين باشا خليفة وبدأ الخليفة في سؤاله، وكان أول ما سأل عنه حالة والي بربر السابق، فأجابه حسين باشا بالجواب المعتاد، فأخذ في سؤاله عن الحالة في وادي النيل، فوصف له حسين باشا البلاد التي بين بربر وفشودة، وقال إنها صارت الآن تابعة للمهدي، وإن المواصلات بينها وبين مصر قد انقطعت، أما الخرطوم فإن غوردون يدافع عنها ولكن عرب الجزيرة قد حاصروها، وكان بالطبع يصف الأحوال بالصيغة التي تروق الخليفة، وكان الخليفة مسرورا بهذه الأخبار وسروره يبدو عليه في إشاراته واستفهاماته، ووعد الخليفة حسين باشا بأن يقدمه في صلاة الظهر للمهدي، وأكد له عفوه عنه، وقبل ذلك الميعاد يمكنه أن يستريح معي.
ورافقت الخليفة بعد ذلك إلى المسجد ومعنا حسين باشا الذي قدم إلى المهدي وعاد معي إلى منزلي لقضاء الليلة، وتعشينا عند الخليفة كالعادة ثم قمنا إلى عشتي، فلما خلا كل منا إلى أخيه أعدنا التسليمات والتحيات وصرنا نندب الحالة التي وقعت فيها البلاد، والتي أنزلتنا إلى هذا الدرك، ثم قلت: «يا حسين باشا، إني أعدك بالصمت، فأخبرني عن الحالة في الخرطوم وما يفعل السكان هناك.»
فقال: «وا أسفاه! هي كما وصفت للخليفة، فإن إذاعة المنشور بإخلاء السودان قد قلبت الحالة وكانت سببا غير مباشر في سقوط بربر، ولست أشك في أنها كانت ستسقط على أية حال، ولكن هذا المنشور أسرع في سقوطها، ولما كان غوردون في بربر منعته من اتخاذ هذه الخطة، ولا أدري ما الذي جعله يسلكها ثانيا.»
وتحدثنا كثيرا عن الأحوال والحوادث التي وقعت لحسين باشا، وكان رجلا مسنا وقد تعب فنام. ولكن حديثه أطار النوم من عيني، وجعلت أفكر في غوردون، وقلت في نفسي هل هذا هو غاية مجهودات غوردون لخدمة البلاد؟ وهل تذهب ضحايا الرجال والمال بلا فائدة؟ لقد عولت الحكومة المصرية على ترك البلاد، وهي وإن لم ننتفع منها في الماضي سيكون مستقبلها عظيما، وأقل ما فيها تلك الآلاف من الجنود السود الذين يمكن أن يجندوا في الجيش، وستترك الحكومة هذه البلاد لأهلها وتبقى علاقتها بها ودية، وتسحب حامياتها وذخائرها منها وترضى بقيام حكومة محلية.
وكان هذا هو الغرض من إرسال غوردون؛ أملا في أن تقديره بين الأهالي واحترامهم له - وكان هو يكبرهما أكثر من حقيقتهما - يمكنانه من تأدية هذه المهمة. ومن الحقائق أن غوردون كان محبوبا في المناطق الغربية والمناطق الاستوائية؛ حيث كسب حب الناس بطيبة قلبه وسخائه، وكان وقت إقامته في تلك المناطق يكثر من التجوال والسياحة، وكان جسورا عطوفا وقبائل تلك الجهات تقدر هاتين الصفتين، فلا شك إذن في أن تلك القبائل كانت تحبه، ولكنها صارت الآن تعبد المهدي ولذلك نسيت غوردون.
وليس السودانيون أوروبيين؛ إذ هم عرب وزنوج ولا يقدرون العطف والرقة قدرهما، وقد أذيع المنشور بإخلاء السودان بين العرب وأخصهم الجعالين وكانوا يكرهون غوردون؛ لأنهم لم ينسوا بعد ما فعله مع الجلابة.
ولما جاء غوردون إلى الخرطوم وليس معه قوة يستند إليها، عرف هؤلاء العرب أنه يعتمد على نفوذه الشخصي في تحقيق أغراضه، ولكن الواقفين على الحالة كانوا يعرفون أن النفوذ الشخصي هو نقطة من بحر في حل المشكلة السودانية.
فما الذي أغراه بإذاعة هذا المنشور والإعلان فيه عن إخلاء الحكومة المصرية السودان، وقد نصح له حسين باشا ألا يقرأه في بربر، ولكن عندما وصل إلى متمه قرأه أمام جميع الناس، فهل لم تبلغ غوردون منشورات المهدي التي أرسلها عقب سقوط الأبيض؟ ألم يعرف أنه كان يدعو الناس في هذه المنشورات إلى إعلان الجهاد على الحكومة، وأن من يعصيه في هذا الأمر يعتبر خائنا للدين؛ فتصفى أملاكه وتؤسر نساؤه وأولاده ويصيرون عبيدا للمهدي؟
لقد كان غوردون يرمي إلى الحصول على معاونة هذه القبائل؛ حتى يتمكن من سحب الحاميات وكان يمكنه أن يتفق معها على ذلك، ولكنه الآن أضاع هذه الفرصة؛ إذ كيف يمكن أن تساعده هذه القبائل إذا كان هو قد أعلن إخلاء السودان؛ ومعنى ذلك أن تترك هذه القبائل لرحمة المهدي؟ وماذا كان يفعل المهدي بهم لو أنه علم أنهم عاونوا غوردون على أن يسحب الحاميات؟ ثم هل كان يمكنهم أن يقاوموا المهدي ومعه أربعون ألف جندي كل منهم يحمل بندقية، وذلك غير الآلاف المتحمسين الذين يشتاقون إلى الدمار والغنائم؟
كلا، لقد كانت هذه القبائل أعقل وأحصف مما حسبها غوردون، كانت تعرف أنه إذا انسحب غوردون من البلاد وتيقن المهدي أنهم عاونوه، فإنه يستأصل شأفتهم ويسبي نساءهم وأولادهم، ولم يكونوا هم في حاجة إلى هذه التضحية.
وإذا لم يكن في مقدور الحكومة لأسباب سياسية وغير سياسية أن تحتفظ بالسودان، فإن من العبث أن يرسل غوردون ويضحى به بلا فائدة. ولم تكن ثم حاجة إلى رجل ذي مهارة شاذة لكي يسحب جنود الحاميات والذخائر على البواخر إلى بربر بحجة رفع الحصار عن المدينة، وعندئذ تسحب جميع الحاميات أو معظمها، ولكن كان ينبغي السرعة في هذا العمل، ثم هو لم يكن ممكنا بعد سقوط بربر. ويجب أن نذكر أن بربر لم تسقط إلا في 19 مايو؛ أي بعد ثلاثة أشهر من وصول غوردون إلى الخرطوم. وعلى كل حال نقول إن إذاعة منشور غوردون قد عجل سير الأحوال إلى حد مزعج؛ فإن الأهالي عرفوا نية الحكومة في إخلاء السودان، وصار كل منهم ينظر إلى مصالحه الخاصة التي صارت على خلاف مع مصالح الحكومة التي قلبها مواطنهم المهدي.
ولم يكن في مقدور غوردون، مع صفات الشجاعة والنشاط التي يتصف بها بحق، أن يقف سير الأحوال بعد أن ارتكب هذه الغلطة السياسية الكبرى.
ولقد كنت أتقلب في العنجريب وأنا في هذه الأفكار، بينما كان حسين باشا يغط في نومه، ورأيت أن الإيمان بالقضاء والقدر يفيد في مثل هذه الساعة، ولكني كنت ما زلت أوروبيا لم تبلغ نفسي هذه المرحلة، وإن كنت قد تعلمت بعد ذلك أن أنظر إلى الأشياء نظر التسليم والهدوء وعلمتني تجاربي في السودان أن أمارس تلك الفضيلة الكبرى؛ فضيلة الصبر.
وانتشرت بعد أيام قلائل إشاعة بأن غوردون أغار على أبي حرجة وجرحه، وأن قواته التي كانت قد طوقت الخرطوم قد وقعت وهزمت، فامتلأ قلبي سرورا بهذه الأخبار، وإن كنت قد تظاهرت بعدم المبالاة.
ووصل إلى معسكرنا صالح واد المك، وكان قد سلم نفسه في فيداس ثم أرسله أبو حرجة بعد ذلك إلينا، وعفا عنه الخليفة والمهدي فأثبت هذه الأخبار وأمدني ببعض معلومات عن غوردون.
وفي هذا المساء استدعاني الخليفة للعشاء معه، وما كدنا نشرع في تمزيق كتلة اللحم الكبيرة التي أمامنا، حتى سألني قائلا: «هل سمعت الأخبار اليوم عن الحاج محمد أبي حرجة؟»
فقلت وأنا أشعر بالنفاق: «كلا، لم أترك بابك طول اليوم ولم ألتق بأحد.»
فقال الخليفة: «لقد فاجأ غوردون الحاج محمد من البر والبحر، وكان البحر الأزرق في الفيضان، وقد أحاط البواخر بما يمنع رصاص البنادق من الوصول إلى جنده، هذا الكافر رجل ماكر ولكنه سينال عقاب الله، وقد تقهقر رجال الحاج محمد، وغوردون الآن في طرب النصر، ولكنه مخدوع؛ فإن الله لا ينصر إلا الذين يؤمنون به وسينتقم الله منه قريبا. وليس الحاج محمد ذا كفاية؛ ولذلك سيرسل المهدي واد النجومي لكي يطوق الخرطوم.»
فقلت وأنا أقصد عكس ما أقول: «أرجو ألا يكون الحاج محمد قد خسر خسائر فادحة.»
فقال الخليفة بحق: «لا حرب بلا خسارة، ولكني لم أقف على التفاصيل بعد.»
وكان انتصار غوردون قد عكر مزاجه، فذهبت عنه دماثته وكان يبدو عليه أنه يخشى النتائج لهذا الانتصار. ولما ذهبت إلى عشتي بعثت خادمي لكي يدعو صالح واد المك سرا لزيارتي، فأخبرته بأن الخليفة يؤيد رواية انتصار غوردون، فقال لي إنه سمع أيضا هذا الخبر من أفراد قرابته، وامتلأ قلبي بهجة وطربا لهذا النصر، ووجدت نفسي أتحدث وأنا كلي رجاء بالمستقبل، ولكن صالح كان يعد هذا النصر وقتيا، وكان يبني اعتقاده هذا على أسباب معقولة.
وأخذ يوضح لي الحالة بقوله إنه عندما وصل إلى الخرطوم بدأ تأثير المنشور عن إخلاء السودان يظهر، وزادت لذلك صعوباته، وصارت قبائل الجعالين تجتمع وقد اختارت لها الحاج علي واد سعد رئيسا، وقد اجتمعت لديه قوة كبيرة، ولكنه لأسباب شخصية كان يميل إلى الحكومة فجعل يسوف في القتال.
ورأى القناصل في الخرطوم أن الحالة تتفاقم فطلبوا من غوردون أن يرسلهم إلى بربر، وقد كان مما يشك فيه أن يصلوا سالمين إلى بربر؛ ولذلك نصح لهم غوردون بالبقاء في الخرطوم فبقوا. أما أهالي الخرطوم فقد أخذوا يتوجسون من غوردون؛ لأنهم تحققوا من المنشور أن غوردون إنما جاء لكي يسحب الحامية، وإن كانوا قد عرفوا بعد ذلك أن غوردون إنما جاء لكي يدافع عنهم أو يموت معهم.
وجمع الشيخ عبيد، وهو من أكبر مشايخ الطرق في السودان، أتباعه في حلفا لكي يحاصر بهم الخرطوم، وأرسل غوردون بعض الجيش بقيادة حسن باشا حسين الذي كان حاكما على شقة لكي يجلوا المحاصرين عن أماكنهم، ووقف غوردون على سطح قصره يراقب جنوده منه بتلسكوبه، فرأى بعض ضباطه يفاوضون الثائرين في التسليم، فأحضرهم في الحال وعقد لهم محكمة عسكرية، ثم ضربوا بالرصاص، ولكنه على الرغم من هذه النكبة تمكن من تخليص الشايجية، وكانوا موالين للحكومة؛ فإنه ندب لهم السنجق عبد الحميد واد محمد فأنقذهم وأحضرهم إلى الخرطوم.
وكان صالح واد المك في فيداس قد طوقه الثائرون، فرجا غوردون أن يفك الحصار عنه، ولكن غوردون لم يتمكن من ذلك فاضطر إلى التسليم ومعه ألف وأربعمائة من الجنود غير النظاميين وذخائرهم، وبعد هذا النصر جمع الحاج محمد أبو حرجة جميع سكان الجزيرة لمحاصرة الخرطوم.
وبينما كانت هذه الأحوال تجري حول الخرطوم كان محمد الخير - معلم المهدي السابق وكان قبلا يدعى محمد الذكر - قد أتى إلى النهر، فعين المهدي تلميذه السابق أميرا على بربر ووضع جميع القبائل في تلك المديرية تحت تصرفه، فجمع محمد الخير جميع أنصاره من الجعالين قبيلته وأمدهم بعدد كبير من البرابرة والبشارية وسائر العرب، ثم طوق بهم مدينة بربر، فلم يمض عليها بضعة أيام حتى سقطت.
وكانت مديرية دنقلة لا تزال ثابتة على ولائها للحكومة؛ وذلك يرجع إلى مكر مديرها مصطفى بك ياور؛ فإنه عرض تسليم المدينة إلى المهدي مرتين ولكن المهدي توجس شرا منه لأنه تركي، وأرسل أحد قرابته سيد محمود علي لكي يشترك هو وأمير الشايجية الشيخ حداي في تسليم المدينة، فلما علم مصطفى بك ياور ذلك - وكان عنده في ذلك الوقت ضابط إنجليزي، هو اللورد كتشنر، يشجعه على القتال - جهز جيشا وأوقع بحداي ثم سحق المهديين في كورش، وقتل الأميران محمود وحداي.
أما في سنار فلم تكن الحال على ما يرام؛ فقد حوصرت وكان المدخر بها من القمح كثيرا، ولكن مواصلاتها كانت مقطوعة، وحاول الحاكم نور بك أن يرد المحاصرين فنجح وأرجعهم إلى مسافة بعيدة.
وجاءت الخطابات تترى إلى المهدي رجاء أن يقدم إلى النهر، ولكنه لم يكن في حاجة إلى العجلة؛ إذ كان متأكدا أن السودان كله قد صار في يديه، وأنه لا يمكن أن يؤخذ منه إلا بجيش مصري أو أجنبي كبير. وكان يعرض الجيش كل يوم جمعة ويحضر العرض بنفسه، وكان جيشه مؤلفا من ثلاثة أقسام، يقود كل قسم منه خليفة، ولكن الخليفة عبد الله كان يسمى «رئيس الجيش»، وكان قسمه يسمى الراية الزرقاء، وكان أخوه يعقوب ينوب عنه. وكان الخليفة علي واد هلو يقود الراية الخضراء، أما الراية الحمراء، أو راية الإشراف، فكان يقود قسمها الخليفة محمد شريف، وكان للأمراء الأصاغر رايات خاصة.
وكان أمراء الراية الزرقاء يصفون جنودهم يوم العرض بحيث تواجه الشرق.
وكان جنود الراية الخضراء يصفون أمامهم بحيث يواجهون الغرب، ويصل بين هذين الصفين جنود الأشراف وأمراؤهم بحيث يواجهون الشمال.
وكانت جنود المهدي قد كثر عددها، فكان العرض يحتاج إلى ميدان كبير جدا مفتوح من ناحية واحدة يدخل منها المهدي ومعه صحابته، ويقول آخر إنه سمع أصواتا من السماء تبارك في أنصار المهدي وتعدهم بالنصر، بل بعضهم يقول ويؤكد أنه رأى الملائكة تبسط أجنحتها وتؤلف سحابة تقي الجيش وهج الشمس.
وبعد ثلاثة أيام من وصول خبر هزيمة الحاج أبي حرجة وصل إلينا في رهاد رجل إيطالي يدعى يوسف كوزي آتيا من الخرطوم، وكان قبلا في بربر، فلما سقطت تركه المسيو ماركة وكيل شركة ديبورج لكي يتمم بعض الحسابات في بربر، وأرسله محمد الخير بعد سقوط بربر إلى أبي حرجة، وهذا بعثه إلى غوردون بخطاب، ولكن غوردون رفض أن يتلقاه ورده إلى خطوط العدو على الشاطئ الشرقي للنيل الأزرق، فلما وصل إلى المهدي أرسله ثانيا إلى غوردون بصحبة رجل يوناني يدعى جورجي كالامنتينو ومعه خطاب إلى غوردون يطلب فيه منه التسليم، وأرسلت أنا على يد هذا اليوناني بضع كلمات لكي يحملها إلى غوردون سرا، وأذن لليوناني بأن يدخل إلى الخرطوم، أما كوري فلم يؤذن له؛ لأن الضباط اتهموه بأنه عندما دخل في المرة الأولى دعاهم إلى التسليم.
ولما انتهى شهر رمضان استدعي أبو أنجة ومن معه من القوات في جبل الدائر، وأعلن المهدي عندئذ أن النبي قد أوصى إليه أن يقوم إلى الخرطوم ويحاصرها بنفسه، وأمر جميع الأمراء بجمع رجالهم والتهيؤ للسفر، وكل من يتخلف عن هذا الجهاد تصفى أملاكه.
ولكن الناس الذين لم يكن لحماستهم حد لم يكونوا في حاجة إلى التحذير من التخلف؛ فإنهم كانوا يهرعون إلى القتال، وكل منهم طامع في الغنيمة التي تنتظر انتصار المؤمنين، وكانت نتيجة إعلان المهدي الجهاد أن هاجر الناس جملة، وكانت هجرتهم لا مثيل لها في تاريخ السودان.
وغادرنا رهاد في 22 أغسطس، وكانت قوات المهدي تسير في ثلاث طرق مختلفة، فاتخذت القبائل التي تحمل على الجمال الطريق الشمالي، وكان طريقها على فرس وصلبة وطرة الحضرة. أما الطريق الوسطى التي تمر على طيارة وشرقلة والشط ودريم، فقد اتخذها المهدي والخلفاء والأمراء. أما البقارة وسائر القبائل التي لها مواش، فقد اتخذت الطريق الجنوبية. وكنت أنا بالطبع ملازما للخليفة أرافقه، ولكني كنت عندما تحط رحالنا أرسل في طلب صالح واد المك الذي كان في رفقة المهدي. وكان الخليفة لسبب لا أعرفه يكرهه وأمرني بأن ألزمه أنا وخدمي، وكلف ابن عمه عثمان واد آدم بأن يعنى بأمري، ومع ذلك كنت أدقق من وقت لآخر لرؤية صالح واد المك، وكان واقفا على الدوام على الحالة في مديريات النيل.
ولما كدنا نبلغ شرقلة شاعت إشاعات عن رجل مسيحي مصري وصل إلى الأبيض، وأنه في طريقه إلى المهدي. وكان البعض يقولون إنه إمبراطور فرنسا، وآخرون يكذبونهم ويقولون بل هو قريب ملكة إنجلترا. فلم يكن ثم شك في أن الرجل أوروبي، فشعرت بأشد الشوق لرؤيته.
وأخبرني الخليفة في المساء بأن رجلا فرنسيا وصل إلى الأبيض، وأنه بعث في طلبه وإحضاره إلى المهدي، ثم قال: «هل أنت فرنسي؟ وهل عندكم في بلادكم قبائل مختلفة كما هو الحال في السودان؟»
وكان الخليفة يجهل أوروبا كل الجهل، فجعلت أنير ذهنه عن الموضوع بقدر إمكاني، ثم قال الخليفة: «ولكن ما يريد منا رجل فرنسي يأتي إلينا ويقطع هذه الطريق الطويلة؟ عسى أن يكون الله قد هداه إلى الصراط المستقيم .»
فقلت: «لعله يبقى في صحبتك وصحبة المهدي.»
فنظر إلي الخليفة، وكان لا يصدق قولي، وقال: «سنرى».
ثم بلغنا شرقلة، وما كدنا نحط رحالنا حتى أرسل إلي مولاي وقال: «يا عبد القادر، لقد وصل الفرنسي إلينا وأمرت بإحضاره هنا، فانتظر واسمع ما يقوله؛ إذ ربما نحتاج إليك.»
ثم جاءنا حسين باشا وبدا لي أن الخليفة استدعاه، وبعد مدة جاءنا ملازم وأعلن أن الرجل الغريب واقف أمام الباب، فأذن له بالدخول. ورأيته رجلا طويلا حوالي الثلاثين من عمره، وكانت الشمس قد لوحت وجهه، وكان شارباه ولحيته خفيفة اللون، وقد لبس الجبة والعمامة، وحيا الخليفة بقوله: «السلام عليكم»، فلم يتحرك الخليفة من العنجريب، بل أشار عليه بالقعود وبدأه بقوله: «لم جئت هنا؟ وماذا ترغب منا؟»
فأجاب بلهجة غريبة غير مفهومة بأنه فرنسي جاء من فرنسا.
فقال الخليفة: «تكلم بلغتك مع عبد القادر وهو يوضح لنا ما تقصد.»
فتحول الغريب إلي، ونظر إلي متوجسا وقال بالإنجليزية: «نهارك سعيد يا سيدي.»
فقلت: «هل تتكلم الفرنسية؟ أنا اسمي سلاطين، الزم الجد ولا تتطوح، وبعد ذلك يمكنك أن تخبرني على حدة ما تريده.»
فتذمر الخليفة قائلا: «ماذا تقولان؟ إني أعرف ماذا يطلب.»
فقلت له: «أخبرته يا مولاي عن اسمي وطلبت منه أن يتكلم بصراحة؛ لأنك أنت والمهدي قد وهبكما الله معرفة ما يدور في أفكار الناس.»
وأسعفني حسين باشا وكان قاعدا خلفي فقال: «هذا حق، الله يطيل عمر الخليفة.» ثم التفت إلي وقال: «لقد أحسنت في تنبيه الغريب.»
فسر الخليفة لهذا التمليق وقال: «باحثه عن غرضه.»
فقال الغريب بالفرنسية: «اسمي أوليفيه بان، وأنا رجل فرنسي، ومنذ صباي وأنا متعلق بالسودان، أحب أهله، وجميع أهل بلادي يشعرون شعوري، ونحن في أوروبا بيننا وبين بعض الأمم أحقاد، والأمة الإنجليزية هي إحدى هذه الأمم، وقد أرسخت قدمها في مصر وأحد قوادها غوردون موجود الآن في الخرطوم، فأنا جئت لكي أقدم للمهدي مساعدتي أنا وأمتي.»
فقال الخليفة بعد أن ترجمت له هذه الأقوال: «أية مساعدة؟» فقال أوليفيه بان: «مساعدتي الآن هي النصيحة، ولكن أمتي ترغب في صداقتكم وهي مستعدة لمعاونتكم بالمال والسلاح بعد شروط.»
فقال الخليفة وكأنه لم يسمع ما قاله: «هل أنت مسلم؟»
فأجابه: «أجل، أنا مسلم منذ زمن طويل، وقد أعلنت إسلامي في الأبيض.»
فقال لي الخليفة: «اقعد أنت وحسين باشا هنا مع هذا الفرنسي، وسأذهب أنا إلى المهدي لكي أخبره عنه وأعود.»
فلما غادرنا الخليفة حييت هذا الغريب وعرفته بحسين باشا، ولكن شعرت بشيء من الكراهية له لعلمي أنه قدم لمساعدة أعدائنا، ولكن مع ذلك نبهته إلى أن يحذر في كل ما يقوله وأن يدعي أن الباعث له على المجيء هو الإيمان لا الأغراض السياسية، واغتاظ حسين باشا من هذا الفرنسي حتى قال لي بالعربية: «هل تقديم المال والسلاح لهؤلاء الناس يعد سياسة؟ هؤلاء الناس ليس لهم غرض إلا القتل ونهب الناس واستعباد النساء والبنات. لقد كنتم تنسبوننا إلى القسوة والشر وتعاقبوننا حين كنا نشتري العبيد السود، مع أن العبد الأسود لا يمتاز على الحيوان إلا في أنه يقدر على حرث الأرض.»
فقلت: «معلهش اللي عمره طويل بيشوف كتير.»
وأخذنا كلنا نفكر ونتأمل كل في حاله ننتظر مجيء الخليفة، وبعد مدة عاد إلينا وأمرنا بالوضوء استعدادا للصلاة مع المهدي، فتوضأنا وذهبنا إلى مكان الصلاة ووجدنا عددا عظيما من الناس كلهم يبالغون ويهولون في شأن هذا الغريب الفرنسي.
ولما أخذ كل منا مكانه جلس أوليفيه بان في الصف الثاني. وجاء المهدي عندئذ وكانت جبته نقية معطرة، وعمامته قد رتبت طياتها ترتيبا يفوق المعتاد، وعيناه مكحلتين لهما بريق شديد، وكان يبدو عليه أنه عني عناية كبيرة لكي يؤثر بهيئته في الناس، ولا شك في أنه شعر بالسرور والزهو لرؤيته رجلا يأتيه من بلاد بعيدة يعرض عليه المعاونة.
وقعد على سجادة وطلب أوليفيه بان وحياه بابتسامة ولكنه لم يصافحه، ثم أذن له بالقعود وسأله عن سبب مجيئه، وكنت أنا المترجم بينهما.
وأعاد أوليفيه بان حكايته فطلب مني المهدي أن أترجم أقواله بصوت عال يسمعه جميع الحاضرين، ولما انتهيت قال هو أيضا بصوت عال: «لقد سمعت أقوالك وفهمت مقاصدك، ولكني لا أعتمد على معونة الناس وإنما أعتمد على الله ورسوله، فإن أمتك غير مؤمنة ولا يمكنني أن أعقد محالفة بيني وبين أمة غير مؤمنة، وبمعونة الله سنهزم أعداءنا ونظفر بهم بواسطة الأنصار والملائكة الذين يبعثهم إلينا النبي.»
وعلا الهتاف من آلاف المجتمعين عند سماعهم هذا الكلام، ولما عاد النظام والسكون قال المهدي: «تقول إنك تحب الإسلام وتعترف أنه حق فهل تؤمن به؟ وهل أنت مسلم؟»
فقال الفرنسي: «أجل، إني مسلم، لا إله إلا الله محمد رسول الله.»
فمد المهدي يده فقبلها، ولكنه لم يطالبه بيمين الولاء، ثم جاء ميعاد الصلاة فنظمت الصفوف وقضينا الصلاة، ثم وعظنا المهدي وشرح لنا الزهد في الدنيا وكيفية النجاء، وخرجنا مع الخليفة الذي أشار علي بأن آخذ أوليفيه بان معي إلى عشتي وأنتظر أوامره.
وخلا كل منا إلى الآخر فتحادثنا مليا لا نخاف شيئا، وكنت أكره المهمة التي جاء من أجلها، ولكن أيضا كنت أتحسر عليه لجهله، فأعدت عليه التحية ورحبت به وقلت له: «والآن ياعزيزي أوليفيه بان نحن هنا وحدنا لن يزعجنا أحد فلنتكلم بصراحة، ولو أني لا أوافق على مهمتك، ولكن أؤكد لك بأني سأعمل كل ما في استطاعتي للمحافظة عليك، لقد عشت أنا هنا جملة سنوات بعيدا عن المدنية، فأخبرني عما يحدث الآن في العالم.»
فقال لي: «إني أثق بك كل الثقة، وأعرف اسمك وأحمد المقادير التي جمعتني بك، وهناك عدة أشياء تهمك معرفتها، ولكن أقصر كلامي الآن على مصر.»
فقلت له: «أخبرني إذن عن ثورة عرابي باشا والمقتلة التي حدثت بسببه وتدخل الدول واحتلال الإنجليز مصر.»
فقال: «أنا محرر في جريدة الإنديبندانس التي يرأس تحريرها روشفور الذي أظن أنك سمعت عنه، وأنت تعرف أن فرنسا وإنجلترا نقيضان في السياسة، وأننا نضع في وجه إنجلترا كل ما يمكننا من العراقيل، ولم أحضر أنا ولي صفة النيابة عن أمتي، بل جئت بصفتي الشخصية فقط ، ولكن الأمة تعلم بمجيئي وتوافق عليه، وقد عرف ولاة الأمور الإنجليز مقاصدي وقبضوا علي في وادي حلفا لإرجاعي، ولكن لما بلغت إسنا اتفقت مع العرب على أن يحملوني سرا إلى الأبيض عن طريق الكعب، وقد استقبلني المهدي مرحبا بي كما ترى؛ ولذلك فإني أرجو الخير على يده.»
فقلت: «وهل تظن أنه يقبل اقتراحك.»
فقال: «إذا رفض اقتراحي فإني أظن أنه يعمل لإيجاد علاقات حسنة بينه وبين أمتي، وهذا يكفيني. وأظن أنه بما أني جئت مختارا فهو لا يعارض في سفري ثانيا إلى بلادي.»
فقلت: «هذا مما أشك فيه. قل لي، هل لك عائلة؟»
فقال: «نعم، لي زوجة وولدان في باريس، وهم لا يغيبون عن بالي، وأرجو أن أراهم قريبا. ولكن أخبرني لم يعارض المهدي في سفري؟»
فأجبته قائلا: «إني أعرف هؤلاء الناس، وإلى الآن لا أظن أن هناك ما يدعو إلى الخوف على حياتك، ولكني لا أقدر أن أقول متى وكيف يمكنك أن تسافر إلى بلادك، وأرجو أن المهدي يرفض اقتراحاتك التي أظن أنها ربما تفيده، ولكني أرجو أيضا أن تعود سالما لعائلتك التي تنتظرك بنافد الصبر.»
وكنت قد أمرت الخدم بإحضار شيء نأكله، وطلبت إحضار جوستاف كلوتز - خادم ودنفان الذي كان قد فر من جيش هكس وانضم إلى المهدي - لكي يأكل معنا، وما كدنا نشرع في تناول الطعام حتى دخل اثنان من ملازمي الخليفة وطلب من أوليفيه بان أن يتبعهما، فدهش لهذه الدعوة الفجائية وبدا عليه الخوف وهمس إلي بأن أسأل عنه، ودهشت أنا أيضا لأن لغته العربية لم تكن مفهومة، فلماذا يطلبه الخليفة وحده؟ وكنت أقول ذلك لمصطفى «كلوتز» وإذا بملازم يطلبني أنا أيضا، ولما دخلت على الخليفة وجدته قاعدا وحده وأشار علي بالقعود فقعدت إلى جانبه.
ثم قال لي بلهجة الذي يسر إلي شيئا: «يا عبد القادر أنت واحد منا، قل لي ماذا تظن في هذا الفرنسي؟»
فقلت: «أظن أنه مخلص وأن قصده حسن، ولكنه لا يعرفك ولا يعرف المهدي، ويجهل أيضا أنكما تعتمدان على معونة الله وحده ولا تحتاجان إلى معونة إنسانية، وأن هذا هو سبب انتصاراتكم المتتابعة؛ لأن الله يكون على الدوام مع المؤمنين به.»
فقال الخليفة: «لقد سمعت كلام المهدي عندما قال إنه لا يرغب في أية علاقة بينه وبين غير المؤمنين، وإنه يمكنه أن يهزم أعداءه بدون أن يستعين بهم.»
فقلت: «هذا أكيد، ولا فائدة من وجود هذا الرجل هنا، ويمكنه أن يعود إلى وطنه ويخبر الناس هناك بالانتصارات التي يحرزها المهدي وخليفته.»
فقال الخليفة: «لعله يفعل ذلك بعد، أما الآن فقد أمرته أن يبقى مع زكي طومال الذي سيعنى به ويقدم له حاجاته.»
فقلت له بلهجة التوسل: «ولكنه يجد مشقة عظيمة في التعبير عن فكره بالعربية؛ إذ هو لا يزال يجهلها.»
فقال الخليفة: «لقد تمكن من الوصول إلينا بدون مترجم، ولكني مع ذلك أسمح لك بزيارته.»
ثم أخذ يتكلم عن أشياء أخرى وأخذني لرؤية الخيول التي أهداها إليه زوجال من دارفور، وكنت أعرف بعضها جيدا. وبعد أن تركته ذهبت إلى أوليفيه بان فوجدته قد أسند رأسه على يديه وهو في تفكير عميق، ولما رآني هب واقفا وقال: «لا أعرف ماذا أقول عن كل هذا، لقد أمروني أن أمكث هنا وأحضروا لي أمتعتي ووكلوا بي رجلا يدعى زكي، فلم لم يتركوني أمكث معك؟»
فقلت بلهجة العطف: «هذه هي طبيعة المهدي، والخليفة شر منه في ترتيب الأشياء على ضد ما يرغب الإنسان، وأنت الآن تمتحن في الصبر والطاعة والإيمان، ولكن لا تخش شيئا فإن الخليفة يتوجس منا شرا نحن الاثنين، ويجب أن نبقى منفصلين حتى لا ننتقد أعماله.»
ثم قلت لزكي طومال: «يا صديقي هذا رجل غريب فأنا أوصيك به خيرا، فكن معه بحق صداقتنا القديمة.»
فقال: «لن يحتاج إلى شيء أستطيع تقديمه إليه.»
ثم قال بتؤدة: «ولكن الخليفة أمرني أن أمنع الناس من مخاطبته، فأرجوك ألا تقابله كثيرا.»
فقلت: «هذه الأوامر لا تنطبق علي، فأنا كنت منذ برهة عند مولاي الخليفة فأمرني أن أزور هذا الغريب، فأكرر عليك أن تعامله معاملة حسنة.»
ثم عدت إلى أوليفيه بان وحاولت أن أدخل السرور في قلبه، وأخبرته بأن الخليفة قد منع الناس من مخالطته، وأن هذا الأمر في مصلحته؛ لأن اختلاطهم به قد يؤدي إلى أن يدسوا له عنده ويوقعوا به، أما أنا فإني أزوره كلما سنحت الفرصة.
وفي اليوم التالي قرع طبل الخليفة إيذانا باستئناف السير، وكانت عادتنا أن نسير من الصباح إلى الظهر ولذلك كان سيرنا بطيئا. وكنا عندما نقف أذهب إلى الفرنسي فأجده قاعدا في خيمته كالعادة، وكانت صحته جيدة ولكنه كان يشكو من سوء الطعام. وقال زكي بعد أن سمع هذه الشكوى إنه أحضر إليه العصيدة فلم يذقها، فأوضحت له أنه غريب لم يألف بعد الطبخ السوداني، واقترحت عليه أن أجعل خادمي يهيئ له طبقا من الحساء وآخر من الرز، وسألني الخليفة في تلك الليلة: هل رأيت أوليفيه بان؟ فأخبرته بأني قابلته وأني وجدته صائما لا يستطيع أن يأكل العصيدة، فجعلت خادمي يهيئ له طعاما لئلا يمرض؛ ولذلك أرجوه أن يسمح لي بذلك، فوافق الخليفة ولكنه قال: «ولكنك أنت تأكل من طعامنا فيحسن به أن يعتاد هذا الطعام في أقرب وقت، ثم أين مصطفى «كلوتز» فإني لم أره منذ بارحنا رهاد؟»
فقلت: «إنه عندي يساعد الخدم على العناية بالخيول والجمال.»
فقال الخليفة: «اطلبه الآن» ففعلت، وجاء بعد برهة صغيرة ووقف أمامنا، فقال له الخليفة: «أين كنت؟ إني لم أرك منذ أسابيع، هل نسيت أني مولاك؟»
فقال كلوتز في لهجة التأفف: «لقد ذهبت إلى عبد القادر بإذنك، وأنت لا تعنى بي وقد تركتني وحدي.»
فقال الخليفة وهو غاضب: «سأعنى بك في المستقبل.» ثم هتف بأحد الملازمين وطلب منه أن يخبر كاتبه ابن نجا بأن يضع مصطفى في الأغلال، وخرج مصطفى وهو لا ينبس بكلمة.
ثم قال الخليفة: «إن عند مصطفى وعندك ما يكفيكما من الخدم، فيمكنك أن تستغني عنه، وقد كنت اختصصت به ولكنه تركني بدون سبب، فأمرته بأن يلزم أخي يعقوب ولكنه تركه أيضا، والآن عندما ذهب إليك قام في ذهنه أنه يمكنه أن يستغني عنا جميعا.»
فقلت: «اعف عنه فإن الرحيم يعفو ، ائذن له بالبقاء مع أخيك فلعل هذا يصلحه.»
فقال: «يجب أن يبقى مصفدا عدة أيام حتى يعرف أني مولاه وهو ليس مثلك، فأنت تأتي إلي كل يوم.»
وشعرت كأنه يقول هذا لكي يطمئنني لأنه رآني قد تألمت، ثم أمر بالعشاء فأحضر وأكلت أنا بشهوة أكثر من المعتاد حتى أوهمه بأني راض. وكان قليل الكلام وقت الطعام يبدو عليه كأنه مغموم، وبعد العشاء حاول أن يقول شيئا يزيل به أثر الكآبة ولكن لهجته كذبته. ثم انفصلنا وعدت إلى خيمتي وأنا أتأمل في الحالة، فقد كنت عازما على أن أبقى على وفاق مع الخليفة حتى تتاح لي ساعة الخلاص، ولكن صلفه وغطرسته وسوء أدبه قد جعلت هذا الواجب ثقيلا علي.
وبعد أن سرنا خمسة أيام بلغنا الشط، حيث وجدنا الآبار مسدودة فشرعنا في فتحها وأقمنا بعض العشش هناك؛ لأن المهدي قرر الإقامة هنا بضعة أيام، وكنت وقت مسيرنا أزور أوليفيه بان فأجد آماله التي جاء بها تذهب بالتدريج، وكانت معرفته العربية قليلة جدا، ولم يكن يؤذن له بالكلام إلا مع العبيد الذين كانوا في خدمته، ولم تمض عليه أيام حتى نسي مهمته الأصلية وصار لا يذكر شيئا سوى زوجته وأولاده. وكنت أحثه على التفاؤل بالمستقبل، وأن ينزع عن نفسه هذه الكآبة التي لا تنفعه في شيء. وكان الخليفة قد نسيه تقريبا فلم يكن يذكره أبدا.
وبعد وصولنا بيوم إلى الشط وافانا محمد الشريف شيخ المهدي السابق، الذي كان قد طرده من طريقته وكان أصدقاؤه قد حثوه على أن يذهب إليه ويستغفره، ولكن المهدي أحسن استقباله وسار معه بنفسه إلى خيمته وأهدى إليه فتاتين حبشيتين جميلتين وخيولا وغير ذلك، وبهذه المعاملة السمحة جذب المهدي إليه أنصار الشيخ محمد الشريف وضمن ولاءهم.
ولما غادرنا شرقلة جاءتنا الأخبار بأن جيوش غوردون هزمت هزيمة منكرة، ولما بلغنا الشط جاءتنا تفاصيل هذه الهزيمة التي انتصر فيها الشيخ عبيد على محمد علي باشا في أم درمان، وكانت نتيجة هذا النصر أن الثائرين زادوا ضغطهم في حصار الخرطوم، ولما أمدهم واد النجومي بجيشه وجد غوردون أنه لم يعد في قوته أي فتق في القوة التي تحاصره.
وخرجنا من الشط إلى الدويم؛ حيث عرض المهدي الجيش عرضا عظيما وأشار إلى النيل وقال: «إن الله قد خلق هذا النهر ووهبكم مياهه لتشربوها، وقسم لكم أن تملكوا جميع ما على ضفتيه من أرض.» فهتف له الجميع هتاف الفرح والسرور وكل منهم يعتقد أن تلك البلاد العجيبة قد وقعت فريسة للمهديين.
وغادرنا الدويم إلى طرة الحضرة، حيث قضينا أيام العيد، وكان أوليفيه بان الفرنسي قد أصيب بحمى، ولما زرته قال لي: «لقد جازفت جملة مجازفات في حياتي دون أن أفكر في نتائجها، ولكن مجيئي هنا غلطة فادحة، وقد كان أصلح لي لو أني وقعت في يد الإنجليز ومنعوني من تنفيذ إرادتي.» وكنت أجهد جهدي لكي أعزيه وأسري عنه، ولكنه كان يقابل كلامي بهز رأسه.
وفي العيد صلى المهدي بصوت عال غير عادي، ولما وصل إلى الخطبة بكى وانتحب انتحابا مرا، وكنا نحن الذين لا يؤمنون بدعوته نعرف أن هذا البكاء نفاق لن يعقبه خير لأحد، ولكن كانت له النتائج المرغوبة؛ فإن قبائل النيل الأبيض سارعت إلى الانضواء تحت رايته، وتحمس الناس أشد تحمس لسماعهم خطبته.
وبعد أن استرحنا يومين استأنفنا السفر، وكنا نزحف زحفا كالسلحفاة لكثرة جموعنا وازدياد عددهم يوما بعد يوم، وكانت حالة أوليفيه بان تسوء كل يوم، وتبين أن ما به هو التيفوس، ورجاني أن أطلب من المهدي بضعة نقود؛ لأن الذين يعنون به يضايقونه بما يطلبونه منه، ففعلت، وأمر المهدي أمين بيت المال بأن يعطيه خمسة جنيهات ودعا له بالشفاء، وأخبرت الخليفة بحال بان وبأن المهدي وهبه خمسة جنيهات، فلامني لأني فعلت ذلك بدون إذنه، وقال لي: «إذا مات هنا فإنه يكون سعيدا؛ فإن الله بقدرته قد نقله من الكفر إلى الإيمان.»
وفي صباح اليوم التالي أرسل إلي بان فذهبت ووجدته ضعيفا لا يقوى على النهوض، وكان قد مضى عليه يومان لم يذق فيهما شيئا من الطعام الذي كنت أرسله له، ولما قعدت إلى جانبه وضع يده في يدي وقال: «لقد جاءت ساعتي، وأنا أشكر لك حنوك علي ورعايتك لي، وآخر ما أطلبه منك من المعروف إذا نجوت من هؤلاء المتوحشين وأتيحت لك الفرصة بزيارة باريس أن تذهب إلى زوجتي المسكينة وأولادي، وتخبرهم أني وأنا أموت كنت لا أفكر إلا فيهم.»
وكان وهو يقول هذا الكلام تنحدر العبرات على خديه الغائرين، وعدت إلى تعزيته وتقويته، ولكني سمعت قرع الطبول فاضطررت إلى تركه، وكانت هذه آخر مرة رأيته فيها، وأمرت أحد خدمي المدعو نطرون أن يبقى معه، ثم ذهبت إلى الخليفة فأخبرته بحالته السيئة ورجوته أن يأمر بإبقائه في إحدى القرى حتى يشفى، فوافق الخليفة على مقترحي وطلب مني أن أذكره بهذه المسألة عند الغروب.
ثم جاء الغروب ولكن المريض لم يجئ، بل جاء نطرون، فقلت له وكان يتفزز من خاطر يساوره: «أين يوسف؟» ويوسف هذا هو اسم أوليفيه بان الذي تسمى به حين صار مسلما.
فقال: «مات سيدي، وهذا سبب تأخيرنا، وقد دفناه.»
فدهشت وقلت: «كيف مات؟ أخبرني عما حدث.»
فقال: «اشتدت به علته حتى لم يستطع الركوب، ولكنا كنا مضطرين إلى السير، وكان من وقت لآخر يغيب عن وعيه ثم يفيق ويتكلم بكلمات لا نفهمها، فوضعنا على سرج الفرس عنجريبا وربطناه به وجعلناه يرقد عليه، ولكنه كان من الضعف بحيث لم يتماسك فوقه فوقع فجأة ولم يفق بعد ذلك، ثم مات فكفناه في شال من القطن ودفناه وأخذ زكي جميع أمتعته.»
فتبين لي أن مرضه كان قد بلغ به وأن السقطة قد عجلت الموت وكانت السبب المباشر له. يا له من مسكين! جاء إلينا وآماله لا تسعه ثم تكون هذه خاتمته.
وذهبت في الحال إلى الخليفة فأخبرته بوفاته فقال: «إنه لسعيد». ثم أرسل إلى زكي أحد الملازمين لكي يأمره بالاحتفاظ بأمتعته، ثم أرسلني أنا إلى المهدي لكي أخبره بوفاته. وتأثر الخليفة وقال بضع كلمات تدل على عطفه وحنانه ثم تلا صلاة الموتى.
وبعد ثلاثة أيام اقتربنا من الخرطوم وصرنا على مسيرة يوم منها، وكنا ونحن في الطريق قد رأينا بواخر غوردون في النهر، وبدا لنا أنها أتت إلينا للاستطلاع ثم عادت بدوران تطلق عيارا.
ولما جاء المساء وضربنا خيامنا جاءني ملازم من المهدي وطلب مني أن أذهب إليه، فذهبت ووجدته قاعدا مع عبد القادر وادام مريم، وكان قاضيا سابقا وله نفوذ عظيم بين قبائل النيل الأبيض، وكان حسين خليفة هناك، فصرت أنا رابعهم.
فقال المهدي: «بعثت في طلبك لكي تكتب إلى غوردون أن يسلم المدينة فلا يتعرض للهزيمة، وأخبره بأني المهدي الصادق فعليه تسليم الحامية فيسلم، وأخبره أيضا أنه إذا رفض التسليم فإننا سنقاتله جميعا، وقل له إنك ستقاتله أنت بنفسك، وإن النصر مضمون لنا، وإنك إنما تقول له ذلك حقنا للدماء.»
فالتزمت الصمت حتى دعاني حسين خليفة للإجابة فقلت: «مولاي المهدي، أرجوك أن تنصت إلي، فإني أريد أن أكون أمينا مخلصا، فلا تغضب إذا وجدت في قولي ما يخالف رأيك، فإني إذا كتبت إلى غوردون أقول له إنك المهدي المنتظر فإنه لا يصدقني، وإذا هددته بأني أقاتله بيدي فهو لا يخاف من ذلك شيئا، ولما كانت رغبتك الوحيدة هي حقن الدماء فإني أطلب منه التسليم فقط، وسأقول له إنه ليس عنده من القوة ما يمكنه من قتال المهدي، وإنه لا أمل له في الحصول على معونة أحد، ثم أقول إني سفير الصلح بينك وبينه.»
فقال المهدي: «أنا موافق على ما تقول، اذهب الآن واكتب الخطابات وفي الغد تحمل إلى غوردون.»
فذهبت إلى خيمتي وكانت خيمتي قد تمزقت وبليت فأهديتها إلى بعض من حولي، ونصبت بدلا منها بعض الملابس على عصي كنت أجلس تحتها وأتظلل بها في النهار، أما في الليل فكنت أنام في الخلاء، وبحثت عن مصباح وأخذت في كتابة الخطابات وأنا قاعد على عنجريب، وكتبت أولا بضعة سطور لغوردون باللغة الفرنسية، قلت فيها إني قد فقدت المعجم الفرنسي لأن المهديين قد أحرقوه؛ ولذلك فأنا أكتب بالألمانية حتى يمكنني التعبير بإسهاب عن أغراضي، وقلت إني أؤمل أن ألاقيه قريبا، وإني أدعو الله لنصره، وقلت أيضا إن بعض الشايجية الذين انضووا قريبا إلى راية المهدي لم يفعلوا ذلك إلا خوفا على أنفسهم وأولادهم، وإن صدورهم لا تحمل الحقد أو البغضاء لغوردون.
ثم كتبت خطابا مسهبا بالألمانية قلت فيه إني سمعت من جورج كالامنتينو أنه - أي غوردون - قد غضب من تسليمي للمهدي، وإني لذلك أوضح الحقائق راجيا منه أن ينظر فيها ويعتبرها. ثم شرعت في شرح التجريدات التي جردتها لمقاتلة السلطان هارون. ثم قلت إنه عند بدء الثورة المهدية كان الضباط الذين في جيشي يسمعون أخبارا عن عرابي، وأنه طرد الأوروبيين من مصر، وأن هزائمي تعزى إلى أني غير مسلم، فاضطررت لذلك إلى القضاء على هذه الدسائس بالادعاء بأني مسلم، ونجحت بهذه الطريقة إلى أن اصطلم جيش هيكس وانقطع كل أمل في المعونة. وأخبرته عن تناقص جيشي بالحروب المتوالية حتى صار عدده لا يبلغ بضعة مئات من الجنود، وأن الذخيرة نفذت أو كادت، وأن الضباط والجنود طالبوني بالتسليم، فلم يكن بد بعد ذلك بصفتي أوروبيا وحيدا من الخضوع. وأخبرته بأن هذا التسليم كان من أشق الأعمال علي، ولكني شعرت باعتباري ضابطا نمسويا أني عملت عملا لا أخجل منه. ثم قلت إني بما سلكته من المسلك الحسن مع الخليفة والمهدي قد حصلت على ثقتهما، حتى أذنا لي بالكتابة إليه بحجة أني أطلب منه التسليم، ولكني أعرض عليه نفسي لكي أقاتل معه حتى الموت أو النصر، فإذا وافق على قراري لكي أنضم إليه فأنا أرجو أن يكتب إلي بضعة أسطر بالفرنسية بهذا المعنى، ولكن لكي تجوز الحيلة يجب أن يكتب إلي بضعة سطور بالعربية أيضا، يطلب مني فيها أن أستأذن المهدي لكي أذهب إلى أم درمان للمفاوضة في الصلح والتسليم. ثم أشرت إلى ولاء صالح بك وبعض المشايخ الآخرين له، ولكنهم لا يمكنهم أن يفروا إليه؛ لأنهم في هذه الحالة يضحون أولادهم وزوجاتهم.
ثم كتبت خطابا آخر بالألمانية إلى القنصل هانسل أرجوه أن يعمل كل ما في جهده لكي أعود إلى الخرطوم ، وأني إذا رجعت إلى الخرطوم أكون ذا فائدة كبيرة؛ لأني أعرف مقاصد المهدي ومبلغ قوته وما إلى ذلك. ولكني أخبرته بأنه في حالة انعقاد النية على تسليم الخرطوم لا داعي لي للهرب؛ فقد ذاعت إشاعة بين رجال المهدي مقتضاها أنه إذا لم تأت معونة لغوردون فإنه سيسلم. وبدهي أنه إذا سلم غوردون ووجدني المهدي قد فررت إليه فإنه يصرف غضبه كله إلي؛ لأني عاونت عدوه عليه.
وقد بدا لي أنه من الإنصاف والعقل أن أتأكد من هذه المسألة، وكانت الإشاعات القائلة بأن حامية الخرطوم قد سئمت القتال تروج بيننا، وأنها تنوي التسليم، فشددت لذلك من عزم هانسل وقويته على الثبات، وأن قوات المهدي ليست بالكثرة التي يشاع عنها، وأنه يكفي الجيوش المصرية أن تثبت وتنشط حتى يحق لها النصر، وحضضته على الثبات ستة أسابيع على الأقل حتى تتمكن النجدات من إنجادهم، ولما عدت إلى القاهرة في سنة 1895 علمت أن خطاباتي هذه قد بلغت إلى ولاة الأمور الإنجليز وطبعت مع يوميات غوردون.
وأخبرته أن عندنا إشاعة تقول إن الباخرة الصغيرة التي أرسلت إلى دنقلة قد تحطمت في وادي غمر، ولكني لا أعرف مبلغ هذه الإشاعة من الصحة أو الكذب.
وفي صباح اليوم التالي في 15 أكتوبر أخذت هذه الخطابات وذهبت إلى المهدي وأخبرته بأن يرسلها مع أحد خدمي إلى أم درمان، ثم ذهبت وبحثت عن الصبي مرجان فورا - وكان عمره يومئذ 15 سنة - فسلمته الخطاب أمام المهدي، وأمر المهدي واد سليمان بأن يعطيه حمارا ومقدارا من النقود، وقبل أن يغادرنا مرجان أمرته وأكدت عليه بألا يخاطب أحدا سوى غوردون والقنصل هانسل، وأن يقول لهما بأني أرغب في الذهاب إليهما.
وفي الظهر جاءنا فرسان من بربر وأكدوا لنا رواية تحطيم الباخرة وقتل الضابط ستيورات ومن معه، وأحضروا معهم جميع الأوراق والوثائق التي كانت في الباخرة، وأمرني الخليفة بأن أقرأ ما هو مكتوب منها باللغات الأوروبية، ووجدت بين هذه الأوراق جملة خطابات مرسلة من الخرطوم ووثائق رسمية أخرى.
وكان أهم ما في هذه الأوراق التقرير الحربي الذي يصف الحوادث اليومية في الخرطوم، ولم يكن ممهورا بتوقيع، ولكنني لم أشك في أن كاتبه هو غوردون، ولم أطلع إلا على جزء من المكاتبات التي لم أنته من قراءتها قبل أن دعاني المهدي وسألني عن محتويات هذه الأوراق، فأجبته بأن معظمها رسائل شخصية، وأن بها تقريرا حربيا لم أفهمه. وكان بين هذه المكاتبات لسوء الحظ بعض الخطابات والتقارير المكتوبة بالعربية، تمكن المهدي والخليفة أن يقفا منها على الحالة في الخرطوم، وكان بينها خطاب نصفه بالأرقام ونصفه بالحروف مرسل من غوردون إلى الخديو، وقد تمكن عبد الحليم أفندي الكاتب السابق في كردوفان أن يفهمه، ووجدت بين تقارير القنصليات خبر وفاة صديقي أرنست مارنو الذي مات في الخرطوم من الحمى.
وناقشني المهدي في الأوراق التي نرسلها إلى غوردون لكي نقنعه بأن الباخرة قد تحطمت وأن الضابط ستيورات قد قتل، وكان يعتقد أن هذا يجعل غوردون مضطرا إلى التسليم، فأشرت على المهدي بأن أحسن ما يقنعه هو تقريره الحربي، وأنه يجب لذلك رده إليه. وطال الجدال في هذا الموضوع وأخيرا استقر الرأي على مقترحي.
وفي مساء اليوم الثاني عاد إلي مرجان الذي كنت أرسلته بخطاب إلى غوردون وغيره، ولكنه لم يحضر معه جوابا، فلما سألته عن سبب ذلك قال إنه عندما وصل إلى قلعة أم درمان وسلم الخطابات، خرج إليه بعد مدة ضابط القلعة وأخبره بأن يعود وأنه لن يجاوب على الخطابات.
وأخذت هذا الصبي في الحال إلى المهدي فأعاد هذا الجواب، ثم ذهبت إلى الخليفة وأخبرته بما جرى. وفي المساء نفسه دعاني المهدي وأمرني بأن أكتب خطابا آخر، وقال إنه متأكد أن غوردون سيجاوب عندما يسمع بتحطيم الباخرة. وأبديت استعدادا في الحال لطاعة أمره، وأشار علي بأن يحمل مرجان هذا الخطاب أيضا، فذهبت إلى مكاني على العنجريب وقعدت إلى ضوء مصباح ضعيف وكتبت بضع كلمات عن فقدان الباخرة ووفاة ستيوارت، وذكرت جملة أشياء كنت قد شرحتها في خطاباتي السابقة . وقلت له إنه إذا كان يعتقد أني أتيت أمرا يخالف واجبات الضابط، وأن هذا هو الذي منعه من الإجابة على خطاباتي؛ فأنا أرجوه أن يتيح لي الفرصة لكي أدافع عن نفسي حتى يحكم علي حكما سديدا.
وفي الصباح ذهبت مع مرجان إلى المهدي، وأمر المهدي أحمد واد سليمان أن يعطي مرجان حمارا وسلمه خطابي، ثم سافر مرجان وجاءنا بعد يوم ومعه جواب من هانسل مكتوب بالألمانية ومعه ترجمة بالعربية وهذا نصه:
عزيزي سلاطين بك
لقد وصلت خطاباتك، وأنا أعرض عليك أن تمضي إلى طابية راغب بك - في قلعة أم درمان - وأنا أرغب في أن أخاطبك بشأن الإجراءات الخاصة بتخليصنا، ويمكنك أن ترجع بعد ذلك إلى صديقك.
المخلص لك
هانسل
ولم أفهم المقصود من هذا الخطاب؛ هل غايته الحقيقية خدع المهدي؟ إذ لو كانت هذه هي الغاية لكانت الصيغة العربية كافية، ثم خطر ببالي أنه كان يمكنه أن يوضح غرضه باللغة الألمانية، ولكن لعله توقى ذلك خشية وجود أحد في معسكرنا يفهم هذه اللغة فيغرر بي، واعتبرت ألفاظ الخطاب فوجدته يقصد أو يلمح إلى انضمامه إلينا، وقد كانت راجت بيننا إشاعات عن خوفه من سقوط المدينة ورغبته هو وسائر الضباط النمسويين في التسليم للمهدي، ولكن لم يكن من الممكن أن يبت الإنسان في هذه النية، ثم قوله «ويمكنك بعد ذلك أن ترجع إلى صديقك»، هل يقصد به رجوعي إلى المهدي أو رجوعي إلى غوردون؟ والحق أني قد غطي علي المعنى ولكنه كشف لي بعد مدة قليلة.
وأخذت الخطاب في الحال إلى المهدي وأخبرته بأن النص العربي يوافق النص الألماني، ولما أتم قراءته سألني هل أرغب في الذهاب إليه، فأجبت بأني مستعد لتلبية أمره وأني على الدوام طوع إشارته.
فقال لي: «إني أخشي أنك إذا ذهبت إلى أم درمان ولقيت القنصل يقبض عليك غوردون ويقتلك؛ لأني لا أعرف السبب في عدم كتابته إليك لو كان يحسن بك الظن.»
فقلت: «لست أعرف سبب سكوته عن الرد، وربما كان عنده من الأوامر ما يمنعه من مخاطبة العدو، ولكني أظن أنه يمكن تسوية الحالة عندما ألتقي ب «هانسل»، وأنت تقول إن غوردون ربما يقبض علي، ولكني لا أخشى ذلك، ولو حدث هذا لأمكنك أن تخلصني. أما أنه يقتلني، فهذا ما لن يحدث.»
فقال المهدي: «إذن يمكنك أن تستعد للسفر وتنتظر أوامري.»
وكنت عند ذهابي إلى عشة المهدي قد سمعت بمجيء لبتون بك من بحر الغزال، وعند رجوعي الآن ذهبت إليه ووجدته واقفا بباب الخليفة ينتظر الإذن بدخوله، ولم يكن من القواعد المرعية أن يخاطب الإنسان أحدا لم يحصل بعد على عفو المهدي، فقال لي إنه يؤمل الأمل كله أن أذهب إلى الخرطوم، وقال أيضا إنه ترك خدمه وأتباعه على مسيرة ساعات من المعسكر، وطلب مني أن أستأذن الخليفة في مجيئهم، وبعد دقائق دعاه الخليفة فعفا عنه وأذن له بإحضار أتباعه، وأخبره أنه سيقابل المهدي.
وذهبت أنا إلى مكاني وقعدت على العنجريب وأنا في أشد القلق أنتظر الأوامر لكي أذهب إلى أم درمان، وكان يخطر ببالي وأنا قاعد أن المهدي ربما قد غير فكره ورجع عن عزمه بشأن سفري.
وأخيرا جاءني خادم يخبرني أن الخليفة أرسل ملازميه في طلبي، فلما نهضت أخبرني الملازم أن أسير معه إلى عشة يعقوب حيث كان أخوه الخليفة، فسارعت إلى عمامتي فتعممت واحتزمت وسرت وراءه. ولكن لما بلغنا يعقوب قيل لنا إن الخليفة قد غادرها إلى عشة أبو أنجة، وداخلني شك من هذا التطواف في الليل؛ إذ لم تكن هذه عادتنا، وكنت أعرف مقدار ما عند هؤلاء الناس من المكر والخديعة فاستعددت لأي حادث، ولما بلغنا زريبة أبو أنجة أذن لنا بالدخول، وكانت هذه الزريبة واسعة، وكان بها مظلات من قماش كل منها قائمة على عمود من خشب، وكل واحدة منفصلة عن الأخرى بحائط من الذرة، وذهبنا في ضوء مصباح إلى إحدى هذه المظلات، فوجدت يعقوب وأبو أنجة وفضل المولى وزكي طومال والحاج زبير قاعدين في حلقة يتكلمون بجد ونشاط، وكان وراءهم بضعة رجال قد وقفوا وهم مسلحون، ولكني لم أجد أثرا للخليفة الذي قيل لي إنه يستدعيني، وتأكدت عندئذ أن هناك مؤامرة علي. وتقدم الملازم وخاطب يعقوب ثم أمرت بالتقدم وقعدت بين الحاج زبير وفضل المولى مواجها لأبي أنجة.
فخاطبني أبو أنجة قائلا: «لقد وعدت المهدي يا عبد القادر أن تخلص له، وواجب عليك أن تفي بوعدك، ثم عليك أن تطيع الأوامر وإن كان فيها ما يؤلمك، أليس كذلك؟»
فقلت: «هذا حق، وأنت يا أبا أنجة إذا سلمت لي أمرا من المهدي أو من الخليفة تجدني مطيعا.»
فقال: «إني أمرت بالقبض عليك ولكن لا أعرف السبب.» وعندما قال هذا استل الحاج زبير سيفي - وكنت قد وضعته على ركبتي كما هي العادة - ثم سلمه لزكي طومال وقبض بكلتا يديه على ذراعي اليمنى، فقلت للحاج زبير: «لم آت هنا لكي أقاتل، فعلام تقبض على ذراعي؟ ولكن افعل ما أمرت به يا أبا أنجة.»
وهكذا قضي علي بما كنت أقضي به على غيري، ثم وقف أبو أنجة والحاج زبير وخلى ذراعي، ثم أشار أبو أنجة إلى مظلة في الظلام وقال: «اذهب إلى هذه المظلة.»
فرافقني السجان ومعه ثمانية آخرون إلى المظلة، ثم طلب مني أن أقعد على الأرض وأحضرت لي السلاسل، وقعدت فوضع في كل من ساقي حلقة طرقت حتى تضام طرفاها، ثم وضع حول عنقي حلقة أخرى وبها سلسلة كانت تعوق حركة عنقي، وتحملت كل ذلك وأنا صامت، ثم غادرني الحاج زبير، وقال لي الحارسان اللذان تركا معي أن أقعد على الحصير الذي بجانبي.
والآن بدأت أفكر. وكنت ألوم نفسي على أني لم أجازف وأفر إلى الخرطوم على جوادي، ولكن هل كان غوردون يقبلني وقد صرت بعيدا عن الخطر كما قال المهدي؟ ولكن ما هو حظي الآن؟ هل هو حظ محمد باشا سعيد وعلي بك شريف؟ ولم تكن عادتي التفكير في همومي الشخصية. وتذكرت قول المادبو: «كن مطيعا وصبورا، اللي عمره طويل بيشوف كتير»، وقد مارست الطاعة والآن يجب أن أمارس الصبر، أما العمر الطويل ففي يد الله وحده.
وبعد ساعة لم أتمها بالضرورة رأيت عددا من الملازمين يقتربون مني ومعهم المصابيح، وعندما اقتربوا رأيت بينهم الخليفة عبد الله فوقفت وانتظرت.
ورآني واقفا أمامه فقال: يا عبد القادر، هل سلمت أمرك للقدر؟
فقلت بلهجة الاطمئنان: «مذ كنت طفلا. لقد اعتدت الطاعة، والآن يجب أن أطيع أردت أو لم أرد.»
فقال: إن صداقتك لصالح واد المك وخطاباتك لغوردون قد جعلتنا نشتبه في أمرك، وهذا هو ما ألجأني إلى أن أجبرك على أن تسير في الطريق القويم.
فقلت: «إنني لم أخف صداقتي مع صالح واد المك، إنه صديقي وأظن أنه مخلص لك، أما خطاباتي لغوردون فقد أمرني المهدي أن أكتبها.»
فقال الخليفة: هل أمرك بأن تكتب ما كتبت؟
فقلت: «لقد كتبت ما أمرني به المهدي، ولا يمكن أحدا أن يعرف محتويات هذه الخطابات سواي أنا ومن كتبت إليه، وكل ما أرجوه يا مولاي هو العدل وألا تصغي لأقوال الدساسين.»
ثم غادرني، فحاولت أن أنام ولكن أعصابي كانت هائجة، فكانت الخواطر المختلفة تمر برأسي، وكان الحديد حول عنقي وساقي يؤلمني أشد الألم؛ فلم يكن النوم مستطاعا، وما كدت أغفو تلك الليلة برهة قصيرة. وفي شروق الشمس جاءني أبو أنجة ومعه خدم يحملون طعاما، وقعد على الحصير إلى جانبي ووضع بيننا الطعام، وكان الطعام فاخرا يحتوي على فراريج ورز ولبن وعسل ولحم مشوي وعصيدة، ولكني قلت له إنه ليس عندي شهوة للطعام، فقال لي: «أظنك خائفا يا عبد القادر ولهذا لا يمكنك أن تأكل.» فقلت: «كلا، لست أخاف شيئا، وإنما لا أشتهي الطعام الآن، ومع ذلك سآكل شيئا حتى لا تستاء.» ثم بلعت لقمتين. وكان أبو أنجة يتودد إلي ويظهر لي أني ضيفه المكرم.
ثم قال لي: «لقد استاء الخليفة لأنك لم تظهر له خضوعا وقال إنك عنيد، وإن هذا في رأيه هو السبب في عدم خوفك.»
فقلت: «هل كان يجب علي أن ألقي نفسي على قدميه وأطلب منه العفو عن جرائم لم أرتكبها؟ أنا في يديه فليفعل بي ما يشاء.»
فقال: «غدا سنتحمل ونسير نحو الخرطوم ونضيق الحصار على المدينة ثم نهجم هجمة واحدة، وسأطلب من الخليفة أن تبقى معي وسيكون هذا أهون عليك من ذهابك إلى السجن.»
فشكرته وغادرني.
وقضيت اليوم كله وأنا وحدي، وكنت أؤدي الصلاة بعناية أمام الحرس وغيرهم، وكان في يدي مسبحة أسبح بها كما هو الشأن بين المسلمين الطيبين، ولكن الحقيقة أنني كنت أكرر عليها صلاة النصارى: «أبانا الذي في السموات.»
وكنت أرى على مسافة مني خيولي وخدمي وسائر أمتعتي، وجاء أحد خدمي إلي وأخبرني بأنه أمر بأن يلتحق بأبي أنجة.
وفي بكور اليوم التالي قرعت الطبول للتقدم، فقوضت الخيام وحملت الجمال وتحرك المعسكر بأجمعه، وكان الحديد في ساقي يمنعني من المشي، فأحضروا لي حمارا. وكانت السلسلة المربوطة بها الحلقة التي حول عنقي طويلة تحتوي على 83 حلقة، كنت أسلي نفسي بعدها وأطويها طيات حول جسمي. وحملت إلى ظهر الحمار يسندني من كل جانب رجل حتى لا أقع، وكنت وأنا سائر يمر بي أصدقائي فيتحسرون ولا يجسرون على مخاطبتي، ووقفنا بعد الظهر على ربوة أمكنتنا من رؤية نخيل الخرطوم، فشعرت بالشوق الشديد يغالبني للانضمام إلى الحامية.
ثم حططنا وأمرنا بضرب خيامنا مؤقتا تحت إمرة الخليفة عبد الله، أما الأمراء الآخرون فقد ذهب كل منهم بجنده واختار مكانا لمعسكره، وكنت في هذا الوقت قد شعرت بالجوع الشديد واشتقت إلى شيء من الطعام الذي قد قدمه لي أبو أنجة في الأمس، ولكن أبا أنجة كان قد التحق بالخليفة وكان قد نسيني.
وحدث أن زوجة أحد الحراس اهتدت إليه وأحضرت له خبزا من الذرة فأكلت معه، وفي الصباح استأنفنا مسيرنا وبقينا نمشي نحو ساعة، ثم حططنا ثانيا في المكان الذي اختير نهائيا للمعسكر.
وكان أبو أنجة قد رتب كل شيء لكي أبقى معه ولا أرسل إلى السجن، فنصبت لي خيمة ممزقة قديمة وضع حولها زريبة من الشوك، فقعدت تحت هذه الخيمة ووضع على بابها ديسة من الشوك يليها الحرس.
وأمر المهدي الآن بتضييق الحصار، وفي المساء أرسل عددا من الأمراء إلى الضفة الشرقية لمعونة واد النجومي وأبي حرجة، وطلب من جميع أهالي هذه الناحية أن ينضموا إلى المحاصرين، وأمر أبو أنجة وفضل المولى بأن يذهبا إلى قلعة أم درمان لحصارها، وكانت تقع على بعد نحو 400 متر من النهر من الضفة الغربية، وكان يدافع عنها فرج الله باشا وهو ضابط سوداني ترقى من رتبة كابتن في عام واحد إلى أن صار قائدا للقلعة، وكان الذي رقاه بهذه السرعة غوردون، وتمكن أبو أنجة من أن يحفر الخنادق بين القلعة والنهر ويضع فيها جنوده على الرغم من إطلاق النار عليه من البواخر والقلعة، بل تمكن أبو أنجة من أن يغرق إحدى هذه البواخر وهي الباخرة «حسينية» بواسطة مدفع سدد مرماه إليها، ولكن البحارة فروا إلى الخرطوم.
وأهمل أمري مدة الحصار، وكان حرسي يغير كل يوم وكانت معاملتهم تختلف، وكانت الرقابة تشتد علي إذا كان الحرس مؤلفا من عبيد أسرى، ولكن إذا كانوا جنودا يعرفونني فإنني كنت ألاقي منهم بعض الحرية، وكانوا يؤدون لي الخدمات الصغيرة، ولكنهم كانوا يمنعونني من مخاطبة أي إنسان، وكان طعامي سيئا، وكان أبو أنجة مشتغلا بالحصار فبقيت أنا مدة غيابه تحت رحمة زوجاته، وكان قد أمرهن بطعامي.
وحدث في إحدى المرار أن حارسي كان أحد جنودي القدماء، فبعثته برسالة إلى رئيسة زوجات أبي أنجة أشكو إليها عدم إطعامي مدة يومين، فأرسلت إلي جوابها تقول: «هل يظن عبد القادر أننا نسمنه هنا بينما عمه غوردون باشا لا عمل له إلا في إلقاء القنابل على زوجنا الذي ربما يقتل بسببه؟!»
وقد كانت هذه المرأة مصيبة في قولها إذا اعتبرت وجهة نظرها.
وكان يسمح أحيانا لبعض اليونان بالمجيء إلي ومخاطبتي، وكانوا يخبرونني بما يجد من الأخبار.
وكنا عندما حططنا رحالنا هنا قد قبض على لبتون بك وقيد بالسلاسل بتهمة محاولة الانضمام إلى غوردون، ولما فتشت أمتعته وجدت فيها وثيقة وقع عليها الضابط، مؤداها أنه اضطر إلى تسليم المديرية وأخذت زوجته وابنته البالغة من العمر خمس سنوات إلى بيت المال، وكانت زوجته زنجية في خدمة «روسيت» القنصل الألماني من الخرطوم، ولما عين مديرا في دارفور ذهبت معه، فلما مات في الفاشر التحقت بلبتون بك وسافرت معه إلى بحر الغزال، وأمر الخليفة بتصفية جميع ما يمتلكه لبتون، ولكنه أذن لزوجة لبتون وابنته بأن يكون معهما خادم.
وفي أحد الأيام جاءني جورجي كالامنتينو وأخبرني بأن الجيش الإنجليزي بقيادة ولسون يتقدم نحو دنقلة، ولكنه لا يزال في صعيد مصر وإن كانت الطلائع قد بلغت دنقلة.
وكان غوردون بعد أن أذاع منشور إخلاء السودان قد أفهم أهالي الخرطوم أنه سيجيء إليهم جيش لإنجادهم، وتمكن من بث روح الشجاعة والرجاء في جنود الحامية؟ ولكن بقي الشك في ميعاد مجيء الجيش، وهل يأتي قبل فوات الفرصة؟
وفي أحد الأيام جاءني ملازم من قبل الخليفة وطوق عنقي وساقي بملفات أخرى غير ما كان علي، وأضاف إليها قضيبا من حديد، وظننت أن الغرض من ذلك إذلالي، وكنت لا أقوى قبلا على النهوض لثقل ما أحمله من القيود، فلم تزد إضافة هذه القيود الجديدة شيئا لأني كنت راقدا طول الوقت!
ومضى اليوم التالي دون أن يحدث فيه شيء، وكنت أسمع من وقت لآخر فرقعة العيارات بين المحصورين والحاصرين، ولكن اليونان الذين كانوا يزودونني قبلا من الأخبار منعوا الآن من مخاطبتي، فبقيت لذلك في جهل من كل ما يجري حولي.
وفي إحدى الليالي بعد غروب الشمس بنحو أربع ساعات عندما كان النوم يتسلل إلى أعضائي وينسيني ما أنا فيه، أمرني الحارس بأن أنهض في الحال، فوقفت ورأيت ملازمي الخليفة الذين أخبروني بأن الخليفة في أثرهم قادم إلي، ثم رأيت جماعة تحمل مصابيح فأخذت أسائل نفسي: لم يأتي إلي الخليفة الآن؟
ولما اقترب الخليفة مني قال لي بلهجة الملاطفة: «يا عبد القادر اقعد.»
ثم بسط له خدمه فروته فقعد إلى جانبي وقال: «هنا ورقة أرغب في أن تخبرني عما فيها لكي تثبت لي أمانتك.» فأخذت الورقة وقلت: «سأفعل يا مولاي.»
وكانت الورقة لا تزيد في الحجم عن نصف ورقة سيجارة، وقد كتبت من الجانبين، وكان مكتوبا عليها باللغة الفرنسية ما يلي:
عندي عشرة آلاف رجل تقريبا، ويمكنني الدفاع عن الخرطوم إلى آخر شهر يناير، وإلياس باشا كتب إلي، وقد أجبر على ذلك، إنه رجل مسن وغير كاف، أنا أغفر له، جرب محمد أبو حرجة أو غن لنا أغنية أخرى.
غوردون
ولم يكن هناك ما يشير إلى الشخص المرسلة إليه هذه الرسالة، وكنت متأكدا بأنه ليس في معسكرنا من يعرف الفرنسية؛ وهذا هو سبب مجيء الخليفة إلي.
ثم قال الخليفة وقد نفد صبره: «قل هل فهمت مضمونها؟»
فقلت: «الرسالة من غوردون وهي مكتوبة بخطه بلغة جفرية لا يمكنني أن أفهمها.»
فقال الخليفة وقد بدا عليه الغضب: «ماذا تقول؟ أوضح ما تقول.»
فقلت: «هنا كلمات لا أدرك معناها، فإن لكل كلمة معنى خاصا ولا يمكن أن يفهمها إلا من اعتاد تفسير الجفر، ولو سألت أحدا من الموظفين السابقين لأكد لك صحة قولي.»
فهاج الخليفة وصاح بي غاضبا: «أليس في الرسالة اسم إلياس باشا واسم محمد أبو حرجة؟»
فقلت بلهجة التهكم: «لقد صدق من أخبرك بهذا فإني يمكنني أن أقرأ اسميهما، ولكن لا أفهم شيئا عما يقصد من ذكرهما، ولعل الذي أخبرك بهذين الاسمين يمكنه أن يفسر سائر ما في الرسالة، ثم إني أجد فيها أيضا رقم 10000، ولكن لا أعرف هل المقصود منه عدد الجنود أو غير ذلك.»
فأخذ الورقة من يدي وهو يقول: «إني مهما عجزت عما في هذه الورقة فإن غوردون سينهزم وستسقط الخرطوم.» ثم تركني مع الحرس.
والآن عرفت أن غوردون يقول إنه يمكنه الثبات إلى آخر يناير، وكنا في أواخر ديسمبر فهل يمكن إنقاذ البلدة قبل فوات الفرصة؟ ولكن ماذا يعنيني من كل ذلك؟ ها أنا ذا مقيد بالسلاسل ولست أقدر على عمل شيء يغير مجرى الحوادث.
وبلغنا أول يناير الذي يقول غوردون إنه يمكنه أن يثبت فيه إلى آخره، وأخذت أشعر أن الساعة الحاسمة تقترب.
واشتد القتال بين قلعة أم درمان وبين الدراويش، وكان فرج الله باشا يجهد جهده، وحاول على الرغم من قلة عدد الحامية أن يفتق فتقا في القوة المحاصرة ويخرج، ولكنه رد إلى القلعة ثانيا، وفقدت مئونة القلعة وشرع عندئذ في مفاوضات التسليم، وكان فرج الله قد خاطب غوردون بالرايات عن التعليمات الواجب اتباعها، فأذن له غوردون في التسليم إذا لم يكن قادرا على الثبات، وعفا المهدي عن جميع رجال الحامية، ولما خرجت الحامية دخل رجال المهدي ولكنهم خرجوا في الحال؛ لأن مدفعية الخرطوم أمطرتهم وابلا من القنابل، وكان في القلعة مدفعان ولكن مداهما أقصر من المسافة التي بينهما وبين البلدة، وحدث التسليم في 15 يناير سنة 1885.
ووقع أن أم درمان سقطت؛ فإن المهدي لم يرسل أي أمداد للمحاصرين في شرقي الخرطوم وجنوبها؛ لأنه كان يعرف أن القوة المحاصرة تكفي للمهمة المنتدبة لها. وكان كما كانت حامية الخرطوم، كلاهما ينظر بعين القلق الشديد إلى الشمال حيث تكون الكلمة الفاصلة.
وكان غوردون باشا قد أرسل إلى متمة خمس بواخر بقيادة خشم الموس وعبد الحميد واد محمد؛ لكي تنتظر مجيء الإنجليز وتجيء بهم إلى الخرطوم بأسرع ما يمكنها، وكان غوردون ينتظر مجيئهم بغاية القلق، وكان قد خاطر بكل شيء على مجيء القوة الإنجليزية، ولكن كل إنسان كان يجهل ما تم في أمرها.
وأذن غوردون في أوائل الشهر لجملة عائلات بمبارحة الخرطوم، ولم يكن إلى هذا الوقت يجيز لنفسه طردهم؛ ولذلك اضطر إلى توزيع المئونة عليهم، فكان يوزع مئات الأوقات من البسكويت والذرة على الفقراء كل يوم، وهو على هذا العمل يستحق مكافأة الله، ولكنه في الوقت نفسه قضى على نفسه وعلى رجاله، فقد نفد الزاد وصار كل إنسان يبكي ويطلب الخبز، وعاد الآن إلى إغراء الأهالي بالخروج من المدينة، وهو لو كان قد فعل ذلك منذ شهرين أو ثلاثة لكان عنده من المئونة ما يكفي رجاله مدة طويلة، ولكنه كان يعتمد على مجيء الجيش؛ وكان لذلك لا يعنى بادخار المئونة، فهل كان يعتقد أنه لا يمكن جيشا إنجليزيا أن يتأخر عن ميعاده؟
وبعد ستة أيام من سقوط أم درمان سمعت عويلا في المعسكر لم أسمع مثله منذ خروجي من دارفور، وكان المهدي يمنع الناس من إظهار الحزن على الموتى أو القتلى؛ لأنهم في مذهبه يدخلون النعيم، ففهمت أنه لا بد أن قد حدث شيء غير عادي حتى يخالف الناس مذهب المهدي، وكان الحراس المكلفون بحراستي يتطلعون لمعرفة سبب هذا العويل، وقد تركوني لهذه الغاية، وعادوا بعد قليل يقولون إن طلائع الجيش الإنجليزي التقت بالقوات المجموعة من البرابر والجعالين والدغيم وكنانة الذين يقودهم موسى واد حلو، وهزمتهم في أبو نلا - أبو كلبة - وقد هلك كثيرون ولم ينج إلا عدد قليل عادوا وأكثرهم به جراحات وقد فني الدغيم وكنانة تقريبا، وقتل موسى واد هلو وعدد من الأمراء أيضا.
فيا للبشرى! لقد كان قلبي يثب وثوبا لهذه الأخبار، وقلت لنفسي لقد جاء الرجاء بعد هذه السنوات الطويلة، وأمر المهدي والخليفة بأن يكف الناس عن العويل، ولكنه استمر مع ذلك عدة ساعات وأرسلت الأوامر لنور أنجرة بأن يقوم إلى متمة.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءتنا أخبار هزيمة أخرى في أبي كر وهزيمة أخرى أيضا في قبة «جوبات» وتيار قلعة على النيل قريبة من متمة.
وعقد المهدي وأمراؤه مجلسا للتشاور، فقد رأوا أن كل ما جنوه من الانتصارات السابقة قد بات في خطر، حتى إن المحاصرين للخرطوم خافوا وارتدوا من الحصار، وصار القضاء على المهدي مسألة يمكن إنهاؤها في بضعة أيام، فيجب عليهم أن يخاطروا بكل شيء، فأرسلت الأوامر للمحاصرين بأن يستعدوا الاستعداد التام للهجمة الأخيرة.
ثم لم لم تأت البواخر التي تحمل الجنود الإنجليزية؟ فهل كان قواد هذا الجيش يجهلون أن حياة جميع من في الخرطوم قد باتت في خطر؟ ولقد انتظرنا طويلا لكي نسمع صفير البواخر يؤذن بمقدم الإنجليز ودوي مدافعهم فوق خنادق الدراويش، ولكن انتظارنا كان عبثا، أجل كان عبثا، ولم نكن نفهم علة هذا التأخير أو معناه، وكنا نتساءل هل طرأ عائق جديد؟
وكان اليوم الأحد 15 يناير، وهو يوم لن أنساه في حياتي؛ ففي مساء ذلك اليوم عبر المهدي وخلفاؤه في زورق إلى الشط الشرقي، حيث كان رجالهم مجتمعين للقتال، وكان قد عرف أن النية قد عقدت على مهاجمة الخرطوم في صباح اليوم التالي، وذهب المهدي لكي يحمس رجاله ويذكرهم بالجهاد والقتال إلى الموت، وكنت أدعو الله أن يكون غوردون قد عرف هذه النية واستعد لها.
وفي هذا الوقت أمر المهدي والخلفاء أتباعهم بألا يهتفوا ولا يصيحوا؛ حتى لا تدخل الشبه في قلوب رجال الحامية الذين أنهكهم الجوع والكلال، وخطبهم المهدي وهم سكون ثم عادوا إلى الشط الغربي بعد أن خلف الخليفة شريف الذي رجاه أن يبقى مع المجاهدين.
وكانت تلك الليلة أحفل ليالي في قلق النفس وثورتها، فقد كنت أقول لنفسي لو أن الحامية تثبت هذه الليلة وتصد المغيرين، إذن لن أخشى شيئا على الخرطوم، أما إذا انهزمت فإننا نفقد كل شيء في السودان، وشعرت بإعياء في الفجر وبدأ النوم ينسل إلي، وإذا بي أسمع ضجيج المدافع والبنادق من آونة لأخرى، ثم شمل السكون مرة أخرى، ولم يكن النور قد قشع الظلام بعد حتى لم أكن أتبين الأشياء، فما معنى كل هذا؟ ضجيج المدافع والبنادق ثم سكون تام؟
ثم ظهر قرص الشمس أحمر في الأفق، فتساءلت: ماذا يأتينا به هذا النهار؟ وقعدت أنتظر وأنا في أشد القلق وهياج النفس، ثم سمعت أصوات الابتهاج والنصر من بعيد وتركنا الحرس وجروا لكي يعرفوا سبب هذه الأصوات، وبعد دقائق عادوا إلينا وأخبرونا بأن الخرطوم أخذت عنوة وصارت الآن في أيدي الدراويش، وبقي لي شك أتعلل به؛ هل تكون هذه الأخبار كاذبة؟!
ثم زحفت ونهضت وأخذت أنظر في المعسكر فوجدت جما غفيرا من الناس قد تألبوا حول مكان المهدي والخليفة، ثم رأيت هؤلاء الناس يسيرون نحوي، وكان أمامهم ثلاثة من الزنوج يدعى أحدهم «شطة»، وكان سابقا أحد الحرس العبيد عند ضيف الله، وكان في يده قماش مشرب بالدم قد لف على شيء وكان وراءه جمهور من الناس يبكون، واقترب العبيد الثلاثة مني ثم وقفوا وهم يشيرون إشارات الإهانة والسباب، ثم حل «شطة» القماش وأخرج لي رأس غوردون!
فدار رأسي وشعرت كأن قلبي قد وقف، ولكني جمعت كل قواي وضبطت نفسي ونظرت إلى هذا المنظر المفزع وأنا صامت، وكانت عينا غوردون الزرقاوان قد فتحتا إلى النصف، أما الفم فكان في هيئته العادية، وكان شعر رأسه وعارضيه قد علاهما الشيب.
وقال «شطة» وهو ممسك بالرأس أمامي: «أليس هذا رأس عمك الكافر؟»
فقلت بهدوء: «وما في ذلك؟ جندي شجاع وقع وهو يقاتل، إنه لسعيد إذ قد انتهت آلامه.»
فقال شطة: «ها، ها، لا تزال تمدح الكافر، ولكنك سترى النتيجة.»
ثم تركوني وذهبوا إلى المهدي ومعهم إشارة النصر المفزعة هذه ووراءهم جمهور يبكي.
ثم عدت إلى خيمتي وقد ماتت نفسي في جسمي، أجل لقد سقطت الخرطوم ومات غوردون، وهذا إذن هو نهاية حياة هذا البطل الذي وقع وسيفه في يده، هذا الرجل الذي لم يكن يعرف الخوف والذي كان له من الخصال ما أذاع شهرته في العالم أجمع.
فما هي فائدة الجيش الإنجليزي الآن؟ لقد تأخر في متمة وكان في تأخيره هلاك الخرطوم، لقد وصلت طلائع الإنجليز إلى جوبات على النيل في 20 يناير، ووصلت بواخر غوردون الأربع في 21 منه، فلماذا لم يرسلوا على هذه البواخر جنودا إلى الخرطوم مهما كان عددهم قليلا؟! فلو أن الحامية رأت عددا من هؤلاء الجنود لامتلأت قلوبهم حماسة وقوة ورجاء، ولاستطاعوا أن يتصدوا للعدو، وكان السكان الذين فقدوا كل ما عندهم من ثقة في وعود غوردون تعاودهم ثقة جديدة ويحاربون إلى صف الحامية لتأكدهم بأن القوة الإنجليزية توشك أن تنجدهم.
وقد جهد غوردون جهده لكي يثبت وقد أعلن أن جيشا إنجليزيا قادم إليه، وطبع نقودا من الورق وكان يوزع الأوسمة والرتب كل يوم بلا حساب لكي يشجع الجنود، ولما أخذت الأحوال تسوء واليأس يحل، كان هو يجاهد في تحميس الجنود وترجيتهم، ولكن اليأس قلب الرجاء، فلم يعودوا يروا فائدة في هذه الأوسمة والرتب، أما نقود الورق فربما كان هناك من يشتري ورق الجنيه بقرشين آملا أملا ضعيفا في الربح إذا جاءت المصادفات بانتصار للحكومة.
ولم يكن أحد يصدق وعود غوردون الآن، ولو أن باخرة واحدة حملت بعض الجنود وجاءت بهم إلى الخرطوم وأخبرتهم بأن الإنجليز انتصروا، لامتلأت قلوب السكان والجنود حماسة وصدقوا وعود غوردون، وكان عندئذ يمكن لضابط إنجليزي أن يرى الجزء الذي دمره فيضان النيل من حصون المدينة وكان في الحال يأمر بإصلاحه، ولكن ماذا كان يمكن أن يصنعه غوردون وهو وحيد وليس معه مساعد أوروبي؟
ولم يكن في مستطاعه أن ينظر في كل شيء، كما أنه لم تكن بين يديه الوسائل التي تمكنه من التحقق من مرءوسيه؛ هل ينفذون أوامره أم لا. وكيف كان يمكن قائدا أن ينتظر من جنوده القيام بتنفيذ أوامره إذا كان غير قادر على أن يضمن لهم قوتهم؟
وفي الليلة المشئومة ليلة 25 يناير علم غوردون بأن المهديين سيهجمون على المدينة، فأرسل أوامره يخبر القواد هذا الخبر، ولعله كان يشك في صدق نيتهم في الهجوم في بكور اليوم التالي، وفي الوقت الذي عبر فيه المهدي إلى الضفة الشرقية كان غوردون قد أمر بإطلاق بعض الأسهم النارية في الفضاء، وكانت ألوانها كثيرة مختلفة، وكانت الموسيقى تعزف في الوقت نفسه، والغرض من كل ذلك تحميس الجنود الذين أضناهم الجوع حتى يثوب إليهم نشاطهم. وانتهت الأسهم النارية وسكتت الموسيقى، ثم نامت الخرطوم وشرع العدو يزحف في حذر وصمت. وكان رجال العدو يعرفون أماكن الضعف في الحصون، وكانوا يعرفون أن الجنود النظاميين قد وضعوا في الأماكن القوية، في حين أن الخندق المتهدم القريب من النيل الأبيض وأيضا مصطبة الخندق لم يكن يحميها سوى الأهالي الضعاف.
وكان هذا الجزء من الحصون في حال سيئة؛ لأن بناءه لم يتم، وكان كل يوم يزداد الجزء المعرض منه على النيل، واجتمع معظم الدراويش عند هذه النقطة وكانت سائر قواتهم تواجه سائر الحصون، وشرع في الهجوم عند إشارة متفق عليها، وفر في الحال جميع من كانوا عند النيل الأبيض بعد أن أطلقوا بضع طلقات. وبينما كان الجنود يشتغلون في صد هجوم القوات الأخرى المهاجمة، كان الآن الدراويش يدخلون من جهة النيل الأبيض ويخوضون في الماء والوحل إلى ركبهم، ثم ينصبون في الشوارع. ودهش الجنود إذ رأوا الدراويش يهاجمونهم من خلف.
ولم يقاوم الجنود عندئذ إلا مقاومة ضعيفة ووضع كل منهم سلاحه في الحال، ثم قتل المصريون أما السود فلم يقتل منهم إلا عدد قليل، ولم تبلغ خسارة العدو ثمانين أو مائة رجل، ثم فتح الدراويش أبواب المدينة فخرج من تبقى من الجنود إلى معسكر المهدي.
ولما دخل الدراويش من جهة النيل الأبيض تصايحوا وهم يعدون في المدينة: «للسراية، للكنيسة»؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنهم سيجدون هناك الأموال المدخرة كما يجدون غوردون الذي دافعهم طويلا عن المدينة وعكس عليهم أغراضهم، وكان القادة في هذا الهجوم رجال مكين واد النور الذي قتل بعد ذلك في معركة توسكي، وهو ينتمي إلى قبيلة العرافين، وكان قائدهم السابق شفيق مكين الذي كان يدعى عبد الله واد النور، وقد قتل في حصار الخرطوم، وكان رجاله الآن يرغبون في الثأر له، وكان عدد كبير أيضا من رجال أبو حرجة يستبقون نحو السراي وكانوا يرغبون في الانتقام لهزيمتهم في بورى؛ حيث هزمهم غوردون.
ولما دخلوا السراي وجدوا الخدم في قبو السراي فقتلوهم في الحال، وكان غوردون واقفا على السلم المؤدي إلى غرفة الجلوس فقال لهم عندما رآهم: «أين مولاكم المهدي؟»
ولكنهم لم يكترثوا لهذا السؤال وتقدم أولهم وطعن غوردون بحربته فوقع على وجهه دون أن ينطق بكلمة، فأخذ القتلة يجرونه على السلالم إلى باب السراي، وهنا أخذوا رأسه وأرسلوه إلى المهدي في أم درمان، أما الجسم فقد ترك لرحمة المتعصبين.
وكانت آلاف من هذه الخلائق الوحشية تمر على الجسم ويغمس كل منهم حربته في دمه، فلم يمض زمن حتى صار الجسم قطعة مشوهة من اللحم، وقد بقيت بقع الدم مدة طويلة في المكان الذي قتل فيه غوردون شاهدة على ارتكاب هذه الفظيعة، بل كانت ترى أيضا على درجات السلم مدة عدة أسابيع، ولم تغسل إلا حين قرر الخليفة أن يتخذ هذه السراي مأوى لزوجاته السابقات واللاحقات.
ولما أحضر رأس غوردون للمهدي قال إنه كان يود أن يحضر إليه غوردون حيا؛ لأنه كان ينوي أن يدخله في الإسلام ثم يقايض به الحكومة الإنجليزية على عرابي باشا؛ لأنه كان يأمل أن يساعده عرابي في فتح مصر. واعتقادي، أن المهدي كان ينافق في تأسفه هذا على قتل غوردون؛ لأنه لو كان يرغب حقيقة في الإبقاء على حياته لما خالف أمره أحد.
وقد فعل غوردون كل ما في استطاعته لكي يقي حياة الأوروبيين الذين كانوا في الخرطوم؛ فقد أذن للضابط ستيورت مع بعض القناصل وعدد كبير من الأوروبيين في السفر إلى دنقلة، ولكن بحارة الباخرة «عباس» كانوا غير كفاة، وكانوا أيضا مستائين، فصدموا الباخرة في الشلالات فوقع الضابط ستيورات ومن معه فريسة للغدر الذي قضى عليهم.
وكان غوردون يرغب في هروب اليونان، فسلمهم باخرة وتعلل في الظاهر بأنهم يعرفون البحر، وأمرهم بالتفتيش في النيل الأبيض؛ وذلك كي يتيح لهم الفرصة بأن يسافروا جنوبا إلى أمين باشا ولكنهم أبوا ذلك. وكان غوردون مهموما بسلامتهم فاقترح اقتراحا آخر؛ فإنه أمر الناس بعدم السير في الطرق المؤدية إلى النيل الأزرق بعد الساعة العاشرة، ثم كلف اليونانيين بحراسة هذه الطرق؛ وذلك لكي تتاح لهم الفرصة بالفرار على باخرة قد أرسيت قريبا، ولكن اليونان اختلفوا فيما بينهم فضاع هذا التدبير.
وأنا لا أشك في أن هؤلاء اليونانيين لم يكونوا يرغبون في الفرار إلى الخرطوم؛ فإن معظمهم كانوا يعيشون في بلادهم أو في مصر في فاقة شديدة، وهم لم ينالوا الثروة إلا في السودان؛ ولذلك لم تطاوعهم نفوسهم على تركه.
وكان غوردون يريد أن يقي نفوس جميع الناس إلا نفسه، ويمكنني الآن أن أنتقد غوردون من حيث إنه لم يحفر خنادق ولم يقم تحصينات تحمي السراي، ولكن الأرجح أن الذي منع غوردون من عمل ذلك أنه خشي أن يتهم بالاهتمام بحياته، وربما كان هذا أيضا هو السبب في عدم وضعه حراسا حول السراي.
وكان يمكنه أن يستعمل عددا من الجنود لهذا الغرض، وهل يمكن أحدا أن يشك في الفائدة التي تعود على الجميع من حماية نفسه؟ وكان يمكنه بمثل هذا الحرس أن يصل إلى الباخرة «إسماعيلية» القريبة من السراي. وكان فرغلي ربان هذه الباخرة قد رأى العدو وهو يهجم على السراي، فوقف بالباخرة ينتظر مجيء غوردون، ولم يبرح الشط حتى تأكد أنه قتل، فاقتلع المرساة وسار إلى وسط النهر ثم أخذ يروح ويغدو أمام المدينة حتى أشار إليه الدراويش بعفو المهدي.
وكان لفرغلي زوجة وعائلة في الخرطوم، فسلم بعد أن حصل على الأمان، ولكن ما كان أكثر انخداعه! فإنه ذهب إلى بيته فوجد ابنه - وكان في العاشرة من عمره - مقتولا ووجد زوجته قد ألقت بنفسها على ابنها وجسمها ممزق بالحراب.
وليس من الممكن أن يصف الإنسان مبلغ الفظاعة والقسوة في المذبحة التي تلت قتل غوردون؛ فإنه لم ينج أحد سوى الرجال والنساء من العبيد وكل امرأة عليها شيء من الملاحة من الأحرار، أما غير هؤلاء الذين نجوا من القتل فلم تكن نجاتهم إلا مصادفة. وانتحر كثير من الناس وكان من بينهم محمد باشا حسن ناظر المالية، فإنه زحف إلى جنب ابنته وزوجها، وكان كلاهما قد قتل، وقد رآه أصدقاؤه في هذه الحال فحضوه على الفرار ولكنه أبى، فحاولوا أن يأخذوه عنوة ولكنه صار يصيح ويدعو على المهدي ودراويشه، فمر به بعض الدراويش فأجهزوا عليه.
وقتل عدد من الناس من أيدي عبيدهم السابقين وكانوا قد انضموا إلى العدو، وكانوا أدلاءه فاشتركوا الآن في القتل والنهب والاغتصاب.
ويمكن أن يملأ الإنسان مجلدا عن هذه الفظائع التي ارتكبت في ذلك اليوم المشئوم، ولكني أشك في مصير الذين أبقي على حياتهم؛ هل كان أفضل من مصير القتلى؟
وعندما احتل الدراويش المنازل شرع في البحث عن الكنوز ولم يكن يقبل عذر أو إنكار، وكان معظم السكان قد خبئوا أموالهم، فكان كل من يشتبه فيه يعذب حتى يفشي السر أو حتى يقتنع معذبه بأنه لا يملك شيئا، وكان السوط يستعمل بإسراف، فكان الناس يجلدون حتى يتناثر لحمهم، ومن ضروب التعذيب التي كانت تستعمل أن يعلق الرجل من إبهاميه إلى عمود من الخشب فيترجح هو تحته في الهواء حتى يغمى عليه، وكانوا يأتون بسلخين من القصب الهندي ويضعون كلا منهما على وجه الرجل ثم يربطون طرفيهما ثم يضرب هذان السلخان بعصا فيحدث من اهتزازهما آلام مضنية، وكانوا يعذبون النساء بهذه الكيفية أيضا، ويعذبونهن في أماكن أجسامهن الحساسة بطريقة لا يمكنني أن أصفها هنا، وحسب القارئ أن يعرف أن أفظع الطرق في التعذيب كانت تستعمل للحصول على الأموال.
ولم ينج من هذا التعذيب سوى النساء الصغيرات في السن والفتيات؛ وذلك خوفا من أن يعترض هذا التعذيب الغاية التي ستستخدم لها هذه النساء والفتيات.
وجميع هؤلاء النساء والفتيات أرسلن إلى المهدي يوم فتح الخرطوم، فاصطفى منهن ما أراد ورد سائرهن إلى الخلفاء والأمراء، واستمر جمع النساء والانتخاب بينهن عدة أسابيع، حتى امتلأت بهن بيوت هؤلاء الأوغاد الشهوانيين، بل فاضت بشباب الخرطوم الذي قضى عليهن النحس أن يقعن في أيدي الدراويش.
وفي اليوم التالي منح عفو عام لجميع الأهالي ما عدا الشايجية الذين أهدر دمهم، ولكن على الرغم من هذا العفو استمر القتل وارتكاب الفظائع عدة أيام بعد سقوط الخرطوم.
وحملت الغنائم إلى بيت المال ولكن بعد اختلاس أشياء كثيرة منها، ووزعت المنازل المهمة على الأمراء، ويمم المهدي والخليفة في الباخرة «إسماعيلية» إلى الخرطوم، ورأيا نتيجة انتصارهما الدموي، ولم يبد أحدهما أية علامة على التحسر أو الأسف، بل ذهب كل منهما إلى المنزل المخصص له، وكان كل منهما يقول لأتباعه: إن الله أنزل العقاب بسكان المدينة لعسفهم وعدم اتباعهم إيمان المهدي.
وقضيت الأيام الأولى في اللهو واتباع الشهوات، ولما شبع المهدي وأتباعه من النساء ابتدءوا يلتفتون إلى الخطر الذي يداهمهم من الخارج، فأمر الأمير عبد الرحمن واد نجومي المشهور بأن يجمع قوة كبيرة ويذهب بها إلى متمة لمقاومة الإنجليز ويطرد هؤلاء الكفار، الذين قيل إنهم بلغوا النيل قريبا من هذه البلدة.
وفي صباح يوم الأربعاء بعد سقوط الخرطوم بيومين حوالي الساعة الحادية عشرة، سمعنا إطلاق القنابل وعيارات البنادق في ناحية جزيرة توني ، ثم ظهرت باخرتان وهما «الثلامونية» و«بردين»، وكان عليهما السير تشارلس ولسون وعدد من الضباط والجنود الإنجليز جاءوا لإنقاذ غوردون، وكان السنجق خشم الموس وعبد الحميد محمد، اللذان كان غوردون أرسلهما لقيادة الشايجية، على هاتين الباخرتين أيضا، وسمعوا جميعا بما حدث لغوردون، ولكنهم أرادوا أن يتأكدوا من الخبر وجاءوا إلى نصف الطريق بين جزيرة توني والنيل الأبيض.
وأطلق الدراويش نيرانهم على الباخرتين من الخنادق الواقعة في الشمال الشرقي لقلعة أم درمان، ولكن الباخرتين عادتا في الحال عندما رأى رجالهما سقوط الخرطوم.
وسمعت بعد ذلك من بعض بحارة هاتين الباخرتين أنهم هم والإنجليز تأثروا لسقوط الخرطوم، وعرفوا أن السودان قد بات تحت سيطرة المهديين، وكان المفهوم من الحديث الذي كان يتحدث به الجنود على البواخر أن الغرض هو إنقاذ غوردون، فلما تأكد الخبر عن موته عادت البواخر إلى دنقلة.
ثم اتفق دليل الباخرة «الثلامونية» على أن يجنح بالباخرة إلى الشاطئ حتى يكسرها ثم يفر في النيل هو والربان عبد الحميد. ونجحت هذه الخطة وبلغ من شدة اصطدام الباخرة أنها عطبت حتى احتاجوا إلى نقل ما فيها بسرعة إلى الباخرة «بردين»، وفر كلاهما وقت الاصطدام وحصلا بواسطة أصدقائهما على عفو المهدي وعادا إلى الخرطوم، واستقبلهما المهدي استقبالا حسنا وامتدح صنيعهما في كسر الباخرة. ومع أن عبد الحميد كان من الشايجية المكروهين وأحد أقارب صالح واد المك، فإن المهدي خلع عليه مرقعة إكراما له، وكان عدد كثير من النساء قرابته قد سبين عند سقوط الخرطوم ووزعن على الأمراء، فلما عفي عنه أعدن إليه.
أما الباخرة «بردين» فإنها في عودتها جنحت وارتطمت بالوحل، ولما كانت حمولتها ثقيلة فإنه لم يمكن إنقاذها، وكان ذلك قريبا من متمة، وكان عليها السير تشارلس ولسون، فشعر عندئذ بحرج مركزه، وكان الجنود الذين معه قليلين فلم يكن في وسعه أن يعبر إلى الشط الغربي ليلتحق بسائر قوته في جوبات؛ لأن العدو كان قد خندق بينه وبينها في واد حبشي، وكانت قوة الدراويش في واد حبشي - بعدما أصابها من الخور وانحلال العزيمة بعد هزيمة أبو كلبة - قد عادت إليها شجاعتها بعد سقوط الخرطوم وانتشار خبر مجيء النجومي، وكان في جوبات باخرة ثالثة تدعى «صفية»، فأرسل السير تشارلس إليها ضابطا في زورق يطلب المعونة.
وقامت «صفية» في الحال وعلم العدو بذلك، فخندق على الشاطئ وتهيأ لمجيئها، فلما اقتربت صب عليها نارا حامية من البنادق والمدافع، ولكن الجنود فيها قاتلوا ببسالة عازمين عزما صادقا على إنجاد الباخرة «بردين» مهما كلفهم ذلك، واستمر سير الباخرة حتى أصيب المرجل.
ولكن الربان أمر في الحال بإصلاح الخلل، فأخذ العمال يصلحونه والنار تنصب عليهم من العدو. وقضي الليل كله في هذا الإصلاح، حتى إذا كان الصبح تمكنت «صفية» من استئناف السير ومقاتلة الدراويش، بل تمكنت من إسكات مدافعهم وقتل أميرهم حمد واد فايد وعدد آخر من صغار الأمراء.
وبلغت «صفية» «بردين» وأنقذت السير تشارلس ورجاله، وكان لهذا العمل العظيم أثر آخر في إنجاد الجنود الإنجليز في متمة.
وكان جيش النجومي يسير ببطء لصعوبة جمع الرجال، وقد أضره أيضا خبر قتل الأمير حمد واد فايد وهزيمة الدراويش في واد حبشي أمام باخرة واحدة. وقد قيل لي بعد ذلك عند عودتي إلى مصر إن ربان الباخرة «صفية» عند إحرازها ذلك النصر كان اللورد تشارلس بريسفورد. ويقال إن النجومي عندما سمع بهذا النصر قال لرجاله إنه إذا عزم الإنجليز على الدخول إلى السودان فإنهم بالطبع سيقاتلونهم، أما إذا اتجهوا نحو الشمال فإنه لا قتال بينهم وبين رجاله، بل يحتلون البلاد التي جلوا عنها، وتأخر في سيره حتى بلغ متمة بعد جلاء الإنجليز عنها وعن جوبات، ومع أنه طاردهم إلى أبو كلبة فإنه لم يشتبك معهم في قتال.
وعندما جلت طلائع الإنجليز تحقق المهدي أن السودان بأجمعه قد أصبح ملكه، فطفح عندئذ سرورا، وأعلن هذا الخبر في المسجد، وأخذ يصف للدراويش فرار الإنجليز وكيف أن النبي قد أوحى أن الله قد خرق قربهم فماتوا جميعهم عطشا.
وفي اليوم الخامس لسقوط الخرطوم رأيت ثلة من الجنود أمام خيمتي الممزقة، فوضعوني على حمار وأنا في قيودي وساروا بي إلى السجن العمومي، وهناك طوقوا حولي عمودا وحلقة من الحديد يبلغ وزنهما ثمانية عشر رطلا، وكان هذا القيد الجديد يسمى «الحاجة فاطمة»، وكان لا يقيد به إلا من كانت جناياتهم خطيرة أو من يوصفون بالعناد من المسجونين.
وكنت أجهل السبب في سقوط مكانتي في عين الخليفة إلى هذا الحد، ولكن علمت بعد ذلك أن غوردون عندما عرف من خطابي أن القوة التي أرسلها المهدي إلى الخرطوم غير قوية أذاع هذا الخبر بين الجنود في خطوط الدفاع، وهذا المنشور الذي نشره غوردون وقعت منه نسخة في يد حمد واد سليمان وكيل بيت المال فسلمها للمهدي والخليفة، فتأكدت لديهما عندئذ الشبهات في خيانتي وتدبيري السابق لكي ألتحق بغوردون.
ووضعوني في زاوية من الزريبة الكبيرة - أي السجن العمومي - ومنعوني من محادثة أي إنسان بحيث إذا خالفت هذا الأمر فإن العقاب هو الجلد. وكنا في الليل أربط أنا وجميع المسجونين في سلسلة طويلة إلى شجرة، وفي الصباح يفك الرباط، وكان يربط معي بعض العبيد الذين قتلوا أسيادهم، وكنت أرى لبتون بك في زاوية أخرى من الزريبة وكان قد مضت عليه مدة في هذا المكان حتى ألفه، وكان قد أذن له في مخاطبة جميع من يريد باستثنائي أنا وحدي.
وفي اليوم الذي دخلت فيه السجن أفرج عن صالح واد المك، وكان أخوه وابنه وجميع قرابته تقريبا قد قتلوا، وأذن له أن يخرج ويبحث عله يجد أحدا منهم.
وكان طعامي سيئا للغاية، فشعرت كأني قد وقعت من الرمضاء في النار، فقد كنت قبلا أشكو من الجوع الذي كان يصيبني من وقت لآخر، ولكن الآن صرت لا أجد طعاما سوى الذرة الجافة آكلها كما يأكلها العبيد، وكان مع ذلك مقدار ما يعطى لي قليلا جدا. ورأتني وأنا في هذه الحال زوجة أحد السجانين، فأخذتها الشفقة وصارت تأخذ مني الذرة وتسلقه ثم تعيده إلي طريا فآكله، ولكن لم يأذن لها زوجها بأن تقدم لي طعاما آخر؛ لئلا يعرف رئيس السجانين ذلك فيبلغ الخبر للخليفة. وكنت أنام على الأرض وأضع تحت رأسي حجرا كوسادة ، وكان هذا يحدث لي صداعا مستمرا. ولكن حدث في أحد الأيام ونحن نساق إلى النهر لكي نغتسل أني وجدت في الطريق بطانة بردعة، يظهر أن صاحبها ألقاها لعدم فائدتها، فحملتها وخبأتها تحت ذراعي، ونمت عليها تلك الليلة كما ينام الملك على وسادة من زغب.
ولكن أحوالي أخذت في التحسن؛ فإن رئيس السجانين الذي لم يكن يكرهني صار يأذن لي بالتحدث مع سائر المساجين، وخفف قيودي. أما «الحاجة فاطمة» وأختها فكانتا لا تزالان في مكانهما، ولا يمكنني أن أقول إنهما كانتا تزيدان في رفاهيتي في تلك الأشهر المضنية التي قضيتها في السجن.
وبعد أيام حدثت حركة بين السجانين وأخبرني رئيسهم أن الخليفة سيأتي قريبا لزيارة السجن، فسألته عما يجب أن أفعله أمامه حتى أسترضيه، فنصح لي بأن أجيب فورا على الأسئلة التي توضع لي، وألا أشكو أي شكاية، وأن أبقى منكسرا ذليلا في الزاوية التي خصصت لي. وحوالي الظهر حضر الخليفة ومعه إخوته وملازموه وصار يطوف على الزوايا ويرى بعينيه ضحايا عدالته، وبدا لي من مسلك المساجين أن رئيس السجن نصح لهم بمثل ما نصح لي؛ فقد كانوا هادئين في مكانهم وقد حلت سلاسل البعض وأفرج عنهم، ثم اقترب الخليفة مني وهز رأسه إلي بعطف وقال: «عبد القادر، أنت طيب.»
فقلت: «أنا طيب يا سيدي.»
ثم تركني وسار، واقترب مني يونس واد وكيم حاكم دنقلة وأحد قرابة الخليفة، فهز يدي قال لي: «تشجع، لا تخش شيئا، كل شيء سيصلح قريبا.»
وابتدأت أحوالي تتحسن منذ هذا اليوم، ولكن كنت أشعر بطول الوقت.
وانتشرت وافدة الجدري في أم درمان، وكانت تحصد المئات كل يوم حتى بادت أسرات عن آخرها. واعتقادي، أن الخسارة من هذا المرض كانت أكبر من أية خسارة خسرها الدراويش في المعارك الماضية. والغريب أن العرب أصيبوا به أكثر من غيرهم ومات منه معظم المساجين، أما نحن المسجونين فلم نصب بشيء وإن كنا قد فزعنا فزعا شديدا، ولعل الله في رحمته رأى أن فيما نقاسيه أكثر مما نتحمل.
وأتيحت لي الفرص الآن للتحدث مع لبتون الذي كان يزداد سأما كل يوم، وقد كان يبلغ به الحنق والغيظ أن يشكو أحيانا مر الشكوى وبصوت عال، حتى كنت أخشى عواقب فعله هذا، ولكن المعيشة التي كنا نعيشها في السجن كانت قد أثرت فيه حتى خفت على صحته، وتمكنت بعد محادثات طويلة معه من تهدئته، وكان مع عمره الذي لم يعد الثلاثين قد شاب رأسه ولحيته في مدة سجنه هذه.
وأشيع في أحد الأيام أن الخليفة مزمع المجيء إلى السجن، فهيأت خطبة وعنيت بإنشائها، وفعل لبتون مثل ذلك، وكان المرجح أنه سيخاطبني أولا.
ثم جاءت الساعة الخطرة ودخل الخليفة إلى صحن السجن، وبدلا من أن يطلب المسجونين واحدا بعد آخر، وضع له عنجريب وقعد عليه وأحضر له المساجين وقعدوا في نصف دائرة، فأفرج عن البعض ووعد الآخرين ببحث قضاياهم، ولكنه لم يلتفت إلي ولا إلى لبتون.
فنظر إلي لبتون وهز رأسه فوضعت أصبعي على فمي أحذره من عمل أي شيء طائش. والتفت الخليفة إلى رئيس السجن وقال: «هل بقي علي شيء؟»
فقال السجان: «أنا في خدمتك يا مولاي.»
ثم قعد الخليفة بعد أن كان قد هم بالقيام والتفت إلي وقال: «عبد القادر، أنت طيب.»
فقلت: «يا مولاي، اسمح لي بالكلام أخبرك عن حالي.»
فأذن لي بالكلام فقلت: «أنا يا مولاي من قبيلة غريبة، وقد جئت أطلب حمايتك فحميتني، ومن طبع الإنسان أن يخطئ ويذنب إلى الله وإلى الناس، وأنا قد أذنبت ولكني الآن أتوب، أتوب إلى الله وإلى الرسول، ها أنا ذا يا مولاي في القيود والسلاسل أمامك، ها أنا ذا عريان جوعان أفترش الأرض وأرقد هنا صابرا أنتظر قدومك لكي تعفو عني، مولاي إني أتذلل لك وأرجو أن تفرج عني، ولكن إذا رأيت بقائي في هذه الحال التعسة، فأدعو الله أن يقويني على تحملها.»
وكنت قد حفظت هذه الخطبة جيدا وألقيتها بفصاحة نادرة، ورأيت أني بلغت بها الأثر الذي أردته في نفس الخليفة، ثم التفت إلى لبتون وقال: «وأنت يا عبد الله.»
فقال لبتون: «لا أزيد شيئا على ما قاله عبد القادر، اعف عني وأفرج عني.»
فالتفت إلي الخليفة وقال: «منذ مجيئك من دارفور عملت كل ما يجب أن يعمل لأجلك، ولكن قلبك بقي بعيدا عنا وأردت أن تلحق بغوردون الكافر وتحاربنا في صفه، ولقد وفرت عليك حياتك لأنك أجنبي، ولكن إذا كنت قد تبت حقيقة فأنا أعفو عنك أنت وعبد الله، يا سجان انزع عنهما القيود والسلاسل.»
فحملنا السجانون، وبعد استعمال الحيل تمكنوا من نزع القيود ثم أعادونا إلى الخليفة الذي كان قاعدا على العنجريب ينتظرنا، ثم أمر بإحضار القرآن فوضعه على فروة وطلب منا أن نقسم يمين الولاء له، فوضع كل منا يده على القرآن وأقسم بأن يخدمه بأمانة وولاء في المستقبل، ثم نهض وأمرنا بأن نسير وراءه، ونهضنا ونحن نكاد نجن من الفرح بالإفراج عنا بعد هذا السجن الطويل وسرنا في أثره.
ولما بلغنا منزله أمرنا بأن نبقى في مكان بعيد عنه وتركنا، وبعد دقائق عاد إلينا وقعد إلى جانبنا وحذرنا من عصيان أوامره، ثم قال إنه تسلم خطابات من قائد الجيش في مصر يقول فيها إنه قد أسر أقارب المهدي الذين كانوا في دنقلة، وإنه يعرض أن يقايض بهم على ما عند المهدي من الأسرى الذين كانوا مسيحيين.
وقال: «لقد قررنا أن نجيب بأنكم جميعا مسلمون وأنكم متحدون معنا ولا ترغبون في أن نقايض عليكم برجال ولو كانوا من قرابة المهدي، فليفعلوا ما شاءوا بأسراهم.»
ثم أضاف إلى ذلك قوله: «ولكن لعلكم تحبون العودة إلى النصارى؟»
فأكدنا له أنا ولبتون بأننا لا نرغب في تركه وأن مسرات الدنيا كلها لا تغرينا بمفارقته، وأن بقاءنا معه يفيدنا لأنه يرشدنا إلى طريق الخلاص، فجازت عليه أكاذيبنا ووعدنا بأن يقدمنا إلى المهدي الذي كان قد وعد الخليفة بزيارته في عصر ذلك اليوم في منزله، ثم خرج وتركنا.
وجاءنا كثير من الأصدقاء يهنئوننا بالإفراج عنا، وكان بينهم ديمتري زيجادة ولكن لم يكن معه المقدار المعتاد من التبغ، وكان بينهم أيضا صديقي القديم الشيخ عليش، فلما أخبرته بأننا سنقابل المهدي نصح لي بعض نصائح مفيدة في هذه المقابلة.
ولما غربت الشمس جاءنا الخليفة وأمرنا بأن نتبعه، فسرنا وراءه حتى دخلنا على المهدي وهو قاعد على عنجريب، وكان قد سمن سمنا فاحشا حتى ما كدت أعرفه، فركعنا أمامه وقبلنا يده عدة مرات، وأكد لنا أنه يرغب في الخير لنا وأن القيود والسلاسل تنفع الناس؛ يعني بذلك أن العقاب يمنع الناس من ارتكاب الجرائم فينفعهم لهذا السبب، ثم والى الحديث إلى قرابته الذين كانوا في أسر الإنجليز، وأنه رفض المقايضة بنا قائلا: «إني أحبكم أكثر مما أحب قرابتي؛ ولهذا رفضت المقايضة.»
فأجبته مؤكدا له الأمانة والحب، وقلت له: «إن كل إنسان يحب أن يحبك أكثر مما يحب نفسه؛ لأن من لا يفعل ذلك لا يمكنه أن يحب أحدا من قلبه.»
وكان الشيخ عليش قد أوصاني بأن أقول له ذلك، فلما سمع المهدي كلامي التفت إلى الخليفة وقال: «اسمع ما يقول. قل ثانيا.»
فكررت العبارة على مسامعه فأخذ يدي بين يديه وقال: «لقد قلت حقا. أحبني أكثر مما تحب نفسك.»
ثم طلب لبتون بك وأخذ يده وأمرنا كلينا بأن نقسم يمين الولاء؛ لأننا قد حنثنا بيميننا الماضية، فأقسمنا من جديد، وأمرنا الخليفة بالقيام فقبلنا يد المهدي وشكرنا له بره بنا وعدنا إلى مكاننا.
ومضى زمن قبل أن يأتينا الخليفة، ولما عاد أذن للبتون بأن يرجع إلى عائلته، وكانت لا تزال في بيت المال، وبعث معه بملازم يريه الطريق وأكد له عنايته به، ثم قال لي: «وأما أنت فأين تريد أن تذهب؟ هل تعرف أحدا تذهب إليه؟»
فقلت: «ليس لي سوى الله وأنت، ليس لي أحد يا مولاي يعنى بي، فافعل بي ما تراه خيرا لي.»
فقال الخليفة: «لقد كنت أرجو وأنتظر هذا الجواب منك، ويمكنك أن تعد من هذه الساعة واحدا من أسرتي، وسأعنى بك ولن تحتاج إلى شيء، وستنتفع بملازمتي، ولكن أشترط عليك شيئا واحدا وهو أن تطيع كل ما أرسله إليك من الأوامر، وواجبك ينحصر في أن تقعد مع الملازمين طول النهار على باب المنزل، أما في الليل بعد ذهابي فيمكنك أن تذهب إلى منزلك الذي سأخصصه لك، وعندما أخرج يجب أن ترافقني، وإذا ركبت فعليك أن تسير بحذائي حتى يأتي الوقت المناسب للإذن لك بالركوب إلى جانبي، فهل أنت راض بهذه الشروط؟ وهل تعد بالقيام بها؟»
فأجبت: «أنا راض يا مولاي كل الرضا بهذه الشروط، وستجد في خادما مطيعا وأرجو أن أجد القوة لكي أقوم بواجباتي خير قيام.»
فقال: «الله يقويك ويبعث لك الخير.» ثم نهض وقال: «نم هنا هذه الليلة في حماية الله وسأراك غدا.»
وبقيت وحدي وشعرت أني خرجت من سجني فدخلت في آخر، وأدركت في الحال ما رمى إليه الخليفة؛ فإنه لم يكن في حاجة إلى خدمتي لأنه لم يكن يثق بي أقل ثقة، ولم يكن يريد أن ينتفع بي في مقاومة الحكومة المصرية أو مقاومة العالم المتمدين.
ولكنه أراد أن أكون أمام عينيه يشرف علي على الدوام، ولعله أيضا أراد أن يعتز ويزهو بوجودي أمامه مطيعا كالعبد، فيفتخر بذلك أمام قبيلته التي هي الآن أساس سلطته، والتي كانت يوما ما تحت إمرتي، وكذلك يفتخر بعبوديتي أمام سائر القبائل التي كنت أحكمها، ومع ذلك قلت لنفسي يجب أن أعنى كل العناية بألا أغضبه وألا أتيح له الفرصة للأذى، وكنت أعرف الخليفة تمام المعرفة وأدرك أن ابتساماته لا تساوي شيئا، وقد قال لي هو ذلك في إحدى المرات؛ فقد كنا نتحدث فقال: «عبد القادر، إن من يتطلع إلى السيادة والسلطة يجب عليه ألا يظهر الناس على أغراضه، وإلا فإن خصومه وأعداءه يفسدونها عليه.»
وفي صباح اليوم التالي جاءني وطلب أخاه يعقوب، وأشار عليه بأن يخرج بي ويريني مكانا أبني فيه عشتي بحيث لا أكون بعيدا عنه، وكانت قرابة الخليفة قد أخذوا الأمكنة القريبة؛ ولذلك لم نجد أقرب من مكان يبعد عنه 600 ياردة، فأخذته لبناء عشتي.
ثم طلب الخليفة كاتب سره فأراني وثيقة موجهة لقائد الجيش الإنجليزي، خلاصتها أن جميع الأسرى الأوروبيين قد دخلوا في الإسلام باختيارهم، وأنهم لا يبغون الرجوع إلى بلادهم، وطلب مني أن أوقع هذه الوثيقة.
ثم سألني فجأة: «ألست مسلما؟ أين تركت زوجاتك إذن؟»
وكان هذا السؤال مربكا فقلت: «لي زوجة واحدة تركتها في دارة، وقد بلغني أنها أسرت مع سائر الخدم، وأنهم الآن في بيت المال.»
فقال: «وهل لك أولاد؟» فأجبته بالنفي فقال: «الرجل بلا ولد كالشجرة بلا ثمرة، وبما أنك قد صرت في خدمتي فسأعطيك بضع زوجات حتى تعيش عيشة هنية.»
فشكرت له عنايته بي، ورجوته أن يؤجل هديته إلى أن أنتهي من بناء عشتي، وقلت له في ذلك إن الحريم يجب ألا يعرض لنظر الأغراب، وكان أبو أنجة قد أخذ جميع أمتعتي، فأمر الخليفة بأن يعوضني منها بإعطائي مخلفات المرحوم أوليفيه بان، فأرسلت إلي جميعها؛ وكانت تحتوي على جبة قديمة وعباءة عربية بالية وقرآن مكتوب باللغة الفرنسية. وأرسل إلي فضل المولى يقول إن سائر أمتعة أوليفيه بان قد فقدت منذ وفاته. وأمر الخليفة بأن ترد إلي النقود التي كانت قد أخذت مني وأودعت بيت المال، وكانت تبلغ أربعين جنيها وبعض الأقراط التي جمعتها لطرافتها، وهذه كلها سلمها إلى حمد وأرسلها له.
وشرعت في بناء منزلي، وكنت في مدة البناء أقيم في منزل الخليفة، ووكلت أقدم خدمي سعد الله النبوي في بناء منزلي، وكلفته بأن يجعله مؤلفا من ثلاث عشش مستقلة داخل الحظيرة، ولم أكن أبرح باب الخليفة منذ الصباح الباكر حتى المساء، وكان كلما خرج راكبا أو ماشيا أسير معه عاري القدم. وكان الخليفة عندما رأى قدمي قد تلفتا من السير بلا حذاء قد أذن لي بأن ألبس نعلين، وكانتا تحزان في قدمي وتؤلمانني.
وكان الخليفة يرسل إلي فآكل معه في بعض الأوقات، وكان أيضا يرسل ما يتبقى من طعامه لنا فآكل مع الملازمين الذين صرت واحدا منهم. وإذا كان الليل وذهب إلى فراشه، توجهت أنا إلى منزلي فأنسطح على العنجريب وأنا في غاية الإعياء وأنام إلى الفجر، حيث أستيقظ وأذهب إلى باب الخليفة فأنتظره للصلاة .
ولما علم الخليفة بأن منزلي قد تم بناؤه أرسل إلي جارية، وقال لي سعد الله إنها جاءت متلففة، وإنها قاعدة تنتظرني، فأمرت سعد الله بأن يشعل مصباحا ويرشدني إليها ففعل، ووجدت المسكينة راقدة على حصير، وسألتها عن ماضي حياتها فأخبرتني بصوت مشئوم أنها من النوبارية، وكانت تنتمي إلى قبيلة في جنوبي كردوفان، وأنها سبيت وأرسلت إلى بيت المال فبقيت هناك إلى أن أرسلها إلي حمد واد سليمان، وكانت وهي تتكلم قد رفعت ما على رأسها من الأقمشة المعطرة التي كانت متلففة بها، فبدا لي وجهها وكتفاها وصدرها.
وأشرت إلى سعد الله بأن يقرب المصباح منها، ثم رأيت عندئذ أني في حاجة إلى أن أعبئ جميع قوتي لكي لا أرعب وأقع من العنجريب؛ فقد كان لها وجه دميم تطل منه عينان صغيرتان، وكان أنفها عظيما مفرطحا، تحته فم له شفتان غليظتان تكاد أن تبلغان أذنيها عندما تضحك، وكان رأسها يرتكز على عنق غليظ أشبه بعنق الكلاب التي من سلالة «البول دوج»، وكان اسم هذه المخلوقة مريم، فأمرت سعد الله بأن يأخذها بعيدا عني ويعطيها عنجريبا.
فهذه إذن هي أولى هدايا الخليفة لي، وهو لم يهد إلي حمارا أو فرسا أو بضعة نقود أستعين بها، ولكنه أرسل لي جارية دميمة لا أرتاح إلى وجودها، وهي لو كانت جميلة لما قدرت على القيام بتكاليفها.
ولما ذهبت في اليوم التالي سألني هل أرسل لي حمد واد سليمان جارية؟ فقلت: «أجل، لقد أنفذ أوامرك على الفور.» ثم وصفت له الجارية وصفا دقيقا.
فاغتاظ الخليفة أشد الغيظ وبعث في طلب حمد واد سليمان ووبخه على عدم طاعة أوامره، بل مخالفته أيضا أوامر المهدي. وأرسلت إلي في المساء جارية أخرى أقل دمامة من سابقتها، وكان الخليفة هو الذي اختارها، ولما هدأت بمنزلي سلمتها لمراحم سعد الله الخادم.
واطمأن المهدي والخليفة والأمراء من ناحية الغارات الخارجية، فشرع كل منهم في بناء منزل يوافق مكانته وحاجاته، وأخذت النساء سبايا الخرطوم إلى هذه المنازل الجديدة، وأخذ أسيادهن في التمتع بهن لا تزعجهم نظرة الغريب أو حسد الصديق.
ولم يكن الخليفة والمهدي وقرابتهما يحبون أن يعرف الناس أنهم أخذوا معظم الغنيمة لأنفسهم؛ لأن هذا العمل ينافي تعاليم المهدي الذي يقول بالزهد في ملذات الدنيا. وكانت منازلهم واسعة تسع أكثر ممن فيها؛ وذلك انتظارا للغنائم التي ستأتيهم من البلاد التي لم تفتح للآن.
وفي يوم ما مرض المهدي ولم يذهب إلى المسجد للصلاة، ولم يأبه أحد لمرضه أولا؛ لأنه كان قد أعاد على أسماع الناس عدة مرار أنه سيفتح مكة والمدينة والقدس ثم يموت بعد عمر طويل في الكوفة، وأن النبي قد أظهره على هذه الرؤيا، ولكن مرض المهدي لم يكن وعكة خفيفة؛ فقد استولت عليه حمى التيفوس، وبعد ستة أيام من مرضه بدأ الذين حوله يقنطون من شفائه.
وكان سيدي الخليفة يهتم اهتماما كبيرا بمرض المهدي ولا يبرح داره ليل نهار، وكنت أنا أقف على الأبواب بلا غاية معينة.
وفي مساء اليوم السادس اجتمع جمهور كبير حول بيت المهدي وأمر المصلون في المسجد بأن يصلوا ويدعوا لشفائه لأنه بات في خطر الموت. وكانت هذه أول مرة أعلنت فيه الصفة الخطرة للمرض المصاب به المهدي أمام الناس. وفي صباح اليوم السابع أذيع أن حالته تسوء ولم يبق شك في أنه يموت.
وكان المرض الآن قد بلغ غايته، وكان المهدي راقدا على عنجريب وحوله الخلفاء وقرابته وحمد واد سليمان ومحمد واد بشير - أحد كبار موظفي بيت المال ووكيل بيت المهدي - وعثمان واد أحمد والسيد المكي - وهو شيخ من شيوخ الدين في كردوفان - وبعض من كبار أنصاره الذين سمح لهم بالدخول في غرفة مرضه.
وكان المهدي يغيب عن وعيه من وقت لآخر، ولما شعر بأن آخرته قد قربت قال للذين حوله: «إن الخليفة عبد الله هو الخليفة الصادق، وقد عينه النبي للخلافة بعدي، فهو مني وأنا منه، وكما أطعتموني وأنفذتم أوامري كذلك افعلوا معه، الله يرحمنا.»
ثم جمع ما فيه من قوة وكرر عدة مرات عبارة: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ووضع يديه مشبوكتين على صدره ومد ساقيه وأسلم روحه.
وقبل أن يبرد دمه أقسم أنصار المهدي يمين الولاء للخليفة عبد الله، وكان أول من بايعه سيد المكي، ثم عقب ذلك الخليفتان الآخران وتبعهم جميع الموجودين. ولم يكن من الممكن أن يحتفظ بوفاة المهدي سرا لا يذاع بين الجمهور، ولكن أمر الجميع بألا يبكوا أو ينوحوا، وطلب من الجميع مبايعة الخليفة. وكانت ستنا عائشة أم المؤمنين كبرى زوجات المهدي في غرفة وفاته قاعدة متلففة في إحدى الزوايا، فلما مات خرجت من الغرفة لكي تخبر سائر النساء بوفاة مولاها وزوجها، وكان عليها أن تعزيهن وتمنعهن من النوح والندب. وكان معظمهن قد فرحن في قلوبهن بوفاة المهدي الذي جلب الخراب على البلاد، والذي دعاه الله إلى محكمته العليا قبل أن يتمتع بثمار انتصاره.
ولكن على الرغم من الأوامر القاضية بمنع النوح والندب، ارتفعت الأصوات من كل بيت، وقيل إن المهدي مات باختياره لأنه في شوق شديد لرؤية الله.
وشرع بعض الموجودين في غرفة المهدي بغسل الجثة ولفها في قماش من الكتان، وأخذ البعض في حفر حفرة عميقة في الغرفة التي مات فيها، وبعد ساعتين وضعوا الجثة في الحفرة وبنوا فوقها بالطوب، ثم طمروا الحفرة بالتراب وصبوا عليه ماء. ولما انتهوا من ذلك رفعوا أيديهم وتلوا عليه صلاة الموتى، وخرجوا من الغرفة وهدأ روع الجماهير المتكأكئة حول المنزل.
وكنا نحن الملازمين أول من دعي إلى الخليفة الذي صار يسمى بعد ذلك خليفة المهدي، فأقسمنا له يمين الولاء، وأمرنا بأن ننقل منبر المهدي إلى مدخل المسجد وأن نخبر الجمهور بأنه سيخطبهم الآن، فلما أخبرناه بأننا قد أنفذنا أوامره خرج من غرفة المهدي وذهب إلى المسجد واعتلى المنبر لأول مرة باعتباره حاكما للبلاد.
وكان يتفزر من الهياج، وعبراته تنحدر على خديه، ثم قال بصوت عال: «يا أصدقاء المهدي، إنه لا مرد لقضاء الله، لقد غادرنا المهدي إلى الجنة حيث يجد ملذات النعيم، وعلينا نحن أن نتبع تعاليمه، وأن نتعاون وأن نتساند كما يتساند بناء البيت. وهذا العالم فان، فلا تنحرفوا عن طريق المهدي، واغتبطوا بالشطر الحسن الذي معكم من أنصاره وأتباعه، وأنتم أنصاره وأنا خليفته، فأقسموا الآن إلي يمين الولاء.»
ولما انتهى من هذه الخطبة القصيرة شرع الحاضرون في المبايعة، وكانت صيغتها «بايعنا الله ورسوله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله ... إلخ»
وكانت كل طائفة تبايع تخرج وتأتي أخرى، وكان المجتمعون كثيرين حتى كانوا في خطر الموت من الزحام، واستمرت المبايعة إلى المساء. وكان الخليفة قد سكت عن البكاء وأخذت أمارات الفرح ترتسم على وجهه عندما رأى هذه الجماهير العديدة تزدحم لمبايعته.
وكان قد جهده التعب فنزل عن المنبر واحتسى جرعة ماء بعد أن جف ريقه من تعبه طول النهار، ولكن خاطر السلطة الجديدة وأنه الحاكم للقطر السوداني كان يؤنسه ويشد من عزمه، ولم يترك المنبر إلا بعد أن ألح عليه كبار أتباعه بذلك.
وقبل أن يترك المنبر طلب أمراءه وجعلهم يقسمون يمين الولاء على حدة، وأمرهم بلزوم طاعته وطاعة أخيه يعقوب، ونصح لهم بأن يعيشوا على وفاق بعضهم مع البعض لأنهم أغراب؛ وذلك لكي يكافحوا دسائس أهل البلاد التي نزلوا فيها، ثم حضهم على لزوم تعاليم المهدي.
وكنا قد تأخرنا إلى ما بعد منتصف الليل، فلم أرغب في الذهاب إلى منزلي، وانطرحت على الأرض حيث أنا أسمع روايات الناس عن موت المهدي واستعدادهم لطاعة الخليفة.
والآن يمكننا أن نتساءل، ماذا فعل المهدي لإحياء الدين؟ وما هي تعاليمه؟
لقد دعا إلى الزهد، وكان يجحد الملذات الدنيوية وغرور هذا العالم، وهدم النظام الاجتماعي ونظام الموظفين، وسوى بين الأغنياء والفقراء، واختار الجبة المرقعة لباسا عاما لجميع الناس، وضم المذاهب الأربعة: المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي، إلى مذهب واحد، ولم يكن اختلافها كبيرا، فإنه مقصور على كيفية الوضوء والسجود وكيفية عقد الزواج وما إلى ذلك. واختار بضع آيات من القرآن سماها الراتب، وكان يأمر المصلين بتلاوتها بعد صلاة الصبح وصلاة العصر.
وقد سهل على الناس عملية الوضوء ومنعهم من الشراب، وكان السودانيون لا يعقدون زواجا بدون أن يشربوا. وأنزل قيمة المهر إلى عشرة ريالات وثوبين للبكر، وخمسة ريالات وثوبين للثيب. ومن أعطى أكثر من ذلك كان يصادر في أملاكه. وقصرت وليمة العرس على طبق من اللبن وآخر من البلح؛ وكان يقصد تيسير الزواج. وكان يحتم على الآباء والأوصياء زواج بناتهم، وهن بعد صغيرات.
ومنع الرقص واللعب، وكل من خالف ذلك يعاقب بالجلد وتصفى أملاكه. وكان السباب يعاقب عليه بحساب ثمانين جلدة لكل كلمة بذيئة والحبس سبعة أيام. ومنع استعمال الخمور والمريسة وتدخين التبغ، ومن خالف هذه الأوامر يعاقب بالجلد والحبس ثمانية أيام ومصادرة أملاكه. وكان السارق يعاقب بقطع يده اليمنى، فإذا عاد إلى السرقة قطعت اليسرى.
ولما كانت عادة الرجال في عرب السودان إرسال شعورهم أمر المهدي بحلقها، وكذلك أمر بمنع النوح على الموتى أو ندبهم، ومنع الولائم التي تقام في المآتم، ومن خالف ذلك تصفى أملاكه.
ولما كان المهدي يخشى فرار جنوده، لعلمه بما يقاسونه من المعيشة التي رتبها لهم، ولعلمه أيضا بأن مذهبه قد لا يعد صحيحا في نظر المسلمين الآخرين؛ منع السودانيين من الحج إلى مكة، ومنع المواصلات بين السودان والأقطار المحيطة به.
وكان يعاقب كل من يصرح بالشك في صحة مذهبه ويشهد عليه اثنان بقطع يده اليمنى وساقه اليسرى، وكان يستغني أحيانا عن شهادة الشاهدين بما يدعيه من إيحاء النبي له وإثباته جناية المتهم أو براءته.
وكان أيضا يعرف أن معظم أوامره تخالف الدين، فأمر لذلك بمنع الناس من دروس الفقه وشروح القرآن، وقضى بأن تحرق هذه الكتب أو تلقى في ماء النيل.
هذه هي تعاليم المهدي، ولم يترك حجرا إلا قلبه لكي ينفذ أوامره. وكان في الظاهر يبدو للناس أنه يحافظ كل المحافظة على لزوم تعاليمه، ولكنه كان هو وخلفاؤه وقرابته إذا دخلوا منازلهم استسلموا للنهم في الطعام والشراب وللهو وضروب اللذات الشهوانية المنتشرة في السودان.
الفصل الحادي عشر
حكم الخليفة عبد الله
لم يحدث شيء ذو أهمية في دارفور منذ أن غادرتها، فإن خالد درزريك كان قد أرسخ حكم المهدي في المديرية بأجمعها، وبعث الأمراء والجيوش لكي يقوي حكم المهدي في جميع الأنحاء. وقد تظاهر ضابطي القديم عمر واد دارهو بالولاء للنظام الجديد، ولكنه عند وفاة المهدي قام في ذهنه أن يستقل، فكاد له خالد حتى أوقع به، وحمل إلى دارفور حيث قطع رأسه.
وكان أبو أنجة في كردوفان، وكانت هذه المديرية قد خضعت كلها للمهدي ما عدا الجزء الجنوبي فيها، وأرضه جبلية، فاعتبر أهل هذا الجزء عبيدا لم يدفعوا الجزية وطلب منهم الهجرة إلى أم درمان.
ولما لم يجيبوا هذا الطلب، دعي أبو أنجة إلى إخضاعهم وإلى احتلال بلادهم بجيشه وإجبارهم على تموينه وإرسال عدد منهم عبيدا إلى المهدي، وتمكن أبو أنجة بعد أن فقد مقدارا كبيرا من الذخيرة وعددا عظيما من رجاله من القيام بجميع ما أمر به تقريبا، وكان السودان الغربي باستثناء هذا الجزء الصغير منه خاضعا لسلطة المهدي من حدود وادي النيل إلى الأبيض.
أما في السودان الشرقي فقد ثبتت سنار وكسلة ودافعت كل منهما المهديين. ولما علمت الحكومة المصرية بالحالة الخطرة التي بات فيها الجنود في الحاميات الشرقية، أرسلت إلى يوحنا ملك الحبشة تستنجد به لكي ينقذ حاميات القلابات وجبرة وسنهيت وكسلة وينقلهم إلى مصوع، ولكن حاكم كسلة صرح بأن الحامية مؤلفة من أولاد البلدة، فهو لذلك لا يمكنهم أن يجعلهم يتركون بلدتهم إلى مصوع.
وأرسل المهدي كلا من إدريس واد عبد الرحيم وحسين واد صحرا بالأمداد لكي يعجلا بإسقاط المدينة، وفي هذه الأثناء كان الملك يوحنا قد أنقذ حاميات سنهيت وجبرة والقلابات وأرسلهم إلى مصوع، وصار العرب المقيمون في المثلث بين سواكن وبربر وكسلة من أتباع المهدي الخاضعين له، وكان عثمان دجنة قد انتخب واليا على هذا القسم، وأرسل محمد الخير إلى دنقلة لكي يحتلها بعد خروج الإنجليز منها.
هذه إذن هي حالة السودان عند تولي الخليفة، ومن هنا نفهم السبب الذي دعاه إلى أن يحث القبائل العربية الغربية على الاتحاد؛ لأنهم أغراب في البلاد التي يحتلونها؛ فإنه كان يعرف أن «أولاد البلد» من برابرة وجعالين وسكان الجزيرة لا يستمرئون قدوم هؤلاء العرب الغربيين الذين يختلفون عنهم في الأفكار والأخلاق إلى بلادهم.
وكان أول ما عمله الخليفة أنه فصل حمد واد سليمان من منصب مدير بيت المال وعين بدلا منه إبراهيم واد عدلان، وكان من عرب الكواحلة على النيل الأزرق، ولكنه أمضى عدة سنوات يشتغل بالتجارة في كردوفان، وكانت له حظوة عند الخليفة.
وطلب من عدلان أن يجعل حسابا للوارد والمنصرف، وأن يكون لهذا الحساب دفاتر تمكن مراجعتها في أي وقت وتعرف منها الحالة المالية، وأمره أيضا بأن يضع قائمة عن جميع أولئك الذين يتسلمون أي مبلغ من المال والذين يقبضون مرتبا.
وعند وفاة المهدي جاءت الأخبار بأن الغارة على سنار قد فشلت، وأن عبد الكريم قد صد عنها، فأرسل الخليفة عبد الرحمن النجومي لكي يتولى القيادة، وذلك في سنة 1885، فسلمت الحامية لهذا القائد القوي. وحدثت الفظائع المعتادة بعد سقوط المدينة؛ فإن عددا من أهالي سنار أرسلوا إلى الخليفة، وكان بينهم بنات الموظفين الجميلات، فاحتفظ الخليفة بأجملهن ووزع الباقي على الأمراء.
وشرع الخليفة في تأييد سيادته، وكان يعرف أن عبد الكريم مزاحم قوي فاستدعاه إلى الحضور إلى أم درمان بجميع جيوشه، ثم دبر له هو والخليفة علي واد هلو مكيدة؛ بحيث سلم عبد الكريم جميع ذخيرته وجنوده، وكذلك سلم الخليفة شريف جميع جنوده السود لأخيه يعقوب، وأصبح كل منهما مقلم الظفر لا خطر منه.
وبينما كانت هذه الأخبار تشيع في العاصمة، وصلت الأخبار بأن كسلة سقطت، وأن عثمان دجنة يقاتل الأحباش الذين يقودهم الرأس الوله. وقد انتصر الأحباش على عثمان دجنة واضطروه إلى الالتجاء إلى كسلة، ولكنهم اكتفوا بذلك ورجعوا إلى بلادهم.
واتهم عثمان دجنة حاكم كسلة السابق أحمد بك عفت بأنه فاوض الأحباش وحرضهم على مقاتلته، ولم يكن هناك أقل ما يثبت هذه التهمة، ومع هذا فقد قبض على ستة موظفين في كسلة وشدت أيديهم خلف ظهورهم وضربوا بالرصاص كأنهم مجرمون.
وكان الخليفة عبد الله يعرف أن جوره على سائر الخلفاء سيثير غضب قرابة المهدي الذي كانت علاقته بهم سيئة، ولكنه لم يبال بذلك، فقد عقد عزمه على أن ينفذ أغراضه ولو احتاج في ذلك إلى استعمال العنف. وقد كان مع ذلك يخشى الرأي العام، ويعرف أن الأهالي كانوا يحبون المهدي وأنهم يعطفون على قرابته، فلم يكن يظهر بمظهر العداء لهم، بل سار في طريق مرضاة الجمهور إلى أن أهدى إلى الخليفة شريف طائفة من العبيد وبعض الخيول العتيقة والبغال الفارهة، ووهب أتباعه أيضا عددا من العبيد، وقد اجتهد في أن يجعل هذه الهبات والإنعامات علنية حتى يعرفها جميع الناس، وقد نال وطره؛ فإن الناس حمدوا له فعله وامتدحوا سخاءه في قصائد كانوا يتغنون بها.
وكان واضحا أمام الخليفة أن ترك البلاد البعيدة في أيدي قرابة المهدي مما يعود بالخطر على حكمه؛ ولذلك لم يتوان في إرسال قرابته هو إلى دارفور وكردوفان لكي يلوا الحكومة.
وقد طلبني الأمير يونس الدكيم لكي أرافقه إلى سنار، ولكني قبل أن أغادر أم درمان قال لي الخليفة: «إني أحثك على أن تخدمني خدمة صادقة، فإني أنظر إليك نظرة الأب لابنه وقلبي يعطف عليك، والله يعد المؤمنين بالمكافأة كما أن غضبه ينزل على الخونة، ويونس يحبك ويرجو لك الخير وسيسمع لنصائحك، وإذا شرع في عمل يعود عليه بالأذى فيجب أن تحذره منه، وقد أخبرته بأني أعتبرك أحد أولادي وسيستشيرك في كل ما يعمله.»
فقلت: «سأعمل بما تأمرني، ولكن يونس رئيسي فهو لذلك سيستبد برأيه، فأرجوك ألا تنسب إلي عملا لا يكون وفق هواك وتجعلني مسئولا عنه.»
فقال: «إن لك أن تشير ولكن ليس لك أن تعمل، فإذا كان عمله وفق مشورتك، وإلا فهو المسئول.»
ثم تحول الحديث إلى مسائل دارفور وجهات أخرى من السودان.
واستمر الحديث مدة، ولكني حين أوشكت أن أهم بالقيام هتف الخليفة بأحد الخصيان وهمس في أذنه كلمة، وكنت أعرف مولاي معرفة جيدة وأعرف أن إشاراته نذير شؤم.
وقال لي: «لقد أشرت عليك بأن تترك أهلك؛ لأنهم قد جاءوا بعد سفر شاق؛ فهم في حاجة إلى الراحة، وسيعطيك يونس خادما، وها أنا ذا أعطيك زوجة حتى إذا مرضت وجدت من يعنى بك.» ثم تبسم وقال: «وهي جميلة وليست مثل تلك التي قدمها لك حمد واد سليمان.»
ثم أشار إلى المرأة التي دخلت فرفعت نقابها ونظرت إليها فإذا بها جميلة على الرغم من سمرتها.
ثم قال الخليفة: «هذه زوجتي وهي طيبة صبور، وعندي كثير من النساء، ولذلك أنا أعتقها فيمكنك أن تأخذها.»
فارتبكت وكنت طول الوقت أفكر في طريقة أرفض بها مثل هذه الهدية بدون أن أغضب الخليفة، فقلت: «اسمح لي يا مولاي بالكلام.»
فقال: «لا تخش شيئا، قل ما تريد.»
فقلت: «هذه المرأة يا مولاي زوجتك، وأنت سيدي وأنا خادمك، فكيف يجوز لي أن آخذ زوجتك؟ ثم إنك تقول يا مولاي إنك تنظر إلي كأني ابنك.»
ثم أغضيت الطرف وقلت وأنا أنظر إلى الأرض: «لا يمكنني أن أقبل هذه الهدية.»
فقال وهو يشير إلى المرأة بأن تذهب: «لقد قلت حقا وأنا أوافقك.»
ثم هتف بالخصي قائلا: «يا ألماس، أحضر جبتي البيضاء.» وذهب وأحضرها، فسلمها لي وهو يقول: «خذ هذه الجبة التي لبستها أنا مرارا والتي باركها المهدي، وسيغبطك ألوف الناس عليها، فاحرص عليها لأنها تأتيك بالبركات.»
فابتهجت بهذه الهدية وقبلت يديه وأنا مرتاح إلى تخلصي من تلك المرأة التي ما كانت سوى حجر عثرة ونفقة لا أتحملها، ووجدت في الجبة بديلا طيبا منها، ثم استأذنت في الخروج وأخذت هديتي الغالية معي.
وعين يونس يوم السفر، ولكن قبل السفر طلبني الخليفة وحثني على الصدق في الخدمة والأمانة أمام يونس.
وفي المساء برحنا أم درمان في الباخرة «بردين»، وفي اليوم الثالث بلغنا شاطئ النيل الأزرق وتراءت لنا سنار على بعد.
وقد اخترنا مكانا لخيامنا قطعة مستطيلة من الرمل شمالي وادي العباس؛ لأن الأرض التي حولها منخفضة لا توافق الإقامة مدة فصل الأمطار، ولم يكن رأسي يفكر الآن بشيء سوى الفرار، ولكن لما كان جميع الأهالي راضين عن الخليفة، فإني كنت في حاجة إلى أن أحذر أشد الحذر في اتخاذ واحد أثق به. ولم يمض علي طويل زمن في وادي العباس، حتى جاءني خطاب من الخليفة يقول فيه إنه جاءته أخبار بأن زوجتي قد وصلت إلى كروسكو، وإنها ترتب الترتيبات اللازمة لفراري، ثم حضني على أن أترك هذه الأفكار وألزم الإيمان، وتسلم يونس أيضا خطابا جاء فيه هذا المعنى، ثم تعلل بأنه يريد أن يوقف الخليفة على الأحوال في سنار، وأمرني بالسفر إلى أم درمان، وعلى ذلك ذهبت تدبيراتي للفرار ضياعا، ورأيت نفسي بعد أيام في حضرة مولاي الخليفة.
وبدأ الخليفة الكلام عن الخطاب الذي جاءه من بربر، فأكدت له بأنه إذا كان هذا الخطاب قد وصل بالفعل، فإنه لم يكتب إلا بغية الأذى لي، وإلا فقد يكون هناك خطأ، وبرهاني على ذلك أني لم أتزوج قط، فليس لي زوجة تصبو إلى لقائي. أما إذا جاء أحد إلى أم درمان وأراد إغرائي بالهرب فإني لن أتأخر عن إبلاغ أمره للخليفة.
فأكد لي الخليفة بأنه لم يصدق هذه الإشاعة، ثم سألني هل أحب البقاء معه أو مع يونس، وكنت أعرف قصده من هذا السؤال، فقلت إني لا أعدل بالبقاء معه شيئا. وابتهج من تملقي له، ولكنه قال بصوت جدي إنه يذكرني بالولاء والأمانة وألا أحادث أحدا خلاف أهل دارة، ثم أمرني بلزوم مكاني كما كنت سابقا على باب الدار.
وعند خروجي لم أشك في أن شبهات قد تأصلت في قلبه، وأنها ابتدأت في النمو. وكانت قوة الأبيض تحتوي في هذا الوقت على مائتين من الجنود السود، وقد زاد عددهم بما انضم إليهم من جنود دارة السود أيضا، وكان كثيرون منهم يقطنون جبل دبرو وهم على عداوة دائمة مع المهدي، وكان الدراويش قد أسروا بعضا منهم واستعملوهم في بناء أكواخهم واستعبدوهم.
واغتاظ هؤلاء الجنود من هذه المعاملة وعزموا على أن ينالوا حريتهم، وكان الأمير سيد محمود غائبا لحسن حظهم في أم درمان، وتمكن المتمردون من الاستيلاء على الترسانة، فأخذوا منها السلاح، ثم اقتتلوا مع سائر الجنود وخرجوا إلى جبل النوبة.
وبلغت هذه الأخبار السيد محمود في أم درمان، فسافر في الحال إلى الأبيض، وتولى قيادة الجند وسار إلى جبل النوبة، وحاول أن يهزمهم ولكنه فشل في ذلك وقتل هو وعدد كبير من الجند.
ولم يكن الخليفة يجهل تزايد قوة خالد - زوجال - واستقلاله في دارفور، وكان يعرف أنه لقرابته من المهدي يعطف على الخليفة شريف، فتعلل بأنه يرغب في أن يتوسط خالد بينه وبين الخليفة شريف في إيجاد الصلح والوفاق، ودعاه لذلك إلى الحضور إلى أم درمان مع جميع جنوده.
ولكن عندما وصل خالد إلى بارة وجد نفسه محوطا بأتباع أبو أنجة، وكان الخليفة قد أمرهم بأن يأخذوا جنود خالد ويضموهم إلى جيشهم ويذهبوا جميعا إلى جبل النوبة لمقاتلة المتمردين، ولم يكن بد من أن يخضع خالد بعد أن وقع في هذا الشرك، فقيد بالسلاسل وأرسل إلى أم درمان، ثم صودر في أملاكه وبقي سجينا عدة أشهر، ولكن عفي عنه بعد ذلك وعين بدلا منه عثمان واد آدم ابن عم الخليفة.
ونجح أبو أنجة في هزيمة المتمردين، فقتل جميع الزعماء وجعل معظم الجنود المتمردين عبيدا.
وعلمت من تاجر قدم إلينا من كردوفان في ذلك الوقت أن صديقي يوسف أوهروالدر قد غادر الأبيض، وأنه سيصل قريبا إلى أم درمان. ومع علمي بأني سأجد أكبر مشقة في لقائه فقد فرحت بأن أحد بني وطني سيكون قريبا مني، وكنت طول الوقت على باب مولاي الخليفة أنفذ أوامره، وكان يخاطبني أحيانا بلهجة الرأفة ويدعوني إلى الطعام فآكل معه، وفي أحيان أخرى كان ينساني نسيانا تاما أو ينظر إلي نظرة الحقد والغضب بلا مناسبة أستطيع فهمها، ولكني صرت أنسب هذه الأحوال إلى مزاجه الشخصي، وصرت أسوم نفسي على الرضا.
وكنت لا أبدي أقل اكثراث لما يحدث في البلاد من الحوادث؛ وذلك حتى لا يجدوا سببا في زيادة شبهات الخليفة الذي كان على الدوام يتوجس مني شرا ويسأل عن مسلكي، ولكن الحقيقة أني كنت أرقب الحوادث بعين الاهتمام بمقدار ما يسمح لي مركزي، وكنت أحاول أن أنقشها في ذهني حتى لا أنساها؛ لأنه لم يكن يسمح لي بكتابة شيء. وكان الخليفة يقتر علي في مئونة بيتي، وقلما كان يأذن بإعطائي بعض الأرادب من الذرة أو منحي بقرة أو شاة.
وكنت أعرف إبراهيم عدلان مدة الحكومة السابقة فكان يرسل لي كل شهر مبلغا يتراوح بين العشرة والعشرين ريالا، وكان بعض الموظفين والتجار يساعدونني أيضا بالمال من وقت لآخر، وعلى ذلك يمكنني أن أقول إن حالي وإن لم تكن في يسر فإني لم أشعر بالحاجة إلى ضروريات المعيشة، أو كنت أشعر بها قليلا من وقت لآخر فقط. وعلى كل كانت حالتي تفضل حال صديقي لبتون، الذي وعده الخليفة بمساعدته ولكنه لم يف بوعده. وكان لبتون يتمتع بشيء من الحرية؛ يجول أين شاء في أم درمان، ويحادث الناس، ولم يكن مضطرا إلى حضور الصلوات الخمس في المسجد، ولكن حياته كانت مع ذلك مملوءة بالمتاعب والأحزان، وقد رجوت عدلان أن يساعده ويعطيه شيئا من المال ولكن هذا لم يكفه. وكان لبتون يجهل التجارة ولكن الحاجة اضطرته إلى أن يربح شيئا بإصلاح البنادق الفاسدة. ولما كنت أعرف أنه كان مستخدما في السفن الإنجليزية قديما خطر في بالي أنه ربما يعرف شيئا عن الآلات.
والتقيت به أحد الأيام في المسجد، فشكا إلي سوء حاله شكاية مرة، فاقترحت عليه أن أبحث له عن وظيفة في البواخر يستعين بها على العيش، فطرب لمقترحي ووعدته بأني سأعمل جهدي لكي أحقق له ذلك.
وبعد أيام بينما كان الخليفة في مزاج موافق ينظر إلي بعين الرضا؛ لأن أبا أنجة أرسل إليه جوادا عتيقا وبعض المال وعددا من عبيد خالد، فعدت لتناول الطعام معه، وذكرت له حال البواخر وأنها يخشى عليها من التلف؛ لأنه ليس فيها من يفهم آلاتها وكيفية إصلاح ما يفسد منها، فقال لي إنه لا يعرف شيئا عنها مطلقا، وإنه في حيرة ماذا يفعل لصيانتها؛ فإنها ضرورية. فاقترحت عليه في الحال بأنه يمكن أن نستخدم لبتون فيها لصيانتها وإصلاحها، وقلت له إن لبتون كان مهندسا في إحدى البواخر الإنجليزية، فوافقني الخليفة على اقتراحي وأمرني بالبحث عنه.
وفي اليوم التالي بحثت عن لبتون ودعوته للحضور، فحضر وأخبرته بما قاله الخليفة، ولكني نصحت له بألا يعمل شيئا مفيدا للبواخر التي يملكها أعداؤنا.
فأكد لي لبتون بأن معرفته بالآلات سطحية جدا، وأنها ستسوء بإدارته، وأن الحظ السيئ هو الذي سيجبره على قبول هذه الوظيفة، وخاطب الخليفة عدلان في هذا الشأن، وفي المساء أرسل إلي لبتون يقول إنه قد تعين في هذه الوظيفة براتب قدره أربعون ريالا في الشهر، وفي هذا المبلغ كفاف المعيشة.
وأشيع في ذلك الوقت في أم درمان أن الأحباش سيغيرون على القلابات، وقيل أيضا إن من يدعى الحاج علي واد سالم من الكواحلة كان يقيم في القلابات، وقد تعين أميرا على قبيلته، وكان يسيح في تخوم الحبشة فأغار على جبطة وهدم كنيستها.
وكان من يدعى صالح شنجة، وهو رجل تكروري، كان يقيم قبلا في القلابات فلما أخلاها الجنود المصريون ذهب وأقام في الحبشة، ولكن ابن عمه أحمد واد أرباب عين أميرا في ذلك القسم.
وكان حاكم أمهرة - في الحبشة - الرأس عدل قد طلب من «أرباب» أن يسلم له الحاج علي الذي أغار على جبطة، فرفض طلبه فجمع جيشا وأغار به على القلابات.
وكان «أرباب» قد علم بنية الرأس عدل على الهجوم، فجمع جيشا يبلغ ستة آلاف ووقف ينتظره خارج المدينة، ولكن هجوم الأحباش الذي كان يزيد عددهم على عدد السودانيين بعشرة أضعاف كان عنيفا، فأحدقوا بالدراويش وذبحوهم وقتل وذبحوهم وقتل «أرباب» ولم ينج إلا عدد قليل جدا، وقطع الأحباش أجسام القتلى ومثلوا بهم، ما عدا جسم «أرباب» فإنهم استثنوه احتراما لصالح شنجة.
وكان الدراويش قد خزنوا بارودهم في منزل ووكلوا حراسته لمصري، فلما طالب الأحباش هذا المصري بتسليم البارود أبى وأشعل البارود فانفجر وقتله هو ومن حوله من الأحباش. أما القلابات نفسها فقد أحرقها الأحباش وسووها بالأرض بحيث صارت خرابا لا يعيش فيها سوى الضباع.
ولما بلغ الخليفة خبر اصطلام جيش واد أرباب، أرسل خطابا إلى الملك يوحنا يعرض عليه افتداء الأسرى بمبلغ يعينه هو بنفسه، ولكنه في الوقت نفسه أمر يونس بأن يقوم بجيشه إلى القلابات وينتظر أوامره هناك.
وعندما غادر يونس الخرطوم بجيشه عبر الخليفة النهر إلى الخرطوم وشيعه ثم عاد إلى أم درمان.
وحدث أن «كلوتز» اختفى فجأة من أم درمان، وكان هذا على أثر فشله في الحصول على ما يعيش به، وظننت أنه قد فر ونجا، ولكني علمت من بعض التجار الواردين من غضارف أنه وصل إلى هذه البلدة، وقد بلغ به الإعياء حتى مات قبل هجوم الأحباش.
الفصل الثاني عشر
بعض الحوادث الأخرى
كان الأمير كرم الله قد تولى الحكم في بحر الغزال بعد لبتون وذهب إلى شقة وأقام فيها، ولكن صديقي القديم المادبو كان يحكم هذه الجهة، فاصطدم الاثنان وتنازعا السلطة.
وانتهى النزاع بالشجار وفر المادبو بعد مقاومة غير مفيدة، فقبض عليه وأرسل إلى أبي أنجة، وكان يحقد عليه لعلة سابقة؛ وذلك أن المادبو أسره أحد الأيام عندما كان يقاتل في صف سليمان زبير وكلفه حمل صندوق كبير من الذخيرة، فلما شكا إليه أبو أنجة جلده، ولما أحضر المادبو حاول أن يدافع عن نفسه بقوله إنه لم يقاتل المهدي وإنما كان يقاتل كرم الله، ولكن ما فائدة الدفاع في هذه الأوقات؟
وعرف المادبو أن الدفاع لا فائدة فيه فاستسلم لقضاء الله، وقال: «إن الله هو الذي يقتلني، وأنا لا أسأل الرحمة وإنما أطلب العدل، ولكن كبير على عبد مثلك أن يكون شريفا، وها هي ذي آثار سوطي على ظهرك لم تزل واضحة، ومهما جاءني الموت فإنه سيجدني رجلا هادئا مطمئنا لقبوله، فأنا المادبو والقبائل تعرفني.»
وأمر أبو أنجة برده إلى السجن ولكنه لم يجلده، وفي اليوم التالي قتله أمام جيشه، وبر المادبو بوعده؛ فإنه وقف في الساحة الفسيحة المعدة لقتله والسلاسل حول عنقه وكان يضحك في وجه الجنود الذين كانوا يركضون الخيول ويلوحون بالرماح في وجهه، ولما أمر بالركوع لكي يقتل صاح في الناس أن يشهدوا عليه كيف مات وتحمل الموت بشجاعة، وبعد لحظة انتهى كل شيء، وهكذا ختمت حياة المادبو وكان من أقدر شيوخ العرب في السودان.
ولما أحضر رأسه إلى أم درمان حزن عليه جنود الرزيفات الذين كانوا قد هاجروا إلى أم درمان، حتى الخليفة نفسه أسف على قتله. ولكن لما كان كل شيء قد انتهى لم يكن ثم مجال لأن يلوم أكبر أمرائه على شيء فات، ولكنه أخبرني أنه لو عاش لكان فيه منفعة كبيرة.
وكان يونس قد غادر أبا حرز إلى الغضارف والقلابات حيث أقام وكانت سلطته واسعة، وحدث أنه طلب من الخليفة أن يأذن له في الإغارة على الحبشة، ولم يكن الخليفة قد تسلم الجواب من الملك يوحنا على خطابه فأذن له. فأخذت جيوش يونس في الإغارة على القرى المتاخمة، وكان يقودها عرابي ضيف الله، فكان يقتل الرجال ويسبي النساء والأولاد. وكانت هذه الجيوش سريعة الحركة كثيرة الإغارة، حتى لقد سارت مرة عشرين ميلا في داخل البلاد تنهب وتقتل وتفتك، ولكن يونس كان في القلابات وعلاقته بالأحباش على ما يرام، يتاجر معهم فيأتونه بالبن والعسل والشمع والطماطم وريش النعام والخيول والبغال والعبيد. وحدث مرة أن جاءت قافلة كبيرة من الجبارتة - وهو من مسلمي الأحباش - ومن المكادة ومعهم متاجر عظيمة، فلم يقو يونس على كبح أطماعه، فادعى أنهم جواسيس أرسلهم الرأس عدل وقبض عليهم وأخذ سلعهم، واستحسن الخليفة عمله حتى سماه «عفريت المشركين» و«مسمار الدين».
وكان يونس قد أرسل إليه جميع الفتيات الجميلات اللاتي سبين في الغارات كما أنه أرسل إليه عددا من الخيول والبغال، وطمع الخليفة في التوسع، وكان أيضا مغتاظا من الملك يوحنا؛ لأنه لم يجب على خطابه، فعزم على أن يضم جيش يونس إلى جيش أبي أنجة ويغير بهما على الحبشة، وطلب من يونس أن يبقى بجيشه ويتخذ خطة الدفاع إلى أن تأتيه أوامره.
وأرسلت الأوامر إلى أبي أنجة لكي يرسل 1500 من جنوده المسلحين ببنادق منجتون إلى عثمان واد آدم الذي عين أميرا لكردوفان ودارفور، وطلب منه أن يحضر هو بنفسه مع سائر جيشه إلى أم درمان.
وقبل هذه الحوادث بمدة قليلة كانت قبيلة الكبابيش التي تقيم بين كردوفان ودنقلة قد ظهر منها شيء من العصيان، فأرسلت إليهم تجريدة نجحت في إخضاعهم وغنمت منهم مقادير كبيرة من الماشية والعبيد، ولجأ شيخ القبيلة الشيخ صالح إلى أم بدر؛ وهي بقعة بعيدة، ومعه عدد قليل من أتباعه.
وأرسل الشيخ صالح إلى وادي حلفا يستنجد بالحكومة المصرية، فسلمت لوكيله مائتي بندقية وأربعين صندوقا من الذخيرة ومائتي جنيه وبعض المسدسات الملبسة بالمعدن.
وكان في أسوان في ذلك الوقت تاجر ألماني يدعى شارل نيوفلد، وكان يعرف ضيف الله أجيل شقيق إلياس باشا الذي فر حديثا من السودان. وعلم منه أن في كردوفان مقادير كبيرة من الصمغ لم يستطع التجار إصدارها بالنسبة للثورة، وأنه يمكن بمعاونة الشيخ صالح أن تنقل إلى وادي حلفا، فأغراه الطمع في المال أن يذهب بنفسه إلى الشيخ صالح، ويظهر أنه لم يجد صعوبة كبيرة في الحصول على إذن بالسفر إلى السودان بعد أن وعد بكتابة تقرير عن الحالة في السودان، وفي أوائل أبريل 1887 غادر وادي حلفا قاصدا الشيخ صالح.
وكان النجومي عارفا بقيام القافلة فوضع أناسا على الطرق لكي يخبروه بالطريق التي تسلكها القافلة، ومما زاد الطين بلة أن الدليل ضل في طريقه فقاست القافلة عذابا كبيرا من العطش، ولما وصلوا إلى آبار الكاب وجدوا بضعة دراويش في انتظارهم، فنشب قتال انهزم فيه رجال صالح لما كان بهم من الإعياء والعطش، وأسر بعضهم وكان بين الأسرى نيوفلد، وفي بدء القتال عزم نيوفلد على ألا يبيع حياته رخيصة؛ فإنه اتخذ مكانا وراء القافلة وكانت معه خادمة حبشية، ولكن القتال لم يبلغ إليه.
وعند انتهاء القتال عرض عليه الدراويش أن يعفوا عنه إذا سلم نفسه، فرضي وأخذ إلى النجومي في دنقلة مع سائر الأسرى، وقتل النجومي جميع الأسرى ما عدا نيوفلد؛ فإنه حقن دمه لكي يرسله إلى أم درمان.
وكنت قد سمعت أن أسيرا أوروبيا سيرسل إلى أم درمان، وفي أحد الأيام في شهر مايو رأيت جمهورا يسير نحو دار الخليفة وفي وسطه رجل أوروبي قد ركب جملا، وكان المشاع على ألسنة الناس أنه الباشا حاكم وادي حلفا، وكان بين المسجد وبين دار الخليفة بناء يدعى رقوبة، يجلس فيه الملازمون، وإلى هذا البناء أدخل إلينا نيوفلد.
فلما رأيته صمت؛ لأني كنت أعرف أخلاق الخليفة وجواسيسه، وتظاهرت بالمجانة لا أكترث لما يجري أمامي.
ولما سمع الخليفة بوصول نيوفلد بعث في طلب الخليفتين والقاضيين طاهر المجذوب والأمير بخيت ونور أنجرة، الذي كان قد وصل حديثا من كردوفان حيث كان يحارب مع أبي أنجة، وأرسل أيضا في طلب يعقوب أخيه. وعندما دخلوا همست في أذن نور أنجرة قائلا: «افعل جهدك لكي ينجو الرجل.»
وطلبني الخليفة وأمرني بأن أجلس مع المجتمعين معه، ثم أخبرنا بأن الرجل جاسوس إنجليزي وطلب من الشيخ طاهر المجذوب أن يستجوبه، وطلبت أنا في الحال أن يؤذن لي بأن أخاطبه بلغة أوروبية فأذن لي، وذهبت أنا وطاهر إلى الرقوبة حيث كان نيوفلد.
ولما ذكر اسمي قام نيوفلد وصافحني وهو فرح، فنبهته إلى وجوب مخاطبته الشيخ طاهر الذي وكلت إليه محاكمته، وأنه يجب عليه الخضوع كل الخضوع لما يقال له. وكان يجيد التكلم بالعربية وأحدث استعداده للكلام أثرا سيئا في نفوس سامعيه، فطلبوا أن يرسل إلى الخليفة وكان حكمهم أنه جاسوس يجب أن يقتل، ولما صرنا جميعا في حضرة الخليفة قال لي: «وما رأيك أنت فيه؟»
فقلت: «كل ما أعرفه أنه ألماني؛ أي إنه ينتسب لأمة لا تهتم بمصر.»
وسلم إلي الخليفة أوراقا وطلب مني قراءتها، ورأيت في عينيه أنه يحدق النظر في لكي يعرف ضميري.
فوجدتها تحتوي على كشف أدوية مكتوب باللغة الألمانية، وخطاب بالإنجليزية إلى نيوفلد فيه أخبار عن الحالة في السودان، كذلك خطاب طويل من الجنرال «استيفنسن» ينبئ فيه بأنه منحه الإذن بدخول السودان مع القافلة القادمة، وفي الوقت نفسه يطلب معرفة أخبار وافية عن الحالة عموما.
ترجمت هذا الخطاب للخليفة غير أني تكتمت ما طلبه الجنرال من معرفة الأخبار، فقلت له إن ما يطلبه هذا الرجل هو السماح له في دخوله البلاد وهو يشتغل في التجارة كما أخبر الشيخ طاهر. وقد رأيت الخليفة في تلك اللحظة يحدق النظر بي، ثم أمرنا بالانصراف انتظارا لأوامره خارج الدار.
وقد اجتمع في ذلك الأوان عند البناء المسمى «الرقوبة» آلاف الناس بقصد رؤية الباشا الإنجليزي، وما هي إلا هنيهة حتى جاء بعض الضباط السود وأوثقوا يدي نيوفلد وأمروه بمغادرة الرقوبة، فوقفت أنا والقاضي «نور أنجرة» على كومة من الأحجار نرقب ما سيحدث.
وفي تلك اللحظة التي ظنها نيوفلد آخر حياته حدق بنظره إلى السماء ثم خر ساجدا دون أن يطلب إليه ذلك، فأمروه بالنهوض ومن ثم تقدم رجل يحمل أرغونا وابتدأ يعزف أنغاما مطربة فوق رأس نيوفلد. ولقد دهشت لما رأيت أن ذلك لم يربكه قط، واندفعت خادمته الحبشية بدافع الإخلاص لسيدها طالبة أن تقتل معه، ولكنها أعيدت إلى الرقوبة في الحال، وقد تيقنت حينئذ أنا والقاضي بأن الخليفة يداعب نيوفلد كما يداعب القط الفأر، وأن الحكم بإعدامه لم يصدر بعد، فحاولت أن أشير إليه ولكنه يظهر أنه لم يتنبه إلى إشارتي.
ثم عدنا بعد ذلك في حضرة الخليفة، فبادر الشيخ طاهر بقوله: «هل أنتم تصرون على إعدام هذا الرجل؟» ثم التفت إلى نور أنجرة وقال له: «ما رأيك وأنت الذي طلبت العفو عن نيوفلد وقلت إنه شجاع؟» ثم التفت إلي وقال: «ما رأيك أنت يا عبد القادر؟» فقلت: يا مولاي إن الرجل يستحق القتل، ولو كان هناك أي حاكم غيرك ما تأخر عن قتله، ولكن علو نفس مولاي الخليفة ورحمته لا شك بأنهما سيشملانه، خصوصا أنه اعتنق الدين الإسلامي، وأن رحمة الخليفة به لا محالة ستقوي عقيدته. وقد عفا عنه القاضي أحمد من قبل، كما أن الخليفة لم يكن في عزمه قط أن يقتله كما ظهر لي.
وحينئذ أمر الخليفة بإعادة نيوفلد إلى الرقوبة بعد أن فكت أغلاله، إلا أنه أصدر الأمر بأن يعرض على أنظار الجمهور، ثم أن يسجن بعد ذلك حتى صدور أوامر أخرى. ثم التفت الخليفة إلي وأمرني بألا أختلط مع نيوفلد بعد الآن، فانسحبنا جميعا ولكني لم أعدم الفرصة لأبلغ نيوفلد بما قضاه الخليفة من أنه سيعرض على أنظار الجمهور، وبعد ذلك نفذ الأمر وعرض على الأنظار.
وفي اليوم التالي استدعاني الخليفة وأبلغني أن النجومي يقول إن نيوفلد أغري بواسطة الحكومة ليتصل بالشيخ صالح الكباشي ويساعده على محاربة المهديين، فأوضحت للخليفة عدم صحة هذه الرواية؛ إذ إن أوراق نيوفلد صحيحة مستوفاة، وإن الحكومة على أي الحالات لا يعقل أن تعهد إليه بعمل كهذا. وقد تبادر إلى ذهني في أول الأمر أنه صدق قولي في هذا الصدد، ولكني تيقنت من الضد بما أظهره لي من الاحتقار وعدم الثقة مدة من الزمن.
وبعد أيام قليلة عقد الخليفة استعراضا كبيرا أخذ إليه نيوفلد مكبلا بالحديد وراكبا جملا، ولما التقى بالخليفة سأله عن آرائه فيما يختص بكتائبه، فأجابه بأنها بالرغم من وفرة عددها لا تزال الجيوش المصرية أحسن نظاما منها وتدريبا. وعند ذلك أمر الخليفة برده إلى «الرقوبة» سجينا.
ورغبة في الانتقام من الشيخ صالح الذي لم يقدم ولاءه للخليفة، أرسلت إليه حملة قضت على حياته وفرقت رجاله؛ وبهذا قضي على حياة آخر شيخ مخلص للحكومة المصرية.
وفي أواخر يوليو وصل «أبو أنجة» إلى أم درمان مصحوبا بقوة تقدر بعشرين ألف رجل، وبعد أسابيع قليلة أرسل جزء من هذه القوة تحت قيادة «زكي طومال» لإخضاع «أبوروف» شيخ قبيلة جهينة الذي لم يلب نداء الخليفة ويذهب إلى أم درمان، فدحر زكي طومال معظم رجال تلك القبيلة، وأرسل كثيرا من السبايا وأسرى الأطفال هدايا للخليفة، وأحضر الباقي بعد ذلك إلى أم درمان؛ حيث اشتغلوا في نقل الماء وعمل الحصر. وبيعت قطعانهم بأبخس الأثمان في الأسواق؛ فبيع الثور أو الجمل الذي قيمته 40 أو 60 ريالا بريالين أو ثلاثة.
وتلقى أبو أنجة الأوامر لكي يوالي السير من أم درمان إلى القلابات بعد تشتيت شمل قبيلة جهينة، ويتولى هناك قيادة الجيوش. فعند وصوله جمع القوات المرابطة في المراكز الجنوبية عند أبي هرر، وأخذ ينظمها ويعد العدة للأخذ بثأر «واد أرباب» من الأحباش، واجتمعت تحت إمرته أكبر قوة جمعت من عهد الخليفة عبد الله؛ إذ كان مجموع ما تحت قيادته 45 ألفا من حاملي الرماح و800 من الخيالة و50 ألف بندقية، فغادر القلابات بهذه القوة مخترقا ممر «منتك» قاصدا «رأس أوال»، ولست أعلم حتى هذه اللحظة لماذا لم يهاجم الأحباش أعداءهم أثناء اختراقهم هذه الممرات الضيقة والوديان السحيقة التي كان يتعذر عليهم فيها استعمال نيران بنادقهم، فإذا لم يتمكنوا من صد أعدائهم فإنهم على الأقل يستطيعون أن يلحقوا بالدراويش خسائر تذكر. وكل ما أمكنني إدراكه هو أن الأحباش ربما تأكدوا من فوزهم النهائي وعملوا على جرهم بعيدا داخل المملكة حتى يقطعوا عليهم خط رجعتهم، وبذلك يبيدونهم عن آخرهم. فابتدأ القتال على سهل «دبراش»، وكان تحت قيادة الرأس «عدل» ألفان من المحاربين، واتخذ له موقعا يهدد به جناح أبو أنجة الشمالي، ولكن أبو أنجة كان لديه من الوقت ما يسمح له بالانسحاب من التلول وأن ينظم صفوفه وهو يتقهقر، فحمل الأحباش المرة تلو الأخرى على الدراويش إلا أن هؤلاء تمكنوا من صدهم بعد أن حملوهم خسائر فادحة، وأخذ أبو أنجة بعد ذلك في الهجوم حتى انتصر في معركة حاسمة.
وكان يتولى القيادة في كسلا «أبو حرجة»، وقد أمر باللحاق «بعثمان دجنة» ليعاونه في القتال، وترك «أحمد واد علي» نيابة عنه في كسلا، وعرج في طريقه على أم درمان ليرفع إلى الخليفة تقريرا عن حالة القبائل العربية النازلة بشرقي السودان، ورغم أنه وصل إلى أم درمان في ساعة متأخرة من الليل، إلا أن الخليفة قابله مقابلة طويلة خصوصية، وقد أبلغني أثناء خروجه أن خطابا ورد لي من أهلي.
وبعد بضع دقائق طلبت عند الخليفة وأبلغت بأن حاكم سواكن بعث بخطاب إلى «عثمان دجنة» يظن أنه من عند أهلي، وأمرني الخليفة بفتحه في الحال وإخباره عما يحتويه، فتصفحته بسرعة وأشد ما آلمني خبر وفاة والدتي، وقد أخبرني إخوتي بأنها ما كانت تطلب في آخر حياتها وهي على فراش الموت إلا أن يجمع البارئ بيني وبينهم.
ولما لاحظ الخليفة طول الوقت الذي استغرقته في مطالعة الخطاب سألني عن اسم من أرسله لي، وما هي محتوياته، فأجبته بأن إخوتي هم الذين بعثوا به إلي وأني سأترجمه؛ إذ لم يكن هناك داع لكتمان أي شيء فيه؛ فهو عبارة عن بضعة أسطر سطرها إخوة بؤساء إلى أخ بعيد عنهم.
وقد أبلغته مقدار جزعهم علي لطول غيابي عنهم، وكيف أنهم على استعداد لعمل أي تضحية في سبيل خلاصي واستردادي لحريتي، ولما وصلت في الخطاب إلى الجزء الخاص بوالدتي قلت للخليفة إنه بسبب بعدي عنها كانت في كل أوقات مرضها تتضرع إلى الباري كي تراني قبل موتها، كانت تتمنى ذلك ولكن أمنيتها لم تتحقق ففاضت روحها قبل أن تراني، وفي تلك اللحظة التي نضب فيها لعابي ولم أقو على الاستمرار في الكلام، بادرني الخليفة قائلا: «ألا تعلم والدتك بأني أرحم عليك من أي مخلوق كان؟ وعلى كل حال إني لا أتصور أنها كانت على ما تذكر من الحال، فعليك أن تحزن لوفاتها، ولكن يجب أن تعلم أنها ماتت مسيحية ولم تعتقد في الرسول والمهدي، وعلى ذلك هي لا تلاقي رحمة ربها.»
فهاجت أعصابي عند سماع قوله هذا ولكني لم أفه بكلمة، ثم استرجعت قواي وصرت أتلو عليه ما جاء في الخطاب عن زواج أخي هنري، وأن «أودلف» وأخواتي البنات بخير، وطلبوا إلي في آخر خطابهم أن أكتب إليهم عن الطريقة التي يمكن عملها لاسترداد حريتي، كما طلبوا إلي الإسراع في الإجابة عليهم. فقال لي الخليفة: «اكتب إلى واحد من إخوتك كي يسرع في الحضور إلى هنا وأخبره بأنه سيكون موضع إجلال واحترام، وسوف لا يحتاج إلى شيء بالمرة ما دام مقيما هنا، ومع ذلك سأتكلم معك في هذا الشأن مرة أخرى.» وبعد ذلك أشار علي بالانصراف، فانصرفت وكان رفاقي الذين علموا بوصول هذا الخطاب ينتظرونني بفارغ الصبر ليسمعوا مني ما حواه، وبمجرد أن تلاقوا معي وجهوا لي عدة أسئلة كنت أجاوبهم عليها بكل اقتضاب.
ولما ذهب الخليفة إلى راحته اتكأت على سريري «عنجريبي»، فسألني خدمي عن الأخبار فكنت أطلب إليهم عدم محادثتي.
ثم أخذت أحدث نفسي قائلا: «وا أسفاه عليك يا والدتي! فإنني أنا الذي كنت سببا في لحظاتك السيئة الأخيرة.» وقد أخبرني إخوتي في خطابهم بآخر كلماتها التي كانت تفوه بها، فعلمت أنها كانت تقول:
إني على استعداد لملاقاة الخالق، إني على استعداد للموت، ولكني أرجو أن أرى وأقبل رودلف قبل أن تفيض روحي.
وكانت تقول أيضا:
إنني كلما تذكرت أنه في قبضة أعدائه تزداد آلامي.
آه، إني أتذكر جيدا كلماتها التي فاهت بها لما عولت على القدوم إلى السودان، لقد كانت تقول لي: «يا بني إن روحك المضطربة تدفعك إلى المغامرة بحياتك في بلاد بعيدة لا تعلم عنها شيئا، وربما يأتي الوقت الذي تنتهي فيه من كل ذلك وتقبل على حياة هادئة.» فما أصدق كلماتك يا والدتي! وما أعظم الشقاء الذي سببته لك!
وبعد أن فكرت في هذا كله صرت أنوح ثم أنوح، لا بالنسبة لما أنا عليه من حال سيئ بل من أجل أمي العزيزة التي فاضت روحها بسببي.
وفي صباح اليوم التالي أرسل لي الخليفة وطلب مني مرة أخرى أن أترجم له الخطاب، وأمرني أن أرد في الحال على إخوتي لأخبرهم بأني في رغد من العيش، فنفذت ما طلبه وكتبت خطابا كله ثناء على الخليفة وإعجاب بخصاله وكم أنا سعيد بجواره، ولكني كنت أضع كل كلمات المدح والإطراء وحسن الحال داخل أقواس وبجوارها علامات استفهام. وكتبت في ذيل الخطاب ما يشير إلى أن تلك الكلمات الموضوعة بين الأقواس هي عكس الحقيقة.
وفي الوقت نفسه طلبت إلى إخوتي أن يكتبوا إلى الخليفة خطاب شكر على حسن معاملته لي! وأن يرسلوا له كيس سفر كبير، ويرسلوا لي مبلغ 200 جنيه و12 ساعة اعتيادية تستحق أن تكون هدايا لأقدمها إلى أمراء الخليفة الذين يسرون بها كثيرا، وطلبت نسخة القرآن مترجمة إلى اللغة الألمانية، ولكي لا يجزعوا قلت لهم إني أرجو أن تسمح الظروف بملاقاتنا قريبا.
طلبت إليهم أن يرسلوا تلك الطلبات إلى قنصل النمسا في القاهرة الذي يرسلها إلى حاكم سواكن، وهذا يبعث بها إلى عثمان دجنة ومنه تصل إلي. وقد سلمت هذا الخطاب إلى الخليفة فبعث به رسولا كان ذاهبا إلى عثمان دجنة ليرسله إلى سواكن.
وقد حزنت قبل وصول الخطاب المحزن بنحو شهر تقريبا لما أصاب صديقي «لبتون»، الذي كان يشتغل في جمرك الخرطوم وأرغمته حالته الصحية على أن يترك عمله وعاد بعد ذلك إلى أم درمان يشكو الفاقة، ولكن لحسن حظه كان قد عاد صديقه «صالح واد الحاج علي» من القاهرة ومعه بعض النقود أرسلها إليه بعض أفراد أسرته من القاهرة مع صالح المذكور.
وكان واد الحاج علي هذا طماعا في ابتزاز الأموال، حرامها وحلالها؛ فقد أعطى «لبتون» قبل ذلك مبلغ 100 ريال وأخذ منه تحويلا على أخيه بالقاهرة بمبلغ 200 ريال قبضها بمجرد وصوله، ولما عاد إلى أم درمان أعطى لبتون 200 دولار واغتصب لنفسه باقي ما أرسله أخو «لبتون» وهو ما يقرب من 800 دولار. وقد ساعد هذا المبلغ الضئيل «لبتون» نوعا على فك ضيقه، وهذا مع ما كان يؤمله من أن هناك مخاطبات دائرة بشأن إطلاق حريته؛ كانا سببا في تخفيف شيء من آلامه. وكان هذا المسكين قد حضر معي ذات يوم من المسجد عقيب الصلاة إلى المنزل، وأخذ يستشيرني في انتقاء شخص يضع عنده مبلغ ال 200 دولار؛ بحيث يأخذ منه ما يريده كلما شاء؛ إذ إنه يخشى إذا بقيت معه أن يندفع في الظهور بالبذخ والإسراف؛ ومن ثم يفتضح أمره وتعرف صلاته بالقاهرة فيلاقي حتفه.
كنا نتحادث عن حالتنا وما نحن عليه، وقد كان في تلك اللحظة منشرح الصدر أكثر من عادته، رغم ما كان ينتابه من الآلام في ظهره والضعف العام في كل جسمه.
وقد تركته حوالي الظهر. وفي يوم الثلاثاء التالي أرسل لي خادمه يطلب أن أذهب إليه لأنه يشكو مرضا شديدا، وأبلغني خادمه أن سيده مصاب بحمى شديدة، وأنه ملازم الفراش من ثلاثة أيام، فوعدت الخادم بأني قادم إليه سريعا. وفي المساء طلبت إلى الخليفة أن يسمح لي في الذهاب. وفي صبيحة اليوم التالي - وقد حصلت على الإذن بقضاء عامة اليوم مع هذا المريض - ذهبت في الحال إلى منزله فوجدته في حالة يرثى لها؛ وجدته يشكو ألم حمى التيفوس، وحالته شديدة لدرجة أنه لم يتمكن من معرفتي لما دخلت في أول الأمر، وقد حدثني بعد ذلك بألفاظ متقطعة موصيا بأن أعتني بأخته، ثم تمتم كلاما عن والده.
الفصل الثالث عشر
حملة الأحباش
وما كان يدور بخلد أحد أن انتصارات المهديين يسكت عليها من جانب الأحباش؛ فقد أعد الملك «جان» عدته وجمع قواته بعد أن استتب له الأمر في الداخل ببلاده، أعد العدة لغزو القلابات. وبالفعل أحرزت قوات الأحباش نصرا في بادئ الأمر، إلا أن نصرهم انقلب هزيمة عندما أصيب الملك «جان» برصاصة قضت عليه لساعته، فارتد الجيش الحبشي بغير نظام وتعقبه «زكي طومال» الذي تمكن من الاستيلاء على تاج الملك ومتاعه وأخذ جثته غنيمة.
وقامت على أثر ذلك في بلاد الأحباش ثورة داخلية بسبب تطلع كثيرين إلى العرش.
وكان الإيطاليون يحتلون مصوع منذ بدء عام 1885، وعلى ذلك مكنتهم تلك الثورات الداخلية من الاستيلاء على مناطق واسعة داخل حدود الحبشة بالقرب من مصوع، وقد قوى الاستيلاء عليها مركز الدراويش في القلابات؛ لأن الأحباش شغلوا باسترداد ما استولى عليه عدوهم الجديد.
وبينما كانت القوة المعسكرة في القلابات تحت رحمة الملك «جان» في بادئ الأمر، كان «عثمان واد آدم» في حرب شديدة في غربي السودان، وقد شتت شمل السلطان يوسف ودحر جيشه وجعل عساكره بدون مأوى في شرقي السودان وغربيه، وقد حكم على أمرائه وأتباعه بأشد العقوبات وساق أتباعه من النساء والأطفال غنائم وأرسلهم مخفورين إلى الفاشر، وانتشر الهرج والمرج في جميع الأنحاء حتى حدود «دار تاما».
وكان في ذلك الوقت بتلك الناحية شاب هرب من أم درمان، ينتسب إلى قبيلة من القبائل النازلة على ضفاف النهر، ويسكن في تلك الناحية مستظلا بشجرة جميز ، فلقبوه من أجلها بأبو جميزة، فوصل إليه بعض من هؤلاء الرجال الذين شتت شملهم «عثمان واد آدم» وانضموا تحت لوائه، فجمع شملهم وتولى قيادتهم للأخذ بثأرهم، وبالفعل تم له النصر في أول الأمر على قوة صغيرة من قوى الدراويش كانت في ذلك الوقت قريبة منهم. وكان لذلك الانتصار صداه، فانضم إليه كثير من الدارفوريين وكونوا قوة عظيمة تحت إمرته سار بها إلى الفاشر، إلا أن المنية عاجلته في الطريق فقضى نحبه، فانقض «عثمان واد آدم» على جيشه وكان على بضعة أميال من الفاشر وهزم هذا الجيش شر هزيمة.
أما الخليفة فكان في هذه الأثناء يسر في نفسه غزو الديار المصرية، وقد استشار من أجل ذلك كثيرا من زعمائه، فحسنوا له غزو مصر لما احتوت عليه من حدائق غناء وقصور فخمة وسيدات لونهن أبيض جميلات.
وبطبيعة الحال كان أكفأ قواد الخليفة في ذلك الوقت، والذي يصح أن توكل إليه قياد الجيوش الغازية، هو «ابن النجومي»؛ لشجاعته النادرة، ولأنه عرف مصر وخباياها لما كان تاجرا بسيطا، وفضلا عن ذلك أنه كان من أشد أنصار الدعوة المهدية، يعمل لنشرها بكل ما أوتي من حول وقوة.
وكانت الجيوش التي تحت أمره مكونة من أبناء القبائل النازلة على ضفاف النيل، الذين عرفوا مصر جيدا ولهم صلات قرابة ونسب مع القبائل في مديريات الوجه القبلي الملاصقة.
فمن أجل هذا، لما أصر الخليفة على غزو مصر لم يفكر في إسناد قيادة الجيوش الفاتحة لغير ابن النجومي.
وكان الخليفة يحسب حسابا كبيرا لهذا الفتح ويقدر نتائجه، وكان يخشى الهزيمة والخسارة؛ ولذلك تدبر في الأمر وقرر أن يرسل مع ابن النجومي جيوشا من القبائل النازلة بقرب السودان التابعة له، لا من القبائل التي تنتمي إليه حقيقة؛ حفظا لهم ووقاية من الوقوع في الهزيمة. فجهز جيش ابن النجومي من قبائل «الجالان» و«الدناجلا» و«النيفاريون»، وقبيلتا «الجالان» و«الدناجلا» من أتباع الخليفة الشريف، وقد كان الخليفة عبد الله ينظر إليهما دائما كما ينظر إلى الأعداء.
وكان الخليفة يتمنى بكل جوارحه نجاح الحملة، وما كان يخالجه شك في قدرة قائده وإخلاصه، وكان يمني نفسه بغزو الديار المصرية ليضيف إلى ملكه بلادا جديدة، إلا أن المصريين انتصروا عليه وألحقوا به خسائر فادحة، وردوا جيوشه منهوكة القوى إلى دنقلة.
وإن حوادث ذلك العهد التي انتهت بهزيمة جيش الدراويش في واقعة توشكا في 3 أغسطس سنة 1889 وموت ابن النجومي معروفة لا تحتاج إلى إعادة إيضاح هنا.
ولكن بمناسبة تكوين الحملة السالفة الذكر من رجال القبائل التي قلنا إنها في الأصل كانت معادية للخليفة وهو يوجس منها خيفة دائما أبدا؛ أروي حادثة حدثت لقبيلة من تلك القبائل؛ فقد حدث أن ترددت قبيلة «البتاهية» في القدوم إلى أم درمان لتقديم طاعتها إلى الخليفة، فجهز للهجوم عليها حملة هزمتها شر هزيمة، وأسرت منها ما يقرب من 67 رجلا بأهلهم، وكانت هذه القبيلة مشهورة بقوة رجالها أيام أن كانت الحكومة المصرية مستولية على السودان.
وأمر الخليفة بمحاكمة هؤلاء الأسرى بتهمة «العصيان»، فلما سأل قضاته عن عقوبة العصيان أجابوه بلا تردد «الموت»! وبعد ذلك أمر الخليفة بإعادتهم إلى السجن، وأخذ يعد المعدات اللازمة لتنفيذ الحكم عليهم.
وبناء على إرادته أقاموا ثلاث مشانق في ساحة السوق، وبعد صلاة الظهر دقت الطبول إيذانا بقرب ميعاد التنفيذ، وجاء الخليفة متبوعا بحاشيته راكبا، ولما اقترب من مكان التنفيذ نزل وجلس على سرير صغير وحاشيته من حوله، منهم من هم ركوع ومنهم من هم وقوف، ثم أحضروا أمامه أولئك الرجال مكتوفي الأيدي يحيط بهم رجال عبد الباقي، بينما كانت النساء والأطفال تتبعهم نائحات نادبات.
وأمر الخليفة بأن يجعل النساء والأطفال في ناحية والرجال في ناحية أخرى، وبعد ذلك جاء «أحمد الدليا» و«طاهر واد الغالي» و«حسن واد خبير»؛ وهم الذين انتقاهم الخليفة لتنفيذ الحكم على هؤلاء التعساء، وأمر ثالثهم بأن يذهب ويأمر الحراس بأن يأخذوهم إلى المكان الذي نصبت فيه المشانق.
وبعد ربع ساعة قام الخليفة وتبعه جميع من كان حوله إلى ساحة السوق؛ حيث رأينا منظرا تقشعر منه الأبدان، وجدنا هؤلاء البؤساء قسموا إلى ثلاث فرق؛ قسم نفذ فيه حكم الشنق، وقسم تحت التنفيذ، والقسم الثالث قطعت أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى. ووقف الخليفة يشاهد هذا المنظر بنفسه؛ وقف يشاهد كومة من جثث الرجال، وقف يشاهد من قطعت أيديهم وأرجلهم، وقف يشاهد هذه الأيدي وتلك الأرجل مبعثرة هنا وهناك، وقال ل «عثمان واد أحمد» أحد القضاة - وقد كان من أعز أصدقاء الخليفة «علي» وأحد أركان تلك القبيلة - وهو يشير إلى تلك الجثث: «يمكنك الآن أن تأخذ ما بقي من أفراد قبيلتك.» قال ذلك بكل سخرية، فارتعدت فرائص الرجل ولم يقدر على الإجابة.
وعاد الخليفة بعد ذلك وأخذ «أحمد الدليا» يتمم مهمته، فترك 23 جثة هامدة ملقاة على الأرض هنا وهناك، والباقي ينفذ فيهم الحكم بأفظع حال.
وقد كان هؤلاء يلاقون الموت بشجاعتهم المعهودة فيهم ولم يجزع واحد منهم، بل كان معظمهم يردد كلمات تنبئ عن البسالة؛ كأن يقول أحدهم: «الموت حق»، أو «لا بد لكل واحد أن يموت»، أو «من لم ير في حياته شجاعا يلاقي الموت فليقدم إلى هنا ليرى بعينيه.» وغير ذلك مما يثبت عدم اكتراثهم لما كانوا يلاقونه.
وبعد ذلك تمت إرادة الخليفة بأن أعدموا جميعا، ولما عاد إلى دارة أصدر أمره بأن يترك النساء والأطفال بدون مأوى حتى يباعوا بأرخص الأثمان.
وبالرغم من تلك المناظر التي كانت تقشعر منها الأبدان، كنت أشعر بسرور في نفسي لما وصلني من الأخبار بأن هناك خطابات ستصل إلي قريبا من إخوتي، وأن في الطريق صندوقين لي من النقود. وفي صباح يوم بينما كنت جالسا أمام الباب، وصل جمل يحمل صندوقين، وطلب الجمال مقابلة الخليفة شخصيا، قائلا إنه جاء ومعه رسائل من عثمان دجنة، وأمر الخليفة بعد أن تقابل مع الجمال بأن يرسل الصندوقان إلى بيت المال، وكان قد دهش في أول الأمر لما رآهما، وأمر أيضا بأن تعطى الخطابات إلى كتاب سره، وضاق صدري لطول الانتظار؛ لأني كنت أحب أن أعلم ما ورد لي، وكانت للخليفة لذة خاصة في عدم إبلاغي أي شيء قبل غروب الشمس . فلما غربت ناولني الخطابات، وكانت - كما لاحظت - من إخوتي وهم يظهرون فيها سرورهم العظيم لما تسلموا مني خطابا وعلموا بأني لا زلت على قيد الحياة.
وكان أحد تلك الخطابات باللغة العربية موجها إلى الخليفة نفسه يشكرونه فيه على عنايته بي، والذي كتبه هو الأستاذ «واهر مند»، فجعله كله آيات مدح، فلما اطلع الخليفة عليها صار يترنم بذكر كاتبها وأمر بقراءة الخطاب في المسجد عقب الصلاة، ثم أمر بعد ذلك بأن يرد الصندوقان إلي.
وترجمت إليه الخطابات التي وصلت إلي، وأبلغته أن إخوتي أرسلوا إليه كيس سفر هدية، وأنهم يلتمسون منه التنازل بقبول هذه الهدية الصغيرة التي لا تتناسب مع مقامه العظيم، فقبلها وأمرني بإحضارها إليه في صباح الغد، وأرسل معي تابعيه ليحضرا فتح الصندوقين، فتوجهنا جميعا إلى بيت المال حيث فتحناهما، فوجدت فيهما مائتي الجنيه التي طلبتها، وكذلك الساعات وأمواسا للحلاقة ومرايا وجرائد وترجمة القرآن باللغة الألمانية وهدية الخليفة، وقد تسلمت كل هذه الأشياء ثم توجهت إلى حجرتي وأخذت أعيد قراءة خطاباتي، واحتفظت بالصحف التي تحوي أخبار بلادي العزيزة!
وكانت تلك الصحف عبارة عن أعداد جريدة
Nene Freie Presse ، وهي بطبيعة الحال فيها الكفاية لسد رمق من لم يعرف شيئا عن أخبار بلاده منذ ست سنوات، وجاءني الأب «أوهروالدر» خفية وأخذنا معا نقلب تلك الصفحات.
وفي صباح الغد قمت مبكرا وحملت الهدية وذهبت إلى الخليفة فأمرني بفتحها، ولما رأى ما احتوت عليه من علب المعدن اللامعة والزجاجات والأمواس والفرش، أظهر إعجابه الكثير، ثم ابتدأت أوضح له فائدة كل شيء على حدة، وحينئذ أرسل في طلب القضاة الذين كانوا في ذلك الوقت يباشرون عملهم، فلما جاءوه واطلعوا على ما احتوته الحقيبة دهشوا كثيرا، ولو أني كنت على يقين من أن كثيرا منهم رأوا مثل هذه الأشياء قبل الآن.
وبعد ذلك طلب الخليفة كاتب سره وأمره بأن يكتب في الحال خطابا لإخوتي، يبين فيه المركز السامي الذي أشغله عند الخليفة وثقته التي لا حد لها في أخيهم، وأن يدعوهم للحضور إلى أم درمان لزيارتي، وأن لهم الحرية التامة في الرجوع بعد تأدية الزيارة.
وأمرني بأن أكتب لهم مثل ذلك ، وبالرغم من وثوقي بأنهم لا يجيبون هذه الدعوة كتبت إليهم بألا يجيبوها وبألا يحضروا.
وأرسلت المراسلات مع نفس الرسول الذي قدم من قبل عثمان دجنة، وأعطى الخليفة لعثمان التعليمات بأن يبعث تلك الرسائل بنفس الطريقة التي سبق له أن بعث بها فيما مضى.
وكان الخليفة في هذا اليوم منشرح الصدر مسرورا، وكان سروره بسبب قدوم جميع أفراد قبيلته التعايشة إلى أم درمان؛ لأنه كان قد طلب إليهم ذلك ومهد لهم كل السبل التي تسهل عليهم القدوم. إلا أنهم ظنوا أنفسهم أسياد الحرث والنسل واستولوا على كل شيء مروا به من ماشية بجميع أنواعها، ونهبوا متاع الرجال وحلي النساء في طريقهم، مع أن الخليفة - كما قدمت - كان أمر بتشييد مخازن للمؤن في طول طريقهم لتسد حاجتهم، وكانت المراكب والبواخر قد أعدت لنقلهم إلى أم درمان.
ولما وصلوا إلى الضفة اليمنى لأم درمان أمرهم الخليفة بالانتظار بعد أن قسمهم إلى قسمين وبعد أن أمر بأن يلبس الرجال والنساء أزياء جديدة من بيت المال، ثم أخذ يستقبلهم جماعات جماعات في أم درمان، واستغرقت مدة نقلهم من الضفة اليمنى إلى أم درمان يومين أو ثلاثة أيام؛ حتى يلفت الأنظار ويعلم الجميع أن أسيادهم قدموا إلى المدينة، وأخلي لهم الجزء الواقع بين المسجد والحصن ليكون مقرا لهم، وأعطي السكان الذين تركوا ديارهم أرضا بدلا منها، كما أصدر أمره لبيت المال بأن يمد يد المساعدة لتشييد مساكن جديدة لهم.
ولكي يسهل على أفراد قبيلته سبل المعيشة - وكانت أسعار الغلال قد أخذت في الصعود - أصدر أمره بمصادرة جميع الغلال المخزونة وبيعها بأرخص الأثمان لرجال التعايشة، وقسم الأموال التي جمعت بين أصحاب الغلال الذين عادوا فاشتروا غلالا بأضعاف أضعاف ما باعوا، ويمكنني أن أقول إن ثمن عشرة أرادب بيعت للتعايشة صارت بعد ذلك تساوي ثمن إردبين لما أراد أصحاب الغلال شراء بدل منها.
ولما نفد ما كان مخزونا في أم درمان أرسل الخليفة رسله إلى الجزيرة ليصادروا كل ما يجدونه هناك، ولكن تلك الأعمال التي عملها في سبيل راحة أفراد قبيلته وما ارتكبه هؤلاء من سلب ونهب، سببت كراهية أتباعه فيه.
والآن قد انتشرت المجاعة في جميع أنحاء السودان؛ حيث لم يسقط مطر.
ولما وقعت المجاعة وانتشرت في بربر قبل غيرها من نواحي السودان، نقصت المحصولات لدرجة أنها أصبحت لا تسد حاجة السكان، ورحل أغلب هؤلاء إلى أم درمان التي كانت مزدحمة أشد ازدحام؛ فاشتد الخطب وارتفعت أثمان المحاصيل حتى بلغ ثمن الإردب من الحنطة 40 ريالا، ثم ارتفع بعد ذلك إلى 60 ريالا، فمات الفقراء جوعا، وكانت الأشهر الأخيرة من عام 1889 أشهر شقاء وبؤس وتعاسة، فتكت المجاعة فيها بالناس فتكا ذريعا، وانحطت حالة القوم الصحية حتى أصبحت أجسامهم هياكل عظمية تحوي العظام وعليها الجلود البشرية فقط.
وصار الناس يأكلون كل شيء؛ فأكلوا جلود الحيوانات القديمة، ولم يتركوا حتى الجلود المصنوعة منها سررهم؛ فقد كانوا يقطعونها ويغلونها في الماء ثم يأكلونها ويشربون الماء، وانتشرت السرقات وعمت الفوضى، فكان كل من في قدرته ارتكاب السرقات فعل.
وإني أذكر حادثة وقعت أمامي؛ فقد رأيت رجلا اختطف من غيره قطعة شحم والتهمها بكل شراهة، فهجم عليه صاحبها محاولا إخراجها من فمه فأحاط عنقه بيديه وخنقه، ولكن اللص لم يخرج فريسته من فمه وأخيرا وقع مغمى عليه.
وقد كنت تسمع في ساحة السوق، حيث يجلس النساء لبيع سلعهن، نداء الاستغاثة في كل لحظة من هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم السلب والنهب.
وكانت الساحة الواقعة بين بيت الخليفة وبيت يعقوب تزدحم كل ليلة بالذين يصرخون مطالبين بالخبز، وكان بعضهم يتبعني عند ذهابي إلى منزلي محاولين اقتحامه، وفي ذلك الوقت ما كنت أمتلك من القوت إلا ما أسد به رمقي ورمق حاشيتي وأصدقائي الذين معي.
وفي ذات ليلة - وكان القمر بدرا - بينما كنت راجعا إلى منزلي حوالي الساعة الثانية عشرة ليلا، شاهدت بالقرب من بيت الأمانة - مخزن السلاح - شيئا يتحرك على الأرض، فتوجهت شطره لأرى ما هناك، ووقفت أرقب منظرا بشعا تقشعر منه الأبدان؛ رأيت ثلاث نساء عاريات مسدلات شعورهن الطويلة على أكتافهن، يتهافتن على أكل جحش صغير يخيل لي أنهن خطفنه من أمه، وقد رأيتهن يقطعن من لحمه بأسنانهن ويأكلن منه، وكان هذا الحيوان المسكين لا يزال على قيد الحياة، فهجم عليهن الذين كانوا يتبعونني واختطفوا الفريسة منهن، وحينئذ تركت هذا المنظر فارا إلى داري!
وفي يوم آخر رأيت امرأة يظهر لي أنها كانت في يوم من الأيام جميلة، رأيتها ملقاة على الأرض وبجانبها طفلها الذي قد لا يتجاوز من العمر عاما وهو يحاول الرضاعة، ولكنه كان يحاولها من أم أصبحت للأسف جثة هامدة! وبقي يتأوه ويتألم على ذلك الحال حتى مرت عليه امرأة أخرى فأخذته.
وفي ذات يوم مرت بداري سيدة ومعها بنتها الوحيدة، وكانت هذه المرأة على ما يظهر لي من قبيلة «الجالان»، تلك القبيلة التي يمكنني أن أقول إنها أحسن القبائل حالا، جاءت هذه السيدة وبنتها على شفا حفرة من الموت تطلب مني مساعدتهما، فجدت إليها بكل ما أمكنني أن أجود به، وبعد ذلك عرضت علي أن تسلمني بنتها وتتركها لي رقيقة لأحميها من الموت جوعا، وكانت تتلفظ بهذا القول ودموعها تنهمر من عيونها، فطلبت إليها مغادرتي ومعها بنتها وأعطيتها كل ما كان في وسعي أن أعطيه.
ووجدت امرأة أخرى تأكل طفلها! فساقوها إلى مركز البوليس لتأخذ جزاء ما فعلت، ولكنها ماتت بعد يومين.
وكان الناس يبيعون أولادهم ذكورا وإناثا لا لغرض الحصول على أثمانهم؛ بل لحفظ حياتهم عند من يقدر على تموينهم، وبعد أن انقضت تلك السنة استردوهم بأثمان عالية.
وكانت جثث الموتى في الشوارع لا تحصى ولا يوجد من يحملها، وأصدر الخليفة أمره مكلفا كل شخص بأن يحمل الجثث التي توجد أمام داره ليواريها بالتراب، ومن لم يفعل تصادر أملاكه.
وكان لذلك بعض التأثير، إلا أن أصحاب المنازل كانوا يزيحون ما أمام منازلهم إلى قرب منازل جيرانهم؛ تخلصا من العقاب، فتسبب من ذلك وقوع المشاكل والمضاربات بين الناس. وكنت ترى الجثث طافية في النيل آتية من البلاد الواقعة على ضفتيه وعددها لا يحصى.
وكان جل الذين ماتوا في أم درمان من الذين وفدوا عليها من الخارج لا من سكانها الأصليين؛ إذ إن هؤلاء كانوا قد خزنوا ما وقعت عليه أيديهم من غلال، وكانت كل قبيلة تساعد جارتها إذا احتاجت.
وكان الحال عكس ذلك في جهات السودان الأخرى، وكان ما أصاب قبيلة «الجالان» أشد مما أصاب أي قبيلة أخرى، ولو أنها كانت أحسن قبائل السودان حالا.
وأما سكان دنقلة فكانوا أحسن حالا من غيرهم، وكان أسوأ السكان حالا سكان القضارف والقلابات، وكان «زكي طومال» قد أصدر أوامره في أول المجاعة بأن تجمع كل الحبوب التي في جهاته على أن يتمون منها جيشه، فنجم من ذلك موت الكثير جوعا.
وكثرت حوادث السلب والنهب في تلك الجهات، وأصبح الواحد من سكانها يخشى الخروج بدون سلاح يحمي به نفسه ممن يريد السطو عليه، لا ليسرقه بل ليفترسه ويأكله كما حدث ذات يوم لأحد أمراء قبيلة الحمر؛ فقد وجدت رأسه في اليوم التالي ملقاة في طرف من أطراف المدينة، أما جسمه فلم يوجد؛ لأنه أكل بطبيعة الحال.
وأبيدت بسبب تلك المجاعة قبائل «الحسابيا» و«الشكرية» و«العقالان» و«الحمرة» عن آخرها، وبذلك خلت بقاع واسعة في السودان من السكان.
وكان الحال في دارفور أحسن منه في القضارف والقلابات، كما كانت القبائل الغربية كقبيلة «حمر» و«دار تاما» و«مزاليط» أحسن حالا من الفاشر نفسها؛ إذ كانوا قد منعوا تصدير الحبوب إليها.
وقد يخيل إلي أن هذه المجاعة حلت بهؤلاء القوم لينتقم بها البارئ - جلت قدرته - من هذا الخليفة الجبار وشيعته. وعلى أثر انتشارها جهز تجار أم درمان مراكبهم بالحبوب وذهبوا إلى فاشودة، فبدلوا غلالهم بأشياء أخرى كالنحاس والبلح وغيرها، وعمل مثلهم سكان جهات أخرى وصلوا بغلالهم حتى أعالي نهر السوباط.
وبعد ذلك ابتدأ فصل الأمطار ونمت المزروعات ففرح الناس لإزالة الخطب، إلا أن جيوشا من الجراد حلت بالبلاد ففتكت بالمزروعات فتكا ذريعا.
ولما كان الخليفة لا هم له إلا إغداق النعم على أفراد قبيلته والسعي لتوفير راحتهم، أصدر أوامره إلى السكان بألا يبيعوا النزر القليل من محاصيلهم التي جمعوها بعد فتك الجراد إلا لأفراد قبيلته بأرخص الأثمان. ولما كان هذا القدر لا يكفي بطبيعة الحال لسد رمقهم، أصدر أوامره إلى إبراهيم عدلان لكي يتوجه إلى الجزيرة ليرغم الأهالي هناك على تقديم ما لديهم من الذرة بدون مقابل، إلا أن عدلان لم يوافق على هذا الطلب وعارض فيه بكل إباء وشمم.
ولقد بحث الخليفة عبد الله مع أخيه يعقوب في هذا الشأن وغيره. وكان يعقوب هذا من ألد أعداء عدلان، الذي يروي عنه الناس أنه طيب القلب عالي الهمة، لا يميل لاضطهاد الناس بتكليفهم ما لا طاقة لهم به، بل على النقيض من ذلك كان يأخذ على عاتقه في كثير من الأوقات ما يقع على غيره من المسئوليات، ولقد جمع ثروة طائلة ما كانت لتخفى على الخليفة.
وسمع الخليفة من يعقوب وأصدقائه أن نفوذ عدلان في البلاد لا يقل عن نفوذه، وقالوا إنه دائما يتكلم في المجالس ضده وضد حكومته، وكان من أقواله للناس أن المجاعة لم تكن إلا بسبب إرهاق الخليفة لهم في سبيل راحة أبناء قبيلته، وقد تسبب من هذه الوشايات أن أحيل عدلان إلى المحاكمة، فقضت عليه بأن يقبل الموت أو الفقر، ففضل الأول، فساقوه مكتوف اليدين إلى صدره حتى ساحة السوق، وهناك نفذوا فيه الحكم. وكان رابط الجأش لدرجة أنه هو الذي وضع رأسه بنفسه في حبل المشنقة، ورفض أن يشرب الماء الذي قدم إليه طالبا الإسراع في تنفيذ الحكم، وقد سقطت جثته وهو يشير بسبابته إشارة أنه يموت مسلما موحدا لله، سبحانه وتعالى. وحزن جميع السكان على قتله إلا أن الخليفة سر سرورا عظيما؛ لأنه قضى على شخص كان يوجس منه ومن نفوذه خيفة، وكان غير مطيع لأوامره. وأرسل الخليفة أخاه ليسير في جنازة عدلان؛ إشارة إلى أنه لم يشنق إلا تنفيذا للقانون لا حقدا عليه كما ظن الناس.
وولى الخليفة بدله خازنا لبيت المال المدعو «نور واد إبرهيم»، الذي كان جده «تكروري»، وعلى ذلك هو ليس من القبائل النازلة على ضفاف النيل، ولكنه نال ثقة الخليفة ورضاءه.
وأما بالنسبة لشخصي، فقد تغيرت نظرات الخليفة إلي وداخله الشك من جهتي، ووصل رد خطابي الأخير الذي أرسلته إلى أهلي غير مشتمل على شيء سوى الاغتباط لانتظام المراسلات بيني وبينهم. وكتبوا في الوقت نفسه إلى الخليفة يشكرونه على عنايته وعلى الدعوة التي وجهها إليهم بطلب الحضور إلى أم درمان.
واعتذر أخي الأكبر عن عدم إمكانه الحضور بأن حالته لا تساعده؛ لأنه يشغل وظيفة كبير أمناء جلالة إمبراطور النمسا، واعتذر الآخر بأن وقته وهو ضابط في الطوبجية لا يسمح له بالقيام برحلة طويلة كهذه.
ولما طلبني الخليفة إلى حضرته أمرني بترجمة تلك الخطابات، ثم قال لي: «كانت رغبتي في أن تطلب إلى واحد من إخوتك أن يحضر، وبما أنهما يعتذران الآن بأعذار لا أقبلها، فيتحتم عليك ألا تكتب إليهما بعد الآن، فإذا أرسلت خطابا واحدا إليهما فإن ذلك يكفي للقضاء على هدوئك وسكينتك، أفهمت؟» فأجبته: «نعم يا مولاي، أوامرك مطاعة، وإني لا أجد داعيا للكتابة إليهما.» فقال لي: «أين الإنجيل الذي أرسل إليك؟» فأجبته: «إني مسلم يا مولاي وليس لدي إنجيل بالمنزل، وإنما الذي أمتلكه هو ترجمة القرآن الكريم الذي رآه كاتم سرك لما فتحنا الصناديق سويا.» فأمرني بأن أحضره إليه في صباح الغد وأشار إلي بالانصراف.
وتيقنت بعد هذه المقابلة أن ثقة الخليفة بي زالت، وعلمت أيضا أنه بعد هزيمة ابن النجومي أخذ يسر إلى قضاته أن ثقته في تغيرت.
وكنت في هذا الوقت قد صرفت المبلغ الذي وصل إلي من أهلي، وجله منحته هبات إلى زملائي الذين أخذوا يدسون لي الدسائس الآن لما علموا أنني أصبحت لا أملك شيئا، وهم الذين قالوا للخليفة إن الكتاب الذي عندي هو الإنجيل.
وفي صباح اليوم التالي توجهت إليه ومعي الكتاب وسلمته إليه، وهو من ترجمه العلامة «ألمان» ففحصه جيدا.
وقال لي: «أنت تقول إن هذا الكتاب ترجمة القرآن وهو مكتوب بلغة الذين ليس عندهم عقيدة دينية، إنهم ربما يكونون قد أخطأوا في ترجمته.» فأجبته بكل هدوء وسكينة: «إنه يا سيدي ترجمة حرفية، والغرض منه هو أن أتمكن من فهم الكتاب المقدس الذي نزل من عند الله - سبحانه وتعالى - على يد الرسول باللغة العربية، وإن شئت أن تتأكد من صحة ترجمته الحرفية.» فأجابني قائلا: «إني أعتقد فيك الصدق، ولكن الناس هم الذين قالوا ذلك القول، فيحسن بك والحالة هذه أن تحرقه.» ولما أظهرت له الموافقة على طلبه قال لي: «ويجب أيضا أن ترد الهدية التي بعث بها إخوتك لي؛ لأنه لا فائدة لها عندي، وليعرفوا أن الأشياء الدنيوية لا قيمة لها في نظري.»
ثم أمر كاتم سره بأن يكتب خطابا باسمي إلى أهلي يخبرهم فيه بأن لا داعي بعد الآن إلى مكاتبتي، فوقعته بإمضائي وأرسلته مع الهدية إلى بيت المال ليرسلا من هناك إلى سواكن كالمعتاد.
ومن هذا اليوم أصبحت شديد الحرص. وبعد موت عدلان استدعاني الخليفة مرة أخرى بحضور ضباطه، وأخذ يقول لي إنه يعلم أني جاسوس وتجب مراقبتي بكل دقة ومراقبة الذين يحضرون لزيارتي، وجلهم من أعدائه، ويجب علي أن أعلمه بمحل نومي في منزلي، وأن أغير خطتي التي أنا متبعها وإلا لحقت بعدلان!
فأجبته قائلا بكل هدوء وسكينة: «يا مولاي لا يمكنني الدفاع عن نفسي، وأنا أجهل خصومي الذين وشوا بي، ولكني أفوض أمري للبارئ، جلت قدرته، ولقد مضت ست سنوات بل أكثر وأنا الخادم الأمين في خدمة مولاي، أواصل الليل بالنهار على بابه تحت الشمس المحرقة وتساقط المطر الغزير، وتنفيذا لأوامرك يا مولاي قطعت صلاتي مع كل أصدقائي، وفي كل هذه المدة التي أنا فيها في خدمة سيدي لم أرتكب جرما، فأخبرني يا مولاي عن الذنب الذي ارتكبته، إن طاعتي لك طول هذه المدة لم تكن عن خوف، وإنما كانت عن محبة وإخلاص، وليس يمكنني أن أفعل أكثر من ذلك، وإني لرحمة ربي وعفو مولاي منتظر.»
فقال للملازمين: «ما رأيكم في أقواله هذه؟» فأجابوه بأنهم لم يلاحظوا شيئا يشين سمعتي.
وقد علمت بعد ذلك من هم هؤلاء الذين أوجدوني في ذلك المركز الحرج، ثم قال لي: «أنت مسامح هذه المرة، وعليك أن تحاذر في المستقبل.» ثم مد لي يده لأقبلها وأمرني بالانصراف.
وفي اليوم التالي طلبني وحدثني بكل لطف طالبا مني أن أحذر أعدائي، وأن أجتهد بقدر المستطاع حتى لا يكون لي أعداء، وأعلمني بأن المهدية تتبع قواعد الإسلام، فإذا ما شهد ضدي في أي دعوى شاهدان وجبت إدانتي حتى ولو كان الشاهدان كاذبين، وفي هذه الحالة يصبح العفو عني غير مستطاع، فكيف يحلو لي العيش والحالة هذه، وحياتي أصبحت بإرادة شخصين يريدان الإيقاع بي؟! ولكني على كل حال شكرته على نصيحته الغالية، وقلت له: «يا مولاي إني أعمل دائما بقدر استطاعتي لإرضائكم حتى أكون دائما محل ثقتكم.»
ولما عدت إلى منزلي وقد انتصف الليل، كنت في أشد حالات التعب راغبا في الراحة، فقابلني خادمي سعد الله وأبلغني أن تابعا من أتباع الخليفة جاء حالا ومعه سيدة مقنعة أرسلها لي وهي بداري الآن، فسررت عند سماعي ذلك لا لشيء سوى أني تيقنت من رضاء الخليفة، وتحققت أن قد زال كل شيء من نفسه. ثم ذهبت مع سعد الله إلى المنزل فوجدت تحت القناع سيدة مصرية ولدت بالخرطوم لا بأس بجمالها، فبعد أن تبادلنا التحيات بادرتني بسرد تاريخ حياتها مدعية أنها ابنة ضابط مصري، وقد علمت بعد ذلك أنها ابنة جندي وقع قتيلا في حرب الشلك، وأن زوجها الأول قتل في الحملة التي أرسلت للاستيلاء على الخرطوم، وأن أمها حبشية لا تزال على قيد الحياة. ثم قالت إنها كانت إحدى نساء أبو أنجة العديدات، وإن الخليفة اختارها الآن لتكون زوجة لي خلفا لذلك البطل العظيم. وقالت لي إنه سبق للأحباش أن أسروها، وكان زكي طومال هو الذي أطلق سراحها. وقالت أخيرا إن لديها معلومات قيمة عن المعارك التي نشبت في عهد أبو أنجة.
وحكاية هذه السيدة هي أن الخليفة كان قد أصدر أوامره بإحضار أرامل أبو أنجة إلى أم درمان، فلما حضرن أخذ يوزعهن على أتباعه. وقالت لي إنها لمغتبطة جدا لوقوعها مع شخص من أبناء جلدتها، فأجبتها في الحال بأني أوروبي، وأن ما حصل من تغيير لوني إنما كان بسبب ما أنا عليه من الحال، واضطررت إلى أن أقول لها إنها ستكون موضع عنايتي.
ولما كنت في أشد حالات التعب طلبت إليها أن تتبع الخادم سعد الله الذي سيمهد لها كل سبل الراحة. وقلت في نفسي إن الخليفة بدلا من أن يأمر خازن بيت المال بأن يمدني بالمساعدة لقضاء حاجياتي الضرورية بعث لي بتلك الزوجة التي تزيد في شقائي وتعبي.
وفي اليوم التالي سألني الخليفة عما إذا كنت قد أعجبت بهديته وهل أنا راغب فيها، فأجبته بأني سعيد لأني شعرت برضاء مولاي عني، وأنني أتمنى أن يجعلني الله - سبحانه وتعالى - مشمولا دائما برعايته.
ولما عدت إلى منزلي قبل صلاة الظهر وجدته مزدحما بالنساء اللاتي دخلنه بالقوة - كما أبلغني سعد الله - مدعيات أنهن أقارب فاطمة البيضاء - كما كانوا يسمون السيدة التي بعث بها إلي الخليفة - ووجدت ضمنهن امرأة مسنة قالت لي إنها والدة فاطمة، وإنها مسرورة لأن ابنتها أصبحت لي، ورجتني أن أحسن رعايتها. فأخبرتها بأن ابنتها ستكون دائما موضع عنايتي، وسنعيش في منتهى الهناء والسرور، واعتذرت لهن بكثرة أشغالي، ثم انسحبت بعد أن طلبت إلى سعد الله أن يحسن وفادتهن على حسب عادات البلاد وأن يخرجهن بعد ذلك، ولو أدى الأمر إلى استدعاء من يساعده.
ومضت بضعة أيام ثم سأل الخليفة عن فاطمة مرة أخرى. وبما أني كنت أعلم جيدا أنه يريد دائما أن أعيش عيشة الوحدة ولا أخالط أحدا، أخبرته بأني لا أرى مانعا من أن تعيش معي، غير أن لها عدة أقارب يترددون عليها طول اليوم، وعلى ذلك قد تضطرني الظروف إلى مخالطتهم، وهذا أمر يأباه مولاي وتأباه نفسي؛ ولذلك فإني سآمرها بأن تخضع لأوامري وتمتنع عن الاتصال بأهلها ومعارفها بقدر الإمكان، فإذا لم تخضع فإني أفضل تسليمها لأقاربها. فارتاح الخليفة لهذا الاقتراح ارتياحا تاما، إلا أنه منذ طرد سعد الله الزوار في أول مرة، لم يعد أحد يقدم إلى دارنا، ومخافة أن يسيء الخليفة الظن في قصدي توانيت قليلا في تنفيذ ما قررته.
وبعد مدة أرسلت فاطمة البيضاء إلى أمها وكلفتها بالانتظار هناك حتى أبعث إليها. وعرف سعد الله دار أمها، فبعد مدة أرسلت لها ولأمها ملابس ونقودا ورسالة أخبرتها فيها بأنها أصبحت طليقة غير خاضعة لأوامري.
وأخبرت الخليفة بذلك قائلا له إن أمثال هؤلاء القوم الغرباء عنه وعني لا يجوز أن يكون لي صلة بهم، وإني دائما أبدا على استعداد تام لإطاعة أوامره.
وبعد مضي سنة تقريبا جاءتني الأم تستأذنني في زواج بنتها من أحد أقاربها، فوافقت على ذلك بسرور تام، وقد تركت فاطمة البيضاء في أم درمان سعيدة بين أولادها.
الفصل الرابع عشر
تشتت وتفرق
قد عين حاكما لدنقلة عدوي خالد الذي كان مسجونا منذ بضعة أشهر، وقد حل محل يونس، إلا أنه لم يمض شهران على هذا التعيين حتى ذهب ضحية الدسائس التي كان يدسها له اثنان من أبناء عم الخليفة كانا قد ذهبا لمراقبة حركاته وأفعاله. وقد استدعاه الخليفة ثانية إلى أم درمان ووضعه مرة ثانية في الأغلال، فهذا العمل كان من شأنه أن زاد هياج أقارب المهدي وأنصاره، وعقب ذلك اتفاق الخليفة محمد شريف واثنين من أولاد المهدي لم يبلغا العشرين من عمرهما مع كثيرين من الأقارب على أن يعملوا جميعا للقبض على ناصية الحكم وكبح جماح الخليفة عبد الله، وفعلا أخذوا في إعداد الخطة اللازمة سرا في أم درمان، وبدءوا كذلك يستميلون الأصدقاء وأبناء القبائل، وأرسلوا كتبهم إلى «الدناجلة» القاطنين بالجزيرة يدعونهم للحضور إلى أم درمان للانضمام إليهم. ولكن حدث أن أحد الأمراء الجعليين، الذي كان قد أقسم بألا يبوح لأحد بشيء إلا لأخيه وأعز صديق عنده، خدع القوم وخانهم، وذهب يطلع الخليفة على الأمر، معتبرا إياه أقرب الأصدقاء، فلما وقف الخليفة عبد الله على سر هذه المؤامرة أخذ يعد المعدات لإحباطها، إلا أن جواسيس الأشراف عندما عرفوا أن مؤامرتهم انكشفت وعرفوا ما يدبره لهم الخليفة، اجتمعوا في جزء من المدينة واقع في شمالي بيت الخليفة واستعدوا للمعركة.
وأما أنا نفسي فقد كنت مشتاقا لرؤية هذه المعركة فما أخشاه وحياتي كانت كل يوم في خطر، وأن أمام نظري حادثة عدلان الذي كان الصديق الحميم للخليفة، فقد شنقه ومثل به. وقد تأكدت أن عبد الله ما كان يهتم البتة بأرواح أعز أصدقائه وأحبهم إليه، وأن هذه الحرب الداخلة لا بد أنها ستضعف أعدائي «الخليفة وأنصاره»، وربما كان لي من وراء ذلك الاضطراب المنتظر حدوثه أمل في أن أسترد حريتي، ويصبح في مقدوري أن أستعمل نفوذي في جيش الحكومة الذي ظهرت فيه نزعة الاستياء بسبب المعاملة التي كان يلقاها.
وقد كان من المستحيل على الإنسان في مثل تلك الظروف أن يرسم لنفسه خطة واضحة، وكل ما كنت أرغبه هو أن تقوم المعركة، وأن يكون لي من ورائها أكبر قسط من الفائدة الشخصية.
بعد ذلك ابتدأ الفريقان بتبادل الطلقات النارية، إلا أن ذلك لم يكن إلا إيذانا ببدء المعركة الحربية بين الطرفين.
وقد كان الفريقان في حالة لا تسر؛ فكانت الأسلحة من النوع الرديء، ولم يمض غير وقت قصير حتى انتهت تلك المعركة وقدرت الخسارة خمسة قتلى.
بعد ذلك عرض الخليفة طلب الصلح وأن يعين الأشراف شروطهم، وقد دارت المفاوضات طول اليوم بين الفريقين، وفعلا عادت سيرتها في اليوم التالي. ومن سوء حظي أن الطرفين وصلا إلى حلول مرضية اتفقا عليها، ووافق الخليفة وحلف وتعهد بتنفيذها بعد أن عفا عن كل المتهمين.
وقد منح الخليفة محمد الشريف مركزا ساميا، وأن يحضر جلسات مجلس الخليفة كأحد أقطابه، وقد قرر منح كثير من أقارب المهدي إعانات من بيت المال.
وعلى ذلك سلمت الجنود أسلحتها إلى الخليفة وبذلك تم توقيع الصلح.
وفي يوم الجمعة التالي حضر أمام الخليفة قواد الجيش ونالوا منه المكافآت التي كان قد أعدها، وفي ظهر ذلك اليوم نفسه اجتمع الخليفة الشريف وأولاد المهدي وعبد الله نفسه.
وبذلك وطدت الآن أركان الصلح بين الفريقين، وأصدرت الأوامر إلى رجال المدفعية والمشاة بأن يعودوا إلى مراكزهم الأصلية، غير أن الملازمين والجهادية كلفوا بالبقاء حتى يتم تسليم السلاح جميعه.
وفي يوم أحد بعد الظهر أرسلت خادما إلى الأب «أوهروالدر» لأسأل عنه، فوجد بابه مقفلا، وقد حاولت الاستفسار عنه من جيرانه الإغريق، فلم أتمكن من الاستدلال على مكانه ولا مكان أفراد بعثته.
وقد خيل إلي في الحال أنه في أثناء الاضطراب ربما يكون قد تمكن بمعرفة مخلصين له من اللياذ بالفرار.
وقبل صلاة المغرب حضر رئيس الذين اعتنقوا الدين الإسلامي بدون رغبتهم والسوري «جورج إستامبول»، وطلبا أن يؤذن لهما بمقابلة الخليفة حالا لأمر مهم، ولكن الخليفة - وكان في تلك اللحظة مشغولا - أمرهما بالانتظار في المسجد حتى يأذن لهما، وبعد تأدية الصلاة طلبهما إليه وسألهما عن مرغوبهما، فقالا له إن يوسف القسيس ومن معه من النساء هربوا جميعا، ففي الحال طلب «نور الجرباوي» خازن بيت المال ومحمد وهبة حكمدار البوليس، وطلب إليهما أن يعملا ما في وسعهما للقبض على الذين هربوا وإحضارهم إلى هنا أحياء أو أمواتا.
وكان من حسن حظ هؤلاء اليونانيين أن الخليفة كان مشغولا بأشياء مهمة، ولولاها لكان وجه كل قواه للقبض عليهم والتمثيل بهم.
وعلى ذلك لم يتمكن الجرباوي ووهبة إلا من الحصول على ثلاثة جمال للحاق ب «أوهروالدر»، الذي كان يعلم جيدا أن هروبه متوقف على السرعة.
وقد تمنيت من صميم قلبي أن يفوز هو ومن معه بالهروب؛ فقد تعذبوا كثيرا. ولو أني حزنت في الوقت نفسه حزنا شديدا؛ لأنه كان الشخص الوحيد الذي يعرف لغتي الأصلية التي كنت أحن إلى التحدث بها أحيانا معه.
وفي اليوم التالي استدعاني الخليفة وقابلني بوجه مكفهر قائلا: «هو من أبناء جلدتك، وبطبيعة الحال أنك كنت تعرف جيدا عزمه على الهروب، فلماذا لم تبلغني حتى كنت أعمل الاحتياطات اللازمة؟» فأجبته: «عفوا يا مولاي، كيف كان في استطاعتي أن أعلم عن هروبه شيئا وأنا منذ قيام الحركة الأخيرة لم أنتقل من مركزي بالليل ولا بالنهار، كما تعلم يا سيدي؟» فأجابني بكل حدة: «لا شك في أن قنصلكم هو الذي دبر لهم طريقة الهروب.»
وكان من بين الخطابات التي وردت أخيرا واحد منها جاء إلى الخليفة باللغة العربية من القنصل العام لدولة النمسا والمجر، المسيو «فون روستي»، يشكره فيه على حسن معاملته للبعثة الكاثوليكية، ويطلب إليه أن يسمح لهم بمغادرة السودان والعودة إلى أوطانهم؛ حيث إنهم من رعايا الحكومة النمساوية، وإن لجلالة الإمبراطور غاية خاصة بهم، ومنذ هذا اليوم أعتقد أن أعضاء هذه البعثة من أبناء جلدتي، وهو متيقن الآن بأن أمر هروبهم دبر بمعرفة القنصل المشار إليه.
وهنا قلت للخليفة: «ربما يكون للقبائل النازلة على الحدود يد في تدبير هروبهم لغنيمة وعدوا بنيلها، فحضروا إلى أم درمان وانتهزوا فرصة الثورة التي قامت ومهدوا السبيل ل «أوهروالدر» ومن معه للهروب.» وقد اقتنع الخليفة بهذا الرأي، وبعد أن طلب إلي أن أكون دائما مخلصا أمرني بالانصراف.
وبالرغم من الوعود التي قطعها الخليفة على نفسه للإشراف بألا يعكر صفو الود والاتفاق الذي تم بين الفريقين بلا مبرر، ألقى القبض على ثلاثة عشر من زعمائهم، بينهم أعمام المهدي نفسه، وأرسلهم بمركب إلى فاشودة؛ حيث يوجد زكي طومال الأمير المحلف الأمين للخليفة، والذي كان قد ذهب هناك لإخماد ثورة «الشلك».
ولما وصلوا إلى فاشودة وضعهم زكي في زريبة وتركهم بدون طعام إلا القدر اليسير ثمانية أيام. ولما جاءته التعليمات السرية لإعدامهم ضربا بعصي تقطع من أشجار الشوك، نفذ ذلك بحضور رجال جيشه بعد أن عراهم من ملابسهم.
بعد ذلك عاد زكي طومال إلى أم درمان ومعه غنائم كثيرة؛ إذ أحضر معه آلافا من الرقيق من النساء وقطعانا من الماشية باعها بمبالغ عظيمة حصل عليها بالفعل. وقد شكا كثير من الناس زكي إلى الخليفة من شدة ظلمه وطغيانه. وكان بعض الناس يقولون للخليفة إذا اكتسب قلوب عدد كبير من أتباعه يمكن أن يستقل ويشق عصا الطاعة.
غير أن ما قدمه زكي إليه ولأخيه من الهدايا الثمينة من رقيق ومال وماشية، حفظ له مركزه عندهما.
ولما كان زكي طومال بأم درمان، قام الخليفة بعدة مناورات عسكرية تولى قيادتها بنفسه. غير أن جهله بالحركات العسكرية وعدم النظام السائد بين الثلاثين ألف عسكري، جعل هذه المناورات تفشل فشلا تاما، ولكن اللوم وقع على رأسي؛ حيث كنت قائما بوظيفة أركان حرب، ولما رأى ما وقع فيه من الارتباك قرر بأن هذا العمل كان مقصودا مني؛ لأني عدلت في تنفيذ أوامره. وأخيرا صرف الجنود وبعث بزكي طومال إلى القلابات، وطلب إلي كعادته أن أنفذ أوامره كما هي، وأهدى إلي جاريتين صغيرتين علامة الرضاء.
والآن وقد سمع الخليفة شريف بما حدث من قتل أقاربه، أعلن استياءه الشديد وسخطه على الخليفة جزاء ما ارتكب، وبذلك تمكن الخليفة عبد الله من إيجاد سبيل إلى محاكمته، فسرعان ما اتهمه بأنه خارج على القانون غير مطيع للأوامر، وكون المحكمة لتحاكمه بتهمة عدم الطاعة.
وبالفعل قرر القضاة إدانة الخليفة شريف وأصدروا الأوامر بالقبض عليه.
وفي اليوم التالي ذهب الضباط لتنفيذ هذا الأمر في منزله الواقع بين منزل عبد الله وقبة المهدي، وهناك أبلغوه الأمر ونصحوا إليه بأن يطيع أوامرهم ولا يظهر أي مقاومة. وفي الحال أصبح تحت تصرف الضباط الذين كان يرأسهم عرابي ضيف الله، ولما طلب إليهم أن يسمحوا له بلبس حذائه رفضوا، ثم ساقوه بكل عنف وشدة، لدرجة أنه وقع على الأرض مرتين، ثم وصلوا إلى السجن، وهناك وضعوا فيه القيود الحديدية، ومنعوا أيا كان من الاتصال به، وجعلوا الأرض العارية مقعدا له والسماء غطاء.
وقد أرسلوا أبناء المهدي إلى جدهم «أحمد شوقي»، وأمروه بأن يبقيهم عنده محبوسين لا يتصل بهم أحد - وقد كان جدهم يطيع الخليفة طاعة عمياء؛ خوفا على ثروة طائلة اقتناها من أن يصادروها منه - فنفذ الأوامر الصادرة إليه كما صدرت.
وقد مرت بي بعد ذلك ساعات دقيقة للغاية؛ فقد أرسل يونس رجلا من دنقلة إلى الخليفة ومعه معلومات مهمة من الحكومة المصرية، وقد قابله الخليفة بنفسه بحضور جميع القضاة، وقد داخلني الشك في أن ما يدور عليه الحديث هو بخصوصي، وقد حاولت استطلاع حقيقة الأمر من أحد القضاة - وكان صديقي - إلا أنه أجابني بألا أجعل للأمر أهمية عظمى. وبعد الصلاة اجتمع القضاة والرسول بالخليفة مرة ثانية، ولم تمض غير برهة حتى رأينا الرسول قد كبلت يداه بالحديد وأرسل إلى السجن، ولقد اندهشنا عندما رأينا ذلك المنظر.
وفي اليوم التالي لما ذهبت إلى منزلي لبرهة قصيرة طلبني الخليفة إلى حضرته، فتوجهت حيث كان مجتمعا ببعض القضاة. وبناء على أمره أخذت مكاني بينهم، ثم ابتدأ يقول وقد وجه نظره إلى قضاته: «ولطالما نصحته بأن يكون مخلصا لي، وإني دائما أعامله معاملة الأب لابنه، وما كنت أصدق ما يصل إلي من الوشايات بخصوصه، ولطالما عفوت عنه.» أخذ يقول كل ذلك عني لقضاته، ثم التفت إلي قائلا: «إن المثل العربي يقول «لا يوجد الدخان إذا لم توجد النار»، وأنت يحوم حولك دخان كثير. وقد قال الرسول أمس إنك جاسوس الحكومة، وإن مرتبك يدفع شهريا إلى مندوبك في القاهرة؛ حيث يرسله إليك هنا، وهو يوقن بأنه رأى توقيعك في ديوان الحكومة هناك، وأنت الذي مهدت إلى يوسف القسيس الهروب. وقد قال أيضا إنك تعمل لتسهيل الاستيلاء على أم درمان بواسطة الإنجليز، وإنك ستشعل النار في مخزن البارود الموجود بقرب منزلك حينما يبدءون بالزحف، فماذا تقول دفاعا عن نفسك؟»
فأجبته: «مولاي! إن الله لا يظلم أحدا، وأنت رجل الحق والعدل، وإني أقول بأني لم أكن قط جاسوسا ولا صلة لي بالمرة مع الحكومة المصرية، وإني لم أستلم قط نقودا هنا، وإن ضباطك لعلى يقين من أنني في أشد حالات البؤس والشقاء، وإن احترامي الشديد لشخصك هو الذي يمنعني من أن أطلب إليك مساعدتي. وبما أنه روى لمولاي بأنه اطلع على إمضائي هناك، فإني أتهمه بالكذب، وأنا موقن بأنه لا يعرف لغة أجنبية. وإذا أردت يا سيدي أن أكتب على قطعة ورق عدة إمضاءات ثم نعرضها عليه ليستخلص منها إمضائي التي يقول عليها بأنه رآها هناك بالقاهرة لفعلت، وهنا يتضح لك جليا إن كان حقيقة يعرف اللغات الأجنبية أو لا يعرفها. وأنت تعرف يا مولاي أن يوسف القسيس هرب في وقت ما كان في استطاعتي الاتصال به، ولو كان لي اتصال بهؤلاء الذين يمهدون الهرب فلم لا أمهده لنفسي؟ ومن السهل جدا على الإنجليز أن يعلموا أن منزلي بجوار مخزن البارود؛ لأن الرجل الذي جاءني بالخطابات التي بعث بها إلى إخواني رأى منزلي، فلربما يكون هو الذي حدثهم بذلك.
ومن الجائز أن أقاربي الذين قطعت كل صلاتي بهم، بناء على أمر مولاي، يسألون عني وعن مرتبي في دواوين الحكومة المصرية، ظنا منهم أن السودان لا يزال جزءا من مصر، أو يسألون التجار الذين يفدون منه إلى القطر المصري، وبطبيعة الحال يعلم هؤلاء التجار جيدا موضع منزلي بالنسبة لمخزن البارود. وإني لموقن بأن الحكومة المصرية لا تفكر مطلقا في الكر عليك وأنت هذا الخليفة القوي البطش. وإذا سلمنا جدلا بأن الحكومة تفكر في هذا الغزو، فمن أين جاءني التأكيد بأنني سأبقى في مركزي وأتمكن من تنفيذ الخطة التي يقول عنها؟ هذا فضلا عن أني، كما تعلم مولاي، كنت الخادم ولا زلت الأمين المخلص، وإني أتمنى بأن أكون دائما في طليعة جيوشك الغازية لنصرتك على أعدائك.
إني يا سيدي بعد كل هذا الإيضاح الذي أوضحته لا أعتمد إلا على أنك لا تظلم أحدا.»
ثم قلت: «وهل يحق لك أن تضحي بمخلص أمين لك من أجل وشاية «دنقلاوي»؟» فبادرني بقوله: «من أين علمت بأنه «دنقلاوي»؟» فقلت له: «منذ مدة رأيت هذا الرجل ببابك مع عبد الرحمن واد النجومي الشاهد، ونظرا لسخافته وإلحاحه طردته بالقوة، فهو يريد لنفسه الآن الانتقام، فأنت يا مولاي - وقد منحك الله العدل والإنصاف - ستحكم لي بطبيعة الحال بالبراءة.»
فقال لي: «ما طلبتك هنا للمحاكمة ولا شككت لحظة في إخلاصك، ولو كان الأمر فيه شيء يشينك ما كنت أمرت بسجنه، وإني لعلى يقين من أن أعداءك كثيرون، وهم يحاولون دائما الإيقاع بك؛ لأنهم يغارون من وجودك بقربي، ولكن يجب عليك أن تحاذر، واعتقد دائما أبدا في المثل القائل: «لا يوجد الدخان إلا حيث توجد النار».»
وبعد ذلك أمرني بالانصراف ومن ثم انصرف الجميع.
ولقد سألت أحد أصدقائي عما قاله الخليفة بعد خروجي، فأخبرني بأن الخليفة اعتبر الرجل كذابا، ولكن لا يخلو الحال من أن يكون في دعواه بعض أشياء حقيقية. وقد قال لي أيضا: «لا بد أن يكون لك أعداء بالقاهرة، وهذا الرأي سبق أن طرأ لي.»
ولكن ما الحيلة وما العمل وأنا أرى أن خصومي يوقعون بي كل يوم ويجعلون مركزي من أحرج المراكز؟ فصرت أفكر دائما في هذه المواقف، وصرت أفكر أيضا في علاقاتي مع الخليفة، وكيف أنها ستتأثر بهذه الوشايات بطبيعة الحال.
وإن ضيقتي من أنه أصبح بعد كل هذا يتحين لي فرصة للانتقام؛ لأني على ما أعتقد أصبحت في نظره العدو اللدود في ثوب الصديق الحميم، ولكن على كل حال أحمد الله، ومن يعش ير.
وقد قابلت في اليوم التالي وأنا عائد إلى المنزل بعد تأدية الصلاة «القرباوي»، وهو الذي خلف «عدلان» في بيت المال، فحادثني بكل لطف قائلا لي - بعد أن قلت له إنك تزورنا نادرا: «لقد جئت لأقلقك بطلبي إليك بأن تخلي منزلك اليوم، وسأعطيك بدله في جنوب شرقي المسجد؛ حيث يستقبل زوار الخليفة. وهو ولو أنه يقل عن مساحة منزلك إلا أنه بقرب المسجد ويصلح لرجل عابد مثلك.»
فقلت له: «إني أوافق على ذلك بكل سرور، ولكن أرجوك أن تقول لي بصفة خاصة من الذي أرسلك، الخليفة أم يعقوب؟» فأجابني وهو يضحك قائلا: «آه، هذا سر، ولكن من حديثك أمس مع الخليفة يمكنك أن تعلم حقيقة السبب؛ وهو أن مولانا الخليفة يريد أن يجعلك في مكان قريب منه حتى تكون تحت رقابته مباشرة؛ حيث ستكون على بعد 200 خطوة منه.»
ثم قال لي: «إذن متى أحضر لاستلام منزلك؟» فقلت له: «سأنتهي من النقل في مساء هذا اليوم، ولربما كان نقل مئونة حصاني وبغلي هي التي تستغرق مني وقتا أطول. وهل المنزل الذي سأذهب إليه غير مسكون؟» فأجابني: «نعم بطبيعة الحال، وقد أصدرت الأوامر بأن ينظف وتعمل الإصلاحات اللازمة له، ولكن يحسن بك أن تبتدئ في مغادرة هذا المنزل حالا، وآمل أن تكون سعيدا في منزلك الجديد أكثر مما أنت عليه من السعادة هنا.»
ولقد وضح لي الآن جليا أن ثقة الخليفة بي قد تزعزعت وأصبح لا يثق بي لأن أكون بجوار مخزن البارود، وعلى ذلك حزمت متاعي، وأمرت الخدم بنقله إلى المنزل الجديد، فتأثر الخدم وأخذوا يطلبون إلى المولى أن يوقع كل اللعنات على الخليفة؛ حيث نترك منزلنا الذي أصلحناه وغرسنا فيه الأشجار وحفرنا فيه الآبار. ولكني على كل حال غادرت المنزل مؤملا فيما قاله القرباوي من أني سأكون بمنزلي الجديد أسعد حالا مني في المنزل الذي أنا فيه.
وقد أصبحت حالي بعد ذلك مضطربة وأصبح مركزي مزعزعا.
ولقد تقابلت اتفاقا مع تاجر من دارفور جاب الديار المصرية والبلاد السورية، وعرف كثيرا من أجناس البشر المختلفة، وقد عرف لأول وهلة أني نمساوي الأصل، وأخذ يحدثني - وعلم بأني أسير من مدة طويلة ولا صلة لي بأي مخلوق - عن الأحوال في القطر المصري، وأعطاني بعض الجرائد المصرية القديمة، وتحتوي إحدى تلك الصحف على أخبار من النمسا. ولما توجهت إلى المنزل وابتدأت أقلب صفحاتها، علمت أول ما علمت أن ولي عهدنا الأمير رودلف قد توفي، ولا يمكنك أيها القارئ أن تتصور مقدار الحزن الذي حل بي؛ فقد خدمت معه في الجيش. وقد كان بودي أن أرجع إلى وطني وأبلغه، بعد طول الأسر، أن أشرف ساعات قضيتها في حياتي هي تلك الساعات التي كنت فيها تحت إمرته، وأعظم شرف لي أن أنتمي إلى الفرقة الإمبراطورية. ولقد فكرت طويلا فيما عساه أن يكون قد أصاب إمبراطورنا العظيم بفقد ولده.
قد حلت بي الأحزان في هذا الوسط المزعج الذي أنا موجود بينه، وقد كان زملائي وهم لا يدرون أسباب حزني يطلبون أن لا أظهر أسفي بالنسبة لتركي منزلي الأول؛ حيث إن الخليفة أصدر أمره إلى جواسيسه بأن يراقبوني جيدا، فابتدأت أظهر عدم اهتمامي بأي شيء مطلقا.
وقبل ذلك بمدة وجيزة كان المصريون قد استولوا على طوكر، وهم لا محالة زاحفون، ومن أجل ذلك استدعى الخليفة «أبو حرجة» وولى بدله قيادة الجيوش واحدا من أقاربه اسمه «مسعود»، وقد أرسل أبو «حرجة» بباخرتين إلى الأقاليم الاستوائية ليلحق بعمر صالح، الذي كان قد ذهب إلى الرجاف ليقيم هناك مركزا لجيوش الدراويش لصد حملة «ستانلي» و«أمين باشا».
وبعد مضي أيام قليلة لسفر هذه البواخر، مرض الخليفة بالحمى التيفوسية، وكان عموم سكان أم درمان يستطلعون أخبار هذا المرض أولا فأولا.
وأصبح جميع سكان أم درمان يرقبون أخبار مرض الخليفة بفارغ الصبر، وكانوا يتوقعون أن موت الخليفة يغير نظام كل شيء. وبطبيعة الحال إذا مات سيخلفه الخليفة «علي واد الحلو» حسب ما تقتضيه القوانين المهدية، وكان هذا يترقب وفاته بكل سرور، وقد أظهر أتباعه الرغبة الشديدة في الاستيلاء على الحكم.
بعد ذلك ابتدأت حالته الصحية تتحسن، وقد خيل إلي أن الله - سبحانه وتعالى - لم يهيئ بعد لهؤلاء القوم النجاة فيقضي على حياة هذا الطاغية.
خرج الخليفة بعد ثلاثة أسابيع من مرضه لأول مرة، فقابله رجال قبيلته بالتجلة والتعظيم والغبطة والسرور، بينما أظهر له بقية السكان سرورا مصطنعا؛ وعلى ذلك لم يعرف شعور الناس نحوه حق المعرفة.
وحيث كان يقطن بين النهرين في الجزيرة قبائل «الجالان» و«الدناجالا»، وغيرهما من الأعراب الذين يعرف الخليفة عنهم أنهم ألد أعدائه، فكان دائما يراقبهم عن كثب ويدعهم عزلا من السلاح مصادرا كل ممتلكاتهم، وكان ينتخب من بينهم آنا بعد آخر عددا يرسله لتعزيز حامية دارفور والقلابات والرجاف.
وكان يعتقد دائما أن الخليفة علي وأتباعه يحقدون عليه، ولو أنهم كانوا يظهرون له غير ما يخفون إلا أنه ما كان يتوقع قط أن يعلنوا العداء كما أعلنه من قبل الأشراف.
والآن وقد أصبحت أقطن على بعد خطوات منه، أخذ يسأل عني كثيرا زملائي ويطلب إليهم إبلاغه هل أنا مسرور من مكاني الجديد أو لا، وكان يترقب بفارغ الصبر وقوع هفوة مني، ولكن من حسن الحظ كان الملازمون يعطفون علي وبيني وبينهم صداقة، وكانوا يسرون لي بين آن وآخر أن الخليفة أصبح شديد الحقد علي، ويجب أن أكون شديد الحذر.
وفي ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1892 لما حصلت على إجازة قصيرة لأستريح فيها من عناء العمل، طلبني أحد الملازمين إلى الخليفة، وبعد أن ذهبت وجدته ينتظرني في حجرة الاستقبال محاطا بقضاته، ولقد صدقت ما قيل لي من أول وهلة؛ حيث لم يرد تحيتي وأمرني بأن آخذ مكاني بين قضاته.
وقال لي بكل حدة: «خذ هذا الشيء وانظر إلى ما يحتويه.» فقمت واستلمت الشيء المشار إليه ثم جلست، فإذا به قطعة مستديرة من النحاس على شكل علبة صغيرة قطرها يقرب من أربعة سنتيمترات مغلفة بقطعة من المعدن متينة كقبضة «المسدس»، فحاولت فتح هذا الشيء، وبعد أن تمكنت وجدته يحتوي على قطعتين من الورق.
وبطبيعة الحال كنت في هذه اللحظة في أشد حالات الاستغراب، وقلت في نفسي لعله خطاب من أهلي أو من الحكومة المصرية استحضره الرسول.
ولما مسكت قطعتي الورق حاولت قراءة ما يحتويانه فوجدت مكتوبا فيهما باللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية ما يأتي:
هذا العصفور نشأ وتربى بضيعتي في «اسكانيا» في مقاطعة «فوريدا» بجنوب الروسيا، فمن يمسكه أو يقتله فالمرجو منه أن يكتب لي ويخبرني عن مكانه.
الإمضاء
ف. ر. فولزفن
سبتمبر سنة 1892
فرفعت رأسي بعد تلاوة هذا الخطاب فقال الخليفة: «ما هو المدون بهذه الأوراق؟» فأجبته قائلا: «يا سيدي لا بد وأن تكون هذه القطعة كانت معلقة في رقبة عصفور قتل، وأن صاحبه الذي يسكن في أوروبا يطلب إلى من يقتله أو يمسكه أن يكتب إليه ويخبره عن المكان الذي مسك فيه أو قتل.»
فقال لي: «لقد قلت صدقا فحقيقة قتل هذا العصفور بالقرب من دنقلة، ووجدت هذه القطعة برقبته، وقد أخذه من قتله إلى الأمير يونس الذي عجز كاتبه الخاص عن تفسير ما هو مدون به، وبعد ذلك بعثوا به إلي فخبرني بترجمة ما هو مكتوب فيه.»
فترجمت الجملة كلمة كلمة كما أراد الخليفة ، وبينت له موضع البقعة التي جاء منها هذا العصفور، وكذلك المسافة التي قطعها. فقال الخليفة: «هذه خرافات يضيع بها الذين لا عقيدة لهم أوقاتهم؛ فبعيد على محمدي أن يجهد نفسه في خرافات كهذه.»
بعد ذلك أمرني بأن أسلم العلبة إلى سكرتيره وأمرني بالانصراف. غير أني تصفحت الورقة مرة ثانية بكل سرعة وعلقت منها كلمات «اسكانيا - نوفا - فوريدا بجنوب الروسيا»، وأخذت أكرر تلك الكلمات حتى علقت بذاكرتي.
وقد كان الملازمون في انتظاري خارج الباب وهم في غاية الشوق إلى سماع أخباري، ولما رأوني خارجا وعلى وجهي علامات السرور فرحوا لفرحي.
وقد صرت أكرر وأنا في طريقي إلى منزلي تلك الكلمات، ونذرت إذا منحني الله - سبحانه وتعالى - حريتي فلا بد من أن أذهب إلى هذا الرجل وأبلغه ما طلب وماذا حدث للعصفور. والآن عاد محمود أحمد - وهو الذي حل محل عثمان واد آدم لما توفي - إلى أم درمان بجيوشه البالغة خمسة آلاف بدوي، ولم يترك بها غير ما يكفي لحفظ النظام، وعسكر بهذه الجيوش عند عين يونس في جنوبي المدينة.
وقد أمر الخليفة باستعراض جميع الجيوش النازلة في أم درمان، وبطبيعة الحال ستكون نتيجة هذا الاستعراض كنتيجة سابقة، وقد كنت أركان الحرب، وكل هفوة تقع علي مسئوليتها.
بعد ذلك أمر محمود أحمد بالعودة إلى الفاشر بعد أن جدد عساكره يمين الإخلاص للخليفة. وقد وجه الخليفة نظره الآن إلى الجهات الاستوائية، فبعث بباخرتين أخريين بهما 300 رجل تحت إمرة قريبه عرابي ضيف الله، أرسلهما إلى الرجاف، ولدى عرابي الأوامر بالقبض على «أبو حرجة» وأن يكبله بالحديد، وقد ظهر جليا أن هذا الأخير لم يرسل إلى الرجاف إلا خدعة.
وجاء بعد ذلك دور زكي طومال، فحقد عليه يعقوب فأمروه أن يعود حالا إلى أم درمان؛ حيث زجوه في السجن ووضعوا على جسمه أكبر كمية ممكنة من الحديد تعذيبا له، بعد ذلك وضعوه في مغارة وقطعوا صلاته بكل الناس، ولم يسمحوا له حتى بالخبز الضروري لغذائه، فمات بعد 20 يوما جوعا وعطشا.
وقد حل الآن بدله في قيادة الجيوش أحمد واد علي، فأصدر له الخليفة الأوامر بغزو القبائل النازلة بين كسلا والبحر الأحمر، وكانت خاضعة للإيطاليين، ولكنه تلقى أوامر بألا يغزو جيوشا محصنة في حصون. ولما توجه على رأس جيشه في نوفمبر سنة 1893 من الفضارف، لحق بالقوة المعسكرة في كسلا، وهناك توجه إلى «أجردات»، فواجه القوات الطليانية، وكانت قليلة العدد إلا أنها متحصنة، وبالرغم مما أمره به الخليفة هاجمها لقلتها في نظره، فهزم شر هزيمة وقتل هو نفسه وقتل قائدان من قواده.
وفي أثناء هذه اللحظات الدقيقة إذا بباخرتين تفدان من الرجاف تحملان كميات هائلة من العاج وآلافا من الأسرى، وبعد ذلك بقليل وصلت أخبار غير سارة من دارفور، وقد روى محمود أحمد أن المسيحيين دخلوا مناطق بحر الغزال، وقد اتحدوا مع القبائل النازلة في هذه الجهات وقد وصلوا بالفعل إلى حضرة النحاس. وقد وقعت تلك الأخبار على الخليفة كالصاعقة.
ولما كانت مصر تحكم السودان، جند المصريون من أهالي إقليم بحر الغزال الكثير؛ منهم من قبل برغبته، ومنهم من أجبر على الدخول في سلك العسكرية. ولما كانت مناطق بحر الغزال أعلى بكثير من غيرها من مناطق السودان ومزروعاتها كثيرة وماؤها وفير، ولما كانت القبائل الساكنة في تلك الجهة متفرقة الكلمة؛ سهل كل ذلك على أي أجنبي يريد الاستيلاء عليها، وهذا هو ما قد حصل. وكان في نظر الخليفة أن من يستولي على هذه المناطق فقد استولى على مفتاح السودان بأجمعه، ومما زاد الطين بلة أن العبيد يكرهون العرب كراهة لا مزيد عليها.
وقد أمر الخليفة في الحال محمود أحمد بأن يجند من جنوبي دارفور، ويزحف جنوبا إلى بحر الغزال ليكسح الأجانب الذين دخلوا هذا الإقليم.
وقد استدعاني الخليفة ذات يوم وسلمني بعض أوراق مكتوبة بالفرنسية وطلب إلي ترجمتها، وهي تحتوي خطابين من اللفتنانت دي كنيل إلى مساعديه، يشملان أوامر أصدرها إليهم. وسلمني أيضا نص معاهدة موقع عليها من مندوب حكومة الكنغو الحرة والسلطان حامد واد موسى، تاريخها 4 أغسطس سنة 1894، والشاهدان فيها «سلطان ريميو» و«سلطان تيجا»، وهما موقعان بالإفرنجية. فترجمت هذه الأوراق بكل سرعة شفويا للخليفة. ولقد أراد أن يظهر لي عدم اكتراثه فقال: «لم أطلب إليك ترجمة هذه الأوراق لا لأن في الأمر شيئا خطيرا، كلا فقد أصدرت أمري إلى محمود أحمد ليطرد هؤلاء النصارى الذين اخترقوا الحدود، ولكن هناك أمر يهمني أن أصرح لك به، وهو؛ بما أننا نعتبرك كواحد من عائلتنا، فإني أود أن أشعرك بحقيقة هذا الحال، وعلى ذلك قررت أن أزوجك واحدة من بنات أعمامي. فماذا ترى؟»
وبطبيعة الحال لم تدهشني هذه المنحة؛ فقد عودني الخليفة أمثالها من قبل، وتيقنت من حقيقة ما يقصده، فهو يريد أن يبعث لي بمن تكون رقيبة على أحوالي بمنزلي، هو يريد أن يعلم حقيقة أسراري، يريد أن يعرف إذا كانت هناك صلات بيني وبين أي مخلوق آخر، فقلت له: «يا مولاي إنني أدعو لك بالنصر على كل أعدائك، إن هذا الذي تريد أن توليني إياه باقتراني بابنة عمك شرف عظيم، وإني أقول لك يا مولاي إن ابنة عمك هذه لم تكن من بيت الملك فقط، بل هي من سلالة النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - وعلى ذلك يجب أن تكون موضع كل عناية، ومشمولة بكل رعاية؛ ولما كان من سوء الحظ أني مصاب بداء الحماقة، والحماقة أعيت من يداويها، وقد لا يمكنني أن أحكم عواطفي عند حدوث أي حادث، ولا تخفى نتيجة هذا بين الزوج وزوجته، وقد يؤدي هذا إلى نفور قد يحصل - لا سمح الله - بيني وبين مولاي؛ فأرجو معذرتي إذا رجوت سيدي أن يترك هذا الرأي.»
فقال لي: الآن وقد عشت بين ظهرانينا عشرة أعوام خبرناك فيها وعرفنا خصالك وعاداتك، فلم أسمع عنك إلا كل طيب، وكل ما يخيل لي من أمرك هذا أنك لا تود تغيير العادة التي ورثتها من قبيلتك الأصلية بأنك لا تريد إلا زوجة واحدة (والخليفة يقصد من كلامه هذا أنه باعتباري مسيحيا فلا أتزوج إلا واحدة؛ ولذلك أرفض أن أتزوج بابنة عمه). فقلت له: «لا يا مولاي، فإني لا أتبع عادة بلادي مطلقا، وإن كنت أتبعها فلماذا تزوجت بثلاث نساء قبل الآن.» فأجابني: «فهمت على كل حال، فأنت ترفض زواج ابنة عمي!» فقلت له: «كلا يا سيدي، فأنا لا أرفض ولكني أريد قبل الإقدام على أي شيء أن أوضح لك حقيقة أخلاقي، وبذلك أضمن العواقب. وبطبيعة الحال إنه لمما يشرفني الانتساب إلى قبيلتكم، إلا أني أود قبل كل شيء أن يكون مولاي على علم تام.» والآن وقد تيقن من أن محاولاتي هذه كلها علامة الرفض، أمرني بالانصراف.
وقد وضعت نفسي بعدم القبول هذا في مركز حرج للغاية، وهذا مما جعلني أزيد في جهدي لتدبير أمر الهروب.
وقبل هذه الحادثة ببضعة أشهر، كنت قد كلفت تاجرا سودانيا بالذهاب إلى القاهرة ومقابلة القنصل النمساوي ليطلب إليه أن يعمل غاية جهده على تمكيني من الهروب، ولكن متى تتحقق هذه الآمال؟!
الفصل الخامس عشر
ملاحظات متنوعة
سأحدث القراء الآن عن شخص الخليفة وعاداته وأخلاقه فأقول: هو السيد عبد الله ابن السيد محمد، ينتمي إلى قبيلة التعايشة من أولاد أم سار من أسرة الجبارات، وقد اتصل بالمهدي وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وكان في ذلك الوقت قوي البنية إلا أن الشواغل قد أنهكت قواه الآن، فأصبحت تراه كهلا اشتعل رأسه شيبا، ولو أنه لم يتجاوز 49 عاما، أصبح سريع الانفعال، ولما تنتابه تلك الحال يصبح من غير المتيسر على أعز عزيز لديه الدنو منه ومحادثته، حتى ولا أحد إخوته.
وكان يعتقد دائما أن الصدق والأمانة لا وجود لهما مطلقا عند أي مخلوق، وكل ما يظهره الإنسان من ملق ومداهنة إنما هو لقضاء الحاجات والمآرب دون سواها.
وكان بطبعه محبا للملق والمداهنة؛ لذلك كنت ترى القوم يكيلون له الملق جزافا، حتى إن أحدهم لا يجسر أن يذكر اسمه دون أن يقرنه بصفات الحكم والقوة والعدل والشجاعة والكرم والصدق، وكان من جهته يقابل ذلك الرياء بسرور وارتياح تام، ويا شقاء من كان يمس كرامته!
ولكي يكون لدى القارئ فكرة عامة عن طباع هذا الرجل، أسرد الحكاية الآتية :
كان من بين قضاته قاض اسمه «إسماعيل عبد القادر»، تعلم جيدا في القاهرة ونال حظوة كبرى عند المهدي؛ لأنه كتب تاريخا قيما عنه يشمل جميع انتصاراته وتاريخ حياته. ولما مات المهدي أمر الخليفة، إسماعيل هذا، أن يتمم عمله ويكتب عن الانتصارات ويكيل ألفاظ الملق والمداهنة للخليفة. فقال إسماعيل عبد القادر ضمن أقواله مقارنا الحالة في السودان بها في مصر، فشبه الخليفة بالخديو إسماعيل باشا المفتش. ولما وصل هذا القول إلى مسامع الخليفة، أمر القضاة في الحال ليجتمعوا لمحاكمة إسماعيل على هذا القول، الذي اعتبره الخليفة ذما في شخصه، وقال: «كيف والمهدي خليفة النبي وأنا خليفته يشبهني هذا الرجل بالخديو الذي هو من أصل تركي؟ كيف أشبه بهذا الرجل وأنا خليفة المهدي، والمهدي خليفة النبي الذي هو أعظم مخلوق على ظهر الأرض؟» وطلب إلى القضاة أن يحاكموه، فقضوا بإدانته وكبل بالأغلال وأرسل إلى الرجاف. وقال الخليفة: «ما الذي دعاه إلى التشبيه بين مصر والسودان، فإذا كان يود أن يشبه نفسه بباشا مصري، فأنا خليفة النبي لا أقبل على نفسي مطلقا أن أشبه بتركي.»
ولم يقف به غروره عند هذا الحد، بل أصدر أوامره في الحال بأن تجمع كل نسخ مؤلف هذا القاضي وتحرق، وبالفعل تم ذلك إلا نسخة واحدة - كما بلغني - احتفظ بها سكرتير الخليفة، ولو وجدت هذه النسخة الآن وترجمت إلى اللغات الإفرنجية لظهر الشيء الكثير مما كانت عليه الحركة المهدية منذ نشأتها.
وكان هذا الخليفة مغرورا جدا بقوة جيوشه، معتقدا أنه في وسعه أن يعمل كل شيء ويغزو أي بلاد. وكانت أخلاقه خليطا من اللين والشدة، وما كان يسير إلا إذا أحدث آلاما لآخرين؛ كمصادرته أموالهم أو تعذيبهم. وكانت تلك خصاله حتى أيام حياة المهدي نفسه؛ فعبد الله نفسه هو الذي سبب مذبحة الخرطوم التي قتل فيها النساء والأطفال بلا شفقة ولا رحمة.
ولما أرسل عثمان واد آدم إلى أم درمان أختي سلطان دارفور؛ البرنسيسة مريم عيسى وبخيتة، منحهما الخليفة حريتهما، ولكنه حجز غيرهما من أقاربهما النساء، وأخذ لنفسه كثيرا منهن، وأعطى توابعه أخريات. ولما علم بأن هناك من أهل دارفور من يقطن أم درمان ويريد مساعدة البرنسيستين، قبض عليهما وأعطاهما لاثنين من أمرائه، هما حبيب وخليل، وكانا على أهبة السفر إلى الرجاف، وقد حاولت أم بخيتة وهي ضريرة أن تتبع ابنتها فرفض طلبها، ومنعت بأمر الخليفة بالقوة من متابعة بنتها، حتى إنها ماتت بعد أيام قليلة وقلبها يتحرق على ابنتها. ورمت بخيتة بنفسها في النهر والباخرة لم تقلع من مكانها، ولما نجوها من مخالب الموت ماتت من التعب والبؤس بعد قليل.
وكان أحمد غراب مصري الجنسية مولودا بالخرطوم، ولكنه قبل حملة هكس باشا سافر في تجارة تاركا وراءه زوجته وهي سودانية وبنته، وقد عاد ليراهما إلا أنه في يوم عودته وقبل أن يرى أسرته، أحضر أمام الخليفة فأوضح الأسباب التي حملته على الرجوع، مظهرا رغبته في الدخول في خدمة الخليفة، فقال له: «إني أقبل ذلك بكل سرور، فلتذهب في الحال إلى الرجاف.» وجاهد في سبيل الله، وعبثا حاول هذا المسكين أن يقنع الخليفة في أن يستأذنه السماح له برؤية أولاده، فأمر الخليفة حرسه في الحال بأن يأخذوه إلى المركب المسافر على أن يراقبوه جيدا.
والخليفة عبد الله هذا هو الذي سبب هلاك آلاف الناس، وهو الذي كان يعذب الآدميين بأن يقطع أيديهم وأرجلهم تعذيبا. ولم ننس له حادثة قتله وشنقه أفراد قبيلة «البتاهين» في ساحة السوق، ولقد ذكرت كثيرا أن أصدقاءه كانوا أشد خوفا من أعدائه على حياتهم منه، وهل هناك دليل يثبت فظاعة هذا الرجل أقوى من حادثة سفكه دماء الأشراف بعد أن اتفق معهم وعقد التحالف المعروف؟
وكان كل من يدخل عنده يقف مكتوف اليدين مسبلا عينيه إلى الأرض ينتظر أمره بالجلوس. وكان هو يجلس دائما على عنجريب مفروش بحصير عليه فرو، فإذا أمر أحدا بالجلوس فإنما يكون جلوسه على الأرض مقعيا كما يقعي عند الصلاة، لا يتحرك حتى يؤذن له بالانصراف. وكان لا يسمح لأي مخلوق بأن يشخص ببصره نحوه. وقد حدث مرة أن سوريا اسمه محمد سعيد، جمعه سوء الحظ - وهو بعين واحدة لا يرى بالأخرى - بالخليفة في المسجد، فلاحظ الخليفة أن عين هذا السوري ترمقه، فدعاني وأمرني بأن أبلغه أن الخليفة لا يحب أن يراه مرة أخرى يرمق إليه.
وكانت حالته في منزله على عكس ما هو عليه من طباع؛ إذ كان لين العريكة يطيع أمر ابنه، حتى إنه في ذات يوم لما قال الولد لأبيه إنه أتم دروسه، سرعان ما أمر المعلمين بالانصراف. وقد زوج ابنه عثمان هذا بابنة عمه بنت يعقوب ولم يتجاوز من العمر سبعة عشر عاما، وأقام له أفراحا لم يسبق لها مثيل؛ فقد مدت موائد الطعام ثمانية أيام حتى تمكن كل فرد من سكان أم درمان من أن يأكل، كما أنه زين المنزل المبني بالطوب الأحمر والموجود تجاه بيت يعقوب بأفخر الرياش لكي يكون محل سكن ولده.
وبعد ذلك بقليل زوج ابنه هذا باثنتين من أقاربه، وقدم له جواري اختارهن هو بنفسه لابنه، وكان يحرم على ابنه الاتصال بالغير، كما كان يصرح دائما بأنه لا يسمح له أن تجمعه صلة نسب مع أي قبيلة أخرى.
ولما رأى أن لابنه علاقات مع آخرين، سرعان ما جعله يسكن في منزل داخل السور بجوار منزله ليشدد عليه الرقابة.
وقد زوج بنته لابن المهدي «محمد»، وكان محمد هذا غير راغب في هذا الزواج؛ لأنه لا يحب ابنة الخليفة مطلقا، وكان يرغب في الزواج بقريبة له، إلا أن الخليفة عبد الله - وهو صاحب الحول والقوة وولي أمره والرقيب عليه - أرغمه على ألا يتزوج بمن يريد، فتزوج بابنة الخليفة مرغما وعاشا عيشة مرة.
وكان للخليفة ما يقرب من 400 امرأة، وبحكم الشرع كان من بينهن أربع زوجات شرعيات، والباقيات كن من بنات القبائل التي أرغمت على اتباع المهدي؛ أي بمعنى آخر أسيرات. وكان كلما أحب واحدة وأراد الاقتران بها اقترانا شرعيا، طلق واحدة من زوجاته الشرعيات ليستبدلها بمن يريد. وقد جمع في زوجاته بين البيض والسود، وقد قسمهن إلى أقسام، بعضها مكون من 15 والبعض من 20، يرأس كلا من هذه الأقسام رئيسة، وكل قسمين أو ثلاثة أقسام منها تحت إشراف سيدة الأحرار المحظيات عند الخليفة، وكان يمنحهن حبا ونقودا وهبات أخرى تمكنهن من قضاء حاجاتهن، ويعطيهن أيضا الملابس بنسبة جمال وأخلاق ومركز كل منهن عنده، وتتكون تلك الملابس عادة من نسيج قطني يصنع في البلاد السودانية ملون الحواشي، أو من حرير لامع وشيلان صوف مستوردة من مصر، وكان هو نفسه الذي يباشر توزيع هذه الأشياء عليهن، وفي بعض الأحيان يوزعها أغاه الخاص.
ولما كانت المجوهرات الفضية قد حرمها المهدي، كن يتزين عادة بالخرز والصدف، وكن يضفرن شعورهن. إلا أنه في الأيام الأخيرة لبست زوجات العظماء حليا من ذهب وفضة، ولبست زوجة الخليفة الأصلية أكثر ما يتصوره إنسان من حلي.
وكان يشرف على حالة نسائه الصحية نسوة مخصوصات لا يتأخرن عن إخطاره بكل ما يحدث من الإصابات.
ولما كان يريد اختيار واحدة منهن ليجتمع بها، كان يستعرضهن جميعا ويختار منهن من يشاء. وكان لا يختلط بنسائه إلا أغواته ولا يحرسهن إلا الملازمون السود، وقلما كان يسمح لواحدة منهن أن تتصل بأي كائن كان من أهلها أو أقاربها، وقد تمضي السنة دون أن ترى الواحدة أي فرد من عائلتها.
وكان اسم زوجته الأولى «سارة»، وهي من قبيلته، شاركته السراء والضراء، وهي أم أولاده عثمان وخديجة. ومع أنها أصبحت زوجة الخليفة الآن، إلا أنها كانت تحافظ على مظاهرها وعاداتها الأصلية، فكانت تعمل بنفسها أو تحت إشرافها طعامهم البسيط المكون من العصيدة وبعض الفراخ. ولما أراد الخليفة أن يترقى في معيشته واطلع على أنواع الطعام المصري وأصناف المأكولات التركية، وأراد إدخالها في مطبخه؛ تسبب عن ذلك شقاق بينه وبين زوجته، كان سيقضي حتما إلى فراقهما لولا تداخل يعقوب وبعض أفراد أسرته.
وكان عنده أغا رئيس يسمى «عبد القيوم»، وكان هذا هو المشرف على تمدين بيت الخليفة، ويتناول من بيت المال المصاريف اللازمة ويتولى صرفها. كما كان تحت يديه الهدايا التي كان يقدمها الخليفة لمن يشاء، يساعده في أداء هذه المهام رهط من الكتبة والمساعدين تحت إمرته، كلهم أغوات؛ حيث إن الخليفة - كما قدمت - ما كان يسمح لغير الأغوات بالدنو من منزله.
وأما لباس الخليفة فكان عبارة عن الجبة البيضاء وعلى رأسه عمامة من حرير وعلى كتفه حرام، وكان يلبس في رجليه في أول الأمر صندلا، إلا أنه غير ذلك بعد قليل واستبدله بلبس «بلغة» صفراء. وكان دائما يحمل في يده اليسرى عندما يسير سيفا وفي يده اليمنى حربة يتوكأ عليها كأنها عصا، ويتبعه في سيره 12 صبيا خدما خصوصيين له، جلهم من الأحباش الذين أسرهم أبو أنجة وزكي طومال، وكان واجبهم أن يكونوا دائما على مقربة منه ليكونوا رسله عندما يرى أي شيء. ولما يبلغ الواحد منهم السابعة عشرة من عمره، يترك خدمة الخليفة الخصوصية ويندمج في حرس الخليفة النظامي، ويحل محله آخر من الصبيان.
وكان الخليفة يعتقد أنه باستخدام صغار السن يكون دائما في مأمن من إذاعة أسراره، وبطبيعة الحال لا يخطئه واحد مطلقا في رأيه هذا.
وأما في داخل منزله فكان بطبيعة الحال يحل الأغوات محل هؤلاء الأولاد؛ إذ - كما قدمت - ما كان يسمح لغيرهم بدخول داره.
عرضت على الخليفة منذ ثلاث سنوات فكرة من جانب مشير به الحربيين، فارتاح إليها وعزم على تنفيذها، وتتلخص هذه الفكرة في ضم أفراد من حرس الخليفة إلى صفوف الضباط في الجيش العام، ولم يكد يعلن موافقته على ذلك الرأي حتى اختار بنفسه عددا من المجاهدين البارزين في جيش محمد أحمد وزكي طومال.
لم يقف الخليفة عند هذا، بل أصدر أمره لأمراء القبائل العربية حتى يحضروا المئات من الجنود الجدد ليدمجوهم تحت ألوية ضباطه، ولكن تلك الأوامر لم تلق الطاعة الاجتماعية من ناحية الأمراء، وفي كل خطوة من خطواته التنظيمية الأخيرة كان معنيا باضطهاد الدنقليين والمصريين وإخراجهم من دائرة حرسه؛ لأنه لم يكن يثق بهم ولم يمل إليهم.
جد الخليفة في سبيل ذلك الإنشاء الحربي حتى تمكن من تكوين قوة تتراوح بين أحد عشر ألفا واثني عشر ألفا من الجند، ونظم لذلك العدد الكبير أراضي تشبه القطائع، سكنها أولئك الجنود مع نسائهم، وهي على مقربة من مساكن الخليفة ودور ابنه وفي حدود السور الحربي الجديد.
وقسمت هذه القوة الجديدة إلى ثلاث كتائب، يقودها على التتابع ابنه عثمان وأخوه هارون أبو محمد - الذي لا تزيد سنه على الثامنة عشرة - وابن عمه إبراهيم خليل. أما الثالث فلم تطل مدة قيادته كتيبته؛ حيث حل محله رجل حربي حبشي اسمه رابح، كان في حاشية الخليفة في بيته الخاص. وإنه لمما يجب ذكره أن عثمان كان موضع احترام صفوف الجيش بقسميه الأعلى والأدنى، فلقبه الجنود بمثل الخليفة.
وتنقسم كل كتيبة إلى أجزاء منتظمة، يحتوي كل منها على مائة جندي يرأسهم ضابط ويلقب برأس المائة؛ ولذلك الضابط مساعدون مدربون.
إذا عدنا لأنواع الجنود وجدنا السود منهم مندمجين في الأقسام المتفرعة من الكتائب، وهم في ذلك ليسوا الجنس العربي الحر، ولكنهم تحت رقابة الأمراء الذين يصدرون أوامرهم المطاعة لكل من الفريقين على حدة؛ لأن السود لا يخضعون للنظم العسكرية كما يخضع العرب.
وإنا لا نغالي في التقدير إذا قلنا إن جميع أولئك الجنود مسلحون ببنادق رمنجتون، ولكننا نظهر أمام الحقيقة أكثر دقة وصدقا إذا قلنا إن البنادق المذكورة محفوظة في المخازن لا في أيدي الجنود؛ حيث لا تسمح إدارة الجيش العليا بإخراج البنادق من مكانها إلا في أعياد خاصة في كل عام. أما فيما يختص بمرتب الجندي فإنه لا يتجاوز نصف ريال درويشي شهريا مضافا إليه ثمن ( ) إردب من الذرة في كل أسبوعين. وفي الحق لا يظفر الجندي بأكثر من تلك الذرة، أما نصف الريال فيكاد يكون مرتبا اسميا.
يجيء بعد ذلك ذكر مرتب كل من رأس المائة والأمير، وكل من المرتبين عال بطبيعة الحال إذا قسناه إلى مرتب الجندي. هذا إلى أن كلا منهما - رأس المائة والأمير - يظفر بمنح متتالية من النساء والعبيد الخاضعين لنفوذ الخليفة.
إذا أنعمنا النظر في مهمة الجنود والحرس وجدناها محصورة في حماية شخص الخليفة؛ وإذن أولئك جميعا مضطرون لمرافقته في جولاته الحربية على أن يحميه حرسه الخاص أيام استعراض الجيش العام. ومن العجب أن يسير ذلك الحرس في ركاب الخليفة إلى أي مكان سار وفي أية بقعة نزل؛ مما يدل على رغبته الشديدة في الاحتفاظ بحياته. ولما كان أمر الحرس كذلك اضطر الخليفة أن يقيم له ميدانا خاصا فسيحا أمام منزله ليكون لاصقا به مدى حياته.
يذكر القراء أننا أشرنا في السطور السالفة إلى كراهية الخليفة للمصريين واتساع دائرة الكراهية إلى حد أنه يمقت سماع أنغامهم، ومع ذلك كان يستصحب في رحلاته أفرادا ليسمعوه الأنغام المصرية وغير المصرية، إلا أنه لم يقلع عن فكرة الكراهية، فبدلا من سير اثنين من المصريين للنفخ في البوق وتوقيع النغم، كان يرافقه اثنان من السود، وكان الخليفة يلقب رأس المائة بكلمة «قبطان»، ولقب الأمير عنده «بكباشي»، أما القائد «أميرالاي».
لا ينسى المتكلم عن الخليفة أن يقول إن عبد الله كان في أكثر الأحايين يفتش ويراقب جنوده ليلا؛ حتى يثق من بقاء كل رجل من رجاله الحربيين في المكان الذي عينه له. وقد كان أكبر هم الخليفة موجها إلى مركز طليعة الجيش. وإزاء هذا التدقيق الشديد وتلك اليد القاسية، كان رءوس المائة والأمراء يدعون المرض في كثير من الليالي، فيذهبون سرا إلى بيوتهم وفي نفوسهم غصص وآلام، فيفرجون عنها بإظهار استيائهم لذويهم.
تشتمل أعمال الخليفة العامة على ترديد الصلوات الخمس يوميا في الجامع الكبير، فعندما يبدو السحر يؤدي الخليفة صلاة الفجر، وبعد ذلك يقرأ المحتشدون بعض الآيات القرآنية في حضرة المهدي، ويستغرق ترديد القرآن وبعض الصلوات الخاصة مدة تقرب من ساعة.
وبعد ذلك يعود الخليفة إلى مخدعه الخاص، ولكنه في بعض الأحايين يخالف ذلك الترتيب في المسجد؛ ليتحقق بنفسه مبلغ إذعان سكان أم درمان لأوامره الدينية الخاصة بحضور الصلوات الخمس حضورا منظما. أما صلاة الظهر فيقوم بها الخليفة حوالي الساعة الثانية مساء، وبعد ساعتين أخريين يؤدي صلاة العصر التي يذكر فيها المصلون بعد تأديتها بعض أقوال دينية، ولا تكاد تغرب الشمس حتى يؤدي الخليفة صلاة المغرب، ثم ينتهي بعد ثلاث ساعات إلى الصلاة الخامسة؛ وهي صلاة العشاء. وفي كل من الصلوات الخمس يصلي الخليفة في محرابه القائم أمام صفوف المصلين. وذلك المحراب بناء جميل رباعي الشكل، مكون من أعمدة رفيعة مخروطة الشكل، يعلو كلا منها طبقة حديدية صلبة. ولا ريب في أن الخليفة يستطيع أن يشاهد كل ما يحيط بمحرابه وهو في حالة هادئة ومكان أمين.
هذا هو المحراب الذي يجلس وراءه مباشرة ابن الخليفة، فالقضاة، فأشخاص قلائل يختارهم الخليفة من أخصائه. أما الجنود الذين يحرسونه فيجلسون على جانبي المحراب، ويظل الجنود السود في الجوانب التي تحيط بالمسجد ملازمين سورا ضخما يفصل بين المسجد والميدان. وإلى جانب الضباط أماكن مخصصة للأمراء وأغلب رجال القبائل الغربية، وقد عينت لأولئك الجهة اليمنى. أما الناحية اليسرى فيجلس فيها بعض الأتباع وقليلون من العرب المنتمين إلى الخليفة «علي واد هلو» ثم أنصار الجعليين والدنقليين، ووراء أولئك جميعا يجلس المصلون من المسلمين في صفوف تترواح بين عشرة واثني عشر، حتى إذا ما بدأ الخليفة تلاوة صلاته رددها المصلون.
وعلى أية حال، فإن المصلين لا يقلون عن بضعة آلاف. وبما أن الخليفة محدود الدائرة من موقفه بالمصلين، فإن الأمراء الظاهرين وبعض ذوي النفوذ من رجال القبائل مضطرون إلى معاونة الخليفة في تأدية الصلاة. ولئن كان في صدر الخليفة غل أو حقد على شخص من الأشخاص، فإنه لا يتردد في الاقتصاص منه وإلزامه بحضور الصلوات الخمس في المسجد؛ بحيث يراقبه هو وغيره - من المغضوب عليهم من الخليفة - بواسطة أشخاص معينين لهذا الغرض.
السبب أن الخليفة - في كل هذه التحرجات وذلك التقييد الديني - مدفوع بعامل صيانة الدين، ولكنه لا يرمي إلى ذلك فحسب، بل يبغي إلى جانب ذلك الاحتفاظ بسيادته ونفوذه على أتباعه جميعا. وإنه لواجب علينا في هذا الصدد أن نقول بأن الكثيرين من المصلين يسكنون في جهات بعيدة عن المسجد الكبير؛ فمن الشاق عليهم أن يذهبوا من منازلهم إلى المسجد ويعودوا إليه خمس مرات يوميا، وكل ما يستطيعون عمله هو أن يجتمع بعض الناس في منازل أصدقائهم، وهذا ما يمقته الخليفة مقتا شديدا؛ لأنه يخشى ما يسمونه «حياة الجماعة ». وقد كان الخليفة عبد الله على اعتقاد ثابت في أن هذه الاجتماعات المذكورة البعيدة عن رقابته لا بد أن تنتهي إلى المسامرات والتكلم في شئون الجماعات، ومثل ذلك الكلام يصل إلى بحث أعمال وشئون الخليفة؛ فهذا ينقدها باللوم والتجريح، وذلك يرضى عنها خائفا، وآخر يمتدحها. فلا عجب أن نرى من الخليفة جهدا شديدا مبذولا في سبيل تأييد فكرة اجتماع المسلمين تحت رقابته هو وحرسه الخاص.
نرى من الأقوال السابقة الخاصة بإقامة الفرائض الدينية أن الخليفة عبد الله أول من يصلي بالناس في المسجد الكبير، ولكننا لا ننسى أن كل إنسان معرض للمرض الذي يحول دون قيامه بما تعود تأديته يوميا؛ وإذن الخليفة عرضة لذلك المرض أو لأي عذر طارئ يمنعه من السير خمس مرات يوميا إلى المسجد الكبير. وبالفعل تغيب عبد الله في بعض الأيام عن القيام بعمله الديني الكبير، فكان يخلفه في الإمامة أحد القضاة أو ضابط من قبيلة تكروري، على أن يكون ذلك الضابط مشهورا بين الناس بصلاحه وتقواه. وعلى أي حال لا يسمح مطلقا للإمام الذي يقوم بعمل الخليفة أن يقف في المحراب، بل يكون في قيادته الدينية قائما في أول صف مجاور لذلك المحراب العظيم. ومع أن القانون الديني يحتم على الخليفة «علي واد هلو» أن يمثل الخليفة عبد الله في تأدية الفرائض الدينية أثناء غيابه (عبد الله)، فإن «علي واد هلو» لم يكن يمثله في أغلب الأحايين.
كان الخليفة عبد الله في حياته اليومية يتلقى بين صلاة العصر وصلاة المغرب عدة تقارير، ويستمع الأنباء الخاصة بشئون الأمة، ويطلع على الخطابات الواردة له، ويقابل القضاة والأمراء الذين سمح لهم الخليفة قبل يوم المقابلة بالتحدث معه، وإلى جانب أولئك كان يسمح الخليفة في ذلك الميعاد من كل يوم بمقابلة الأشخاص الأخصاء الذين يرغب التحدث إليهم.
أما مراسلاته البريدية الخاصة فمحدودة وسائرة في سبيل طبيعية، وهو يحتفظ لذلك بما يتراوح بين ستين وثمانين جملا لحمل البريد العام، على أن يتولى رقابته أشخاص مخصوصون بصفة عمال بريد. ولا يذهبن تصور القارئ إلى أن أولئك محصورو العمل في بلد الخليفة، وإنما هم موزعون في جميع أنحاء إمبراطوريته؛ حيث يتلقون أوامره وتعليماته فينفذونها عاجلا.
ومما يذكر في هذا الصدد، أن إبراهيم عدلان اقترح عليه إنشاء محطات خاصة للبريد على طول الخطوط الرئيسية المعروفة.
ولكن الخليفة رفض قبول هذا الاقتراح بشيء من الضجر، بعد أن قال لإبراهيم بأنه عني قبل كل شيء بالأوامر الشفوية التي يلقيها «الخليفة» على الأخصاء من رجال البريد، الذين لم يتأخروا مطلقا في تنفيذ أوامره بإخلاص وأمانة، علاوة على أن الخليفة كان يتلقى من أولئك المقربين إليه تقارير وافية عن أعمال الحكام التابعين له.
لم يقتصر أمر البريد الخاص على الخليفة، بل تعداه إلى الأمراء؛ كل في منطقته؛ حيث كان للأمير رجال مخصوصون وعدد معين من الجمال لحمل البريد، مع تعليمات خاصة لأولئك المتجهين إلى أم درمان. ومهما يكن الأمر فلم تكن هناك طريقة للمراسلات البريدية العامة؛ أي للمراسلات بين الأشخاص من عامة الشعب السوداني، ولكن على رغم ذلك كان الحمالون يحملون رسائل من بلد إلى آخر بطريقة سرية.
لم يكن الخليفة في جميع أيام زعامته واثقا بغريب عن دائرته؛ فدعاه ذلك إلى التشديد على الرجال المحيطين به، حتى إنه لم تكن تصدر رسالة من أحدهم إلى الخارج إلا بعد أن تمر على كاتم سر الخليفة. ومما يذكر عن الخليفة عبد الله أنه كان يجهل القراءة والكتابة، فحدا به ذلك إلى الشك في كثير من الكتابات الواردة من الخارج إلى الأمراء القريبين منه، وتبعا لذلك كان يصدر أوامره المشددة بمرور الرسائل على سكرتيريه الخصوصيين، ومن أهم أولئك في نظره اثنان؛ هما قاسم ومدثر، اللذين كانا مضطرين دائما لشرح محتويات الخطابات لسيدهما الخليفة، على أن الخطابات الواردة لمركز الخلافة ذاته لا يرد عليها السكرتيرون من ذواتهم، بل يتلقون أوامر الخليفة في كل ما يكتبونه. ولم يكن جهل الخليفة القراءة والكتابة مانعا له من الوصول لبغيته بواسطة المفتشين الذين يراقبون تلك الردود البريدية.
أما هذان السكرتيران فقد عاشا مع الخليفة حياة تعسة مملوءة بالأوامر التي تنم عن ريبة عبد الله فيهما. وقد كان ذانك الرجلان على ثقة تامة من أن الخليفة لن يغتفر لهما أصغر هفوة، والويل كل الويل لأحدهما أو لاثنيهما في حالة إذاعة سر من أسرار الخليفة، حتى لو كانت تلك الإذاعة غير مقصودة بسوء نية من جانب السكرتيرين. ولم يكن الخليفة يقصر في حالة من تلك الحالات عن معاملة ذينك الرجلين بما عامل به الأحمدي وأشقاءه الأربعة، الذين نفذ فيهم حكم الإعدام بعد أن اتهموا باتصالهم بالأشراف.
إذا خلا الخليفة إلى نفسه ونزع إلى شيء من الراحة أو التحدث للناس، فإنه لم يكن يرتاح لشيء أكثر من التحدث مع القضاة الذين لم يكونوا - في أغلب الأحيان - غير آلات صماء في يديه؛ بحيث لم يكونوا يترددون في إصدار أقسى الأحكام الاستبدادية ضد من يمقتهم الخليفة أو يرتاب فيهم، فإنك كنت ترى أولئك القضاة يجلسون أمام الخليفة في وقت راحته في شكل نصف دائرة على الأرض العارية من كل فراش، ولم يكن يتجاسر أحد أولئك على رفع رأسه أمام الخليفة، فإذا جلسوا أرهفوا آذانهم وصمتوا انتظارا لأوامر الخليفة المطاعة. وقد كانت الأوامر المذكورة في أغلب الأحيان تلقى بصوت خافت هادئ، والعجيب في الأمر أنهم لم يكونوا بحال من الأحوال يستطيعون رفع أصواتهم، وبطبيعة الحال لم يتوقع شخص معارضة أو اقتراحا من جانب أي قاض. وسواء أكان الخليفة مصيبا في رأيه أم غير مصيب، فإن القاضي ملزم بالإذعان للأمر والتأمين على ما سمع.
إلى جانب أولئك القضاة كان الخليفة في كثير من الأحايين يجتمع بالأمراء وبعض الأشخاص ذوي النفوذ الموثوق فيهم عنده، وكان الخليفة على وجه عام يقف على شئون الرعية وأحوال البلاد بواسطة أولئك الأشخاص القريبين. ومما يذكر عن عبد الله أنه كان ماهرا في بث الفتنة بين أولئك المقربين منه؛ حتى لا تتم الصلة بينهم، وحتى يصل كل منهم إلى إذاعة ما عنده إذاعة دقيقة لمولاه الخليفة.
وكانت مناقشات الخليفة ومباحثاته عقب صلاة العشاء كل يوم، وتلك المباحثات الخاصة مع يعقوب وبعض أقربائه الأقربين، وكانت تستغرق مباحثاتهم في كثير من الأحيان بضع ساعات، وفي أيام خاصة تظل إلى ما بعد منتصف الليل، وعلى وجه عام كانت الاجتماعات العائلية البحتة خاصة بالبحث في أنجع الطرق للتخلص من الأشخاص غير المرغوب في وجودهم أمام الخليفة بصفة خاصة، وأمام ابنه وبعض أقربائه بصفة عامة. وإنه لمما يجدر بنا ذكره أن أولئك الأشخاص كانوا لا يتطلعون - في ذلك الحقد على المكروهين - إلى مصالح عامة، بل إلى ما قد ينجم عنه ضعف لقواهم أو التقليل من أثرهم البارز في الدولة.
كان الخليفة في كثير من الأحيان يقوم برحلات صغيرة داخل المدينة أو في الجهات المجاورة، على أنه في أيام خاصة من الشهر كان يقوم ببعض زيارات لأخصائه في أم درمان. وليس هناك ما يدعو إلى بذل جهد من الشعب خارج أو داخل المنازل لتعرف ميعاد مرور الخليفة؛ فإن الأصوات المرتفعة من الحشم ودق الطبول والنفخ في الأبواق أمام ركب الخليفة؛ كل ذلك كاف لأن يسمع الناس ذلك الصوت الخاص على بعد مئات من الأمتار، فيهرع السكان لتقديم التحية لمولاهم الكبير.
كان إلى جوار بيت الخليفة مكان فسيح للحرس، ودار مسقوفة بقش يظل فيها الخيل بعد أن ينظفها الحرس. فإذا ما قال الخليفة إنه يعتزم الجولان في المدينة، أسرع حراسه إلى خيولهم وأسرجوها. فإذا ظهر الخليفة في رحبة داره الخارجية، خرج الضباط والحرس الخاص من كل النواحي المحيطة وأسرعوا لحماية سيدهم. وكان النظام المتبع في تلك الرحلة أن يتقدم الضباط وحرس الخليفة، ثم يتبعهم عبد الله ممتطيا جواده الخاص وحوله من النواحي الأربع دائرة من الحرس الموثوق في إخلاصهم له. وإنك لتكاد تظن الناس الخارجين من منازلهم لمشاهدة الخليفة مجموعات متتالية من الكتائب الحربية، أما الجنود فكل فصيلة تسير على انفراد مكونة من اثني عشر متجاورين، ووراء أولئك جميعا يسير الموكب اللاحق والمؤلف من الأمراء والأخصاء على ظهور الخيل ثم آخرون من الأقرباء.
نضيف إلى ذلك أن رجلا عربيا مسلما اسمه «أبو دخيبة» كان يجاور الخليفة إلى يساره، وكل ما كان لهذا الرجل من شرف هو أن يرفع الخليفة إلى جواده الخاص ثم يظل ملازما له أثناء نزوله من الجواد، هذا إلى أن الذي كان يشغل الناحية اليمنى من الخليفة أثناء سير موكبه هو كبير الخصيان ورئيس فرقة العبيد في حاشية الخليفة.
كان أمام الخليفة مباشرة في كل رحلة من رحلاته ستة من النافخين في الأبواق إيذانا بمرور الركب العظيم، أما السائرون وراء جواد الخليفة مباشرة فهم الضاربون على طبول خفيفة ترمي إلى تحسين صوت البوق في أذني الخليفة، الذي كان شديد الميل لسماع الأنغام. ومن اختصاص الأخيرين - الضاربين على الطبول - إصدار إشارات معروفة في المدينة لسير الركب أو وقوفه تبعا لأوامر ورغبات الخليفة، فإذا ما انتهينا من أولئك جاء صف الحشم الخصوصي الذي كان يحمل أفراده محافظ جلدية فيها أوراق دينية وعالمية، خاصة بشئون الدولة.
بعد أن ننتهي من صف القارعين على الطبول قرعا خفيفا، نصل إلى صفوف خصيان الخليفة وصغار خدمه، وبين أولئك من يحمل آنية كبيرة فيها ماء للوضوء ويحمل غيره سجادة فاخرة لصلاة عبد الله، ويسير الآخرون حاملين الرماح، وفي بعض الأحايين يتقدم الموكب أو يخلفه ركب موسيقي مكون من خمسين سودانيا، تتكون آلاتهم الموسيقية من مستخرجات قرون الوعول، وتغطي الجلود طبولهم المصنوعة من تجاويف جذوع الأشجار الضخمة. وإنه لمن الميسور لك أن تميز أنغام أولئك السودانيين بما فيها من تنافر قبيح، وبما اشتهرت به من ابتعاد عن كل توقيع مطرب.
تعود الخليفة القيام برحلاته بعد صلاة الظهر على أن يرجع إلى داره قبل الغروب، وفي أثناء كل من الرحلات المذكورة يبذل الضباط أقصى مجهوداتهم لإظهار شجاعتهم وفروسيتهم أمام مولاهم الخليفة؛ فمن أمثلة تلك الشجاعة تقدم أربعة من الضباط متجاورين إلى ناحية الخليفة؛ بحيث يرمون رماحهم المدببة في الهواء ويقفزون من صهوات جيادهم إلى البقعة الممتدة أمام الخليفة ليحيوه واقفين، فإذا ما انتهوا من ذلك أسرعوا لركوب جيادهم وعادوا إلى الصف الذي كانوا فيه دون إخلال بنظام الموكب.
كان الخليفة في السنوات الأولى من حكمه يحضر إلى ساحة الاستعراض العسكرية كل يوم جمعة؛ حيث تجري حفلة عرض الجنود على اختلاف درجاتهم، ولكنه اكتفى في سني حكمه الأخيرة باستعراض الجيش أربع مرات في السنة؛ هي على التعاقب يوم ذكرى الميلاد النبوي، ويوم المعراج، وأول أيام عيد الفطر، ثم يوم العيد الأضحى. وكان مما يذكر عن عناية الخليفة عبد الله بحفلة العيد الأضحى، أنه كان يجمع فرق جميع البلاد المجاورة مع جنود دارفور والقضارف للقيام بالاستعراض العام وسط دق الطبول والنفخ في الأبواق. أما الصلاة في ذلك اليوم فكانت تقدم منه ومن جنوده إلى الله الرحمن في ساحة الاستعراض؛ حيث يصلي عبد الله إماما بالجند وهو واقف في غرفة مدببة الحواجز - كأنما هو في محراب المسجد الكبير - وفي ذلك الحين يحيط به خارج غرفته كثير من ضباطه الأخصاء وبعض أعيان السودان المتمتعين بثقة الخليفة وحبه، أما بقية الضباط والجند وعامة الجمهور فيوزعون أنفسهم في صفوف متلاصقة، فإذا ما تمت الصلاة صعد عبد الله إلى منبر خشبي لإلقاء خطبة يستظهرها بعد أن يقرأها له من كتبها من السكرتيرين. وفي نهاية الحفلة يطلق بعض الضباط رصاص بنادقهم سبع مرات إيذانا بانتهاء الاحتفال المقدس. وعقب ذلك يتقدم واحد منهم لذبح خراف الضحية لإرسالها إلى السوق العام بواسطة الجنود وتوزيعها صدقة على الفقراء. ولكننا لا ننسى ذكر ما كانت عليه شئون الدولة من الفقر والاضطراب؛ بحيث لم يكن يتسنى ذبح العدد الكافي من الخراف لتقديمها للفقراء، فكان ذلك داعيا إلى استعاضة الفقراء عن لحم الخراف بقصاع الثريد.
اعتاد الخليفة تخصيص اليوم الأول من أيام العيد الأضحى لذلك الاستعراض المصحوب بتأدية فريضة الشكر المقدسة للعزة الإلهية إزاء ما أسبغته على السودان من خير طول العام، ولم تكن تجري في ذلك اليوم أية معاملة رسمية. أما المقابلات «التشريفات»، فكانت في الأيام الثلاثة التالية لليوم الأول؛ حيث يسير إلى دار خلافة عبد الله قبل مشرق الشمس في كل يوم من الأيام الثلاثة أمراء أم درمان والجهات المجاورة، حاملين راياتهم ومن خلفهم أتباعهم المتفائلون خيرا بالعيد، فإذا جمع كل أمير أتباعه سار بهم إلى الناحية المعدة له في ساحة الاحتفال - وهي عبارة عن أرض رملية تتخللها أحجار صغيرة - ومن تلك الجهة كانوا يسيرون إلى دار عبد الله إلا إذا بدت الرغبة من الخليفة في التوجه إلى دار الاستعراض؛ حتى لا يتعب الأمراء وأتباعهم وصفوف الجند. وفي كل حال من تلك الأحوال يعيد الجنود السير إلى حيث الخليفة لتقديم التحية للمهنئين بالعيد، وهم في سيرهم هذا يولون وجههم شطر المشرق.
أما يعقوب ابن الخليفة وصاحب أكبر مكانة في السودان بعد أبيه، فكان يحمل العلم الرئيسي؛ وهو عبارة عن قطعة كبيرة منتظمة الشكل من القماش الأسود توضع مباشرة أمام الحاجز المدبب القوائم الذي اعتاد الخليفة الجلوس فيه في ساحة الاستعراض، على أن الخط المستقيم الواصل بين العلم والحاجز يبلغ امتداده أربعمائة قدم، وبعد أن يتركز لواء يعقوب يضع الأمراء المختلفون على جانبيه راياتهم المميزة لقبائلهم، وقد يكون أكبر بيرق ظاهر بعد لواء يعقوب بيرق الخليفة علي واد هلو، الذي يرتكز في البقعة الشمالية من الميدان؛ ممتازا بلونه الأخضر وبقيام بعض ألوية على جانبيه. هذا إلى أن الناحيتين اليسرى واليمنى من مركز الجيش معدتان لطوائف خاصة؛ ففي الأولى يتوزع راكبو الخيول والجمال، وفي الثانية يقف ضاربو النار الذين يتكونون من بعض المجاهدين وأتباع بعض الأمراء. على أن الخليفة لا يسمح مطلقا لضاربي النار أولئك بحمل بنادقهم إلا في هذه الأيام الثلاثة من السنة.
لا تكاد الشمس تغرب في كل يوم من الأيام المذكورة المقدسة عند المسلمين، حتى يخرج الخليفة عبد الله من تلك الغرفة المدببة القوائم فيركب جواده يحيط به ضباطه وحرسه الخاص. وفي هذه الأثناء يسير الجيش بصفوفه الكاملة أمام الخليفة؛ حيث يوزع الجبب والعمائم على المرضي عنهم من رجاله.
كان المتبع أن يمتطي الخليفة صهوة جواده في ذلك الميدان، ولكنه في بعض الأوقات كان ينزع إلى ركوب جمل خاص مزخرفة حمائله. وقد تخطى هذا التقليد مرة واحدة - على ما أذكر - في سني حكمه فركب عربة أسرها السودانيون في الخرطوم من حاكم عام سابق، وبقيت بعد ذلك ملكا للمسلمين ومحفوظة في بيت المال. وبما أن ركوب هذه العربة كان أمرا شاذا غريبا، فلنذكر طريقة مرور الخليفة بالناس وهو فيها، فنقول: إنها خرجت من بيت المال، فكانت أعجوبة لناظريها من الدراويش، وكان يجرها جوادان وتسير بخطى متئدة جدا؛ والداعي لذلك خوف الخليفة من انقلاب العربة في حالة عدو الجوادين، وليس ذلك غريبا على من لم يعتد غير ركوب الخيل والجمال. ومهما يكن الأمر فإن الخليفة لم يرتح إلى فكرة ركوب العربة، فأرجعت إلى بيت المال، واستمر على عادته المألوفة في المواكب والرحلات؛ وهي الخروج على ظهر الجواد مباشرة من المسجد الكبير إلى الطريق القريبة؛ حيث راية يعقوب السوداء، فإذا ما وصل إليها تأمل فيها وأظهر احترامه لمقامها. وبعد الانتهاء من تقديم التحية للراية اليعقوبية، يولي عبد الله وجهه شطر الحاجز المدبب القوائم؛ حيث يجد إلى جانبه مكانا مسقفا مصنوعا من سيقان الأشجار المتراصة بعضها إلى بعض، والمغطاة بحصائر النخيل، فإذا ما انتهى إلى ذلك المكان نزل عن جواده واستند إلى عنجريب؛ حيث يحيط به القضاة والمقربون إليه.
اقتضت التقاليد الدينية في السودان أيام الأعياد الكبرى خروج الخليفة من داره إلى الناحية الغربية من المدينة حتى يصل إلى ثكنات جنوده. ومن الأمور المقررة في مقابلات العيد وقوف الجنود حاملين دروعا مغطاة من الطرزين الأوروبي والآسيوي وعلى رءوسهم خوذات ثقيلة وأغطية قطنية غريبة الشكل من مختلف الألوان، وأعظم ما يميز هذه الأغطية لفائف مخصوصة شبيهة بالعمائم.
أما الخيول فمسرجة بأقمشة مبطنة، وقد يكون هناك شبه بين تلك الأغطية المبطنة وبين ما كان يضعه الفرسان على خيولهم وقت المبارزة في العصور القديمة. ولا نكون مغالين إذا قلنا إن المتفرج يوم استعراض الجند على خيولهم يظن أنه في حفلة من حفلات القرون الوسطى أو ما قبلها.
عندما تنتهي «التشريفات» بنهاية اليوم الثالث من أيام العيد، يعود الجنود مع ضباطهم إلى ثكناتهم في البلاد المجاورة. •••
سأعرض على القراء الآن صورة موجزة للرأي والأغراض السياسية التي كان ينزع إليها الخليفة عبد الله. فأكرر ما قلته أكثر من مرة بأن المهدي عندما أعلن نفسه هاديا للمسلمين في السودان، منح حق الخلافة بعده إلى ثلاثة أشخاص في السودان؛ هم: عبد الله، وعلي واد هلو، ومحمد شريف. على أن يخلفه بعد موته أولهم، ثم يعقب الاثنان الآخران عبد الله بعد موته في حالة بقائهما على قيد الحياة بعده.
نفذ القضاء في المهدي، فتولى الخلافة بعد موته أول الثلاثة عبد الله، ولكن الخليفة الجديد «عبد الله» لم يفتأ - من اللحظة التي تولى فيها الحكم - يدس للاثنين الآخرين، باذلا جهده في تقوية نفوذه وإعلاء كلمته، وجعل الخلافة وراثية في أسرته، فلم يرض ذلك الثوريين من طبقة الأشراف الذين عدوا أنفسهم أكبر السودانيين قدرا، وذلك راجع إلى صلتهم بالمهدي، ومع ذلك قدموا التحية لعبد الله خوفا من السقوط الذي يصيبهم من جراء إشهار العداء للخليفة. إلا أن عبد الله كان واقفا على حقيقة نيات منافسيه، فضم إلى حاشيته الكثير من فصائل السودانيين التابعين قبلا لعلي واد هلو ومحمد شريف؛ حتى يعينوه بإخلاص له على مصادمة منازعيه في الخلافة.
ليس بدعا أن يشاهد السياسي كل ذلك الجزع من جانب عبد الله؛ فإنه غريب عن أم درمان، ولم يكن في حياته سوى رجل غامض الأسرار من قبيلة غريبة؛ وإذن هو غريب جدا عن البلاد الداخلية، وكان - بذكائه وبما يصل إليه من تقارير أتباعه - على ثقة أنه لن يستطيع الاستناد إلى تأييد الجعليين والدنقليين وسكان الجزيرة وغيرهم من قبائل وادي النيل؛ وإذن اضطر لإرسال مندوبين سريين إلى القبائل الغربية في الناحية الغربية ليغريهم بالحج إلى قبر المهدي والمهاجرة إلى وادي النيل.
سعى مندوبو عبد الله ورسله في الجهات المجاورة لأم درمان سعيا حثيثا في سبيل الوصول إلى إغراء الناس بالمهاجرة إلى قبر المهدي والبقاء في الأرض التي تقل جثمانه، فدعوا الناس إلى التمتع بخيرات الأرض الجديدة التي ينزحون إليها، ذاكرين لهم بأنهم عبيد الله المختارون، وأنه من مصلحة أولئك المدعوين أن يذهبوا لامتلاك الأرض الجديدة التي يتمتع سكانها الأصليون بثروة كبرى من مال وماشية وعبيد. وقد ذهب المندوبون في إغرائهم سكان الجهات المجاورة إلى حد أن وعدوهم بامتلاك كل ما في الأرض الجديدة.
أثر أولئك المندوبون بدعوتهم الحماسية تأثيرا منتجا في نفوس السذج، فرحل الكثيرون من أفراد القبائل المختلفة إلى أم درمان، وكانوا في ذلك مدفوعين برغبة خالصة في التمتع بالغنى الذي سمعوا عنه، إلا أن عدد القادمين لم يكن كافيا لتعمير وإنماء أم درمان، فعمد الخليفة عبد الله إلى إصدار الأوامر لأميري دارفور وكردوفان حتى ينفذا أوامره بالقوة؛ وتبعا لذلك تدفق سيل المهاجرين، سواء أكانوا طائعين أم مرغمين، وانتهى الأمر إلى نقص عددهم بعد أن سمعوا الشيء الكثير عن الشدة التي يقاسيها من سبقوهم إلى أم درمان.
كانت النتيجة المنطقية لذلك إحاطة الخليفة بالجمع الغفير من قبائل الرحل الغريبين عنه وعن أتباعه، على أن أولئك المهاجرين الجدد لم يألوا جهدا في إقصاء أصحاب الحق الأصليين وإعداد أنفسهم لأن يكونوا الأسياد المسموعة أوامرهم.
لم يمر زمن على أولئك المهاجرين لأم درمان حتى امتلأت بهم وظائف الحكومة الرئيسية، وكان أصحاب القسم الأكبر من هذه الغنيمة رجال التعايشي. وإنك لتكاد ترى جميع الأمراء السابقين في جهة مجهولة؛ بحيث لم تسمع لأحدهم كلمة بعد ذلك، وقد تستثني من ذلك الحكم الأمير عثمان دجنة؛ ويرجع ذلك إلى أن قبائل العرب الشرقية التي يحكمها عثمان يتكلم أفرادها بلهجة لا يعرفها عرب القبائل الغربية، وعلاوة على ذلك أصبح الكثيرون من أفراد تلك القبائل خاضعين للنفوذين المصري والإيطالي، وليس من سبب إلى اتصال القلائل الباقين بعثمان دجنة سوى كونه واحدا منهم. وعلى أية حال فإن قبيلة التعايشي تمكنت من الحصول على السلطان والنفوذ الكاملين في جميع الجهات التي يضرب رجالهم بأرجلهم في أرضها، ولم يكن لهم غرض سوى ملء جيوبهم بالإيراد الضئيل الذي يحصل عليه السوداني الفقير.
مما يذكر عن أوامر الخليفة عبد الله قبل عام 1895 أنه أعطى تعليماته لأميري دنقلة وبربر بإضعاف نفوذ وقوة رجال مديريتيهما إلى أقصى حدود الضعف، فدعا ذلك إلى تجريد السكان من أسلحتهم النارية، وجمع ما لديهم من معدات القتال بحيث ينقص مقدار الموجود من تلك الأسلحة إلى حد لا يخشى معه أي خطر.
لم يكتف الخليفة بذلك، بل أصدر أمرا جديدا بالتشديد في معاملة رجال توشكو وطوكر، فأغرى المأمورين في تشديدهم بحيث قتلوا كثيرين من الجعليين والدناقلة، ورحلوا آخرين إلى دارفور والقلابات؛ رغبة في استئصالهم نهائيا في تينك الناحيتين؛ وإذن استطاع الخليفة اتقاء شر سكان تلك النواحي وضمن التغلب على أية قوة معارضة هناك.
تنطبق مثل هذه المعاملة على سكان الجزيرة الذي أقصوا بأمر الخليفة إلى جهات نائية من السودان، أو الذين اضطروا إلى الحضور لأم درمان هم وأفراد أسرهم؛ حيث قاسوا الأمرين من الاضطهاد والفاقة. ومما زاد في أثقال كواهلهم، صدور الأمر بتسليم ما يزيد عن نصف محصول أراضيهم الزراعية التي كانت موزعة على عرب القبائل الغربية، وما زال الخليفة مستمرا في التضييق على أولئك حتى توصل عام 1890 إلى تفريق الأراضي على أقربائه وأصحاب الحظوة عنده. وقد بلغ الضيق بأصحاب الأرض الأصليين حدا التزموا عنده حراثة الأرض وتفليحها لأسيادهم الجدد، الذين وزعوا على أراضيهم كل ما يملكون من خدم وعبيد وماشية.
نجم عن ذلك التعسف إهمال أرض الجزيرة القابلة للإنتاج الوافر؛ فبعد أن كانت أوفر أرض السودان غلة وأكثرها سكانا، تضاءل هذان الخيران. وكان ذلك التضاؤل مصحوبا بهرج ومرج سادا جميع المناطق التي كان الخليفة مضطرا فيها إلى الانحياز لناحية الأهالي الذين عوملوا معاملة سيئة، ونزل بهم العسف وحاق بهم الطغيان إلى حد لا يكاد يصدقه العقل.
أكرر الآن ما قلته سابقا عن تفضيل أفراد القبائل المنتمية إلى الخليفة عبد الله عن جميع القبائل الأخرى في جميع الأحوال والظروف؛ فإنهم لا يتمتعون بأسمى الوظائف الحكومية والمراتب الشعبية فحسب، بل يتمتعون بما هو أسمى من ذلك ماديا؛ فإن القسم الأكبر من الأموال والغنائم التي ترد إلى بيت المال من مديريات دارفور والقلابات والرجاف يصل إلى أيدي أولئك الأفراد ولا يجد من يحاسبهم عليه. ومن غريب أمر أولئك الطامعين أنهم - رغبة في ملء جيوبهم بأكبر قيمة من المال - دعوا الخليفة إلى فرض ضريبة خاصة على الخيول، غير مبال بالشكوى العامة من جانب السكان الأصليين، فلا ريب إذن في حصول فرقته على نصيب الأسد من الغنيمة.
اشتهر الخليفة عبد الله أيام حكمه بتوسيع نفوذه بواسطة الدسائس وبث الفتن، فلا يكاد يتصل به زعماء قبائل غريبة عنه حتى ينشر الفتنة بينهم ليقوي جانبه ويضعفهم؛ ومن أمثلة ذلك أنه عند هزيمة وموت النجومي - الذي كان تابعا للخليفة الشريف الذي سحب منه عبد الله كل نفوذ على غيره من الأمراء - وضع عبد الله فلول الجيش المهزوم تحت قيادة الأمير يونس، وبدلا من رجال الجيش المقتولين عين عبد الله أفرادا من الجعليين ورجال أم درمان؛ حتى يكون واثقا من حصوله على نفوذ جديد.
قد وضع الخليفة أولئك في بادئ الأمر تحت إمرة مواطنهم بدوي واد العريق، ولكن بدلا من إرسالهم إلى دنقلة بعث بهم عبد الله إلى القضارف. ومما يذكر عن سوء نية الخليفة عبد الله نحوهم أن عذرا قهريا منعهم عن الرحيل إلى القضارف في الميعاد المعين، فأسرع «عبد الله» إلى اتهامهم بالعصيان، ثم أصدر أمره بنفي بدوي وستة من أمرائه إلى الرجاف وإحلال ستة آخرين بدلا منه تحت إمرة حامد واد علي ابن عم الخليفة.
خلق الإنسان وفي طبيعته البشرية نزوع إلى طلب الوقاية من القوي ورغبته في التمتع بسند الأقوى، فليس بدعا أن نرى حركة جديدة في صفوف أتباع الأمراء؛ لأن أكثرهم فضلوا السير تحت لواء الخليفة مباشرة أو تحت أسرة أخيه يعقوب، حتى إن أشياع علي واد هلو أنفسهم أسرعوا إلى تنفيذ هذه الرغبة. ويجمل بي في هذا الصدد أن أذكر شيئا عن سعي حامد واد جار النبي الذي كان عاملا رئيسا في هدم التباهين؛ كان حامد هذا منتميا لقبيلة حسابات التي يرأسها علي واد هلو، وبما أن حامدا هذا كان على بينة مما يجري وراغبا في تنفيذ فكرة الاستناد إلى ذراع الأقوى، لم يأل جهدا في بث فكرة انضواء أتباعه تحت لواء يعقوب، ولكنه (حامد) كان في الوقت نفسه قصير النظر غير مبال بما يجري إزاء تصريحاته، فأفضى برغبته إلى أقرباء علي واد هلو، ولم يكتف بذلك، بل تجاوزها إلى التصريح في اجتماع عام بأن الذي سيخلف الخليفة عبد الله بعد موته هو أخوه يعقوب أو ابنه الخليفة عثمان، فإذا ما استقر الأمر بين يدي يعقوب أو انتهت السطوة إلى عثمان، تلاشى نفوذ علي واد هلو وأصبح رجلا عاديا لا شأن له.
عندما سمع الواقفون هذه التصريحات العلنية، أجابه بعضهم بأن المهدي أوصى الخليفة عبد الله قبل موته (المهدي) بأن يخلفه في الخلافة علي واد هلو. فقال له حامد بأن الأحوال تغيرت وأن عبد الله من القوة بحيث لا يبالي بوصية المهدي الذي سبقه.
لم يكد حامد يذكر أقواله هذه حتى أسرع بعض المشائين بالنميمة إلى تبليغ الحادث إلى علي واد هلو، فاتهم الأخير حامدا بتهمة التحريض وبث الفتنة. وعندما قدم حامد إلى القاضي وسمع الأخير شهادة الشهود، لم يبق مجال للشك في صحة ما أدلى به مخبرو علي، فانتهى الحادث إلى تأثيم حامد بتهمة الزندقة؛ لأنه شك في قدسية أوامر المهدي وتعاليمه. ومع أنه كان من المتوقع جدا أن يتدخل الخليفة عبد الله لنصرة حامد وتبرئة ساحته، لم يستطع الخليفة إظهار تدخله علنا؛ فإن ذلك التدخل دليل قاطع على جلاء رغبة عبد الله في حرمان علي واد هلو من الخلافة بعده وإثبات جديد لصحة ما قاله حامد. ومع ذلك لم تكن الحقيقة خافية عن الشعب السوداني عموما وسكان أم درمان خصوصا.
قضي الأمر وصدر حكم القضاة بإعدام حامد، ورغم كون عبد الله بذل أقصى ما في وسعه لحمل علي واد هلو على إرجاء ميعاد التنفيذ، فإن ذلك لم يخفف من غلواء علي وشدة حنقه. وقد عرف واد هلو أن تنفيذ الحكم في حامد انتقام مباشر من الخليفة عبد الله؛ وإذن ظفر علي واد هلو بتحقيق رغبته، فنفذ حكم الإعدام في حامد جار النبي علنا في ميدان السوق الكبير بعد أن ألصقت به تهمة الزندقة والتحريض على الثورة.
لا ريب في أن ذلك التنفيذ مؤلم جدا للخليفة ولأخيه يعقوب. وبما أن خروج الخليفة علنا على الحكم دليل على رفضه الأحكام التي ضد الزنادقة، كان من المنتظر أن يحرض الخليفة أتباعه سرا على إظهار سخطهم من ذلك الحكم القاسي، وهذا وقع فعلا؛ فقد وصلت الأوامر من يعقوب إلى رجال جميع القبائل الخاضعة له، وصدرت الأوامر من الخليفة إلى أتباعه المقربين بأن يظهروا جميعهم سخطهم العام وامتعاضهم من تنفيذ الحكم. وسبيل إظهار ذلك الشعور هو الامتناع عن حضور التنفيذ.
كان الخليفة في أي نزاع قائم بينه وبين خصومه يعتمد أولا وأخيرا على جنوده، فإن أولئك كافون جدا لإرغام أية قوة معارضة له في الداخل مهما كان شأنها، سواء أكانت هذه القوة في أم درمان ذاتها أم في أية ناحية أخرى من الجهات المجاورة؛ وإذن هو السيد المتسلط صاحب القوة التي لا تنازع في داخل السودان. أما إذا خرج الأمر عن الدائرة الداخلية، فهو عاجز عن صد جميع الغارات التي تبدو طلائعها من الخارج؛ فإن قواد جيشه ليسوا من القوة والدربة بحيث يستطيعون مهاجمة قوة خارجية هجوما يكفل لهم النصر على أعدائهم، كما أن رجال جيشه ليسوا من الولاء والوفاء - في آخر سني حكمه - بما كان يعتقده الخليفة في أول أيامه؛ ويرجع ذلك إلى انطفاء جذوة الحماسة الشديدة الأولى، وهم إلى جانب ذلك على قليل من الثقة أو الإيمان بالقضية التي يحاربون من أجلها، وأخطر من هذا وذلك تسرب الشك إلى رءوس المحاربين في قدرة الخليفة وأتباعه على مناوأة أية قوة خارجية ترمي إلى احتلال السودان.
يرغب القراء بطبيعة الحال، بعد أن اطلعوا على الكثير من تصرفات الخليفة الدينية والسياسية، أن يقفوا على ما لديه من القوى الحربية. ولئن كان من العسير ذكر تقدير دقيق عن رجال الحرب السودانيين ومعداتهم، فلا مانع من نشر بيان تقريبي عن الموجود لدى أولئك المحاربين.
قبل وأثناء عام 1895، تنقسم النواحي السودانية التي يشرف عليها الخليفة إلى أربعة أقسام رئيسية؛ هي على التتابع: أم درمان والرجاف والسودان الغربي والسودان الشرقي. وسنذكر فيما يلي عدد المحاربين ومقدار معداتهم في كل من الأقسام المذكورة:
القسم الأول:
يتولى إمرة الجيش فيها (أم درمان) أميران؛ هما عثمان شيخ الدين ويعقوب. أما أولهما فيتكون جيشه من أحد عشر ألف جندي من المشاة، في أيديهم أحد عشر ألف بندقية، ولكل بندقية ماسورة ملساء. ويتألف جيش الثاني (يعقوب) من أربعة آلاف من المشاة، وثلاثة آلاف وخمسمائة فارس، وخمسة وأربعين ألفا من حاملي الحراب والرماح، هذا إلى أن مخزن هذا الأمير يحتوي على 46 مدفعا وأربعة آلاف بندقية، كما توجد في مخازن جيش أم درمان ستة آلاف بندقية.
القسم الثاني:
أمير جيش الرجاف هو عرابي واد دفلة، الذي يأتمر بأمره أربعة آلاف وخمسمائة من حملة الحراب، وألف وثمانمائة من المشاة، وتوجد في مخزنه ثلاثة مدافع وألف وثمانمائة بندقية ملساء الماسورة.
القسم الثالث:
ينقسم «السودان الغربي» إلى الفاشر والأبيض وشاكا وبربر وأبي حمد؛ وللجهات الثلاث الأولى أمير واحد اسمه محمود - يعينه اثنان من أتباعه - تحت إمرته ستة آلاف من المشاة مثالا، وثلاثمائة وخمسون فارسا، وألفان وخمسمائة من حملة المزاريق والرماح، وفي مخزنه أربعة مدافع وستة آلاف بندقية. أما الناحية الرابعة (بربر) فتحت إمرة زكي عثمان، الذي يقود ألفا وستمائة من المشاة، وخمسمائة فارس، وألفا وثلاثمائة من حملة الرماح، وفي مخزنه ستة مدافع وألف وستمائة بندقية. وبذلك ننتهي إلى الناحية الخامسة (أبو حمد)، التي يقود جنودها الأمير نور عنو، وتحت إرشاد هذا الرئيس أربعمائة من المشاة، ومائة فارس، وسبعمائة من حاملي الرماح، وفي مخزنه أربعة مدافع وأربعمائة بندقية.
القسم الرابع:
ينقسم «السودان الشرقي» إلى إحناراما والقضارف والفاشر وأسوبري والقلابات ودنقلة وسواردا، وسنذكر محتوياتها تباعا تحت حروف أولية: (أ)
ينضوي جنود إحناراما تحت لواء الأمير عثمان دجنة، الذي يقود أربعمائة وخمسين من المشاة، وثلاثمائة وخمسين من الفرسان، وألفا من حملة الرماح، وفي مخزنه أربعمائة وخمسون بندقية من طراز الماسورة الواحدة الملساء. (ب)
أمير جيش القضارف هو أحمد فضيل، الذي يصدر أوامره إلى أربعة آلاف وخمسمائة من المشاة، وستمائة فارس، وألف من حاملي المزاريق والحراب، وفي مخازنه أربعة مدافع وأربعة آلاف وخمسمائة بندقية. (ج)
يتولى إمرة الفاشر - إلى جانب إمارة القضارف - أحمد فضيل السابق ذكره، ويتكون جيش هذا الأمير من ألف جندي من المشاة، ومائتي فارس، وخمسمائة من حاملي الحراب، وفي مخزنه ألف بندقية. (د)
القائم بإدراة شئون أسوبري العسكرية هو الأمير حامد واد علي، وتحت إرشاده تسعمائة من المشاة. (ه)
الأمير في جيش القلابات هو عين نور - وهو أقل أمراء جنود السودان شأنا - الذي يأتمر بأمره خمسون من المشاة، ومائتان من حملة الرماح والحراب، هذا إلى أن البنادق التي في مخزنه خمسون بندقية لا غير. (و)
يقود جيش دنقلة الأمير يونس الدغيم، ولهذا الأمير ألفان وأربعمائة من المشاة، وخمسمائة فارس، وخمسة آلاف من حاملي الرماح، وفي مخزنه ثمانية مدافع وألفان وأربعمائة بندقية. (ز)
آخر الأمراء السبعة للقسم الرابع هو سواردا، وأمير الجيش هناك زعيم سوداني اسمه حمودة، تحت قيادته مائتان وخمسون من المشاة، ومائة فارس، وألف من حملة الرماح، وفي مخزن الأمير مائتان وخمسون بندقية. وبإحصاء ما تقدم إحصاء عاما نجد الأقسام الأربعة متفرعة إلى خمسة عشر معسكرا حربيا، فيها اثنا عشر أميرا، ومجموع الجنود المشاة في دوائر نفوذ الخليفة المذكورة آنفا أربعة وثلاثون ألفا وثلاثمائة وخمسون، ومجموع الفرسان ستة آلاف وستمائة، وعدد حاملي الرماح أربعة وستون ألفا، والموجود من المدافع في المخازن خمسة وسبعون، وعدد البنادق ألف وثلاثمائة وستون.
هذا هو مجموع ما في البيان، ولكن في الحقيقة لا نجد من البنادق المذكورة أكثر من اثنين وعشرين ألف بندقية صالحة للحرب - والبنادق المذكورة من طراز رمنجتن - أما الباقي فعبارة عن بنادق من ذات الماسورة أو الماسورتين وغير ذلك من النماذج القديمة غير المنتجة. ومهما يكن أمر الأسلحة النارية المذكورة، فقد أصدر الأمراء أوامرهم بقطع أجزاء مختلفة الطول من أنابيب (مواسير) رمنجتن؛ والغرض الرئيسي من ذلك تخفيف ثقل البندقية، ولم يبال الجنود بما قد يلحق بالبنادق من الضرر في حالة ذلك القطع غير المنتظم.
ذكرنا في البيان السابق أن مجموع حاملي الحراب والرماح أربعة وستون ألفا، وإنه لمن الواجب علينا بعد ذلك أن نقول إن ربع أولئك - على أقل تقدير - طاعنون في السن أو صغيرو الأسنان؛ أي إنهم في كلتا الحالتين غير صالحين لنزول المعركة نزولا يضمن لهم الفوز.
أما المدافع الخمسة والسبعون فتشتمل على ستة من طراز كروب ذات الفوهة الواسعة القطر - ولكن لا توجد جبخانة كافية للمدافع الستة السالفة الذكر - ثم ثمانية مدافع من أنواع ونماذج مختلفة، ويتبقى بعد ذلك واحد وستون مدفعا نحاسية مختلفة الأشكال والأحجام على أنها تعبأ جميعا بواسطة الفوهة، ومن المعروف عن ذخيرة المدافع الأخيرة أنها تصنع في أم درمان بصفة خاصة وهذه «الذخيرة» من صنف رخيص غير فعال؛ بحيث لا يبعد مدى طلقة المدفع عن ستمائة أو سبعمائة ياردة.
لتتأمل الآن قليلا في حدود نفوذ الخليفة، وبعد ذلك نرى أن سلطان الدراويش امتد في السنوات القليلة الماضية (قبل عام 1895) من وادي حلفا إلى الجنوب الشرقي حيث أبو حمد، ثم سار شرقا إلى سواكن وما جاورها (بما في ذلك طوكر وضور بركة)، واتجه بعد ذلك جنوبا (بما في ذلك كسلا والقلابات والانحدارات الجنوبية الشرقية لبني شانفول وجبال جوبي)، ثم مال من تلك الناحية إلى الجنوب الغربي مقابل النيل الأبيض (بما في ذلك فاشودة وبوهر والرجاف).
امتد ذلك النفوذ الدرويشي من الغرب في اتجاه جنوبي غربي داخل الصحراء الليبية الجنوبية (بما في ذلك سليمة ومديريات دنقلة وكردوفان ودارفور إلى حدود واداي، ثم سار جنوبا مخترقا بحر العرب ومارا بدار رنجا (بما في ذلك دار فرتيت وبحر الغزال وقسم من منطقة خط الاستواء).)
بعد أن انهزم النجومي اضطر أتباع المهدي إلى الجلاء عن القسم الشمالي من مديرية دنقلة، وأصبح مركز طليعة جيشهم الآن (عام 1897) في ناحية سواردا، التي تبعد ثلاثة أيام - سيرا على الأقدام - عن دنقلة. وإنه ليجمل بنا أن نذكر خبر التجريدة التي تمكنت عام 1896 من إخراج الدراويش من مديرية دنقلة وتأسيس حكومة ذات نفوذ مصري ممتد جنوبا لغاية مروى.
انتصر المصريون في طوكر وهندوب، فساعد ذلك القبائل الداخلية على استرجاع ما كان لها من مناطق في الجهات المجاورة مباشرة لسواكن وطوكر، كما انتهى الاستيلاء على كسلا إلى امتلاك الإيطاليين جميع الأقسام الواقعة شرقي كسلا، وإزاء هذا وذاك أصبح نهر عطبرة حد الخليفة الشرقي في أواخر القرن التاسع عشر.
حدث تغيير ظاهر في مراكز الجنود؛ فانتقلت القوة الرئيسية التي كانت معسكرة في القلابات تحت إمرة أحمد فضيل إلى جهة القضارف، ولم تبق في ثكنة القلابات سوى قوة ضئيلة، وقد انتهز رؤساء مناطق بني شانفول وطور الغوري ثم كثيرون من مشايخ الجهات القريبة هذه الفرصة، فأعلنوا استقلال مناطقهم. وسرت العدوى إلى الناحية الغربية القاصية، فبعد أن اعتاد رجال قبائل مسالت وناما وبني حسين وجمر دفع الضرائب، ثاروا على حكومة المهدي، وأخيرا أعلنوا استقلالهم، واشتركوا عقب ذلك في محالفة دفاعية هجومية مع يوسف سلطان واداي، فاعتزم الخليفة عبد الله إرسال مندوبين لإحضار أولئك العصاة وإجبارهم على تقديم الطاعة والولاء له، ولكنه عدل عن ذلك بعدما ظهر النفوذ الأوروبي الجديد في بحر الغزال، ووقف خاتم موسى - أحد قواد عبد الله - في دائرة نفوذه دون تمكن من التقدم.
اكتفى عبد الله بإصدار تعليماته إلى خاتم - بعد أفول نجم الدراويش - بعدم التقدم إلى الجنوب قبل وصول مدد جديد له من أم درمان.
الفصل السادس عشر
ملاحظات متنوعة
أشرت في الفصل السابق إشارة عامة إلى موقف الخليفة عبد الله من القضاء والقضاة، والآن أفصل قليلا ما أجملته؛ فأقول إن القضاة هناك آلات صماء في يدي سيدهم الماكر النبيه، فلم يكن الخليفة يسمح لهم بالفصل في القضايا الكبرى، وكل ما يمكنهم من بحثه هو ما يختص بالمنازعات العائلية وقضايا الإرث وتوزيع الأملاك وما شابه ذلك. وعلى أية حال فهم في جميع أحكامهم الكبرى في القضايا الهامة كانوا ملزمين بالرجوع إلى الخليفة قبل إصدار الحكم النهائي، ولا حاجة بنا إلى القول بأن الخليفة كان في كل ما يدلي به من آراء إلى أولئك القضاة لا ينظر إلى شيء خلاف مصالحه الشخصية وأهوائه وأغراضه، ولكنه في الوقت نفسه كان يجتهد - بما أوتيه من حذق ودهاء - من الظهور أمام الشعب بمظهر المدافع عن الحق والراغب في اتباع نصوص القانون، وإذن فالقضاة أمام مهمة شاقة جدا؛ فهم من ناحية مضطرون إلى إرضاء أهواء الخليفة وتنفيذ أوامره التي لا تتفق - في غالب الأحيان - مع العدالة في شيء، ومن الناحية الأخرى مضطرون إلى صوغ أحكامهم في قوالب قانونية تبعث الشعب على الاعتقاد في تمسك الخليفة بالحق. ومهما يكن الأمر، فإن تسعين في المائة من أحكام أولئك القضاة لم تنطبق حتى على أبسط مبادئ العدالة.
أما الدين في السودان حسبما أرشدني الاختبار إلى استنتاجه - فيتمشى مع المبدأ القائل «الغاية تبرر الواسطة». ومما أذكره في مدة إقامتي أن الدوائر الدينية كانت بين آن وآخر تصدر إعلانات ورسائل صغيرة تحض فيها المسلمين على التقيد بأوامر الدين، وتأدية الواجبات الدينية - وفي مقدمتها الصلاة - على الوجه الأتم، ثم الابتعاد عن جميع الملذات العالمية والتوجه إلى عالم الخير الأعلى، ولم تكن الأوامر الدينية المذكورة قاصرة على السودان، بل تعدته إلى جميع نواحي أفريقيا وبلاد العرب وبورنو ودار فلاتة ومكة والمدينة.
اعتبر الخليفة شخصه قدوة للمسلمين عموما في السودان، فكان - ما دام في صحته الكاملة - يشهد الصوات الخمس يوميا؛ ليظهر أمام الناس متمسكا بأهداب الدين، مع أنه في الواقع كان أبعد المسلمين عن التمسك بأوامر الدين؛ ففي جميع السنوات التي كنت فيها على اتصال وثيق جدا بالخليفة لم أشاهده على الإطلاق يصلي إلى ربه في داره الخاصة، ولم أسمعه يكرر - ولو بصوت خافت - بعض التعاليم الدينية التي يعرفها المسلمون جميعا، سواء أكانوا ممن يقرءون ويكتبون أم من الجاهلين.
لم يكن ادعاء عبد الله التقوى من الإحكام بحيث يصدقه البعيدون عنه؛ لأنه رغم ظهوره بالتقى كان لا يتردد في إصدار أمره بإلغاء حفلة دينية وعدم تأدية فرض مذكور، إذا كان في تأدية الفرض ما يحول دون تحقيق غرض أو طمع من أطماعه الشخصية. وهنا نعود فنقول إن الخليفة كان يتذرع في مثل هذه التعديات بالقضاة حتى يجيء الإلغاء من الجانب القانوني، وفي ذلك الموقف الحرج لا يتردد القضاة في إعلان أن ذلك الإلغاء لازم في سبيل الاحتفاظ بالدين في حالة خاصة، فإذا ما صدرت تلك الفتوى ارتاح الخليفة واطمأن، إلا أن القضاة في بعض الأحايين يقفون من أطماع الخليفة أمام حالات لا يستطيعون معها بحال من الأحوال أن يصدروا أمر الإلغاء؛ وإذن يضطرون إلى التمويه فيدعون بأن الإلهام الديني أمرهم بالقيام بهذا العمل الشاذ لحكمة قد تغيب عن أذهان البشر.
اعتاد الخليفة عبد الله مخاطبة أتباعه من منصة المنبر في المسجد الكبير، ولكن بما أن عبد الله يجهل الفقه الديني الإسلامي ويعرف الشيء القليل من قواعد الدين وأصوله، فإن مدى خطبه الدينية محدودة، وبمعنى آخر لا يتعدى تلاوة جمل كتبها له أحد سكرتيريه.
ألغى عبد الله عادة الحج إلى مكة واستعوض عنها بدعوة المسلمين إلى الحج لقبر المهدي ممثل النبي الكبير. وأنا على الرغم من مشاهدة كراهية السودانيين لهذه البدعة الجديدة نراهم مضطرين إلى الرضوخ لأمر عبد الله. وما زال أولئك السودانيون على نظامهم الجديد حتى أصبحوا الآن (عام 1897) ساعين من غير قصد إلى تحقيق رغبة عبد الله، راغبين في الحج دائما إلى قبر المهدي. وقد ذهب بهم حبهم في التقليد الجديد إلى حد أنهم يسخرون ممن لا يوافقهم في طريقة الحج هذه. وإنه لمن النزاهة والعدل أن تقول بأن السودانيين في تشبثهم هذا لا يعبرون عن عقيدة ثابتة، بل يرمون إلى تحقيق رغبة مولاهم عبد الله.
أما فيما يختص بالتعليم والأوامر الدينية، فمن الحق أن نقول إنهما في حيز العدم من الوجهة العملية الواقعية، وكل ما في الأمر أن بعض الأولاد والبنات يتلقون معا آيات قرآنية وبعض جمل من الحديث المقدس لدى المسلمين، ويكون ذلك الإلقاء بواسطة شيوخ دينيين في معاهد صغيرة مجاورة للمسجد. ولئن قلنا إن الشيوخ يلقون الآيات على أولئك الصغار، فإنا لا ننسى بأن نذكر إلى جانب ذلك أن الذي يحفظ من الآيات قسم صغير، والمتبع في زمن الخليفة عبد الله أن يرسل عدد قليل من أولئك الأولاد إلى بيت المال بعد إتمام دراستهم الأولية في المساجد، فإذا ما ساروا إلى ذلك البيت أصبحوا تلاميذ تحت التمرين لموظفي الحكومة الأقدمين، وهناك يتعلمون مقدارا محدودا من المراسلات الكتابية العامة.
نتدرج الآن إلى التجارة في السودان، فنقول بأن ذلك العهد الذي كان زاهرا، والذي امتدت فيه الطرق التجارية في السودان، قد اضمحل فأصبحت الطرق - التي كانت تجتازها القوافل الكثيرة العدد - شبيهة بالصحراء المقفرة؛ حيث محت الرمال المكومة معالمها أو حلت بقايا جذور النبات في بعض نواحيها. وفي صدد ما نذكره يحسن بنا أن نضع بيانا للطرق التجارية الرئيسية الأربع:
أولا:
الطريق الأربعينية من دارفور إلى أسيوط أو من كردوفان عن طريق بيوضة الصحراوية إلى دنقلة ووادي حلفا.
ثانيا:
الطريق من الخرطوم إلى أسوان من ناحية بربر إلى كروسكو عن طريق أبي حمد.
ثالثا:
الطريق من الخرطوم إلى سواكن من ناحية بربر أو كسلا.
رابعا:
الطريق من القلابات للقضارف فكسلا فمصوع. أما الطريق الحالية (عام 1897) التي تجتازها جمال القوافل، فمن بربر إلى أسوان وسواكن.
بعد أن تم الاستيلاء على الخرطوم، جلب التجار السودانيون إلى أسوان مقادير كبرى من الحلي الذهبية والفضية، وما زال التجار في عملية النهب والتصدير إلى جهات خارجة من السودان، حتى اضطر الخليفة إلى إصدار أوامره المشددة للتجار بعدم حمل ذهب أو فضة معهم إلى مصر مهما كان يعوزهم الإنفاق، وكل ما سمح به الخليفة لأولئك التجار الخارجين عن السودان هو مقدار من المال يعينه بيت المال؛ حتى لا تضيع حلي الشعب السوداني وكنوزه في سبيل إنفاق غير مشروع في نظر الخليفة. ولم يكتف عبد الله بتحديد مقدار ما يأخذه التجار معهم بأمر بيت المال، بل جعل العملة التي يحملونها من الطراز القديم على أن تحدد قيمتها في جواز سفر التاجر.
أدت القيود والتشديدات التي أجراها الخليفة عبد الله مع التجار إلى تضاؤل شأن التجارة بين السودانيين، ولكن ذلك لم يستمر طويلا، فانتعشت التجارة ونهضت بعد كسادها، فعادت إلى السودان حياته بتبادل أصناف تجارته الرئيسية كالصمغ وريش النعام والتمر الهندي وأوراق نبات السنامكي وما شاكل ذلك. وقد كانت العادة المتبعة في هذا التبادل التجاري جمع هذه الأصناف في بيت المال إلى جانب ما فيه من العاج المخزون، على أن تقدم جميعها للبيع في سوق المزاد العلني تبعا للسعر المحلي. ولكن بما أن الأصناف المذكورة تستورد من جهات السودان الغربية التي أصابت أهلها الحروب الداخلية والفاقة والأمراض، فمن المعقول فهمه أن مقدار المستورد يقل بقلة عدد السكان المنتجين.
لا شك في أن الصمغ السوداني احتكار لسكانه، وهذا الصنف يختلف في أثمانه باختلاف أنواعه المتعددة، وإنما نذكر ذلك لندل به على فائدته في المبادلة، علما بأن التبادل التجاري بين مصر والسودان لا يتم بالمال، بل بالبضائع. والذي نعرفه عن المصريين أنهم يقدمون بدل ما يأخذونه من السودان بضائع جاهزة من مانشستر؛ لأن الحاجة إليها في السودان كبيرة جدا.
في حالة التعامل بالنقد في السودان يشتري بيت المال أي صنف تجاري بعشرين ريالا من العملة الجديدة مثلا، فيبيعه للشاري السوداني بثلاثين ريالا؛ حتى يبقى المكسب في بيت المال. وعندما تتم المبايعة بين الطرفين الرسمي والشعبي في السودان، يسمح رجال الخليفة لأولئك التجار السودانيين بالسفر إلى مصر لبيع تجارتهم، وقبل سفرهم توضع بضائعهم في موازين الشحن لتقدير ثقلها بالضبط وفرض ضريبة خاصة عليها بعد ذلك، هي في الغالب ريال على ما زنته قنطار، فإذا رغب التاجر شحن تجارته إلى سواكن أو أسوان، اضطر إلى دفع ريال آخر على كل مائة رطل، ولكن الريال في هذه الدفعة يكون من العملة الجديدة؛ وإذن قد أصبحت الضريبة الإضافية سدس الثمن الأصلي.
يرد العاج إلى السودان من أقاليم خط الاستواء بكميات كبرى مرة واحدة كل عام، وفي الغالب تمر تجارته بسواكن، وبما أن المناطق المذكورة خارجة أو تخرج تباعا عن دوائر نفوذ المهدي، فقد كان من الظاهر جدا لدى عبد الله أن الكميات المذكورة تتناقص في السنوات التي تعقبه.
أما ناب الفيل فلم تكن الدوائر الحكومية لتظفر به كثيرا؛ لأن الوارد منه قليل يجلبه بيت المال من مناطق دارفور الجنوبية، ومن الحق أن نقول بأن الدراويش - ما لم يعودوا إلى احتلال بحر الغزال بالقوة مرة أخرى - لا يستطيعون الاحتفاظ بتجارة العاج احتفاظا يضمن لهم مقدارا مذكورا من الثراء.
لا يستطيع السودان جلب البضائع من مصر إلا عن طريقين؛ هما أسوان وسواكن. وقد كانت الحكومة السودانية فيما سبق تجلب مقدارا من تجارتها القادمة من مصر أو ما جاورها عن طريق سواكن إلى كسلا أو من كسلا إلى مصوع، ولكن حال دون استعمال ذينك الطريقين احتلال السودان الشرقي بواسطة الإيطاليين، فليست البضائع المستوردة سوى أصناف من قيمة مالية طفيفة، وتتكون في غالبيتها من مواد خاصة بجلابيب النساء وجبب الرجال. ومهما يكن الأمر، فإن ذلك شيء غير جوهري لدى سكان السودان، الذين اعتادوا التعلق بكل ما له رونق خارجي زاه وما فيه التزاويق الكثيرة، بغض النظر عن تناسب ذلك مع الذوق السليم وبدون اهتمام بالقماش المتين. وفي الحق يكاد يكون من العسير جدا أو من المستحيل وجود مشترين من طبقة عالية أو متوسطة في نواحي السودان.
بين الأصناف المستوردة إلى السودان، الروائح العطرية من جميع الأصناف؛ كزيت خشب الصندل، والقرنفل، والحبوب ذوات الرائحة الطيبة. والسبب في استيراد ذلك النوع التجاري بكثرة هو استحسان السودانيات إياه. ولئن كنا أشرنا أخيرا إلى عدم رواج البضائع الغالية القيمة بين أهل السودان، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إن السكر والأرز والأنواع العادية من الحلوى والفواكه المجففة تجد جميعها شارين بين أكثر السودانيات ثراء. وقد يجمل بنا أن نذكر في صدد التجارة أوامر الحكومة المصرية سابقا بمنع الحديد والقصدير والنحاس بنوعيه الأصفر والأحمر من دخول السودان، حتى أصبح عسيرا على الأوروبي في عام 1897 أن يحصل على مقص أو موسى لحلق الذقن. وقد كان من جراء هذا المنع ارتفاع أسعار أواني الطبخ النحاسية إلى حد كبير من الغلاء ؛ لأنه علاوة على منع التصدير استولت الثكنات العسكرية على النحاس القديم القابل للتصليح، فاستخدمته في صنع الخراطيش للبنادق؛ وإذن اضطر السودانيون المعوزون إلى الاستعاضة عن الأواني النحاسية بأوان خزفية في تحضير الطعام.
كان مفروضا على صاحب كل تجارة واردة للسودان أن يدفع ضريبة عبارة عن عشر قيمة الوارد، وقد ألزمت الحكومة أصحاب التجارة المستوردة بدفع الضريبة إما نقدا وإما بضاعة مبادلة. وقد كانت الضريبة تؤخذ أكثر من مرة على طول طريق القافلة، فإذا ما وصلت التجارة إلى أم درمان، أخذت إلى بيت المال ووضع عليها ختم الحكومة، ومن ذلك الوقت تجبي الحكومة عشرا جديدا؛ وإذن وقف التجار أمام ضرائب ثقيلة متعددة، كما التزموا تقديم ما يشبه الرشوة إلى رؤساء أماكن الحكومة السودانية التجارية في المحطات المختلفة؛ أي إن التاجر كان يدفع من جديد ما يقرب من نصف ثمن البضاعة الذي دفعه أولا للبائع، وهم إزاء ذلك مجبورون على رفع قيم البضائع. وعلى الرغم من ذلك كله، تجد مكاسبهم في النهاية قليلة بالنسبة لغيرهم من التجار في مختلف الجهات المجاورة للسودان.
إن كثيرين من التجار الأغنياء في السودان نزحوا إلى مصر وغرضهم الأول ليس جلب التجارة منها أو بيع تجارة لها، ولكنهم رموا قبل كل اعتبار آخر إلى التخلص من جو السودان بضعة شهور يكونون فيها بعيدين عن سلطان الخليفة الشديد، فإن كل الذين قاسوا الأمرين من ظلم هذا الحاكم، لم يجدوا وسيلة للحصول على جواز يهربون به من السودان سوى التجارة؛ فلم يكن مسموحا للحكومة السودانية أن تعترض أي راغب في بيع أو جلب تجارة للخارج أو منه.
كان الكثيرون من التجار مقيدين بأسرهم وزوجاتهم وببنيهم، ولا يخالجني أي شك أو ريبة في أنهم لو كانوا خالصين من تلك القيود لما رجعوا مطلقا إلى السودان، ولفضلوا العيش في مكان هادئ كمصر - خارج وطنهم الأصلي - عن البقاء تحت نير العسف الشديد والاستبداد المطلق في السودان.
لئن أصيبت التجارة بكساد عظيم في السودان، فثم تجارة لقيت الرواج الكبير والتأييد الكلي من جانب المهدي والخليفة عبد الله؛ وأعني بذلك تجارة الرقيق. وبما أن تصدير العبيد إلى مصر لبيعهم أصبح أمرا محظورا ومعاقبا عليه، فالخليفة بطبيعة الحال معني بتوسيع تلك التجارة في جميع المديريات والنواحي الداخلية في دائرة نفوذه، ولم يغب عن خاطر الخليفة - بعد منع تصدير العبيد - أن يحول دون استئثار مشيريه بالأمر على حسابه.
كان من المستحيل بطبيعة الحال - رغم صدور الأوامر المشددة من حكومة مصر بمنع تصدير الرقيق - أن يحول الخليفة عبد الله دون تجارة الرقيق في مصر وبلاد العرب، ولكن القوافل التي كانت فيما مضى تقل المقادير الوافرة من عبيد السودان قد وقفت وقوفا يكاد يكون كليا.
كان في السنوات التي بين 1890 و1897 يرسل العدد الكبير من عبيد الحبشة بواسطة أبي النجا، ومن فاشودة بواسطة زكي طومال، ومثل ذينك المقدارين كان يرسله عثمان واد آدم من دارفور وجبال النوبة، وكان أولئك المرسلون إلى السودان يباعون علنا في سوق المزاد العلني، على أن تودع أثمانهم في بيت المال أو في خزانة الخليفة الخاصة. وبمثل الشدة والقسوة التي كان يعامل أولئك الرقيق أثناء شرائهم كانوا يعاملون وقت تسفيرهم إلى الجهات.
عرف الجميع عن أبي النجا أنه استولى في بلاد الحبشة على الآلاف من المسيحيين لبيعهم في سوق الرقيق في السودان، وكان أغلب أولئك من النساء والأولاد، وقد بلغت القسوة بأبي النجا ورجاله مبلغا دعتهم لسوق أولئك بالسياط أثناء مسيرهم على الأقدام من بلاد الحبشة إلى أم درمان. فإذا ما ذكرنا أنهم كانوا يؤخذون قهرا من عائلاتهم، ويحرمون من الطعام الكافي لسد رمقهم في هذه المسافة الطويلة، ويسيرون على أقدامهم العارية؛ عرفنا أنهم كانوا أشبه بقطيع من الأغنام؛ فليس بدعا أن يعرف القراء أن العدد الأكبر من أولئك العبيد كانوا يهلكون جوعا أو مرضا قبل الوصول إلى أم درمان، وأن الباقين منهم - أثناء وصول أبي النجا بهم إلى أم درمان - كانوا في حالة سيئة ضعيفة يتعذر معها وجود الشارين ، وإزاء ذلك كان الخليفة في كثير من الأحيان يتبرع بعدد من أولئك العبيد لبعض أخصائه .
بعد أن هزمت قبيلة الشلوك، سعى زكي طومال في الاستفادة من ضعف رجالها ونسائها، فحمل العدد الكثير من صنادل كانت معدة لنقل رجاله الحربيين، ونقلهم إلى سيدي عبد الله في أم درمان. وقد سمعنا في تلك الأثناء الشيء الكثير عن اختناق المئات من جراء ازدحام الصنادل البحرية بهم، فإذا ما وفق الباقون للحياة أخذ الخليفة بعض صغار السن منهم لضمهم إلى حرسه الخاص بصفة احتياطي، أما النساء فكن يبعن مع الأولاد في سوق المزاد العلني، الذي كان يستغرق عادة بضعة أيام في أم درمان.
كان أولئك المنكودو الحظ يجلسون في غالب الأحيان عراة خاوي البطون أمام بيت المال، فإذا ما قدر لبعضهم أن يسدوا رمقهم أعطاهم عمال الخليفة أعوادا قليلة من الذرة دون تسوية، فكان من الطبيعي أن يصاب المئات منهم بالمرض، مما يعرضهم إلى عدم عناية أسيادهم الشارين بهم وقت العرض.
في كثير من الأحيان كان يبلغ الضجر والتعب بعشرات أولئك التعساء حدا يفضلون معه إلقاء أجسامهم في ماء النيل؛ حتى يريحوا أجسامهم العارية وبطونهم الخاوية من عذاب لا يعرفون مداه، فكانوا يموتون هناك، وبما أنه لم يوجد من يعنى بإخراج جثتهم، فإن النتيجة المنطقية هي اكتساح الجثث بقوة التيار إلى الشاطئ، فإذا ما ظهرت جثة ألقيت خارج الشاطئ، مما يدعو إلى نشر رائحة كريهة في الجهات المجاورة.
هذا فيما يختص بالقريبين من شاطئ النيل. أما الذين كتب عليهم الشقاء الأكبر، فكانوا يدفعون في الصحراء، حيث لا ماء ولا زرع على طول الطريق بين دارفور وأم درمان. وقد كان أولئك البائسون تحت إمرة رجال غلاظ القلوب، يدفعونهم إلى أم درمان نهارا وليلا دون المن عليهم بشيء، ولو قليل جدا من الراحة. وقد أكون عاجزا الآن عن وصف ما يرتكبه أولئك الرجال المتوحشون المفترسون أثناء سيرهم بالنساء إلى سوق العبيد في أم درمان.
كان من عادة أولئك المتوحشين الهمج أن يقطعوا آذان من يعجز من الأولاد أو الرجال أو النساء عن السير إلى أم درمان بمناسبة ما نزل بهم من الكلال، ليقدموا الآذان المقطوعة للخليفة علامة على مقدار من ماتوا من سباياهم وسط الطريق. وقد أخبرني أحد أصدقائي أنه شاهد في مرة من المرار إحدى النساء مقطوعة الأذنين ولكنها لم تكن قد فارقت الحياة بعد، فدب دبيب الشفقة في قلبه فأحضرها إلى الفاشر، وبعد أيام من الله عليها بالشفاء، في حين أن أذنيها قدمتا إلى الخليفة دليلا على موتها.
وقف تيار القوافل المملوءة بالعبيد إلى أم درمان؛ لأن القسم الأكبر من الأجزاء الموردة للعبيد، كدارفور، قد هجرها ساكنوها. وفي أحيان أخرى كان يقدم رجال القبائل، كقبيلتي تاما ومسالت، فروض الخضوع إلى الخليفة ليعفيهم من خطر الأسر. ومع ذلك استمر لغاية عام 1895 ورود الكثيرين من الرقيق الأسود من الرجاف، إلا أن بعد المسافة بينهما وبين أم درمان كان يحول دون وصول الكثيرين أحياء إلى بيت المال.
اضطر الخليفة عام 1896 - حيال نقص أو انعدام المأسورين من الرقيق الأسود في القلابات وكردوفان ودارفور - إلى إصدار أوامره للأمراء التابعين له ببيع ما يصل إلى أيديهم من العبيد لزعماء القبائل المتجولين؛ بحيث يضطر كل من أولئك الزعماء إلى كتابة ورقة يذكر فيها اسم العبد ومقدار ما دفعه للأمير ثمنا له. وقد كان يسمح لهم الخليفة بإعادة بيع من اشتروهم من العبيد بالطريقة ذاتها.
لا ريب في أن بيع الرقيق في أم درمان ذاتها يجري يوميا، ولكن من المحرم رسميا الآن (1897) بيع رقيق الجهات والقوافل؛ والسبب في السماح ببيع النوع الأول هو اعتبارهم ملك الخليفة وحكرا له، على أن جميعهم أو أغلبهم كانوا يعتبرون ضمن الجنود. وإذا سلمنا بأن شخصا خارج أم درمان جلب معه سرا أحد العبيد السذج، فقد كان من الميسور أن يبيعه بيعا اسميا لبيت المال على أن يورده إلى صفوف الجند مقابل قيمة مالية لمن جلب العبيد، وذلك في حالة تمتع الرقيق بالصحة، أما إذا كان الأخير غير لائق للخدمة فيبقى في دائرة نفوذ سيده على أن يعمل في أراضيه الخاصة.
أما فيما يختص ببيع النساء والأولاد، فأمر مسموح به في أيه ناحية من نواحي السودان، بشرط أن يمضي على ورقة البيع اثنان من الشهود، ويحسن أن يكون أحد الاثنين قاضيا، وفي تلك الورقة يقر الاثنان بأن المرأة التي بيعت حق مكتسب للسيد السوداني الذي اشترى. والسبب في تنفيذ ذلك العمل والسماح به هو أن كثيرا من العبيد كانوا يهربون من بيوت ساداتهم، فيمسكهم آخرون ويبيعونهم لغير ساداتهم الأولين؛ مما أدى إلى انتشار فكرة سرقة العبيد في أم درمان. وكان أولئك العبيد في كثير من الأحيان يؤخذون بواسطة أشخاص ظاهرين لضمهم إلى منازلهم، أو كان يغريهم أولئك بترك الحقول والأراضي التي يعملون فيها، وبعد ذلك كانوا يقيدون بالسلاسل لترحيلهم إلى جهات نائية؛ حيث يتم بيعهم بأثمان بخسة جدا.
تنص الشريعة الإسلامية على عدم الاعتراف بشهادة العبيد الذين تتم المساومة على بيعهم في سوق الرقيق، فكان أولئك البائسون واقفين على حقيقة حالتهم المزرية، فإذا علمنا بأن بعضهم عوملوا من أسيادهم معاملة حسنة، فإن ذلك لم يكن ليرضي الرقيق على وجه عام.
أنشأ الخليفة في أم درمان ذاتها في ساحة فسيحة على مسافة قريبة من الجنوب الشرقي لبيت المال بيتا عاديا مبنيا بالطوب، وتعرف الساحة المحيطة بهذا البيت بسوق الرقيق. وقد كنت في كثير من الأحيان أدعي بأني أرغب في شراء أو استبدال بعض الرقيق، وبهذه الحجة وحدها كان يسمح لي الخليفة بالتوجه إلى سوق الرقيق، فسنحت لي بذلك فرص متعددة للوقوف بنفسي على كيفية إجراء عملية المساومة.
في تلك السوق كان يقف الاختصاصيون بتلك التجارة لبيع ما لديهم من سلع بشرية؛ بحيث يقف حول سور البيت الطيني عدد كبير من النساء والأولاد ويجلس البعض الآخر، فهناك ترى العاجز والعارية والمزخرفة والمسرورة. وبطبيعة الحال أسعد المذكورات حظا هن المحظيات اللاتي يبعن بثمن طيب. وبما أن تجارة الرقيق أمر جائز ومشروع جدا في السودان، فمن حق الباعة والشارين أن يفحصوا رقيقهم فحصا دقيقا من هامة الرأس إلى باطن القدم بدون أقل تقيد، كما لو كان هذا الرقيق من طبقة الحيوانات الدنيئة.
فكان الشاري يفتح فم المرأة ليرى حال أسنانها وأضراسها، ثم يأمر البائع برفع ما عليها من غطاء في النصف الأعلى من جسمها ليفحصها الفحص الدقيق، ويعنى في ذلك عناية خاصة بتفحص ذراعيها، وبعد ذلك يطلب الشاري من المبيعة أن تمشي إلى الأمام أو الخلف بضع خطوات ليتعرف كيفية مشيها، ثم تلقى بعض أسئلة من الشارين على النساء والأولاد للوقوف على مقدار ما يعلمونه ويعلمنه من اللغة العربية، وفي الحق يظل كل من أفراد الرقيق خاضعا لرحمة الشاري في كل ما يلقيه عليه من أسئلته.
ذكرنا قبلا أن بين الرقيق نسوة يسمين بالمحظيات، فنعود إلى القول بأن أثمانهن تختلف اختلافا كبيرا، وهذا لا يمنع دخولهن في دائرة الأسئلة العامة الموجهة للرقيق، فإن ذلك أمر عادي جدا، ولم يكن يخطر في بال واحدة منهن أن تعترض على طريقة البيع المذكور، رغم ما فيها من شدة في كثير من الأحيان، وكل ما في الأمر أن بعض النساء أو البنات يشعرن بأنهن لدى أسعارهن في كثير من الأحيان أفضل مركزا من الرقيق؛ وبعبارة أخرى، يجدن أنفسهن خادمات. وقد يذهب بالواحدة حظها السعيد إلى درجة تشعر معها أن مركزها لدى سيدها كمركز أفراد الأسرة التي تخدمها، بعد أن كانت في حالة سيئة عند سيدها الأول الذي كان يعاملها معاملة وحشية قاسية. وبعد أن ينتهي الشاري من استقصاءاته يتساوم مع البائع فيسأله عن ثمنها، ثم يردف هذا السؤال بالاستفسار عن امرأة أحسن من التي أمامه ليبيعها له. وقد كان الشاري في كثير من الأحايين يشكو للبائع عدم تمتع المبيعة له بجمال كاف وعدم ظهور مخايل الحسن على جسدها بوجه عام، كما كان يشكو أحيانا من جهلها اللغة العربية جهلا تاما، إلى غير ذلك من الشكاوى التي لم يكن يقصد منها سوى تخفيض ثمن السعة الآدمية التي تباع له. بينما نرى البائع من الناحية الأخرى باذلا أقصى ما في وسعه لإظهار محاسن تلك المرأة المنكودة الحظ ، والإطناب في جمال أخلاقها مما لا داعي إلى تفصيله في هذا المقام.
هناك نقائص في المرأة أو البنت أو الولد تضطر البائع إلى تخفيض الثمن، وفي مقدمة النقائص المذكورة الغطيط والسرقة والكذب. ومهما يكن أمر البيع فالذي نعرفه أنه عند الانتهاء من المساومة والوصول إلى اتفاق، يخرج البائع ورقة يوقع عليها هو والشاري الذي يدفع الثمن في الساعة التي أصبح فيها سيدا للسلعة البشرية التي اشتراها، وكان الدفع دائما بالعملة المحلية السودانية - عملة الريالات الجديدة - ويمكن على وجه الإجمال تقدير الثمن بما يأتي:
كان ثمن العبد العامل الكبير السن يترواح بين خمسين وثمانين ريالا، وثمن المرأة المتوسطة العمر بين ثمانين ومائة وعشرين ريالا، أما البنت ما بين الثامنة والحادية عشرة من عمرها فكان يقدر ثمنها تبعا لمنظرها، وهو على وجه عام بين مائة وعشرة ريالات ومائة وستين ريالا. ويجدر بنا أن نشير إلى أن الأثمان الأخيرة ذاتها تختلف باختلاف سعر السوق أو باختلاف الطلب لفئة خاصة من الرقيق.
لا توجد من الوجهة العملية صناعات خاصة في السودان، ومع استثناء المواد التي ذكرتها في الصحائف السابقة، لا تجد بضائع مصدرة من السودان.
كان فيما مضى (قبل عام 1817) يرسل العمل المزركش بالذهب أو الفضة إلى مصر، ولكن بعد أن قل ورود ذينك المعدنين النفيسين - بتضاؤل الأيدي العاملة من الرقيق - وبعد أن أصدر المهدي أوامره المشددة ضد لبس الجواهر والحلي؛ نقص أو وقف التصدير للنواحي المجاورة عامة، ولمصر خاصة. ومع ذلك لدى السودانيين تجارة رابحة في الحراب الطويلة والقصيرة والحدايد المستعملة لسروج الخيول والحمير والمدى القصيرة التي توضع على الأذرع، هذا إلى ما اكتسبه السودانيون من بيع الآلات الزراعية. ولم يكتف السودانيون بذلك، بل اشتركوا في عمل السروج الخشبية للخيول والجمال والبغال، وصنع «العنجريب» والصناديق الخشبية لشحن الملابس، ثم إعداد الأبواب والشبابيك والغرف البسيطة.
كان السودانيون في السنين السابقة لانقضاء القرن التاسع عشر يعملون عملا جديا في بناء المراكب، ولكن حال دون الاستمرار في ذلك العمل المنتج تدخل الخليفة ومصادرته جميع المراكب الموجودة في النيل، ومع ذلك نهضت هذه الصناعة قليلا عام 1896 بعد أن أذن الخليفة بتسيير المراكب . ومهما يكن الأمر، فإن الرغبة في بناء السفن قد ضعفت ضعفا كبيرا بعد أن فرض بيت المال الضرائب الثقيلة على كل مركب جديد.
من الصناعات التي عني بها السودانيون؛ عمل الأحذية الصفراء والحمراء، والسروج المختلفة الأنواع، والأحجبة الجلدية لصغار الأولاد والبنات، وأعمال السيوف وقرابات المدى. أما الكرابيج فتصنع بمقادير وافرة جدا من جلد فرس البحر.
علينا ألا ننسى زراعة القطن وتجارته في السنين الأخيرة في القرن التاسع عشر في السودان، فقد كان مصرحا لكل امرأة أو بنت أن تغزل لحسابها الخاص، وإلى جانب هذا العمل الخاص وجدت في كل قرية أماكن صغيرة للغازلات اللاتي يقمن بمختلف أنواع النسيج. أما أرض الجزيرة ففيها ناسجات وناسجون لأنواع مختلفة من الملابس القطنية كالأثواب والدمور والجنجس، التي يبلغ طول كل قطعة جزئية منها عشر ياردات، فإذا ما تم نسج الأقمشة المذكورة، جلبها أصحاب المحال الصغيرة إلى الأسواق بكميات كبيرة على أن يشتريها أفراد الطبقة العامية من رجال ونساء. ولا شك في أن أعلى نوع من الغزل ينسج في مديرية بربر، ففي تلك الناحية تنسج النساء أغطية وجلاليب من الحرير الملون، ويغزلن قطعا حريرية تستعمل كعمائم للأغنياء، وبعض الأحزمة التي يلفها لابسو العمائم الأغنياء فوق كساواتهم الحريرية القطنية. وفي هذا الصدد نذكر الشيلان الحريرية التي تروج في مختلف الأنحاء رواجا عظيما.
تقوم مديرية دنقلة بمقدار كبير من نسيج القطن، ولكن هذه الدائرة مشهورة شهرة خاصة بصنع أغطية قلوع المراكب. وإنه لواجب علينا في صدد تقرير الحق أن نشهد لرجال كردوفان بمتانة نسيجهم، بغض النظر عن بعد ما يصنعونه عن الجمال في المنظر.
إلى جانب غزل القطن، تجد النساء والبنات عملا آخر رابحا؛ هو ضفر الحصر من جميع الأشكال والحجوم من أوراق شجر الدوم، التي تباع بكثرة في جميع نواحي السودان. ولا مشاحة في أن أمتن نوع من هذه الحصر هو الذي يضفر من الخيوط الضيقة من الأوراق المذكورة ومن قش الشعير والقطع الجلدية الرفيعة. ولا تستعمل الحصر المذكورة في فرش الغرف فحسب، بل تحت أطباق الأكل أيضا؛ بحيث تكون الحصيرة في السودان غطاء للمائدة بدلا من أغطية القماش المستعملة في الغرب.
وقد تبلغ جودة عمل الحصر حدا ترسل معه مقادير كبيرة إلى مصر كتحف وطرائف للأوروبيين الذين يقصدون القطر المصري في شهور الشتاء.
إن نساء دارفور على مهارة خاصة في صنع الحصر المذكورة، التي توضع بين ثناياها بعض الخرزات الزجاجية؛ مما يؤدي إلى اكتسابها رونقا جميلا جدا. •••
اجتهدت في الصحائف السابقة أن أصور للقارئ حياة الخليفة العامة وشئون السودان في عهده، ولكن ذلك التصوير لا يأخذ شكله الدقيق بدون الإشارة إلى حالة السودانيين الخلقية، فأقول إن المهدي سعى جهده في ترك التعاليم والعوائد الدينية الرئيسية، وإنشاء نظم دينية جديدة؛ فبث أوامره في صنوف الشعب، ودعا ذلك بطبيعة الحال إلى إفساد الأخلاق؛ لأن الناس اضطروا في الظاهر إلى مجاراة المهدي، بينا هم في الواقع متمسكون بتعاليم الدين الأصلية. وفي هذا الاختلاف بين ما يعتقده المرء وما يدعي أمام الخليفة لاحترامه إغراء على الكذب، وهذا الإغراء الجزئي ينتهي إلى شر خلقي مستطير. وعلينا أن نذكر بأن الناس خافوا بطش الخليفة من ناحية، وتمسكوا بمصالحم وشهواتهم من الناحية الأخرى؛ فدعا ذلك إلى فساد خلقي عظيم لا أستطيع وصفه للقراء. ومهما يكن الأمر، فقد كان أغلب سكان السودان غير مرتاحين إلى الحالة العامة في السودان عامة وفي أم درمان - حيث يقيم عبد الله - خاصة؛ لأنهم أشفقوا على حرياتهم الشخصية من تعسف رجال الخليفة عبد الله، ففضلوا حينذاك الانصراف إلى أهوائهم وملذاتهم والإسراف فيها بقدر ما تسمح لهم أجسامهم.
نستطرد الآن إلى نقطة حيوية هامة؛ وهي عدم وجود حياة اجتماعية أو تبادل بين النفوس، فكان الحل الوحيد الذي أجمع عليه السودانيون أمرهم هو الإغراق في بحار الشهوات، والميل إلى حب النساء حبا بهيميا لا ينتهي عند حد، ففكر حينئذ كل سوداني في الحصول على أقصى عدد من النساء كزوجات له إلى جانب محظياته وسراريه، فكان الخليفة - من هذه الناحية - مشجعا لرعاياه على السير في طريق اللذة المفسدة. ومن دلائل ذلك التشجيع أنه أمر بتخفيض مصاريف الزواج الرسمية تخفيضا ظاهرا؛ فبعد أن كان صداق البنت عشرة ريالات أصبح خمسة، وصار صداق الأرملة أقل من ذلك، ومعه لباس عادي وحذاءان وبعض روائح عطرية.
إذا رغب سوداني في الاقتران ببنت وجب على والدها أو ولي أمرها أن يعلن مصادقته، وفي العادة لا يحول دون هذا القبول سوى مانع قوي جدا. وعلى أية حال فالآباء وأولياء الأمور مسئولون دائما عن زواج بناتهم أو من يتولون رعايتهن؛ بحيث يصبحن زوجات متى بلغن عمرا مناسبا.
ذكرنا قبلا إغراق السوداني في لذته؛ وإذن لا عجب أن نرى بأن حصول السوداني على أربع زوجات - وهو أقصى ما صرح به القرآن من عدد للزوج - أمر عادي جدا، حتى إن السوداني في ذلك الحين عد الحصول على الزوجة حصولا على متاع بسيط. هذا إلى أن السودانيات كن يرغبن رغبة شديدة في هذا الزواج؛ إما للحصول على بعض ملابس وكمية صغيرة من المال، وإما للرغبة في نظام جديد من الحياة لم يكن يعرفنه في منازل آبائهن وأولياء أمورهن. وفي الوقت ذاته كن على علم بأنهن - تبعا لنصوص الشريعة - يستطعن الانفصال عن أزواجهن بدون عناء كبير.
في حالة الطلاق تستبقي السودانية صداقها إلا في حالة واحدة؛ هي كراهيتها لزوجها، فيتحتم إذ ذاك رد الصداق إلى الزوج، وقد عرفت في بعض الأحيان أن الزوج كان يترك المهر لزوجته المطلقة بمحض اختياره. وإني أقرر عن ثقة واطلاع أن من السودانيين من يتزوج في بحر عشر سنوات بأربعين أو خمسين سودانية - مع مراعاة أن هناك طلاقا مستمرا في حياة مثل ذلك السوداني - كما أن من النساء من تزوجت في هذه الفترة الخمسة عشر أو العشرين زوجا، على أن قانون الزواج الإسلامي ينص على انقضاء فترة بين الطلاق والزواج الجديد لا تقل عن ثلاثة شهور. أما فيما يختص بالمحظيات فيبيح القانون السوداني الديني تمتع السوداني بأي عدد يزيد منهن، ولا ريب في أن إباحة التمتع بالمحظيات أدت إلى انتشار الفساد الخلقي مع انتشار الأمراض السرية الخطرة .
قلنا إن المحظيات السودانيات خطر على الأخلاق وجالبات للأمراض الخبيثة، ولنفصل ذلك نقول إنهن لا يعشن جميعا في المنزل الذي يعيش فيه سيدهن، ما لم يكن لذلك السيد أولاد من إحداهن، فإنها (المحظية) تضطر للبقاء في منزل قانيها ولا يجوز مطلقا بيعها لآخر، ولكنهن في أغلب الأحيان يبعن لأسيادهن على أن يبقين في حوزاتهم فترات قصيرة جدا، على أن يبعن بعد ذلك لغيرهم بأرباح جديدة. ولا ريب في أن هذا الانتقال المستمر من بيت إلى آخر يعرض الأخلاق والصحة لخطر جسيم، وإلى جانب ذلك تذبل زهرة شباب المحظية وتضيع معالم جمالها. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المحظية تباع لسيدها في أول مرة وهي في سن صغيرة، عرفنا ما تقاسيه من الآلام الحقيقية التي لا تخفف منها لذة بهيمية غير منتجة.
من المعروف عن تجار الرقيق في السودان أنهم في سبيل الحصول على مكسب نقدي لا يبالون بما يصيب النساء والبنات من ضعف في القوة وفساد في الخلق وتعرض لأخبث الأمراض؛ فكانوا يشترون البنات الصغيرات ويسمحون لهن بالحرية المطلقة في اختيار المنزل الذي تعيش فيه البنت والحياة التي تحياها. ولم يقف الفساد عند حد أولئك التجار، بل تعداه إلى الشارين أنفسهم؛ ففي كثير من الأحيان كانوا يسمحون للتجار ببيع محظياتهن لغيرهم على أن يتعاطى أولئك الأسياد مقدارا معينا من الربح الجديد.
لا ريب في أن شر ما ينتج من فساد خلقي تجده في دوائر الضباط السودانيين وجنودهم؛ حيث يغري أولئك الحربيون الكثيرات من النساء والبنات للعيش معهم في ثكناتهم بصفتهن زوجات لهم، فإذا ما دخلن الثكنات أصبحن كالسلع يتبادلهن جميع الضباط بلا استثناء وبحرية مطلقة. ولم يكن الخليفة عبد الله ضد هذه الفكرة الأخيرة، بل على النقيض من ذلك كان يشجعها؛ اعتقادا منه أن انهماك الضباط في اللذة وتماديهم في إرضاء شهواتهم يجعل مكانا للخليفة في نفوس ضباطه فوق كل مكانة، وبذلك يضمن ولاء رجال الحرب له ورغبتهم في عدم ترك سيادته عليهم.
لا حاجة بنا إلى القول بأن السماح بتلك الإباحة المنكرة قد أدى إلى انتشار أخبث الأمراض بين جميع طبقات الأمة، سواء في ذلك الأحرار والرقيق الرجال والنساء. فإذا ذكرنا حرارة السودان وأثرها السيئ في أي مرض سري خبيث، استطعنا إدراك الانحطاط الخلقي الذي هوى إليه السودان في ذلك العهد. وعلينا ألا ننسى أن السودان كان محروما من جميع الأدوية التي تعالج تلك الأمراض؛ مما أدى إلى تعريض الصحة على وجه عام لخطر عظيم.
وجد في السودان في أوائل حكم الخليفة عبد الله قوم أمعنوا في ضروب الفساد وأطلقوا العنان لشهواتهم، فعاقبهم الخليفة في مبدأ الأمر بنفيهم وتشريدهم إلى الرجاف، ولكنه عدل عن ذلك بعد قليل من الزمن، وانتهى إلى حل حاسم في نظره؛ وهو ظهور سهولة كبرى - في معاملة شعب بعيد عن الأخلاق القويمة - في استعمال التعسف والشدة، وصعوبة الجور مع شعب متمسك بأهداب الأخلاق القويمة؛ وتبعا لذلك كان الخليفة عبد الله في آن واحد يكره ويخشى الجعليين الذين سكنوا على شاطئ النيل بين حجر العسل وبربر؛ لأن أولئك كانوا العرب الوحيدين في السودان الذين مقتوا الفساد والرذائل الخبيثة، واحتفظوا بالأسر الفاضلة البعيدة عن الشهوات الشائنة، كما اعتاد أولئك الجعليون النظر إلى الأخلاق بصفتها حجر الزواية في بناء الحياة القويمة والركن الأساسي في تأسيس صحة قوية.
كان تشديد المهدي على نسائه (زوجاته) بالغا أقصى حد، ولم يقف أمر صيانتهن عند حد الخوف من المهدي في حياته، بل تعداه إلى الاحتفاظ بالشرف بعد مماته؛ فكان محرما عليهن وهن أرامله (بعد وفاته) أن يسرن سيرة المحظيات، وأن يعشن عيشة الفجور. وقد ساعد عبد الله على ذلك، فبلغ احترامه لذكرى المهدي حدا دفعه إلى إنشاء بيوت خاصة للأرامل المذكورات؛ حيث تحيط بالمنازل أسوار مرتفعة على مقربة من ضريح المهدي، وقد عين عبد الله على ذلك عددا من الخصيان لمراقبة الأرامل المذكورات آنفا.
شدد الخليفة على زوجات ومحظيات سلفه المهدي بعدم الزواج، وسن قانونا حرم به عليهن أي زواج جديد، فكان ذلك ضد رغبتهن. ولم يكتف بذلك، بل حرم البنات - وأغلبن من بنات موظفي حكومته السابقين - من طلب الزواج بعد أن بقين في منزله إعدادا لاقترانه بهن في المستقبل. ومما يذكر عن عسف الخليفة عبد الله في معاملتهن أنه لم يكن يسمح بمقابلة رجل إياهن، حتى ولو كان من ذوي قرباهن، وكل ما من به عليهن هو السماح لقريباتهن من النسوة بزيارتهن مرة واحدة في السنة. ومع كل ذلك التقييد لم يكن يفسح عليهن في العيش، فكان يقدم لهن ما يكفيهن بالجهد من القوت واللباس، فلا عجب إذا عرفنا أنهن كن يتطلعن دائما إلى التحرير من ربق عبودية الخليفة.
أدرك عبد الله أن عسفه وجوره يؤديان بلا نزاع إلى زيادة الحاقدين عليه والساعين إلى الفتك به، فكان تبعا لذلك كثير الخوف على حياته، فطرد بعنف وقساوة جميع السكان النازلين في منازل صغيرة مجاورة لبيته، وأحل محلهم حرسه الخاص الذي استمر في تنميته يوما بعد يوم، وبعد ذلك بنى سورا ضخما حول مسكنه والمساكن الصغيرة المجاورة وجمع إليها كل أقربائه. على أنه عاد بعد ذلك فأظهر ريبة وخالجه الشك في بعض أقربائه، فآثر إبقاءهم خارج مسكنه المسور. ولعدم الظهور دفعة واحدة بهذا الشك، جعلهم إلى جانب منازل الحرس الخاص. ورغم ذلك كله لم يكن الساكنون في دائرة الخليفة على وفاق وفي ارتياح تام؛ لأن أوامر عبد الله كانت شديدة على حرسه الخاص؛ مما أدى إلى تبرمهم واستيائهم الشديد، كما أنهم تذمروا من مرتباتهم الضئيلة وشكوا لرؤسائهم مرارا من تضييق الخليفة على حريتهم الشخصية. وكان عدد المحيطين بالخليفة بضعة آلاف، ينتمي أغلبهم إلى العرب الخلص، ولم يكن مسموحا لهم على الإطلاق الاقتراب من ذويهم، كما أن الخليفة حرمهم من ترك مساكنهم، ولم يكن يصفح عن هفواتهم الصغيرة، فكان ينزل بهم العقاب الصارم.
عني عبد الله عناية خاصة بحياته، وكان شديد الرغبة في الاحتفاظ بها من عبث الحاقدين عليه؛ فكان لا يخرج في النهار أو الليل إلا وفي معيته أفراد معينون من حرسه الخاص، واثنان أو ثلاثة من خدمه الأمناء له، وفيما عدا ذلك لم يكن يرافقه أي شخص آخر - حتى أقرب أقربائه - ولم يكن يسمح الخليفة لأحد - خلاف الحرس والخدم - بمرافقته.
كان من المقرر أن كل من يسمح الخليفة بمقابلته إياه يتجرد من سلاحه - الذي كان يحمله السوداني دائما - ثم يفتشه أحد رجال الحرس قبل دخوله إلى غرف الاستقبال الرسمية، فكان ذلك العمل من جانب الخليفة دليلا على سوء ظنه في رعيته، فإذا أضفنا إلى ذلك كراهية الشعب له، استطعنا بسهولة إدراك ما كان يتحدث به الناس عن ظلم الخليفة وتعسفه وعن مخاوفه الشديدة.
على الرغم من هذه الشدة النادرة وتلك القسوة المؤلمة لم يوفق الخليفة في اكتساب جانب أية قبيلة، حتى إن أفراد قبيلته الخاصة فروا منه، وهذه بطبيعة الحال نتيجة منطقية معقولة.
عندما وصل أفراد قبيلة عبد الله إلى أم درمان بعد إلقاء مقاليد الخلافة إليه، مضوا في الاعتداء على أصحاب الأرض؛ فأخذوا غلالهم واغتصبوا نساءهم ونكلوا بأولادهم، فاشتد الكرب اشتدادا اضطر الخليفة لإصدار أوامره بعدم خروج تعايشي من أم درمان إلا بإذن خاص. ولكن أوامره تجوهلت، ثم دب دبيب العصيان في قلوب السكان حتى انتشرت فكرة التمرد انتشارا لم يكن معروفا من قبل.
أما فيما يختص بأخلاق أولئك العرب فحميدة في ذاتها، ولكنهم في الوقت نفسه ميالون إلى الكبرياء والإعجاب بأنفسهم فحسب، وذلك راجع إلى صلتهم وقرابتهم بالخليفة، فكانوا يدعون دائما أنهم أسياد البلاد وأصحاب الشأن الأعلى فيها لا لشيء سوى صلتهم بالخليفة.
وقد انتهى بهم ذلك التعسف إلى وضع أياديهم على خيرات الأرض وغلالها وماشيتها وخيولها، فكان هذا الاستئثار مدعاة الحسد في القبائل الغربية السودانية؛ حيث الأفراد الذين لم ينظروا إلى التعايشي ورجاله نظرة ودية.
كل ذلك الاضطراب سبب من أهم الأسباب في حذر الخليفة وخوفه مما يجري حوله، ولكني لا أعتقد أنه على علم دقيق بمقدار كراهة الشعب إياه وحقده عليه. وعلى أية حال، فقد كان هم الخليفة متجها إلى إرضاء أمراء القبائل بإرسال الهدايا المالية والعبيد سرا إليهم في أوقات الليل من الأيام المختلفة، أما الأمراء فلم يكونوا يترددون في قبول الهدايا المذكورة، وهم على ثقة من أنها جمعت ظلما وعدوانا. وقد يكون من دواعي الإشفاق على الخليفة أنه لم يكن متمتعا بولاء الأمراء الحقيقي، رغم ما يبعثه إليهم من الهدايا.
من أعجب ما يروى عن الخليفة عبد الله أنه لم يفارق أم درمان إلى الضواحي مرة واحدة في أكثر من عشر سنين؛ لأنه كان يخشى ترك تلك العاصمة التي استجمع فيها كل ما لديه من قوة وذخيرة، ووضع تحت رقابته فيها جميع الذين خاف شرهم، بعد أن اضطرهم إلى القيام بالصلوات الخمس يوميا في حضوره وسماع خطبه الدينية.
صرح الخليفة بأن أم درمان هي مدينة المهدي المقدسة. وقد يكون غريبا على القراء أن يسمعوا عن أم درمان قبل عام 1890 بأنها كانت مدينة صغيرة ضئيلة الشأن، يسكنها بعض قطاع الطرق، وكل ما لها من شأن أنها واقعة تجاه الخرطوم؛ غريب عليهم أن يسمعوا ذلك في الوقت الذي علت فيه كلمة هذه الجهة وأصبحت أضخم وأعظم شأنا من الخرطوم، وقد سبقه إليها المهدي، فبعد أن كانت الأرض حقيرة غير منتظمة مدت إليها الأشجار الوارفة الظلال، وأسس الجامع الكبير وبيوت الخليفة عبد الله والخليفتين محمد شريف وعلي واد هلو. أما عبد الله فقد وضع يده على جميع الأراضي الواقعة جنوبي المسجد. وأما القسم الشمالي فاقتسمه الخليفتان محمد شريف وعلي واد هلو.
مما يذكر عن المهدي في حياته أنه صرح علنا في المسجد الكبير بأن أم درمان محلة وقتية؛ لأن رؤيا النبي التي ظهرت له في إحدى الليالي أمرته بنقل الخلافة إلى الشام بعد التغلب على مصر وبلاد العرب، ولكن موته المبكر قد شتت جميع مشاريعه وقضى على آماله وآمال أتباعه.
بعد أن نقلت العاصمة إلى أم درمان تم تنظيمها وتخطيطها، وقد بلغ طولها السطحي من الشمال إلى الجنوب ما يقرب من ستة أميال إنجليزية، وقد أصبحت نهاية الحد الجنوبي مقابل الطرف الغربي للخرطوم.
اتجهت الرغبة من بادئ الأمر إلى السكنى على مقربة من شاطئ النيل؛ أملا في تسهيل الحصول على الماء الكافي، فنجم عن تلك الرغبة ازدياد في ناحية وقلة الناحية الأخرى؛ فلم يبق مكان خال واحد في مسافة ثلاثة أميال عرضا مع خلو أميال ممتدة طولا.
أنشئت في بادئ الأمر في تلك الناحية آلاف من الأكواخ المصنوعة من القش، فلم يكن ظاهرا منها سوى المسجد الكبير الذي أحاط به حائط من الطين، طوله أربعمائة وستون ياردة وعرضه ثلاثمائة وخمسون ياردة، ولكن ذلك لم يرق في عيني الخليفة، فاستعاض عنه ببناء من الطوب المحروق الذي تم تبييضه بعد ذلك بمعرفة بنائين من العرب، وبعد ذلك أقام الخليفة لنفسه ولأخيه وأقربائه بيوتا من الطين، ثم حذا الأمراء حذوهم وتبعهم في ذلك أغنياء أم درمان.
ذكرت في فصل سابق وصفا لضريح المهدي، ولكني لم أذكر أني شاهدت - قبل مغادرتي الأخيرة لأم درمان - ضياع لون القشرة البيضاء التي على الضريح، ولا بأس من العودة إلى التفصيل، فأقول بأن فوق قبة الضريح ثلاث كرات نحاسية فارغة، الواحدة فوق الأخرى، ويربط هذه الثلاثة رمح مقوس في آخره حلية رئيسية تزين الضريح. ومن أغرب ما سمعته من السودانيين أن الخليفة وضع هذا الرمح حول الكرات الثلاث، ليعلن استعداده لمحاربة الطبيعة إذا حدث ما يحول دون تحقيق رغباته.
كان عبد الله في كثير من الأحيان يقضي ساعات من النهار منفردا داخل ذلك الضريح (مزار المهدي)، والمعروف أن غرضه الأساسي من ذلك هو تلقي الوحي الخاص منه، ولكن قلت عنايته بهذه الزيارات الدينية بعد أن قتل الكثيرين من أقرباء المهدي وزعماء أتباعه. وبطبيعة الحال كان من العسير بل من المريب أن ينقطع عبد الله هذا الانقطاع الفجائي، فاضطر إلى انتحال المعاذير، وتبعا لذلك أوعز إلى رجال حرسه الخاص أن يذيعوا بين الناس أن السبب الحقيقي لانقطاع عبد الله عن زيارة سيده المهدي هو خوفه من البقاء بمفرده داخل الضريح. وقد كان منتظرا أن يرد بعضهم على ذلك بأن يستصحب الخليفة معه من يذهب عنه الفزع. ولكن عبد الله لم يعجز عن الرد، فكان يقول إنه من غير المرغوب فيه، أو من الأمور غير المسموح بها، بقاء أي شخص خلاف الخليفة داخل ضريح المهدي.
هذا ما كان يعتذر به عبد الله إلى الشعب السوداني، في حين أنه (عبد الله) خالف وصايا سيده المهدي، لا بالقول فحسب، بل بالفعل أيضا.
كان من المتبع فتح جميع الأبواب المؤدية إلى الضريح يوم الجمعة للسماح للشعب بالحج إلى ضريح المهدي. وبما أن القانون الديني كان يحتم على كل رجل من أتباع المهدي أن يردد صلوات الترحم على جثمان المهدي وروحه، فقد كان من الميسور على المشاهد أن يرى الآلاف من الناس متفقين في الغرض ومختلفين في طريقة تلاوة الصلوات والأدعية. ولم يكن قصدهم محصورا في الصلاة للمهدي، ولكنه تعداه إلى طلب الحماية والرحمة من الله الرحمن بشفاء الشهيد (؟) الذي قد رقد في قبره الأخير. ولكني في الحقيقة كثير الريبة في أن الصلوات المذكورة خارجة للترحم؛ فإني أقرر - وفي قولي على ما أعتقد كثير من الحق إن لم يكن الصدق كله - أن أغلب الصلوات الصادرة من قلوب أولئك المتحمسين إلى مقام العرش الإلهي تتطلب من الله إنقاذ الشعب السوداني من ظلم وعسف عبد الله المستبد، الذي خلف ساكن الضريح الطيب، في نظر السودانيين.
يقع بيت الخليفة الرئيسي في الناحية الجنوبية من الضريح وعلى اتصال بالمسجد الكبير، ويحيط بهذا البناء الرئيسي حائط ضخم مبني بالطوب الأحمر، ومقسمة نواحيه إلى مبان صغيرة متلاصقة، وبطبيعة الحال أقرب المباني إلى المسجد هي التي يسكنها هو وأفراد بيته المقربون، وفي الناحية الشرقية من مسكنه بيوت زوجاته وأماكن الخصيان ومخازنه الخاصة. ومما يسترعي الأنظار في الجهة الشرقية من مسكنه المركزية للمسجد الكبير قيام باب خشبي ضخم - لا توجد أبواب في داخل المسجد من النواحي الثلاث الأخرى - يجتازه المسموح لهم بالوصول إلى غرف الخليفة الخاصة ومكان الاستقبال الرسمي.
إذا ما رغب إنسان في اجتياز الممر الرئيسي، كان عليه أن يمر بما يشبه الدهليز، ومن ثم يسير إلى ردهة صغيرة فيها غرفتان، لا يوجد على جانب أيتهما ما يمنع من ظهور الناس للخليفة الذي يستقبل الناس في هذه البقعة. يوجد في الجهة الجنوبية من غرفة الاستقبال باب خاص يقفل بين تلك الغرفة وبين غرفة المخدع، ولا يسمح لأحد باجتيازها سوى الشبان من حرس الخليفة.
أما المساكن التي سبقت الإشارة إليها فمكونة على شكل قاعات متصلة، بين كل قاعة والأخرى رواق صغير، وقد تمكن الخليفة من إنشاء دور ثان على سقف مجموعة من تلك المساكن، ووضع في ذلك الدور المبني على الطراز الجديد (عام 1895) منافذ يتمكن الناظر من إحداها من مشاهدة منظر عام واضح لأم درمان.
امتازت غرف استقبال الخليفة بالبساطة الكلية والبعد عن الزخرفة، وكل ما في الغرف من زينة هو أعمدة العنجريب الممتدة في كل غرفة، وعلى الواحد منها حصيرة من أوراق النخيل. أما غرف الخليفة فمزخرفة بكل ما يستطيع الحصول عليه من زينة وتزويق في السودان؛ ففي كل الغرف الداخلية أسرة نحاسية وحديدية تعلوها ناموسيات - للوقاية من الناموس الذي يعد نكبة السودان وبلاءه - كما أن أراضي الغرف مفروشة بالسجاجيد، وفوق المراتب النظيفة أغطية حريرية ووسائد موشاة أطرافها بالحرير الخالص، وفوق الأبواب والنوافذ ستائر من الألوان والأنسجة. ولا ريب في أن ذلك أقصى ما يطمع إليه الخليفة من زخرف وأبهة في السودان. أما الأروقة فممتلئة بالحصر المصنوعة من أوراق شجر الدوم، ثم بمقاعد العنجريب. فإذا قارنا ذلك بما كان عليه الخليفة عبد الله في أول سني حياته الرسمية، وجدنا أنه شديد الميل إلى الزخرفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
تكلمنا كثيرا عن بيت الخليفة ومساكن رجاله والمقربين إليه، والآن نذكر شيئا موجزا عن بيت ابنه عثمان، فنقول إنه يقع في الناحية الشرقية من تلك المساكن، ويكاد يكون هذا البيت مفروشا بالفراش والأثاث الموجودة في منزل أبيه، ولا نغالي إذا قلنا إنه أفخم وأكثر نزوعا إلى الثروة من مسكن أبيه؛ فقد يمتاز هذا البيت عن بيت الخليفة بالنجفات النحاسية المدلاة من سقوف الغرف، والتي أحضرها عثمان خصوصا من الخرطوم، هذا إلى أن بيت عثمان واقع وسط حديقة كبيرة يمتد إليها طمي النيل ويشتغل فيها يوميا مئات من الرقيق الأسود، وقد عني أولئك عناية فائقة بعرض الحديقة في أحسن وأجمل منظر لسيدهم عثمان، الذي كان طول حياته مولعا بكل ما هو جميل. ومن الغريب في أمر أولئك العبيد أنهم كدوا واجتهدوا في ذلك راضين مختارين، رغم التعب الذي لاقوه، ورغم القوت الذي لم يكن يكفيهم في عملهم الشاق.
صرف الخليفة عبد الله وابنه عثمان أغلب أوقاتهما في البناء وتجديد نظم ما أقاماه قبلا، وقد بذلا أقصى ما يستطيعان من جهد في سبيل البقاء في حياتهما على الأرض، متمتعين بأقصى ما تنزع إليه نفساهما من بهجة وسرور.
وقد حذا يعقوب أخو الخليفة حذوهما فلم يكن غريبا، والحالة هذه أن يتدفق يوميا مئات من العمال - وأغلبهم من الرقيق - إلى بيتي الخليفة وابنه، حاملين الحجارة والطوب وكل ما يتعلق بالبناء. أما بيت الخليفة علي واد هلو، فصغير من ناحية وبعيد عن معالم الزينة والزخرف من ناحية أخرى.
كان لعبد الله - إلى جانب بيت الخلافة الرئيسي - بعض منازل في الناحيتين الشمالية والجنوبية من أم درمان، ولكن المنازل الأخيرة مبنية بناء بسيطا عاديا، لا شيء من الزخرفة فيه، والغرض من بنائها هو استعمالها كأماكن استراحة له وللمقربين إليه عندما يرسل بعثات من جنوده إلى الجهات المجاورة لأم درمان، أو عندما يخرج لاستعراض الجنود القادمين حديثا إلى أم درمان، ولم يكن يستطيع (عبد الله) البقاء في منزل من المنازل المذكورة أكثر من يوم أو يومين في المرة التي يخرج فيها.
بنى عبد الله، خلاف المنازل المذكورة، منزلا على مقربة من نهر النيل مجاورا لحصن الحكومة القديم، بعد أن ردم الخنادق التي كانت متاخمة للحصن المذكور. وقد كان يذهب إلى هذا المنزل عندما تشرع السفن البخارية في مغادرة أم درمان إلى الرجاف. وغرضه الرئيسي من ذلك، الوقوف بنفسه على كيفية سير السفينة ومقدار سرعتها.
إلى جوار بيت الأمانات (الترسانة) المكون من بناء ضخم حجري، جمعت فيه المدافع والبنادق والذخيرة وكل ما يختص بالحرب، وإلى جوارها (في البناء نفسه) خمس عربات كانت ملك الحكام السابقين والبعثة الكاثوليكية، وقد عني عبد الله عناية فائقة بحراسة ذلك البيت، فوزع على مسافات قصيرة حراسا خصوصيين (ديدبانات)، وأعد لكل واحد كشكا صغيرا، ومهمة أولئك هي منع جميع الخارجين عن هيئة الجيش من الدنو إلى الترسانة.
وجد في الناحية الشمالية للترسانة مباشرة بناء لحفظ رايات الأمراء المقيمين في أم درمان، وإلى جانب ذلك البناء محل نصف دائري - يبلغ ارتفاعه نحو عشرين قدما ويصعد إليه الصاعدون بسلالم مدرجة - لحفظ أبواق وطبول الخليفة الحربية، فإذا ما سرنا إلى الناحية الشرقية قليلا، وجدنا مخزن الخراطيش والأسلحة الصغيرة.
ذكرنا في الفصول السابقة شيئا عن بيت المال، فنقول الآن إنه يقع في شمال أم درمان على مقربة من نهر النيل، ويمتاز هذا البناء بضخامته وانقسامه إلى أجزاء بارزة تكاد تكون أروقة متساوية الحجوم، وفي تلك الأروقة تجمع البضائع الواردة لأم درمان من جميع نواحي السودان ومن مصر، كما أن فيه (بيت المال) مكانا لخزن الحبوب وآخر لجمع الرقيق. ويقع على مسافة قريبة جنوبي بيت المال بناء واسع لبيع الرقيق يسمى (سوق النبيذ)، وقد أنشأ عبد الله جوار البناء الأخير بيتا سماه «بيت المال الحربي»، بعد أن استقرت خلافة عبد الله وسلفه المهدي في أم درمان ثم تنظيم المدينة، وهي على العموم قائمة فوق أرض مستوية، ولكنا نجد في بعض النواحي هنا وهناك تلولا صغيرة تعترض ذلك المستوى. أما تربة أم درمان فمجموعة طبقات صلبة حمراء تكاد تكون حجرية في مجموعها، وتتخللها في أجزاء متفرقة أراض رملية. ومما يذكر عن تعسف عبد الله أنه - في سبيل راحته والتمتع بما يرضي شخصه - أنشأ الطرق والشوارع الجديدة، وهذا العمل حميد في حد ذاته، إلا أن الخليفة في سبيل هذا البناء قد هدم بيوتا كثيرة ولم يدفع لأصحابها المنكودي الحظ قرشا واحدا، فدل بذلك على أنه يرمي من وراء تنظيمه الحميد في ذاته إلى منفعة خاصة؛ هي لذة النظر إلى شوارع نظيفة بغض النظر عما يصيب الناس من هدم منازلهم دون تعويض.
علا شأن أم درمان ونقص قدر الخرطوم في زمن خلافة عبد الله، فأصبحت الخرطوم عبارة عن أنقاض وخرائب، ولم يبق فيها من المباني الظاهرة سوى المرفأ، وقد ظلت المواصلات بين أم درمان والخرطوم بواسطة الرسائل التلغرافية، التي أحسن استعمالها موظفو إدارة التلغراف في الحكومة السابقة.
أبقى عبد الله قسما كبيرا من السور المحيط ببيت المال والمؤدي إليه - لم يكمل هذا البناء في زمن عبد الله - وعلى طول هذا البناء امتدت حوانيت لبيع المواد التجارية المختلفة، وإلى جوارهما حوانيت منفصلة وأماكن صغيرة مستقلة للحلاقين والنجارين والقصابين والخياطين ومن شابههم. هذا إلى أن عبد الله عني بنظام المحتسبين الذين كانوا مسئولين عن حفظ النظام في المدينة. وإنه لمما يفزعني أن أذكر المشانق وآلات الإعدام التي كانت موزعة في جميع نواحي أم درمان؛ فقد كانت أكبر دليل على حالة المدينة وموقف السودانيين من حكومتهم.
كان سكان أم درمان موزعين في مساكنهم تبعا لقبائلهم؛ فكان العرب التابعون للقبائل الغربية يسكنون غالبا في المحلات الجنوبية. أما القسم الشمالي فكان مخصصا لسكان وادي النيل، ورغم وجود المحتسبين والمحافظين الرسميين على نظام المدينة، كان مفروضا على كل قبيلة أن تعين من بين رجالها من يقومون بحفظ الأمن والسلام في القبيلة ذاتها، على أن يبلغ أولئك عن أي اضطراب أو خلل في القبيلة إلى رجال الحفظ المعينين من قبل الحكومة.
إذا استثنيا الشوارع المنتظمة التي أنشأها وخططها الخليفة عبد الله إرضاء لراحته ومزاجه فحسب، وجدنا المدينة عبارة عن منحدرات وعطفات مملوءة بقاذورات. وبطبيعة الحال أجد شخصي عاجزا عن وصف الأضرار الصحية المنبعثة من تلك القاذورات الكريهة الرائحة في الأماكن الوبائية التي تجمعت فيها كل أوساخ أم درمان. ويكفيني القول بأن جثث الخيول الميتة ترمى في تلك النواحي، وأن الجمال والحمير والماعز تزحم الطرق الضيقة وتملأها بأوساخها وقاذوراتها، وكل ما يعمله الخليفة هو أن يصدر أوامره قبل أيام أعياد مخصوصة في كل سنة باكتساح هذه الأوساخ وتنظيف الطرق الضيقة، فلا يتعدى التنظيف حد إلقاء الجيف المنتنة في زوايا الحارات، فإذا ما جاء فصل الشتاء الممطر حمل الهواء - المشبع بالروائح الكريهة المنبعثة من تلك الأوساخ والجيف - بعض أمراض وبائية تعمل على قتل المئات من السكان المساكين.
كانت المدافن قبل عهد الخليفة عبد الله قائمة وسط المدينة، ولكن تبرم الأحياء وتذمرهم من الروائح التي أصيب بها السكان من ذلك النظام، اضطر عبد الله إلى إنشاء مكان فسيح خاص وإعداده لدفن الموتى، وقد وقع اختياره على الصحراء الواقعة شمال مكان استعراض الجنود.
سهل على القارئ أن يتصور انتشار الأمراض في السودان، بعد أن عرف الشيء غير القليل عن الروائح الكريهة وأوساخ البهائم في جميع نواحي أم درمان تقريبا، إلا أن ذلك الانتشار لا يمنعنا من تخصيص الأمراض الخطيرة السائدة هناك، فنقول إن الحمى والدوسنطاريا هما شر ما يبلى به ساكنو أم درمان، ولا تكاد تنقطع حمى التيفوس الوبائية بين نوفمبر ومارس من كل عام.
نتكلم الآن قليلا عن مياه أم درمان، فنقول إن الآبار المفيدة والينابيع المعدة لجلب المياه الصحية أنشئت قبيل عام 1895، وتلك العيون الصحية أقيمت في الناحية الشمالية من المسجد الكبير. أما الآبار المحفورة في نواحي أم درمان الجنوبية، فماؤها أجاج في غالب الأوقات، وهي في مجموعها تختلف في العمق بين ثلاثين وتسعين قدما، وقد تم حفرها بواسطة المسجونين تحت رقابة الحراس الغليظي القلوب. ومما يذكر في صدد السجن والحراس، أن المرء في أم درمان يسمع كثيرا من المارة قولهم «لقد أخذوا صاحبنا إلى السعير»، ومعنى السعير عندهم هو السجن الذي يلاقي فيه المغضوب عليه عذابا شديدا، إن مجرد لفظ هذه الكلمة (السعير) يولد الاضطراب والفزع في نفوس جميع سامعيها. أما السجن فقائم في الناحية الجنوبية الشرقية من أم درمان على مقربة من نهر النيل، وهو مسيج بحائط ضخم، وللسير إلى السجن يمر الإنسان بردهة خارجية فسيحة، يحرسها نهارا وليلا جنود من السودانيين المخيفين، فإذا ما عبر المرء تلك الردهة وصل إلى ساحة داخلية مكونة من غرف طينية لإقامة المسجونين المنكودي الحظ، الذين اعتادوا - وهم في السلاسل والأصفاد الثقيلة - قضاء سحابة اليوم في ظل ذلك البناء وهم في سكون وجمود كاملين، لا يتخللهما من الأصوات سوى رنين السلاسل والأوامر القاسية الصادرة من الحراس الغلاظ القلوب، وصراخ وتأوهات بعض المسجونين المضطهدين من جراء ما ينزل على أجسامهم من سياط الجلد والتأديب، والويل كل الويل لمن تعرض لسخط الخليفة ومخالفة أمره، فأمثال أولئك يرسفون في أثقل الأغلال، بعد أن يحتم عليهم مراقب السجن البقاء في أصغر الغرف والامتناع عن الاختلاط بباقي المسجونين.
وفي الغالب كانوا يأخذون من الطعام ما يكفي لبقائهم أحياء؛ أي إن أمر مراقب السجن كان صادرا ببقائهم دائما في حالة الجوع الشديد التي لا تعرضهم للموت مقابل الكمية القليلة التي يتناولونها للغذاء. أما المسجونون العاديون فلا يتناولون مقدارا منظما من الطعام، ومن المسموح لهم جلب الطعام من منازلهم. وقد حدث في كثير من الأحيان أن الحراس السلابين النهمين التهموا الجزء الأكبر من الطعام الوارد من منزل أحد المسجونين قبل إيصاله إلى غرفة المسجون. وفي أحيان أخرى كان أولئك المسجونون التعساء يحرمون من كل ما يرد إليهم من بيوتهم الخاصة عند حلول الليل.
كان السجانون يقودون المسجونين كقطيع من الغنم إلى غرفهم الحجرية التي كانت خالية من النوافذ خلوا كليا، وبالتالي كانت محرومة من الشمس والهواء النقي، ولم يكن أولئك السجانون القساة يسمعون تضرعات أو توسلات من المسجونين، فكانوا يسوقونهم ليلا إلى الغرف الحجرية شذر مذر، وفي الحقيقة كان أولئك المنكوبون يساقون إلى قبور لا فرق بينها وبين قبور الموتي سوى أن النازلين فيها أحياء أشقياء، يجور قويهم على ضعيفهم رغم كونهم في المصاب سواء. وقد كان الحراس في كثير من الأحيان يذهبون في الصباح المبكر إلى تلك الغرف السوداء المظلمة فيجدون بعض المسجونين التعساء قد ماتوا مختنقين؛ لعدم وجود ذرة من الهواء في غرفهم المغلقة من جميع نواحيها ولعدم تمتعهم بالغذاء الكافي من الناحية الأخرى.
وإنه لمن المفزع حقا أن يشاهد المرء عشرات من أولئك «الموتى في أجسام الأحياء» خارجين من كهوفهم إلى فضاء السجن كل صباح، بعد أن قضوا ليلتهم منهوكي القوى غير قادرين على النوم في ذلك الوسط المخيف المضر بالصحة.
إذا ما بزغ نور الصباح خرجوا من غرفهم الصغيرة وهم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة، واستظلوا بظل حيطان السجن، وقضوا بقية النهار في السعي إلى راحة أجسامهم من ألم الليلة السابقة، وعمدوا إلى اكتساب قوة جديدة يستطيع بها كل مسجون مواجهة ما ينتظره في يومه من أتعاب وآلام.
من المعقول جدا أن كلا من أولئك الأحياء التعساء كان يفضل الموت على تلك الحياة الشاقة المؤلمة، ولكن الواقع خلاف ذلك؛ فقد سعى كل إلى البقاء في الحياة مهما قاسى من ألم وضنك، وقد كانت دعواتهم إلى الله محصورة في إنقاذهم من الشدة التي انتابتهم. ومع أن السجن كان مزدحما ومعرضا المسجونين للاختناق، ومع أن المسجونين كانوا يلاقون من العسف أهوالا ومصائب وآلاما مبرحة؛ مع ذلك لم أسمع مدة إقامتي في السودان أن واحدا من المسجونين سعى إلى الانتحار.
وأذكر الآن تشارلس نيوفلد، الذي قضى بضع سنوات في ذلك السعير السوداني معرضا للمرض والعسف والاضطهاد؛ فقد كان من المتوقع موت هذا الرجل بين آن وآخر، ولكنه بقي على قيد الحياة بواسطة المساعدات التي وصلت إليه بواسطة خادمه الأسود الأمين الذي أحضره معه من مصر، وإلى جانب تلك المساعدة كان الأوروبيون المقيمون في أم درمان يقدمون ما يستطيعون من عون إلى هذا المسجون الأوروبي البائس.
فضل تشارلس البقاء على قيد الحياة رغم كونه كان راسفا تحت سلاسل ثقيلة حول رقبته وقدميه. ومما نذكره عنه أنه رفض في ليلة من الليالي البقاء في غرفة حجرية، وصفها بأنها «آخر مرحلة مؤدية إلى نار الجحيم»، فجوزي على تعنته هذا بالجلد بسياط السودان الموجعة، ومع ذلك تحمل آلام الجلد بصبر مدهش، فلم يشك لحظة واحدة حتى اضطر الجلادان إلى سؤاله في دهشة وذهول: «ما الذي يدعوك إلى عدم التذمر؟ وما الذي يمنعك عن طلب العفو؟» فأجابهما نيوفلد بجرأة غريبة «وقلب حديد» نالت احترام وإعجاب السجانين: «هذا التذمر وذلك الطلب الذي يذل يصدران من الآخرين، أما أنا فلن أذل نفسي بشيء من ذلك.»
بعد أن قضى هذا البائس ثلاث سنوات في السجن، خففت السلاسل التي كان يرسف فيها، ثم نقل إلى الخرطوم ولم يبق من الأغلال إلا ما كان حول الساقين، وعندما وصل إلى سجن الخرطوم أمر بتكرير وتنقية ملح البارود المعد لعمل البارود، وكان ذلك التكرير تحت مراقبة واد حامدين الله. وفي ذلك الحين تحسنت حالته كثيرا، وقد كان يمنح مكافأة شهرية ضئيلة مقابل هذا العمل، فكانت تلك المكافأة مساعدة له في الحصول على حاجاته الضرورية للحياة.
كان معمل تكرير ملح البارود مجاورا لبناء الكنيسة التابعة للإرسالية الدينية في الخرطوم، فساعد ذلك التوفيق زميلنا تشارلس على النجاة من مخالب الضنك والتعب؛ حيث كان مسموحا له (نيوفلد) بعد الانتهاء من عمل النهار الشاق المؤلم أن يقضي ليلة في حدائق كنيسة الإرسالية، وليس من شك في أن أفكاره حينئذ كانت متجهة إلى أسرته في إنجلترا، ولا ريب في أنه كان فيما بينه وبين نفسه يلعن ذلك اليوم الأسود الذي أغراه هواه فيه بترك مصر إلى السودان؛ حيث وقع في قبضة الخليفة عبد الله.
كان من العسير جدا على هذا الرجل أن يذوق الموت ويلقى حتفه دون إثم ارتكبه، وقد يكون من توفيق هذا الرجل في وقت قريب أن يجتمع بأصدقائه وأقربائه الذين تاقوا إلى رؤيته حرا طليقا من الأسر المفزع، ولئن كان من اليسير وجود العدد الكبير من الأصدقاء - الذين يريدون مساعدة تشارلس - في أوروبا، فإن الحقيقة هي أن تخلص هذا الأسير البائس من يد الخليفة العاتي لا يتم إلا بعون الله وحده.
إن قلبي ليتوجع وليكاد يتمزق حزنا وألما كلما شرعت في كتابة شيء عما يقاسيه المسجونون في سجن (سيد) أم درمان، ورغم ذلك سأذكر شيئا عن الرجل البائس الشيخ خليل، الذي أرسل من مصر ومعه رسائل خاصة إلى الخليفة عبد الله فيها بيان عن عدد أسماء الأسرى الذين سلموا في واقعة توشكى، والذين عوملوا معاملة حسنة. لم يكن الخليفة يجهلها كما أنه لم يجهل قرب الإفراج عنهم، وقد ورد في إحدى الرسائل المذكورة طلب من أولي الأمر الحربيين في مصر تسليم سيف ومداليات الجنرال غوردون للشيخ خليل؛ لأن أصحاب الشأن في مصر لم يشكوا في أن الأشياء المذكورة موجودة عند عبد الله.
كان يرافق خليلا هذا شخص مصري اسمه بشارة، فبعد أن أطلع سكرتير الخليفة الخاص على الرسائل وقرأها لعبد الله، أمر الأخير بعودة بشارة لمصر دون إجابة على الرسائل. أما خليل البائس - وهو مصري المولد - فقد قيدت يداه ورجلاه بالسلاسل الثقيلة بعد أن اتهمه الخليفة بتهمة الجاسوسية.
أسيئت معاملة خليل إلى أقصى حدود الإساءة، وحرم من الغذاء الكافي، فأصبح هزيل الجسم إلى حد لم يستطع معه القيام من الأرض. وقد بالغ معذبوه في إهانته حتى إنهم لم يسمحوا له بماء للشرب. وأخيرا نفذ قضاء الله وحكم الموت الهادئ في خليل، فتلقاه بسرور وهو على ثقة من أن موته أعظم منقذ له من آلامه المبرحة.
نتكلم الآن عن بائس آخر اسمه صالح، وهو تاجر يهودي من تونس، فقد جاء هذا البائس إلى كسلا بإذن من أبي حرجة، فلم يكد يصل إليها (كسلا) حتى صدر أمر الخليفة باعتقاله وترحيله إلى أم درمان؛ حيث ظل معذبا في السعير (السجن) لغاية كتابة هذه السطور (عام 1897)، وهو عبارة عن هيكل عظمي لا أمل له في الحياة إلا بمساعدة زملائه ورجال فرقته، الذين اضطروا إلى اعتناق الدين الإسلامي للتمكن من إيصال كميات قليلة من الطعام إلى صالح هذا.
بين المسجونين اثنان من العرب العبابدة اتهما بحمل رسائل إلى الأوروبيين في أم درمان، فاعتقلا وماتا في السجن بعد أن هلكا جوعا، فليس بدعا أن يضطرب الأوروبيون المقيمون في أم درمان إزاء سوء معاملة الخليفة معهم من ناحية غير مباشرة، ولكن من حسن الحظ اتضح أن الرسائل واردة إلى رجل قبطي من أقربائه في مصر.
كان عبد الله كثير الميل إلى الوشايات وتصديقها، ومما نرويه في هذا الصدد أن عسكر أبا كلام شيخ قبيلة جمعة الكبيرة كان مشهورا بصداقته للخليفة عبد الله ولأبيه من قبل، ولكن تلك الصداقة لم تجده شيئا عندما وصل إلى أذني الخليفة أن عسكرا هذا تكلم بشدة ضد الحالة في السودان، ففي ذلك الحين أمر عبد الله بإلقاء عسكر في السجن راسفا في الأغلال الثقيلة تأديبا له وزجرا لغيره. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل نفي إلى الرجاف وحملت زوجته «التي كانت مشهورة بجمالها الرائع» من بين ذراعي زوجها «أثناء توديعه قبل نفيه» إلى دار عبد الله لتكون واحدة من حريمه.
سبق في الفصول السابقة ذكر الشيء الكثير عن الأمير السوداني الشهير زكي طومال، وهنا نقول إنه عندما صدرت أوامر الخليفة باعتقال هذا الأمير، عومل معاملة سيئة جدا تدل على الغلظة القاسية والانتقام الشنيع؛ فقد بنيت له غرفة من الطين شبيهة بالقبر، وأغلق بابها على من فيها ولم يسمح له بشيء من الطعام على الإطلاق، وكل ما من به الخليفة هو مقدار صغير من الماء سلم له من كوة صغيرة في الغرفة الحجرية، وقد تمكن زكي طومال الشجاع من البقاء ثلاثة وعشرين يوما حيا بواسطة الماء، إلا أن الجوع أنهكه لدرجة الموت، ومع ذلك لم يشك طومال لحظة واحدة ولم يطلب عفوا من عبد الله رغم بقائه في ذلك القبر الشنيع؛ فقد كان زكي طومال من ناحيته شديد الإباء بعيدا عن التذلل، ومن الناحية الأخرى كان واثقا من عبث السعي إلى هذا العفو من رجل اشتهر بانتقامه المريع وقساوة قلبه. وقد ظل على تلك الحال إلى اليوم الرابع والعشرين من سجنه حتى حمله الموت إلى مقره الأخير، ليرتاح من قساوة معذبيه في السجن وانتقام عبد الله في الخارج.
في فجر اليوم الرابع والعشرين سمع بعض الحراس الغلاظ القلوب زفرات الموت من غرفة زكي طومال، وعندما سكن الصوت وتحقق أولئك الطغاة من موت الأمير، أسرعوا لزف البشرى إلى سيدهم عبد الله، فأمر الأخير بحمل جثة الأمير «زكي طومال» إلى الناحية القريبة من أم درمان، وهناك دفن على كومة من الخرق البالية وظهره مقابل مكة - دفن زكي على هذه الصورة يرمي إلى تحقيره بإبعاد وجهه عن القبلة - فإن الخليفة عبد الله لم يكتف بتعذيب غريمه طومال في الحياة، بل أراد مواصلة التعذيب والانتقام منه في موته بإبعاده عن مكة؛ ليحرمه من السلم والراحة في العالم الثاني.
كان عبد الله شديد الخطر على الجميع، حتى إنه لم يتأخر عن الشك في القاضي أحمد الذي يعد أقرب الملتصقين؛ به فقد اتهمه بخيانته، فأمر الحراس بإلقائه في الغرفة التي ألقوا فيها زكي طومال من قبل، وبعد يومين من سجن أحمد هذا دخل إليه في غرفته قاضيان بأمر من الخليفة، وهناك سألا زميلهما البائس أحمد عن المكان الذي خبأ فيه أمواله، فأجابهما أحمد بجرأة: «أخبرا سيدكما عبد الله الخليفة أني زهدت الدنيا، ولا أعرف مكانا أجد فيه الذهب أو الفضة.»
تحايل القاضيان كثيرا على زميلهما السابق وسعيا جهدهما في الوصول إلى معرفة المكان الذي يوجد فيه ماله، وعندما فشلا عادا أدراجهما مطأطأي الرأسين إلى الخليفة، وقد كان ذلك الأمر كله قبل مغادرتي أم درمان ببضعة أيام. وقد تأكدت عقب رجوعي إلى مصر أن القاضي أحمد توفي بعد أيام في سجنه على الصورة التي توفي بها زكي طومال.
إن المرء يستطيع ملء مجلد كامل بفظائع وقسوة الخليفة ضد المسجونين في السعير (السجن)، ولكن من العبث إتعاب القارئ بذكر فظائع وحشية ارتكبت بأمر هذا الظالم المستبد الغليظ القلب عبد الله.
الفصل السابع عشر
وسائل النجاة
كنت أرمي من وراء بقائي إلى جانب الخليفة عبد الله والتصاقي به إلى غرض مزدوج الفائدة؛ فقد رغبت في تعرف طباعه من ناحية، ومن تعرف أحوال السودان من الناحية الأخرى بطريقة تكاد تكون رسمية. أما الخليفة عبد الله نفسه فكان بتقريبه إياي يقصد شيئين متقاربين، ويرمي إلى فائدتين؛ فقد كان على ثقة من أني الموظف المصري الأجنبي الوحيد الملم بشئون السودان إلماما كليا دقيقا، وأني جئت البلاد السودانية ودرستها وأصبحت على معرفة كاملة بلغة التخاطب الداخلية، وسأذكر الغرض الثاني بعد قليل.
كان عبد الله على جهل فاضح بالشئون السياسية، وقد ذهب به فكره إلى أن خروجي من السودان خطر داهم عليه هو شخصيا؛ لأني إذا وفقت إلى النجاة، فمعنى ذلك أني أتمكن بسرعة من إغراء الحكومة المصرية أو أي حكومة أجنبية عن السودان إلى دخول تلك البلاد، وإسقاط نفوذ عبد الله، وفي ذلك الحين أتمكن من إيجاد صلة متينة ورابطة وثيقة بين الحكومة الجديدة وبين أفراد وزعماء القبائل الذين يكرهون حكم عبد الله أشد كراهة؛ وإذن ينتهي الأمر إلى إنشاء حكومة نظامية في السودان.
قلت إن غرض عبد الله الأول من بقائي هو إلمامي بشئون السودان، أما الغرض الثاني فيرجع إلى نزعة نفسية؛ فقد رغب عبد الله في إرضاء كبريائه باستخدام الرجل الذي كان فيما مضى حاكم إقليم دارفور بأكمله وحاكم قبيلته. ففي استخدام الرجل الذي تمتع فيما مضى بهذه السلطة، يعد عظمة لعبد الله في عيون السودانيين، خصوصا إذا بقي الرجل المذكور (مؤلف الكتاب) كأسير بين يدي الخليفة. ومن المدهش أن عبد الله لم يتأخر لحظة واحدة عن الظهور بهذه العظمة الكاذبة، فكان بين آن وآخر يقول لرجال القبائل الغربية: «انظروا هذا الرجل الذي كان فيما مضى سيدنا وحاكم قبيلتنا، والذي قاسينا الآلام تحت حكمه الجائر، انظروا إليه اليوم تجدوه خادمي وسامع أوامري والملتزم تنفيذ ما أشير به إليه في أية لحظة، انظروا إلى الرجل الذي انغمس في بحر الشهوات وكان منقادا وراء تيار المعاصي تجدوه اليوم لابسا جبته القذرة وسائرا حافي القدمين، فلا ريب إذن في أن الله رءوف رحيم.»
كان عبد الله كثير الحذر والخوف مني، ولم يعن كثيرا بغيري من الأسرى الأوروبيين الذين عاشوا عيشة بسيطة قوامها الاتجار في المواد المختلفة في حي قريب من ميدان سوق أم درمان؛ حيث بنوا غرفا خاصة لتجارتهم ظلوا فيها آمنين لا يعكر صفوهم أي تدخل من الأهالي.
كان الأب أوهروالدر نساجا يعيش هو وأهله مما يكسبه من نسج القطن، وعاش الأب روزينولي وبيوروجنتو - وكلاهما من طائفة الإرسالية الدينية المسيحية - بياعين للساعات في الدائرة المركزية للسوق، وقد عاشت السيدات الأوروبيات إلى جانب أولئك الأوروبيين حتى نجون معهم وقت تدبير الهرب، مع استثناء الأخت تريزة جويجولتي.
يتبقى بعد ذلك جوست جويزي أحد الكتاب الأجانب، ثم طائفة أخرى من اليونانيين والسوريين والمسيحيين والأقباط، ويبلغ مجموع أولئك خمسة وأربعين، رجالا ونساء، تزوجوا وتزوجن من مسيحيين ولدوا في السودان أو مصريين ومصريات.
تسمى المنطقة الداخلية لأولئك المسيحيين المسلمانية - تطلق على المتناسلين من غير المسلمين بوجه عام، وقد أطلقها أتباع المهدي على كل من لم يدينوا بالإسلام - وقد اشتغل أولئك بأمورهم وانتخبوا من بينهم أميرا ائتمروا بإرشاداته وأوامره. وقد كان ذلك الرئيس المسيحي مسئولا لدى الخليفة عن كل ما يجري في دائرته، وعن كل شخص غير مسلم في أم درمان. واسم الأمير الحالي (في عام 1896) نيكولا، وهو رجل يوناني يطلق عليه السودانيون اسما عربيا مماثلا لاسم الخليفة عبد الله. ومهما يكن الأمر فلم يكن مسموحا لأي شخص من أولئك المسيحيين بمغادرة أم درمان، وقد كان مفروضا عليهم أن يضمن الواحد منهم الآخر، ومن نتائج ذلك أنه عندما سافر الأب روزينولي صدرت الأوامر بإلقاء زميله وضامنه بيبو في السعير (السجن). وقد زادت المراقبة واشتد الاضطهاد على أولئك المنكوبين بعد فرار الأب أوهروالدر؛ فقد أنشأ الخليفة خصوصا مكانا حصينا لحجزهم فيه من الناحية الشمالية الشرقية من المسجد الكبير؛ حيث كان مفروضا عليهم أن يحضروا الصلوات الخمس يوميا، وقد كان الخليفة عبد الله داهية في ذلك الأمر، فإنه أمر بأن يذهب الشخص من أولئك - غير المسلمين عامة والأوروبيين بصفة خاصة - مرة في اليوم للمسجد، وعين للإحصاء مراقبا يقدم بعد نهاية الصلوات الخمس يوميا تقريرا إلى عبد الله، يتمكن بواسطته من معرفة المتغيب، وإذ ذاك يرتاح ضميره لأنه يثق من بقاء جميع أولئك المحجوزين في ناحيتهم الجديدة.
كانت مساكنهم الصغيرة متلاصقة، وتبعا لذلك كان من اليسير جدا اتصال الواحد بالآخر، مما خفف عنهم آلام الوحشة والاضطهاد. أما أطفال أولئك الأشخاص وأولادهم الصغار، فكانوا ملزمين بالبقاء في التكايا السودانية حيث يتعلمون القرآن.
قد وصفت فيما مضى كيفية سكني وما أحاط به في الحياة السودانية، وبقي علي أن أضيف لما تقدم أنه كان مسموحا لي أن أتكلم مع قلائل من الحرس الخاص الذين كانوا - مثلي - إما تحت الرقابة وإما - وهذا خلافي طبعا - كجواسيس للخليفة، يراقبون الأجانب ويكتبون التقارير الوافية عن أقوالهم وحركاتهم، ثم يرفعونها كل مساء إلى دار الخليفة. أما دخول المدينة (أم درمان) فكان غير مسموح به إلا في النادر، هذا إلى أني منعت منعا كليا من زيارة المنازل أو زيارة الناس لبيتي الصغير.
ومما أرويه عن ميول الخليفة الشخصية، أنه كان مولعا جدا بالساعات الصغيرة وساعات الحائط على اختلاف حجومها، وقد وضع علي الخليفة - فيما وضع من مهمات - مهمة تنظيف الساعات الكبيرة وإصلاح ثلاث ساعات للجيب يتناوب حملها. وقد تمكنت بواسطة هذه المهمة من زيارة ساعاتي أرمني يدعى أرتين بدعوى أن ساعة من ساعات الحائط في دار الخليفة تحتاج إلى الإصلاح.
كان بيت الخليفة عبد الله قائما على مقربة من ميدان سوق أم درمان؛ حيث كنت أتقابل بين حين وآخر مع أفراد مخصوصين كنت أرغب رغبة صادقة في مقابلتهم والتحدث معهم. أما فيما يختص بموقفي مع أرتين بائع الساعات، فلم أكن أثق فيه على الإطلاق، وكل ما دعاني إلى التوجه إليه في أوقات مختلفة هو نزوعي إلى الالتقاء بالأشخاص المعينين، ولئن اضطررت إلى الكلام معهم فلم يكن أرتين يسمع ما يدور بيننا من حديث.
كان أغلب وقتي مقضيا في الفسحة الكبرى المواجهة لدار الخليفة حيث يتلى القرآن، ولم يكن مسموحا على الإطلاق كتابة أي شيء؛ لأن عبد الله كان يرى من العار أن أعمل شيئا أو أتعلم جديدا لم يكن هو يعرف عنه قليلا ولا كثيرا. ورغم ما أبداه عبد الله من حذر وريبة، كان يضطر إلى دعوتي لاصطحابه في المسجد الكبير أو في بعض الرحلات الداخلية الخاصة، وكانت وظيفتي معه شبيهة بوظيفة مستشار حاكم الدولة. وإزاء أتعابي هذه كلها لم أكن ممن يتناولون مرتبا من الدولة، فكنت تبعا لذلك على خفض من العيش؛ فكان طعامي عاديا جدبا يتكون غالبا من العصيدة والبقول الحقيرة. وفي يوم أو يومين من الأسبوع كنت أتناول قطعة صغيرة من اللحم بعد شرائها خصوصا من السوق.
تأكد عبد الله رغبتي في الحرية وتطلعي إلى الفرار من قيد الأسر. ورغم ما بذلته لتحويله عن ذلك الفكر، لم أستطع نفي ما في مخيلته من شكوك وريب، وفي الوقت نفسه كان يخشاني ويتملقني؛ فقد وهب لي الكثير من العبيد، وعرض علي الزواج من بنات أسرته، واجتهد في تقديم هدايا كثيرة لي ليحول بيني وبين الفرار بطرق لطيفة، ولكني أصررت على الرفض إباء، فزاد ذلك مخاوفه وشكوكه، وتأكد أني أتطلع لأول فرصة أتمكن فيها من مغادرة أم درمان إلى الخارج، وفي ذلك العمل خطر عظيم عليه خاصة وعلى بلاده عامة.
بعد سقوط الخرطوم سعى أفراد أسرتي في أوروبا جهدهم للوصول إلى معرفة أخباري الوثيقة، ولكنهم تأكدوا أن الظهور بهذا المظهر خطر داهم علي إزاء عسف الخليفة وشكوكه.
لم يدخر فون جسلر - قنصل النمسا والمجر في القطر المصري - جهدا في استقصاء أخباري. وقد وجد هذا الشخص الكبير المقام تعضيدا ظاهرا من جانب الضباط الملحقين بالجيش المصري وغيرهم من الموظفين. ومما أذكره عن أولئك الأخيرين أنهم كانوا الواسطة في وصول الأخبار إلى أفراد أسرتي عن طريق حاكم سواكن عام 1888، فإني شخصيا لم أكن أستطيع إيصالها إلى الضباط؛ لأني - كما قلت في الصفحات السابقة - كنت محروما من الاختلاط بأي شخص أجنبي والتزاور مع أي موظف رسمي.
مما تقدم يقف القارئ على مقدار فزع الخليفة وسوء ظنه، وقد زاد ذلك الريب وصول خطاب من الهرفون روستي - الذي خلف الهرفون جسلر في القنصلية النمساوية في القطر المصري - إلى الخليفة يطلب منه فيه التصريح بقبول قسيس يعظ الرعايا النمسويين المقيمين في السودان. وأظن أن أكبر ما أثر في الخليفة وحول وجهته ضدي هو ورود خطاب من القنصل النمساوي يستعلم فيه عن الحالة في السودان. ومن المدهش أن الخليفة عبد الله استطاع كظم غيظه، فطلب مني كتابة بيان عن الموقف الأخير في أم درمان خاصة والسودان عامة. وبطبيعة الحال لم يبال الخليفة بخطاب الهرفون روستي، وكل ما عني به هو اتهامي بالخيانة من ناحية، والكذب من الناحية الأخرى؛ لأني كنت أخبرته قبلا أن جميع الرعايا الأوروبيين في السودان من الإيطاليين مع استثناء الأب أوهروالدر النمساوي، فقد جاء طلب القنصل النمساوي مخطئا ومكذبا لبياني، ومن الحق لم أرم من وراء ادعائي أن الأجانب في أم درمان جميعهم غير نمساويين إلا إلى شيء واحد؛ هو الخوف مما قد يحيق بهم من سوء عبد الله في حالة غضبه على شخصي، فقد يخيل إليه في اليوم الذي يريد فيه الاقتصاص مني أن يهلك جميع الأوروبيين لانتمائهم إلى الجنسية التي أنتمي إليها، في حين أني كنت أسعى جهدي لحملهم على النجاة.
كان الخطاب الواردة من الهر روستي ضربة قاضية على جميع تدبيراتي التي قمت بها لصالح إخواني، ومع ذلك سعيت إلى إقناع الخليفة بأن الغرض من كتاب روستي هو ضم جميع الأوروبيين المقيمين في السودان تحت الشعار النمسوي، ولكني عبثا حاولت إقناعه؛ فقد عمد إلى مواجهتي بعد أن كان مكتوما من قبل، ثم اتهمني بالكذب الصريح ومحاولة غشه.
وضع أفراد أسرتي مقدارا من المال تحت تصرف قنصل النمسا الجنرال ليستعمله وقت الحاجة لمساعدتي، وقد تمكنوا من إيصال مقادير مالية مختلفة لي بواسطة العرب، وذلك بعد التسهيلات الشديدة التي تفضل بها علي كثيرون من الضباط الملحقين بالجيش المصري مع سعادة الماجور ونجت مدير الإدارة الحربية، ولا أنسى في هذا الصدد أن أقول للقراء بأني في كثير من الأحيان كنت أستلم مقادير أقل من المذكورة في الرسائل التي سلمها إلي أولئك العرب، ولكني كنت مضطرا إلى تقرير حصولي على المبالغ كاملة. ومهما يكن الأمر فقد كنت شاكرا لمن أرسلوا لي المال بمقدار شكري لمن أوصلوه إلى يدي؛ لأن الأخيرين ساعدونا مساعدة كبرى في حمل رسائل وتقارير سرية إلى أفراد أسرتي دون وصول الجواسيس إليها.
كنت شديد الحيطة في صرف المبالغ؛ فقد اجتهدت في الظهور بمظهر البائس الذي لا يجد ما ينفقه حتى لا تتطرق الريبة إلى نفوس العسس، وحتى لا يقف الخليفة على حقيقة أولئك الأعراب الذين تفضلوا بمساعدتي، وتبعا لذلك عشت أبسط عيشة ودفعت ما وفرته لأصدقائي المعوزين.
وثق أصدقائي المقيمون في القاهرة - بعد أن حرمني الخليفة من أي اتصال بالخارج - أنه من المستحيل عليهم العمل على إنقاذي؛ ولذلك فكروا مليا في الطريقة التي أتمكن بها عند سنوح الفرصة من الفرار والنجاة من عسف عبد الله. وفي الحق كنت عارفا من اللحظة الأولى التي وقعت فيها في الأسر أن نجاتي لا تتم إلا بواسطة الفرار في الفرصة المناسبة. وعلى الرغم من قضاء اثنتي عشرة سنة في عذاب وتحت نير الاضطهاد، لم يذهب الأمل لحظة واحدة من خاطري؛ فقد كنت على ثقة من الفوز بأمنيتي في النهاية بعد صبري العجيب.
قضيت السنين ولم يعلم إنسان حقيقة ما في نفسي وما اعتزمت تنفيذه، ولكني ذكرت عرضا عرض لإبراهيم عدلان، وقد وعدني الأخير وعدا صادقا بأنه سيبذل أقصى ما في وسعه لإنقاذي.
ولكن من سوء الحظ قد وقع غضب الخليفة على إبراهيم عدلان هذا بعد أيام من وعده الشريف، فنفي من أم درمان وخسرت أنا بذلك النفي صديقا مخلصا وحاميا شجاعا نبيلا.
عندما مات إبراهيم عدلان أفضيت بسري إلى شخصين أثق ثقة كلية في أمانتهما وقدرتهما على كتمان السر، ورغم كوني على ثقة - بالنسبة إلى ميلهما لي من ناحية وإلى كراهيتهما الشديدة للخليفة من الناحية الأخرى - من رغبتهما الشديدة في تخليصي من قبضة عبد الله، لم أوفق في سعيي ولم تصل مفاوضتي معهما إلى نتيجة، ولم يكن ذلك لقلة وجود المال الكافي لإنقاذي واستعماله في هروبي، وإنما يرجع إلى خوف ذينك الشخصين من افتضاح أمرهما وظهور اسميهما بعد فراري. وبما أنهما صاحبا عائلتين في السودان، فلم يكونا يرتابان في أن العمل الوحيد الذي يعمله الخليفة اقتصاصا منهما هو نفيهما، ثم حمل زوجة كل منهما إلى دار حرم عبد الله ، ثم تشريد أولاد كل من الرجلين؛ وهذا بلا ريب قصاص فظيع وعقاب لا تحتمله النفس .
في الوقت نفسه لم يكن أفراد أسرتي ساكتين، بل كانوا يدبرون كل الوسائل الممكنة لإنقاذي، ودعاهم حبهم إياي إلى بذل كل ما يستطيعون من عون وتعضيد. وبما أنهم كانوا على جهل كلي بما يجري في السودان، وعاجزين عجزا مطلقا عن مد أيدي المساعدة من فينا إلي في أم درمان؛ لم تكن أمامهم وسيلة سوى دفع قيم مالية تستخدم لحسابي عند قنصل النمسا في مصر، وقد كانت تصدر إلى الأخير تعليمات من وزير خارجية النمسا باستعمال الأموال المذكورة على أحسن صورة ممكنة لإنقاذي. وإنه لمن الواجب علي أن أذكر بالثناء البارون هدلر فون أجبرج - سفير النمسا المفوض في إحدى دول أوروبا الآن عام 1895، والذي كان فيما مضى قنصلا للنمسا في مصر - فقد سعى جهده لإنقاذي في الفرصة الملائمة، وبطبيعة الحال لم يكن من الحكمة التوصل لمساعدتي بواسطة أي شخص، فأمر الهروب خطير يستدعي الاستناد إلى الوثوق منهم ثقة تامة؛ ولذلك عمد القنصل النمساوي إلى اختيار أفراد مؤتمنين يسعون لي من جانب موظفي الحكومة، فانتدب القنصل لهذا الغرض الكولونل شيفر بك، وبعد مدة غير كبيرة استعان بالماجور ونجت، الذي أظهر في ظروف كثيرة عطفا كبيرا. ولا ريب في أني مدين بحريتي لكل من الماجور ونجت والبارون هولر؛ فبدونهما لم يكن ميسورا الحصول على أشخاص أمناء من العرب يوصلون إلي المقادير المختلفة من المال، وسأظل طول حياتي شاكرا لذينك الرجلين الكبيرين جهودهما المتواصلة في سبيل نجاح مسعاهما وتسهيل أمر الفرار على شخصي العاجز أمام الخليفة الشديد السطوة. ومع أن الجميع فشلوا في مساعيهم، وبدا منهم لمساعدتي ما أدخل الريبة في قلب الخليفة وفي قلوب جواسيسه المنتشرين حوله؛ فإني لا أزال أذكر تلك المهارة الفائقة التي بدت من جانبي الرجلين الفاضلين الأخيرين، حتى إن عبد الله لم يدر في خلده حولهما أي شك.
في الأيام الأولى من شهر فبراير عام 1892، وصل إلى أم درمان من مصر الشيخ بكار أبو زبيبة، رئيس فرقة جمال دنقلة، وقد كان هذا الرجل من العرب العبابدة، فلم تكد تطأ قدماه أرض السودان حتى أحضر أمام الخليفة، وهناك قال لمولاه إنه فر من مصر وقدم عن طريق أسوان طالبا عفو الخليفة والسماح له بالإقامة في بربر. وقد سهل له مهمته هذه جملة خطابات توصية إلى زكي عثمان أمير بربر، ولم يكد هذا الرجل يمر في ساحة المسجد الكبير ويلتقي بي حتى أسر لي في أذني: «إني أتيت لمساعدتك فاجتهد في مقابلتي.» فأجبته: «إن المقابلة تكون غدا بعد صلاة المغرب في هذا المسجد.» وبعد النهاية من جوابي اختفى عن نظري. وعلى الرغم من وثوقي في النجاة وارتياح ضميري إلى أني سأنجو يوما من ذلك العش، فإني لم أكن شديد الإيمان بذلك القول الأخير؛ لأني اختبرت أقوال السودانيين والعرب فوجدتهما في غالبيتها وعودا كاذبة وأقوالا لا ترمي لغير تبرير موقف قائلها وقت وقوفه أمامي، وتبعا لذلك قضيت اليوم التالي كما أقضي كل يوم عادي، فلم أفكر في المقابلة أو نتيجتها؛ لأني لم أكن آمل تحقيقها، وفي حين حدوثها لم يكن يذهب بالي إلى أن نجاتي ستتحقق بعدها مباشرة.
بعد الانتهاء من صلاة المغرب في اليوم التالي، مر بكار في طريقه إلى الخارج بباب المسجد الذي تقابلنا فيه اليوم السابق، فتبعته بحذر شديد، ثم دخلنا معا إلى القسم المحجوب عن الأنظار من بناء المسجد. وعندما غابت عنا عيون الناس وبعدت عن مجلسنا آذان السامعين، سلمني بكار صندوقا من الصفيح يبدو من رائحته أنه يحتوي على كمية من البن، وقد قال لي صاحبي العربي: «لهذا الصندوق قاع مزدوج فافتحه واقرأ الأوراق الموجودة في آخر القاع الثاني، وسأقابلك هنا غدا في الباب نفسه.»
أخفيت الصندوق تحت عباءتي، ثم رجعت إلى مكاني، وكان مقدرا لي أن أتناول العشاء في تلك الليلة مع الخليفة، فارتجف قلبي عندما سمعت تلك الدعوة؛ لأني كنت أحمل صندوقا كبير الحجم إلى حد ما بحيث يمكن ظهوره تحت ملابسي بكيفية بارزة، ومن سوء الترتيب أني وضعت أمام الذي كان يحدق في طول وقت العشاء، ولكن من حسن حظي - إلى جانب ذلك - أن الخليفة كان شديد التعب طول يومه فدار كلامه حول مواضيع عامة، وهذا كله لا يمنع استمرار ريبته وعدم تردده في إنزال العقاب الصارم بي وقت سنوح الفرصة، إلا أني لم أتردد في كل مرة أقابله فيها في إظهار ولائي وإخلاصي له، وبطبيعة الحال كررت ذلك في ليلة العشاء، ومن الغريب أني استطعت بعد أخذ قطع صغيرة من اللحم وكمية من الذرة المسلوقة ادعاء المرض، فأذن لي الخليفة بالانصراف إلى حيث أقضي ليلتي كل يوم، فأسرعت إلى المنزل وهناك أشعلت المصباح الزيتي الصغير وفتحت الصندوق بمديتي، فوجدت ورقة صغيرة كتب عليها بالفرنسية الكلمات الآتية:
بكار واد أبو زبيبة رجل مخلص أمين.
الإمضاء
الكولونيل شيفر
جعلنا (أنا وأحمد) نتساءل عما أصاب الرجال المرسلين لإنقاذنا، وأغلب ما اتجه إليه ظن كل منا هو أن الدراويش قابلوهم فقبضوا عليهم بعد أن شكوا في أمرهم وارتابوا، ومهما يكن الأمر فقد وصلنا إلى حيث كنا ممتلئين مخاوف وآلاما مبرحة، وعندما فارقت أحمد عند ساحة الاستعراض طلبت منه أن يخبرني في المساء عما يحدث، وفي الوقت نفسه أكدت له أني مستعد لمحاولة الفرار في أية لحظة.
لم يكد يبدو السحر حتى وصلت إلى كوخي الذي تركته منذ ساعات قليلة، وأظن أنه من الخير أن أترك للقارئ تصور شعوري وحالتي بدلا من السعي إلى وصفها، فهذا الوصف مما لا أستطيعه ومن حسن الحظ أني وصلت قبل قدوم أحد الضباط - واسمه عبد الكريم - برسالة من الخليفة يسألني فيها عن سبب تغيبي عن صلاة الفجر، فأجبته بأني كنت مريضا، وفي الحق كانت ملامحي كافية لإغراء الضابط بوقوعي في قبضة المرض الموجع.
عبثا انتظرت الأخبار من أحمد في ذلك المساء، ولم أعلم منه إلا بعد يومين عن العرب الذين كانوا معينين لإنقاذي، فقد رأى أولئك أنه من العسير جدا تخليصي من الأسر، ومن المجازفة الخطيرة التقدم لإنقاذي، فعمدوا إلى الرجوع من حيث أتوا وعدم الوفاء بوعدهم ، وإذن عجزنا عن تنفيذ خطتنا، وقد حمدنا الله حمدا عظيما إزاء منه علينا بالرجوع إلى أماكننا دون مراقبة أحد، ودون وقوف الخليفة وجواسيسه على سر تغيبنا في الساعات القلائل المذكورة سالفا.
بعد أن رجعت سالما لمكاني في أم درمان كتبت إلى صديقي في مصر شارحا لهما كل ما وقع لي، فلم يقنطا واستمرا في تدبير وسائل المساعدة، وهنا اتجهت أنظارهما إلى الأب أوهروالدر، الذي عندما كان في مسينا زار أفراد أسرتي وأخذ منهم أقراصا من الأثير تقوي الإنسان على احتمال السفر الطويل وتطرد النوم عن المرء، وقد جهز الأقراص المذكورة أوتو كارشياري وبعد إعدادها وصلت لي كاملة آمنة، وقد وضعت تلك الأقراص في زجاجة صغيرة تمكنت من دفنها بعناية تحت التراب في بقعة لا يعرفها أحد غيري.
أصبحت واثقا الثقة كلها في عبد الرحمن واد هارون الذي أرسلته إلى مصر برسالة إلى البارون هدلر، ليعين له (عبد الرحمن) الوسائل التي يراها نافعة ومثمرة في طريق فراري، وقد تم للمرة الثانية اتفاق بين السفارة النمساوية في مصر وبين هذا التاجر - وقد تدخل في هذا الاتفاق الماجور ونجت وملحم بك شقير ونعوم أفندي شقير - على أن يأخذ عبد الرحمن ألف جنيه. تعطى المكافأة (1000 جنيه) لعبد الرحمن في حالة واحدة؛ هي وصولي إلى القطر المصري سالما، وقد سلمت السفارة النمساوية هذا الرجل مائتي جنيه لإعداد الأشياء اللازمة قبل الشروع في الفرار.
في ذلك الوقت عين الماجور ونجت حاكما لسواكن، وقد خشي عدم نجاح عبد الرحمن، فأجرى اتفاقا شبيها بالسالف مع رجل عربي اسمه الشيخ كرار، وكان المتفق عليه معه السعي إلى الفرار بي عن طريق طوكر أو كسلا.
في يوم من الأيام سلمني تاجر في أم درمان - قدم ذلك التاجر من سواكن - ورقة كتب عليها ما يأتي:
مرسل إليكم الشيخ كرار الذي سيسلمك بعض إبر الخياطة كدليل على أن الذي يكلمك هو الشيخ، وتأكد أنه رجل أمين وشجاع، فثق فيه ثقة تامة وتقبل أصدق التحيات من ونجت.
الإمضاء
أوهروالدر
عرفت بعد ذلك بقليل من أحد أقرباء عبد الرحمن واد هارون أن الأخير وصل إلى بربر من مصر، وأنه بدأ يجري المعدات اللازمة لفراري، ولكنه اعتزم - في سبيل إبعاد الريب والشكوك عني - عدم العودة إلى أم درمان، فكان هذا القرار من جانبه سبب كدر لي.
بدأ اليوم الأول من شهر يناير عام 1895 بعد أن قضيت سنوات شدة واضطهاد إلى جانب عبد الله المستبد الظالم، فهل يمر ذلك العام كما مر أسلافه؟ وهل نأمل في خير جديد نحصل عليه في عامنا الجديد؟
على أية حال، كنت في مستهل ذلك العام شديد الثقة، وقد جال بخاطري هاتف يناديني بقرب الإفراج عني من ذلك الأسر، فكان قلبي يحدثني بأن أصدقائي المخلصين الكثيرين في الخارج سيوفقون لا محالة إلى إنقاذي، وأنهم سيكسرون أغلال الأسر ويمكنونني بفضلهم وكرمهم من مشاهدة أفراد أسرتي مرة أخرى على الأقل قبل موتي، وأني سأنعم بالعودة إلى الوطن ومشاهدة رفاق الصبا وأماكن سروري القديم.
في ليلة من ليالي النصف الأول من شهر يناير عام 1895، مر بي في الشارع شخص لم تقع عليه عيناي من قبل، وقد أشار لي هذا الرجل إشارة فهمت منها أنه يقصد سيري حيث يسير، فخشيت أن يكون جاسوسا، فأظهرت له علامة التذمر والاستياء، فأجابني بعد ذلك: «إني الرجل الذي يحمل الإبر الصغيرة.» فلم أكد أسمع ذلك حتى عمني البشر والسرور، فقدت الرجل إلى زاوية مظلمة صغيرة مجاورة لكوخي، وهناك رجوته أن يسرع في شرح مهمته لي، فبدأ بتقديم ثلاث إبر صغيرة وورقة صغيرة، ثم قال لي بعد ذلك: «إن الفرار مستحيل في الوقت الحالي.» وأضاف إلى ذلك قوله: «قد أتيت بعد أن اعتزمت عزما أكيدا حملك معي إلى كسلا، ولكن الفرار إلى تلك الناحية أصبح في الوقت الحالي عسيرا؛ بعد إنشاء محطات حربية في كل من الفاشر وأسوبري وخور رجب والعطبرة المتصلة بعضها ببعض اتصالا مباشرا إلى كسلا.» وزاد على ذلك قوله بأن أحد جماله قد مات، وأنه خسر كثيرا من ماله بالنظر إلى كساد الشئون التجارية؛ وإذن ليست لديه وسائل كافية لإنقاذي في الوقت الحالي، وتبعا لذلك طلب مني أن أعطيه خطابا للماجور ونجت أسأله فيه تسليمه (الرجل المذكور) مقدارا جديدا من المال، وقد وعدني هذا الشخص وعدا أكيدا بأنه سيرجع إلي في بحر شهرين.
أما أنا شخصيا فقد وثقت أن الرجل لن يسمح بتعريض حياته للخطر في سبيل إنقاذي، وبما أنه أخبرني بعزمه الأكيد على السفر وعدم تمكنه من التأخير، طلبت منه بإلحاح أن يقابلني في المسجد الكبير مساء اليوم التالي، وعندئذ افترقنا، فرجعت إلى مكاني العادي عند باب الخليفة.
أما الورقة التي سلمها إلي الرجل من سواكن فتحتوي على توصية ومدح فيه (الرجل) من الأب أوهروالدر، وقد أجبت على هذه الورقة إجابة مختصرة شرحت فيها كل ما وقع لي. وعندما تقابلنا في الليلة التالية سلمت شيخنا هذا خطابي، فأسرع في ضمه إلى جيبه أملا منه أن فيه ما يضمن له الحصول على مقدار جديد من المال حسب طلبه، وفي الحق كنت شديد الفزع كثير القنوط. وعلى هذه الحالة عدت إلى منزلي حيث مررت فجأة بمحمد ابن عم صديقي عبد الرحمن، وكأنما قدرت الاتفاقات أن يسير إلى جانبي في تلك اللحظة حيث همس في أذني «نحن على استعداد»، وأضاف إلى ذلك «اشترينا الجمال وأحضرنا المرشدين في الطريق، والوقت المعد لنجاتك هو الربع الأخير من القمر في الشهر القادم، فكن مستعدا.» ولم يضف إلى ذلك شيئا، وقد شعرت هذه المرة شعورا صادقا بأنه من الواجب الابتعاد عن اليأس الذي يتخلل الأمل في فترات مختلفة.
قبل أن ينتهي شهر يناير من عام 1895 وصل إلى أم درمان حسين واد محمود مزودا بتعليمات وتوصيات البارون هيدلر والماجور ونجت، وقد أخبرني هذا الرجل العربي الجديد أنه على أهبة الاستعداد لحملي على الفرار، وقد رجاني حسين هذا أن أكتب لأصحاب الشأن في مصر بحقيقة ما عمله «حسين»، وأن يحمل ما أكتبه إلى مصر أحد أشقاء حسين أثناء رحيله للقطر المصري. وبما أني كنت مقيدا باتفاقي مع عبد الرحمن، اضطررت إلى الانتظار للوقوف على ما يعمله لعله يوفق إلى النجاح، ففي حالة فشل مساعيه (عبد الرحمن) عولت على الاستناد إلى حسين هذا، وحتى لا أصدم الأخير - بدلا من تقديم الشكر له على الأقل - أخبرته بأني في الوقت الحالي أرى صحتي غير قادرة على موالاة رحلة كبيرة، وأني سأخبره بعزمي النهائي في آخر شهر فبراير، وفي الوقت نفسه أعطيته خطابا لأصدقائي في مصر ذكرت لهم عامة ولهيدلر خاصة بأني عولت على الفرار مع عبد الرحمن، متمنيا في سعيي هذا توفيقا تاما، وفي حالة فشلي - وقد دعوت الله الرحمن أن يحول دون هذا الفشل - لا أجد غير «حسين» وسيلة لفراري. وإني لا أكتم القارئ حقيقة ما دار في نفسي بعد أن كثر عارفو سري والواقفون على رغبتي؛ فقد خشيت أن يفتضح السر عند الخليفة، وإذ ذاك تنزل علي صواعق عسفه وغضبه، فإني لم أكن أتردد لحظة واحدة في الثقة بأن الخليفة في حالة ريبة جزئية وشك بسيط في مسعاي سيقدمني إلى أشق صنوف الموت بعد أن يلقيني في السعير (السجن)، وبطبيعة الحال كان عبد الله يتلمس أي ظرف للفتك بي؛ لأنه كان فيما بينه وبين نفسه يخافني كثيرا.
أخبرني محمد يوم الأحد 17 فبراير سنة 1895 في كلماته القليلة، أن الجمال المعدة للفرار ستصل في اليوم التالي، على أن تستريح من تعبها يومين، وفي ليل 20 فبراير نتمم مشروعنا الخطير. وزاد على ذلك أنه في مساء الثلاثاء 19 فبراير سيشير إلي إشارة أفهم منها أن كل شيء قد انتهى على أحسن صورة، وأدركت أنا سنقوم بالرحلة الطويلة الشاقة التي تحتاج إلى صبر طويل وعزم ثابت.
ظللت أنتظر بأمل وخوف؛ فالأمل يدفعني إليه ما قضيته من أعوام طوال في عيش مرير قد ينتهي بعد يومين إلى حرية مطلقة، وأما الخوف فمما قد يعترضنا في سبيلنا. وعلى أية حال كنت شديد الشوق إلى مساء الثلاثاء حتى جاء ذلك الليل والتقيت بمحمد على باب المسجد الكبير؛ حيث همس في أذني بسرعة داعيا إلى الاستعداد للسفر، ثم افترقنا على أن نتقابل الليلة القادمة.
إني أعترف للقراء أني قضيت القسم الأكبر من تلك الليلة في حالة اضطراب شديد؛ فكنت بين آن وآخر أقول: «هل يفشل ذلك التدبير كسابقه؟» وما زلت أردد القول: «هل يعترض سبيلنا حادث غير منظور يقضي على كل ما لدي من آمال؟» وإزاء ذلك الاضطراب الفكري، لم أستطع النوم لحظة واحدة حتى بدا الفجر، فمن شدة التعب أغرقت في النوم العميق ساعتين أو ثلاث ساعات، تمنيت بعدها أن أكون في نشاط يمكنني من الابتداء في رحلتي الخطيرة.
حان صبح اليوم التالي الذي كان معدا لعملنا الخطير، فبدأت في تنفيذ المشروع بالحيلة الوحيدة المعقولة؛ وهي ادعاء المرض، فوقفت لدى باب الخليفة، وهناك ظهرت بمظهر الضعيف المريض وطلبت من رئيس ضباط حرس عبد الله السماح لي بالتغيب عن صلاة الفجر في يومنا هذا، بعد أن أخبرت هذا الضابط المذكور أني تناولت مقدارا من الشاي والتمر الهندي لتخفيف ما بي من ألم، على أن أبقى هادئا في منزلي في اليوم التالي. وقد حمدت الله لأني تمكنت من الحصول على الإذن بالتغيب عن الصلاة، وزيادة على ذلك وعد عبد الكريم بأنه سيعتذر عني لدى الخليفة في حالة سؤال الأخير عن تغيبي. ولم أكن في شك من أن الخليفة عندما لا يراني في صلاة الفجر سيسأل عني بطريقة ماكرة، يريد بواسطتها الوقوف على حقيقة عملي والتثبيت من وجودي في المنزل، إلا أنه سيدعي طلب الاستفسار عن صحتي بإرسال من يراني من قبله، وإذن فالمسألة خطيرة. ومهما يكن الأمر فلم تكن أمامي أية وسيلة خلاف هذه للاعتذار عن الامتناع عن صلاة الفجر.
قبل غروب شمس ذلك اليوم جمعت خدمي، وبعد أن أقسم أولئك على الاحتفاظ بالسر وعلى عدم ذكر ما أقوله لهم لأي شخص آخر، أخبرتهم أن شقيق الرجل الذي أحضر لي رسائل ونقودا مالية وساعات صغيرة من أقربائي منذ سبع سنوات، قد وصل أخيرا بأشياء أخرى جديدة، وبما أنه وصل بدون علم الخليفة فقد اضطررت إلى عدم إفشاء سر مجيئه الأخير؛ حتى لا تحوم حوله أية شبهة بدون وجه حق. وعلاوة على الكلمات السابقة قلت لخدمي إني اعتزمت زيارة الرجل المذكور في تلك الليلة؛ لأني اعتزمت الإفضاء إليه بأقوال يذكرها لأقربائي بعد عودته إلى مصر ومقابلة قنصل النمسا في القطر المصري. وللإسراع في تنفيذ الرغبة وابتعاد الرجل عن عيون الرقباء، فضلت الإفضاء إليه بما عندي في أقرب ساعة ممكنة من الليل. وبطبيعة الحال صدق الخدم أقوالي؛ لأنهم اعتادوا في السنوات الطويلة التي قضوها معي سماع الأقوال والأنباء الصادقة مني، وعلاوة على ذلك طمع أولئك الخدم في الحصول على أشياء من الطرائف التي أحضرها الرجل معه من الخارج؛ وإذن اضطروا إلى الاحتفاظ بما سمعوه وعدم إذاعة سر ذلك الرجل.
في سبيل تنفيذ مشروعي الخطير، طلبت من خادمي الأمين (أحمد) مقابلتي في صباح اليوم التالي، في الطرف الشمالي من أم درمان على مقربة من ميدان فير، على أن تكون بغلتي مع هذا الخادم في الوقت المحدد. وزدت على ذلك أن نصحت له بعدم الاضطراب أو القلق في حالة تأخيري عن الميعاد؛ لأن العمل الذي رغبت في إنجازه يقتضي بطبيعة الحال وقتا كبيرا. وعلى أية حال، ألححت عليه (أحمد) بعدم مغادرة مكان المقابلة حتى أسلمه المال الذي آخذه من الرجل العربي الذي حضر من الخارج، وبعد أن يستلمه أحمد يوصله إلى منزلي ويأخذ مكافأة على ذلك.
أما الخدم الآخرون فقد شددت عليهم في الاحتفاظ بالسر والتزام الصمت الكلي؛ لئلا يصيبني خطر جسيم من جراء افتضاح الأمر المكتوم.
أفهمت كلا من خدامي على حدة أنه في حالة استفسار أحد الضباط عني من أيهم (الخدم)، يكون جوابه على الضابط بأني قضيت ليلة شاقة جدا، اضطررت إزاءها إلى مغادرة فراشي (المؤلف) ليلا في صحبة خادمي أحمد لسماع نصيحة طبية من شخص لا يعرف أحد مقره، ولكن الذي يعرفه جميعنا (الخدم) هو ذهابه إلى شخص خبير بالمرض وملم بوصف الأدواء الناجعة.
رغبت بعد كل ذلك التضليل أن أسبك حيلتي وأحسن تمثيل روايتي الخيالية، فأفهمت خدمي بأني «مضطر للحصول على مقدار كبير من المال في صباح اليوم التالي، فلا حاجة بي إلى قسم كبير مما معي؛ لذلك أرى أن أحسن وأفضل مكان يفرق فيه ما معي هو أيدي خدمي الأمناء.» وحققت القوم بالفعل، فنفحت كلا منهم ببعض ريالات. وكل ما رميت إليه من تضليلي هو تأجيل الميعاد الذي يذاع فيه خبر فراري؛ فقد كنت على ثقة من أن سر تغيبي سيعرف لا محالة، سواء أذكر خدمي حقيقة عملي أم لم يذكروها، ولكني إلى جانب ذلك عرفت أن تكتم أولئك الخدم سيؤخر انتشار الخبر بضع ساعات تساعدني في الابتعاد مسافة جديدة عن المكان الذي فررت منه. أما خادمي أحمد فكان ينتظرني في المكان الذي عينته له راكبا بغلتي، وأما الخدم الذين أكثرت لهم الوعود فعلى انتظار المال الجديد الذي يوزع عليهم بسخاء!
ادعيت واختلقت من الأقوال كل ما يستطيع العقل التحايل به على أمثال أولئك الخدم السودانيين. ولكني وجدت - إلى جانب ما قلته ورتبته - الحاجة ماسة إلى حساب تدخل الخليفة واستفساره عني، فأدركت أن الخليفة سيسأل عني فيلقى من خدمي إجابة تدعو إلى الريبة والشك، وحينئذ يأمر الخليفة أحد الخدم للبحث عن أحمد، وهذا البحث يستغرق زمنا بطبيعة الحال، فإذا ما وصلوا إليه ذكر أحمد للخليفة حكاية الشخص المنتظر قدومه لتسليم ما هو خاص بي (المؤلف)، وتلك العملية الجديدة تستغرق وقتا آخر يعقبه فشل الباحثين، وعندئذ فحسب ينقب عني العسس والجنود والضباط بعد أن أكون في الواقع اكتسبت الوقت المساعد للفرار.
بعد أن أدركت ذلك عدت إلى إفهام خدمي بما ينطقون به عند الخليفة في فترات مختلفة.
بعد أن أديت صلاة العصر عدت إلى منزلي فجمعت خدمي مرة أخرى وشددت عليهم بالاحتفاظ بالسر الهام، ثم وعدتهم الوعود الكثيرة بما سأقدمه لهم من هدايا وأموال. وبعد ذلك خرجت من عتبة البيت الذي سكنته أكثر من عشر سنين، وقبل خروجي توسلت إلى الله تعالى أن يحفظني في رحلتي الشاقة، وأن يحميني من حياة الأسر والعبودية.
الفصل الثامن عشر
فراري
بعد ثلاث ساعات من غروب الشمس، أدينا فريضة صلاة العشاء مع الخليفة في المسجد الكبير، وبعد ذلك عاد (عبد الله) إلى مخدعه في بيته الخاص ، ثم مرت ساعة لم يحدث فيها أي تدخل من أي جانب في سير الأمور سيرها العادي. وفي نهاية تلك الساعة ذهب سيدي ومولاي الخليفة عبد الله إلى فراشه. ولم أكد أثق من ابتعاد الخليفة عن حركاتي، حتى حملت الفروة النظيفة التي تعودت استعمالها في الصلوات الخمس يوميا، ثم ارتديت معطفا صوفيا لوقايتي من البرد، ثم سرت في طريق المسجد إلى الناحية الشمالية من أم درمان، ولكني سمعت صوتا خفيفا، فخشيت وقوف من يعوق فراري، إلا أني تبينت الصوت بعد ذلك فعرفت أنه صادر من محمد الذي عينته الظروف الحسنة واسطة لفراري.
عند ذلك الصوت وقفت فوجدت إلى جانب محمد الهادئ الصامت حمارا معدا لركوبي، فامتطيت الدابة وأسرعت في مسيري الخطير في ذلك الليل البهيم. ومن أحسن ما أذكره من دلائل توفيقي في هروبي الأخير، أن الريح الباردة الشمالية اشتدت إلى حد اضطر معه كل الآدميين إلى الانزواء في بيوتهم الصغيرة اتقاء خطر البرودة القارصة.
سرنا في طريقنا (أنا ومحمد) فلم نصادف من الناس أحدا حتى وصلنا إلى الطرف الأخير من أم درمان، وفي قسم من ذلك الطرف وجدنا بيتا صغيرا مخربا قائما على زاوية من الطريق الشمالية، ومن تلك الدار الصغيرة خرج رجل عربي ومن ورائه جمل معد للسفر، لم تكد تقع عينا الرجل علي حتى بادرني بقوله: «سيعينك ذلك الجمل في رحلتك وسأرشدك في الطريق إلى مصر.»
قال لي محمد بعد ذلك: «اسم هذا الدليل زكي بلال، وسيسير معك أولا إلى الجمال المعدة لاجتياز الصحراء بالراكبين في بقعة خاصة، فأسرع تلق النجاة، وإني شخصيا أتمنى لك سفرا سعيدا، وأسأل لك من الله الوقاية والأمن.» ذكر زكي بضع كلمات للجمل دعته (الجمل) إلى البروك على الأرض، فامتطى «زكي» صهوته ودعاني إلى الجلوس على جزء من السرج وراءه مباشرة لعدم وجود جملين في تلك اللحظة. وبعد ساعة من رحلتنا وصلنا إلى بقعة اختبأ فيها بعض الجمال تحت الأشجار الصغيرة، وعلى أية حال كان كل شيء على استعداد تام، وكنت أنا شخصيا خاضعا لأي أمر يصدر لي من زكي؛ مرشدي في تلك السبيل الخطيرة، وإذن سمعت كلامه عندما أشار علي بركوب جمل خاص.
قلت لزكي قبل متابعة رحلتنا: «هل أعطاك محمد الدواء؟» فأجابني «زكي»: «لم أستلم شيئا، وأي دواء تعني؟» فأجبته بأن الدواء الذي أعنيه هو ما يسمونه أقراص الأثير، التي تمكن المسافر من مطاردة النوم وتمنحه قوة على مواصلة السفر الطويل الشاق.
ضحك زكي بعد ذلك وقال لي: «النوم! النوم! لا تفكر في هذا الموضوع؛ فإن النوم لا يجد إلى عيني سبيلا، وإن الله من فوقنا رحيم قدير يمكننا من مطاردة النوم دون الاستعانة بدواء إنساني.»
لم أجد جوابا على ذلك سوى قولي: «لقد أصبت أيها الصديق كبد الصواب، وإني مشترك معك في الدعاء إلى الله بمد العون الأعلى.»
واصلنا السير في طريق شمالية، وقد كان من الممكن أن تسرع بنا الجمال في طريقنا، إلا أن أمرين حالا دون ذلك؛ هما: شدة ما في الليل من حلوكة وبرودة من ناحية، وانتشار أعشاب الحلفا وشجر الميموسا في طريقنا من الناحية الأخرى. وعلى أية حال لم يقف بنا جملانا طول الليل، وظللنا ندعو الله أن يمن علينا بالسلامة حتى أشرق نور الصباح البهيج، فوجدنا أننا (أنا وزكي) عند أول وادي بشرة؛ حيث يجد المسافر واديا ممتدا إلى ما لا يقل عرضه عن ثلاثة أميال، وتلك الناحية مزروعة ببذور الدخنة من فصل الشتاء؛ حيث يجد أفراد قبيلة الجعليين الساكنون على شاطئ النيل ريا كافيا من مطر السماء.
انضم إلينا بعد أن غادرنا طرف أم درمان الشرقي قائد آخر صغير السن اسمه حامد بن حسين. وإذن وصلت إلى وادي بشرة، فتمكنت من ضوء الصباح من مشاهدة زكي بلال؛ فإذا به شاب صغير السن مسترسل اللحية، وإلى جواره حامد بن حسين وهو شاب في مقتبل العمر. عندما وقفت الجمال الثلاثة صباحا سألت الرجلين قائلا: «من أية قبيلة أنتما؟»
فأجابا متضامنين: «نحن من جبال جيليف أيها السيد، ولتكن واثقا أن إرادة الله وحدها هي التي تساعدنا على ارتياحك إلينا.»
طال الحديث بيننا نحن الثلاثة بعد أن اطمأننت إلى ذينك الرفيقين، وانتهز أكبر المرشدين سنا ما لقيه في من صراحة وبساطة، فقال لي: «إلى أي مدى بعدنا عن أعدائنا؟ وبعد كم من الزمن نصل إلى الجهة التي يضل فيها أعداؤنا عن الوصول إلينا؟»
أجبته على الفور: «سيبحث عني رجال الخليفة بعد الانتهاء من صلاة الفجر، ولكن ثق أنهم سيبدءون أولا بالشك في فراري، ثم يعقب ذلك البحث عن الجمال التي يركبها الجنود للبحث عني، وكل ذلك يستلزم وقتا، فثق أن لدينا ما لا يقل عن أربع عشرة ساعة.»
فرد علي حامد قائلا: «ليس هذا بالشيء الكثير جدا، ولكن إذا ساعدنا الله وقوى جمالنا في مسيرها، فإن لدينا إذ ذاك أملا قويا في قطع شوط بعيد أمين.»
اضطررت عندئذ إلى إلقاء السؤال الآتي على حامد: «هل تعرف قوة جمالنا على السير؟ وهل لم تختبرها قبلا؟» فوجلت عندما أجابني قائلا: «إني في الحق لا أعرف عن تلك الجمال الثلاثة شيئا؛ لأنا اشتريناها على عجل في الوقت الذي سمعنا فيه خبر رغبتك في الفرار، ولكن الذي نثق منه هو أن الذي اشترينا منهم الجمال قوم مشهورون بأمانتهم من ناحية، وبمتانة جمالهم من الناحية الأخرى.»
ومهما يكن من شيء، فقد تابعنا فرارنا بأسرع ما نستطيع، وقد عدونا بالجمال عدوا لا نتصور في الأرض سرعة لحيوان كتلك التي قام بها جمالنا الأمناء. على أنا في الحق أشفقنا على تلك المخلوقات غير الناطقة لما انتابها من شدة وتعب، ومما خفف الأمر انبساط الأرض وسهولة تربتها، رغم ما تخللها من أكوام وحفر وبعض التلال الحجرية الصغيرة. ويمكنني التصريح دون مبالغة أنا والينا العدو دون وقوف إلى ظهر يومنا ذاك، حيث ناداني مرشدي فجأة قائلا: «قف حالا! ولنبرك جمالنا في تلك اللحظة، ولنكن سريعين في عملنا هذا.»
خضعت للأمر فوقفنا وبركت الجمال، إلا أني دهشت جدا وتولاني الفزع لوقوف الجمال، في حين أني أشاهد الجمال وجوادين في مسافة بعيدة، ولم أكن أشك في أن الأعداء قادمون للانقضاض علي وعلى المرشدين اللذين معي، فأعددت مسدسي (من طراز رمنجتون) للدفاع عن نفسي وعمن معي وقت الهجوم، وعند ذلك قلت لمن معي: «إذا كنا الآن مكشوفين أمام عيون أعدائنا فلنسر في متابعة الهروب بهدوء ونظام؛ لأن بروك جمالنا ووقوفنا متجاورين مما يبعث الشكوك والريب إلى أولئك الجنود الذين يتعقبوننا؛ وإذن ففي أية طريق هم سائرون؟»
أجابني حامد بن حسين: «إنك على حق في كل ما تقول، أما الطريق التي يسيرون فيها فهي الشمالية الغربية.»
تيقظنا بعد ذلك من غفلتنا وغيرنا طريق سيرنا فجعلناها الشمالية الشرقية، وكنا مطمئنين كثيرا وواثقين بأنا سرنا غير منظورين من أولئك المراقبين، ولكنا فزعنا جدا عندما شاهدنا على بعد ألفي متر تقريبا أحد الجنود التابعين للخليفة مسرعا امتطاء جواده ومتجها إلى ناحيتنا.
قلت لحامد بعد ذلك: «أخبرك يا حامد بأني سأسير جنبا مع زكي، فهل تستطيع إيقاف ذلك الرجل القادم إلينا وإجابته عما يلقيه من أسئلة؟ وعلى أية حال فأطلب منك أن تمنعه.»
لم يكد يصل حامد إلينا حتى قال بصوت مرتفع: «أشكر الله فضله شكرا جزيلا على نجاتك؛ فإن الرجل الذي كان يتعقبنا صديق خاص لي اسمه الشيخ موضال، وقد كان سائرا في طريقه إلى دنقلة ليحضر كميات من البلح إلى أم درمان، وقد استفسر مني الرجل عن سبب مرافقتي للرجل المصري الأبيض صاحب العينين الشبيهتين بعيني الصقر.»
عندما انتهى حامد من كلامه أجبته (المؤلف) على الفور: «ماذا كان جوابك على سؤال ذلك الشيخ؟»
فقال حامد بأنه طلب من ذلك الشيخ بصفته صديقا مخلصا له أن يحتفظ بالسر، وأعطاه في سبيل ذلك عشرين ريالا من عملة ماريه تريزة، ثم أردف ذلك بقوله لي: «نحن العرب ميالون كثيرا إلى اقتناء المال، فلم يكد يحصل مني صديقي على ذلك المبلغ حتى أقسم لي قسما غليظا بأنه لن يفشي سرنا بحال من الأحوال، وأنه سيمسك لسانه عن الكلام في حالة التقاء متعقبينا به.» أما فيما يختص برفاق صاحبي الشيخ، فمن الغباوة بدرجة لا يميزون معها بين الأبيض والأسود ولا يعرفون الفرق بين العربي السوداني والأوروبي الأبيض، ما دام المطلوب تمييزهم مقنعي الوجوه. هذا إلى أن الوقوف مع أولئك مكن زكي ومكنني (المؤلف) من قطع مسافة بعيدة عن الأنظار.
عندما غربت الشمس تجاوزنا تلال هوبيجي، ثم نزلنا عن جمالنا للاستراحة في الخلاء وبقينا هناك نحوا من ساعة، وتلك الناحية التي عسكرنا فيها تبعد مسير يوم غربي شاطئ النيل. ولم نكن في راحتنا الصغيرة نرمي إلى إراحة أجسامنا، بل كنا أولا وأخيرا نقصد استراحة جمالنا صاحبة الفضل في حملنا إلى حيث نتمتع بالحرية، وأظن أنه لم يكن ميسورا لنا الاستمرار في العدو بعد أن واليناه إحدى وعشرين ساعة دون انقطاع منذ غادرنا طرف أم درمان الشمالي، ولم نأكل طول يومنا، وكل ما تمكنا من تغذية أجسامنا به هو القليل من الماء لكل من الثلاثة العاديين.
في تلك الساعة التي ارتحنا فيها وأرحنا جمالنا كنا شديدي التعب، ولكنا على الرغم من ذلك أكلنا بلذة وشهية مفتوحة مقدارا من العيش القفار وكمية من البلح.
بعد أن أكلنا قال لي مرشدي حامد: «لنقدم الأكل لجمالنا وبعد ذلك نوالي السير السريع، أما أنت فأظنك في أشد حالات التعب.»
أجبته بسرعة: «لست أشعر بشيء من ذلك التعب الذي تعبته؛ لأنا في أوروبا نعد الوقت من ذهب، فإذا كنت في صغري تعلمت ذلك، فإني أزيد عليه في حالتي هذه بأن الوقت حياة كاملة، فلنسرع جدا في عملنا.»
تولانا الجزع عندما رفض كل من الجمال الثلاثة تناول شيء من الأكل، لأنا قدرنا في الحال أن الجمال لن تستطيع السير، وأن المانع لها من الأكل هو شدة ما انتابها من تعب الإجهاد في العدو. وعلى أية حال، عمدنا في تلك اللحظة بعد أخذ مشورة حامد إلى إيقاد نار قليلة الكمية فوق مقدار كبير من الخشب المحروق، وصببنا على الخشب والنار جزءا من الراتينج.
بعد الانتهاء من تلك العملية وضع حامد الخشب والنار فوق قطعة خشبية مستطيلة، ومر بها حول الجمال ذاكرا بعض كلمات لم أفهم منها شيئا .
تساءلت عندئذ بشيء من الدهشة: «ماذا تصنع يا حامد؟» فأجابني: «إني أخشى جدا أن يكون فقهاء وقضاة الخليفة عبد الله قد رقوا جمالنا بما يعرقل سيرنا وينجح مقاصد الخليفة، وهذا الخوف يدفعني إلى استعمال الترياق العربي الذي يفسد سم الحاسدين.»
أما ذلك القول فلم يجد مكانا في خاطري بالطبع، وكل ما أجبت به عليه هو: «إني أخشى أن تكون الجمال من الفئة الثانية في السوق، وأخشى إلى جانب ذلك أن تكون قد تعبت وينبغي أن يترك قسط آخر من الراحة لها؛ عسى أن تتقوى وتنهض بعد ذلك.»
انتظرنا نصف ساعة في مكاننا ظنا بأن الجمال ستأكل بعد ذلك، ولكنها امتنعت عن تناول أي طعام، فخشينا ضياع الوقت وتمكن أعدائنا من الوصول إلينا، فاضطررنا إلى إعداد جمالنا للركوب، وبالفعل قمنا على ظهور جمالنا لمواصلة العدو. أما الجمال فامتنعت عن الجري وكل ما سمحت لنا به هو سير عادي جدا، فالتزمنا مطاوعة الجمال في رغبتها، وبقينا في سيرنا البطيء هذا حتى وجدنا أنفسنا وقت شروق الشمس عند الأرض المرتفعة شمال غربي متمة.
شعرنا عندئذ بضعف الجمال وتضاؤل قوتها، فولد ذلك في نفوسنا جزعا مستمرا، وأصبح من المؤكد لدينا أن الجمال لن تستطيع الوصول إلى المكان الذي نريد الانتهاء إليه - وهذا المكان هو الواقع على مسير يوم شمالي بربر في طرف الصحراء - حيث اقتضى الاتفاق السابق تغيير الجمال.
عندما أقبل الظهر أرحنا جمالنا في ظل شجرة باسقة واتفقنا على السير إلى ناحية جيليف - الواقعة على مسير ما يقرب من يوم في الطريق الشمالية الغربية - حيث أظل مختبئا في التلال غير المسكونة وغير المطروقة، حتى يتمكن مرشداي زكي وحامد من إحضار جمال صالحة لإتمام الرحلة.
عند غروب الشمس كانت الجمال صالحة للسير السريع بعد أن ارتاحت قسطا وافرا من الزمن، فركبنا الجمال ذاتها ووصلنا في فجر اليوم التالي إلى سفح جبل جيليف، حيث لا ساكن من بني آدم على الإطلاق.
شكرنا لله فضله عندما بلغنا تلك البقعة، ثم نزلنا عن جمالنا وسقناها أمامنا في رحلة شاقة، سرنا فيها على الأقدام ما يقرب من ثلاث ساعات في واد لا تتخلله غير الصخور المرعبة المنظر.
ينتسب مرشداي زكي بن بلال وحامد بن حسين إلى قبيلة كبابيش، فجبل جيليف معروف لديهما؛ حيث ولدا إلى جواره، فهما إذن على معرفة تامة بكل ممر في ذلك الجبل، فاستحسن رفيقاي في تلك البقعة خلع السروج عن الجمال ووضعها على صخرة بجانبنا.
قال لي حامد بن حسين عندما بلغ ثلاثتنا هذه الصخرة: «لقد وصلنا إلى وطننا، ولا ريب في أن الوطن يحمي ابنه الذي يلوذ به، فاطمئن أيها الضيف، وكن واثقا أنه لن يصيبك أي أذى ما دمت في أرضنا، فاسترح هادئا، ولازم تلك البقعة حيث لا يشاهدك متعقب أو مراقب خارجي. وها هي على بعد أقل من مائة متر عين الماء الشهيرة المتفجرة بين الصخور، فسأذهب إليها بالجمال لأسقيها منها، وسيحضر لك زكي قربة صغيرة مملوءة من ماء تلك العين، وفوق ذلك سأخفي الجمال في مكان أمين بحيث لن يستطيع الجن ذاته الوصول إلينا وإلى جمالنا، وإذن فلننتظر هنا حتى أنتهي من التفكير فيما سنتبعه بعد ذلك.»
بقيت وحدي ولا أكتم القارئ حقيقة اضطرابي ووجلي في ذلك القفر الموحش. وعلى أية حال استسلمت إلى المقادير، ودعوت الله أن ينقذني، ففكرت في السير السريع إلى الحدود المصرية، وأخذت أفكر وتتساورني الهواجس من كل ناحية، وبقيت على تلك الحال ساعتين كاملتين، جاء بعد انتهائهما صديقي زكي بن بلال حاملا قربة الماء على كتفه، ولم يكد يصل إلي في وحشتي حتى ناداني قائلا: «ذق طعم ماء وطني العزيز تلقه نقيا خالصا هنيئا للشاربين، ولتثق أيها الضيف العزيز أن وطني الذي حملك سالما سيودعك سالما حتى تصل إلى الأرض الأمينة حرا، وتأكد أن كل شيء سيجري في أحسن صورة بعون الله ولطفه، وأن النهاية ستبدد جميع ما حاق بك من آلام ومصائب، لا في تلك الرحلة فحسب بل في السنوات الماضية الطوال التي قضيتها أسيرا في أم درمان.»
شربت مقدارا قليلا من الماء فوجدته شهيا جدا مصداقا لقول زكي، الذي أعجبني منه حبه الشديد لوطنه، رغم ما هو (الوطن) فيه من فقر ووحشة على النازحين إليه.
قلت لزكي: «إني على ثقة من الفوز، ولكنني أخشى التأخير.» فأجابني على الفور: ««معلهشي»، كل شيء بإرادة الله، وعسى أن يبعث الله لنا الخير في هذا التأخير، وإذن فلننتظر حامد بن حسين صابرين واثقين في لطف الله.»
وصل إلينا حامد بعد مرور بضع دقائق على ظهر اليوم المذكور، وبعد مجيئه تناولنا نحن الثلاثة (حامد وزكي وأنا) طعامنا البسيط العادي المكون من الخبز والتمر، وبينما نتناول طعامنا استصوب زكي ركوب جمله والوصول إلى الأصدقاء الواقفين على سر نجاتي، على أن تستغرق تلك الرحلة يومين متواليين يتمكن زكي بواسطتها من الحصول على جمال جدد.
قال لي زكي قبل رحيله: «سأركب الجمل بشارن؛ لأنه أقوى الجمال الثلاثة ولم يصب بعد بالكلال الذي يحول دون مواصلة الرحلة الجديدة، وها نحن في مساء السبت، فسأواصل رحلتي طول الليل وسحابة يوم الأحد، حتى إذا أحياني الله إلى صباح يوم الإثنين وصلت إلى البقعة التي اتفقت مع أصدقائي على الالتقاء فيها. وقد أضطر إلى البقاء هناك يوما أو يومين في حالة عدم وجود جمال مستعدة لمواصلة الفرار. وعلى أية حال - ما لم يعقني مانع قهري جدا - سأرجع إلى مكاني هذا - الذي أنا فيه الآن - يوم الخميس أو يوم الجمعة على أكثر تقدير.»
أجبت صاحبي زكي بن بلال قائلا: «أرى الخير في تأجيل المواعيد المذكورة، وتأكد أنا في انتظارك هنا لغاية يوم السبت، أما إذا وصلت إلينا قبل ذلك فلا مانع، وعلينا أن نضاعف الشكر لله في تلك الحال. ولكن الشيء الوحيد الذي نرغب دائما في أن تذكره هو أن مصيرنا بين يديك بعد إذن الله، فلا تمهل في شيء على الإطلاق، وأطلب إليك إلى جانب ذلك أن تكون حذرا أشد الحذر في إحضار الجمال؛ بحيث تنتقي أجودها وأقدرها على مواصلة السير؛ حتى لا يصيبنا في المرة الجديدة ما أصابنا في سابقتها.»
وضع زكي يده في يدي بعد سماع أقوالي وودعني قائلا: «ثق في حظنا الحسن، ثم اعتمد على نيتي الحسنة وإخلاصي الشديد.»
فأجبته شاكرا وقلت له: «الله وحده قادر على أن يحميك ويرجعك إلينا عاجلا في سلم وعافية.» وضع زكي بعدئذ قليلا من التمر في قطعة من القماش ليأكل وقت جوعه أثناء رحلته القصيرة، ثم حمل سرج الجمل على ظهره، ثم وصف له حامد المكان الذي اختبأ فيه الجمل بشارن الذي استعان به صاحبنا زكي في سيره، وقبل عدوه شدد علينا في أن نضلل أفكار الناس - إذا وجد أناس في ذلك القفر - عنه. وما هي إلا دقائق حتى اختفى زكي عن أنظارنا، ثم عمدنا بعد ذلك إلى إبعاد الأحجار الصغيرة عن الأرض التي قررنا قضاء ليلتنا نائمين عليها حامد وأنا، وقد وفقنا في عملنا هذا توفيقا عظيما.
بقينا حامد وأنا صامتين فترة طويلة، شغل فيها كل منا بالنظر إلى الطبيعة والتفكير فيما راق له أن يفكر فيه. وبينما أجول ببصري في ذلك القفر الواسع قال لي حامد: «عندي اقتراح أود عرضه عليك، ويتلخص ذلك الاقتراح في أن لي قريبا اسمه إبراهيم باشا له النفوذ الكلي على منطقتنا الجبلية هذه بصفته شيخها، ولهذا الشيخ منزل في سفح التل على مسافة أربع ساعات من مكاننا الذي نحن فيه الآن. ولئن كنا إلى الآن محجوبين عن أنظار الآدميين، فمن الخير أن نعلم شيخنا إبراهيم بوجودنا حتى يكون على بينة ويدلي إلينا بما يراه ملائما لنا في عزلتنا هذه. وسأذكر له موقفنا بالضبط بدون ذكر اسمك، وهو مضطر أدبيا على الأقل - بما لي عليه من حق النسب - أن يؤويني ويجد لي ولك مكانا أمينا، وينصح لنا بالمغادرة في الوقت المناسب، وذلك في حالة تمكن دارس الأثر ومتعقبه من اقتفاء خطواتنا عند سفح التل، وهذا بعيد جدا. فإذا وافقت على رأيي، فإني أسير إليه في جنح الليل حتى أراه وأنا في أمن من عيون المراقبين ، وبعد مقابلته أرجع إليك قبل صباح اليوم التالي.» لا أكتم القارئ حقيقة ما جال في خاطري من سرور يداخله شيء من الخوف. وعلى أية حال أجبته بالموافقة قائلا له: «إن المشروع حسن ويحسن بك أن تحمل معك عشرين ريالا تقدمها هدية لصاحب المنزل، ولا أزيدك توصية في الامتناع عن ذكر ذلك لأحد كائنا من كان.»
تركني حامد عند غروب الشمس فبقيت وحدى هدفا للأفكار المتضاربة والهواجس المخلتفة، فتذكرت أفراد أسرتي وأصدقائي العديدين «في أوروبا ومصر»، وذكرت بصفة خاصة أصدقائي العرب والسودانيين الذين لم يحل اختلافهم في الجنسية والدين دون اعترافي لهم بالشكر الخاص وتقديري ما قاموا به في سبيل راحتي ونجاتي. وإني لن أنسى جهاد أولئك الأصدقاء الذين لم يرهبهم رجوعهم بعد نجاتي إلى حيث يقاضيهم أعدائي ويحاسبونهم حسابا عسيرا. تذكرت في عزلتي القصيرة هذه أعز من لي في الدنيا، وأقصد بهن وبهم شقيقاتي وأصدقائي المقربين، وكنت أسأل الله في كل لحظة أن يمن علي بنعمة العودة إلى وطني العزيز. وما زلت على حالتي هذه حتى غلب علي النوم، فألقيت بجسمي الضعيف على الأرض المتربة، ولم أستيقظ من نومي اللذيذ - رغم خشونة الأرض التي نمت عليها - إلا قبل الفجر. وبعد قليل من صحوي سمعت صوت قدمين، فتأكدت أن مرشدي حامدا هو القادم، وبالفعل وصل حامد وقال لي: «تسير الأمور في أحسن أحوالها؛ فإن نسيبي الشيخ إبراهيم يرحب بضيفه الذي لا يعرفه ويسأل له الوقاية وعون الله، فلتتدرع أيها الصديق بالصبر؛ لأن هذا كل ما تملكه الآن، ولعله خير ما يملك الإنسان في محنته.»
جلس حامد بعد عودته من منزل الشيخ إبراهيم على حجرين كبيرين قاتمي اللون؛ بحيث أصبح من العسير إيجاد فارق في اللون بين بشرته والصخر الذي يحمله؛ أما غرض حامد الأساسي من جلسته هذه فهو مراقبة الناس بطريقة تبعد أنظارهم عنه.
بقى حامد في مكانه هذا، وأما أنا فجلست على الأرض إلى جواره مستظلا بشجرة ممتدة الفروع تصادف وجودها بين الصخور السوداء. ولم يكن لنا حديث في تلك الفترة سوى ماضي وحاضر البلاد الصحراوية التي ظللتنا، وقد سعى حامد جهده في شرح حالة وطنه الذي كان يذكره بالإعجاب ويعطف عليه عطف المخلص للأرض التي ولد فيها.
بعد أن مر وقت الظهر بساعات قلائل، سمعت من الخلف وقع أقدام، فأدرت وجهي إلى ناحية الصوت فرأيت على بعد مائة وخمسين ياردة رجلا يتسلق المنحدر المقابل لمكان جلوسنا، عاملا على وضع فروة مستطيلة في يده على جزء من ذلك المنحدر، وفي الوقت نفسه شاهدته وهو يضع عمامته على رأسه، وقد أدركت في الحال - بعد التيقن من الجهة التي كان قادما منها - أنه يقصد الوصول إلينا من ناحية، وأنه رآنا من الناحية الأخرى.
كنت في حالة اضطراب، فبادرني حامد بقوله: «مهما يكن الأمر فإن القادم أحد أبناء وطني، فقد سمعت صوته ووقع نظري على سحنته. وعلى أية حال، فإني أفضل التقدم إليه والتكلم معه، فهل توافق على رأيي هذا؟» فأجبته: «لا ريب في أني معضدك في كل ما تراه ملائما لنا في تلك الحال، فأسرع لمقابلته، وإذا اقتضى الحال تقديم شيء من المال لا تتأخر عن ذلك.»
ترك رفيقي حامد مقعده الصخري وسار إلى الرجل بخطى سريعة متلاحقة، ثم وصل إلى قمة التل واختفى عن بصري، ولم تمر بعد ذلك بضع دقائق حتى شاهدتهما كليهما (حامد والرجل الآخر) قادمين إلى مكاني بثغرين باسمين. وقبل أن يصل حامد إلي قال بأعلى صوته وهو في حالة بشر واغتباط: «إنا موفقان سعيدا الحظ؛ فالرجل واحد من أنسبائي الأقربين؛ لأن والدته ابنة خالة والدتي.»
أقبل الرجل نحوي وقدم يده للسلام علي فصافحته مغتبطا، ثم قال لي عندما جلس على الحجر المجاور لمكاني: «السلام عليكم أيها الصديق، ولتكن واثقا أنك لن تصاب بأذى من ناحيتي.»
أعطيت هذا الصديق السوداني الجديد كمية من البلح، وطلبت منه في رفق وأدب أن يذوق هذا الطعام البسيط الذي أعاننا على الجوع في رحلتنا الشاقة، ثم سألته بعد ذلك عن اسمه فأجابني قائلا: «يدعوني الناس علي واد فيض، وأظن أنه من الوفاء لك أن أخبرك الحق.»
أسرعت بعد ذلك في استيضاح الحقيقة، فأجابني بمنتهى الصراحة: «لم أكن متجها إلى الخير في تصرفي معك، ولولا الالتقاء بقريبي لكان الشر لاحقا بك لا محالة؛ وتفصيل ذلك أني غيرت الأرض التي كانت ترعى فيها ماشيتي، فوصلت منذ أيام قلائل إلى سفح التلال التي تراها الآن منحدرة إلى الجنوب، وبعد ذلك اتجهت إلى الشقوق القائمة بين الصخور عساني أجد ماء وفيرا نقيا أشرب منه كما ترتوي منه جمالي وبقية ماشيتي؛ لأن الماء الذي كان لدينا قبل ذلك غير كاف لمن يعيش الأسابيع والشهور مع عدد غير قليل من الماشية، ولم أكد أصل إلى تلك الشقوق حتى شاهدت آثار خطوات جمل، فتعقبت الأثر، وبعد مسافة مئات من الياردات وجدت آثار قدمي رجل أبيض مبتدئة من مكان بعيد عن الأنظار، فتحققت أن رجلا غريبا دخل تلك الأرض واختبأ بين صخورها رغبة في الفرار دون شعور المراقبين بمروره، فعدت أدراجي مصمما على العودة ليلا ومعي بعض رفاقي لنسهل عليك رحلتك الباقية بالانقضاض عليك وإراحتك من الدنيا وما فيها من تعب ومشقة، فالحمد لله الذي حال دون إتمام عملي الإجرامي؛ حيث أرسل إلي ابن خالتي، حامد الذي أفهمني الأمر كله في وضح النهار، وأكرر الشكر لله لأني لقيته في الصباح، فلو أن ذلك كان ليلا لما عرفت حامدا ولانتهى الأمر شر انتهاء.»
أنصت حامد لكل ما قاله ابن خالته باهتمام وسكون، وبعد الانتهاء قال حامد: «سأخبرك يا علي واد فيض قصة قصيرة فأنصت! كان والدي منذ سنوات طويلة وقت أن كنت شابا صغير السن وأيام حكم الأتراك لهذه الجبال؛ شيخ المنطقة التي نحن فيها، وكان المحتكمون إليه من الرعايا كثيري العدد. وفي ليلة من ليالي ذلك العهد وصل إلى بيت أبي رجل هارب طلب منه الأمان، وقد كان هذا الرجل مطاردا من جنود الحكومة لأنه اتهم باللصوصية والاعتداء على حياة بعض التجار، فتمكنت الحكومة من أسر زوجاته، أما هو فوجد عضدا قويا ونصيرا أمينا؛ حيث أظله أبي واحتفظ بالسر.
مرت بعد ذلك الحادث سنوات انتقل في خلالها والدي إلى منطقة بربر، فتمكن بعد دفع المال وتقديم ضمانات متنوعة من إصدار العفو عن هذا الرجل المطارد، الذي لم يستطع متهموه إيجاد جريمة معينة يحاكم بمقتضى ارتكابها. ولم يكتف والدي بذلك، بل ذهب إلى الجهات المختصة وقدم نفسه كفالة عن زوجات ذلك الرجل، وبذلك حصل على أمر ثان بإطلاق سراح زوجاته، بعد أن قاسين في السجن الكثير من الآلام والأتعاب. وبعد كل ذلك يسرني أن أخبرك بأن الرجل المذكور اسمه فيض.»
بينما يتابع حامد أقواله قاطعه علي واد فيض قائلا: «وأضيف إلى أقوالك بأن الرجل المذكور هو أبي الذي ولدني ورباني.» ثم تغيرت ملامح وجهه واستمر في قوله: «ولدت في زمن متأخر وسمعت هذه القصة يا حامد من والدتي العزيزة قبل موتها، وإزاء ذكر تلك الوالدة الطيبة أطلب من الله الرحمة لها. وبعد وفاة والدتي قال لي شقيقي الأكبر إن خير ما أعمله في الحياة هو القيام بالجميل نحو ابن الرجل الذي أدى جميلا لوالدي؛ وإذن فأنا مدين لك بالشكر يا حامد حتى أوفي ما على أبي نحو أبيك، فثق أني حاميك وحامي من معك بغض النظر عما تقومان به من خير أو شر؛ لأني أذكر شيئا واحدا هو أني مدين لك بالجميل، فاتبعني حتى أرشدك إلى أحسن مكان أمين تختبئ فيه مع صديقك الأبيض.»
رجعنا بعد ذلك جنوبا إلى ناحية التلول مسافة لا تقل عن ألفي ياردة، ثم انتهينا إلى بقعة شبيهة بالكهف تتخللها ألواح صخرية تحجب من وراءها عن الأنظار، ولا ريب أن البقعة المذكورة كافية لاختفاء اثنين بالغين من ضخامة الجسم ما بلغا.
أخذ علي واد فيض يسدي إلينا نصائحه وتعليماته بعد ذلك فقال: «عندما يحين المساء أحضرا أمتعتكما إلى هذا المكان. بالرغم من عدم وجود ما يدعو إلى الخوف في أية ناحية مجاورة؛ لأن التلول التي أمامنا بعيدة عن أقدام الآدميين، إلا أن الحذر الشديد يدعوكما عندما يجن الليل أن تختارا بقعة آمنة هادئة ملساء، لتقضيا ليلتكما عليها بعيدين حتى عن رقابة الجن. قد تدعوني أمانتي الشديدة لكما إلى القول بأن من المستحيل أن تكونا واثقين الثقة كلها في أن بعض الأنظار لم تقع عليكما، وأن بعض الناس ما اعتزموا ما كنت معتزما تنفيذه قبل ملاقاة حامد؛ وأعني بذلك انتهاز فرصة ظلام الليل للانقضاض عليكما.»
بعد أن انتهى علي من قوله الصادر عن إخلاص شديد قال: «لقد أطلت في حديثي وقضيت وقتا طويلا بعيدا عن مكاني، فسأضطر إلى العودة لتسقط الأخبار واستماع ما قد يدور حولكما من نبأ، على أن أعود إليكما غدا في ساعة من ساعات الليل المظلمة، وستعرفانني بصوت خفيف يشبه الصفير، فإلى الوداع حتى ألقاكما في خير غدا.»
أصغينا إلى نصيحة علي واد فيض، فاخترنا مكانا للنوم. وفي فجر اليوم التالي قبل شروق الشمس عدنا إلى كهفنا، ثم صعد حامد بن حسين قبل الظهر إلى قمة أحد التلول لمراقبة الناس، وكان عمله هذا شبيها بالضابط الذي يقف في أعلى القلعة لمشاهدة طلائع العدو. ظل حامد ساعات في مكانه هذا ولم يأت إلى المغارة إلا عندما أحس بالجوع الشديد، وقد قدر لنا أن ينتهي ما معنا من خبز في ذلك اليوم فلم يبق في جرابنا سوى مقدار من البلح.
بعد أن غربت الشمس بساعتين سمعنا صوتا خفيفا أشبه بالصفير، فتأكدنا أن صاحب الصوت هو علي واد فيض، وقد تحقق ظننا لحسن الحظ؛ حيث وفى صاحبنا وعده ووصل إلينا في الميعاد المضروب من قبل. لم يكن علي وفيا في وعده فحسب، بل كريما أيضا؛ حيث أحضر لنا في عزلتنا هذه كمية كبيرة من اللبن في قربة من جلد الغزال - اعتاد العرب السودانيون دبغ جلود الغزلان الصغيرة وإعدادها أواني للبن - وإلى جانب ذلك مقدار من الخبز المصنوع من الذرة.
قال لنا علي عندما وصل إلينا وبعد أن سلم علينا: «قلت لزوجتي إني خارج لمقابلة ركب الحجيج السائر إلى أم درمان لزيارة قبر المهدي، ولي الرغبة في إظهار شيء من الكرم العربي لأولئك المسافرين في رحلتهم الشاقة، وفي الحق لم يمنعني عن ذكر الحقيقة لها إلا خوفي من انتشار الخبر؛ لأن امرأتي ثرثارة.»
ابتسمت في وجه علي وقلت له: «يظهر أن الأمر واحد في جميع البلاد؛ فإن الكثيرين من الرجال في بلادنا الأوروبية يشكون مر الشكوى من نقل الحديث بواسطة زوجاتهم.» فارتاح كل من حامد وعلي إلى قولي هذا، وبعد الانتهاء قال علي: «جبت الوادي الضيق وسرت إلى مجالس الكثيرين من العشائر ليلة الأمس وصباح اليوم فلم أسمع ما يخيفكم، فكلا واشربا مرتاحين مسرورين؛ لأني على ثقة تامة في حظكما الحسن.»
قبل أكل الخبز الشبيه بالكعك وشرب اللبن، قدمنا الشكر الجم لعلي إزاء هديته الثمينة، ثم طلبت منه بعد ذلك أن يرجع إلى بيته حتى لا يثير الريب والشكوك في نفوس أبناء عشيرته بعد تغيبه الطويل عنهم، ثم أسررت إلى حامد أن يمنح عليا خمسة ريالات قبل رجوعه إلى بيته.
عندما استأذن صاحبنا علي في الانصراف قلت له: «نود أن نراك دائما أيها المخلص الوفي، ولكن الخير في أن ترتاح في بيتك وأن تبتعد عما يثير أي شك؛ لأن ذهابك وإيابك يثيران الريبة بين رجال قبيلتك، وقد تترك خطواتك أثرا بارزا على الرمال يستطيع بواسطته متعقبونا أن يهتدوا إلى مكان اختبائنا هذا، ولا نطلب منك العودة إلا في حالة سماع أخبار غير سارة تستدعي هروبنا إلى مكان جديد، وإذن فالوداع من أخ يشكر لك جزيلا ما قدمته له من ولاء وإخلاص.»
سار حامد بن حسين بعد ذلك مع صديقه علي واد فيض بضع دقائق، وبعد رجوعه قال لي: «رفض علي قبول الريالات الخمسة رفضا باتا، ولم أستطع التغلب عليه وإقناعه بقبول الهدية البسيطة إلا بعد أن أكدت له بأن رفض المبلغ يكدر خاطرك (المؤلف).»
بعد أن سافر علي إلى بيته وعاد حامد إلى الكهف قضينا (حامد وأنا) فترة صغيرة في الكلام، ثم سرنا إلى مكان النوم الهادئ حيث قضينا ليلتنا إلى صباح اليوم التالي دون أن يعكر صفو النائم قلق أو اضطراب، وعند إشراق الشمس عدت إلى الكهف، وسار حامد إلى قمة التل لمراقبة الناس كما عمل في اليوم السالف. ومما أذكره عن ذلك اليوم أنه مر ساكنا دون وقوع أي حادث مزعج، ولكني أذكر إلى جانب ذلك أنه كان طويلا علينا حتى خيل لنا أن ساعاته أطول من الساعات اليومية العادية، فكانت كل ساعة من ساعاته يوما كاملا؛ حيث مرت الأفكار المتعاقبة وأخذت أذكر سني الأسر وحوادث العسف والاضطهاد. وفي الحق كنت صبورا جدا على ذلك المضض، وسواء أصبرت أم لم أصبر فلم يكن أمامي ما يعزيني في نكبتي وما يفرج عني بليتي سوى اعتقادي الراسخ في لطف الله وفضله، وثقتي في قرب تمتعي بحرية دائمة صحيحة؛ هي تلك التي خلق الناس ليتمتعوا بها في الحياة.
قبل انتهاء كمية الماء التي في قربتنا ذهب حامد إلى الشقوق القائمة بين الصخور المجاورة ليملأ القربة، وفي الوقت نفسه فكر في إحضار الماء للجملين اللذين أنهكهما التعب من قبل والأكل الرديء الآن؛ لأنهما لم يجدا من الطعام سوى أوراق الأشجار والأجمات. قال لي حامد قبل ذهابة للشقوق: «سأرجع بعد أربع ساعات تقريبا، فالتزم السكون والهدوء في كنك، وإذا ظهر في مدة غيابي القصيرة أي مخلوق آدمي - وأسأل الله ألا يظهر في تلك الفترة أحد - فأخبره أن حامد واد شيخ حسين قادم بعد قليل من الزمن؛ لأن الشخص الذي يظهر سيكون من أبناء وطني بلا جدال، فإن الشخص الغريب يخشى المجيء إلى ناحيتنا. ومهما يكن الأمر فلا تخض مع الشخص - الذي يظهر لك - في الحديث. وأول ما أحذرك منه هو سفك الدماء، فلا ترق دم أحد مهما ارتبت فيه، وانتظر حتى أعود إليك.»
أجبته على الفور «سأنفذ نصيحتك مهما تكن الحال. وعلى أية حال، فأنا واثق أنك ستجدني في هدوء وأمن عندما ترجع لي.»
بعد أن غاب حامد عني بضع ساعات عاد وقربته مملوءة بالماء، ثم قال لي: «لقد سرني وجود الجمال في حالة أحسن بكثير من الحالة التي كانت عليها وقت وصولنا إلى ناحيتنا، وعلى الأقل هي في راحة كافية.» وبعد ذلك أظهر لي أنه في جوع شديد، ولم يكتم حاله؛ حيث قال لي: «أعطني كمية من البلح لأني جوعان، وسأضطر إلى العودة لقمة التل لمراقبة الناس.»
مر ما تبقى من يومنا في هدوء وأمن، ولكنه كان بطيئا علينا كيومنا السابق، وعندما جن الليل سحب كل منا شخصه إلى مكان النوم. وبعد أن تحادثنا بصوت خافت جدا بعد أن دعونا الله أن يبقي لنا نعمة الصبر، نام كل منا ملء جفنيه حتى صباح اليوم التالي.
ذهب حامد صباح الخميس إلى مكان المراقبة المعروف، وقبيل الظهر شاهدته نازلا بسرعة من قمة التل، فأسرعت إلى تجهيز بندقيتي.
قبل وصوله إلي سألته عن الخبر فأجابني: «إني أشاهد رجلا متجها بسرعة إلى مكاننا الأول الذي كنا فيه قبل مجيء علي واد فيض، فلا بد أن يكون هناك شيء مهم، فانتظر في مكانك لأني سأذهب لملاقاة ذلك الرجل، على أن أرجع إليك بعد ذلك.»
جلست في مكاني وانتظرت مدة خيل إلي - رغم قصرها - أنها الأبد الطويل، ثم رفعت بصري بحذر، فإذا بي أشاهد رجلين من مسافة بعيدة قاصدين مكاني، وقد تمكنت عيناي من تقرير أن القادمين هما حامد بن حسين وزكي بن بلال، فخرجت من مغاراتي، وحينذاك أسرع زكي قائلا بأعلى صوته: «السلام عليكم يا سيدي، فابتهج بالا لأنك ستسمع ما يرضيك ويسرك.» وبعد أن سلم علي يدا بيد قال: «حضرت ومعي جملان جديدان كاملا القوة، وقد خبأتهما في مكان أمين مجاور لبقعتنا هذه، وسأرجع الآن لإحضارهما.»
لم تمض ساعة حتى أحضر زكي الجملين، فقلت له بسرور كلي: «إنك سريع جدا في عملك العظيم، فأخبرني قصتك منذ غادرتنا.»
أجابني زكي: «غادرتك مساء السبت الفائت، فركبت جملي طول الليل وسحابة اليوم التالي - الأحد - وقد كان جملي بشارن موفقا في سيره السريع رغم وعورة الأرض، وفي صباح الإثنين وصلت إلى أصدقائي، وفي الحال عني أولئك الأصحاب بإحضار الجملين اللذين تراهما الآن، ولبعد المسافة لم نتمكن من الحصول على الجملين قبل صباح الثلاثاء، فغادرت المكان وقت الظهر وسرت سيرا بطيئا في عودتي حتى لا أتعب الجملين، وتأكد أنا نستطيع الآن مباشرة رحلتنا. وقد سهوت أن أخبرك بأن أصدقائي، بعد أن تكلموا معي، ذهبوا إلى الخيمة القائمة على رأس الصحراء لإعطاء التعليمات لرجال مخصوصين للاستعداد وقت الطلب، وقد أخبرتهم بأنا قد نصل إليهم مساء الجمعة أو بعد غروب الشمس يوم السبت على أقصى تقدير.»
سألت زكي بن بلال بعد ذلك: «هل أحضرت معك خبزا؟ فإنا لا نملك من الطعام سوى كمية من البلح.» فأجابني: «إني شديد الأسف لنسيان ذلك الأمر الحيوي، وقد يرجع ذلك إلى عجلتي الشديدة.» فهونت عليه الأمر عندما شاهدته مطأطئ الرأس وقلت: «لا أهمية للخبز لأنا نستطيع إتمام رحلتنا القصيرة هذه حتى دون الاستعانة بشيء من البلح.»
قال حامد لزكي: «أسرج الجمل الخفيف اللون، ثم اذهب مع صديقنا وأخينا إلى الصخرة العميقة واسق الجمال ماء، ثم انتظرني هناك، وأما أنا فسأحمل السرج على ظهري وأسير وراء جملي، الذي يستطيع بعد راحته أن يقطع المسافة القصيرة الباقية لغاية تلك الصخرة. ولكن أرى من الخير ألا تذهب مباشرة إلى عين الماء، بل عليك أن تختفي في بقعة مجاورة حتى تصل إليها؛ فمن المخاطرة أن تسير مباشرة إلى مكان الماء؛ لأنا لسنا موقنين بأن المكان غير مطروق بأقدام الرعاة؛ ففي الأرض جمال كثيرة تحتاج إلى الماء.»
سرت مع زكي وفي يدي قيادة أحد الجملين قاصدا معه (زكي) الصخرة التي تنبسق منها المياه، ثم اختبأت في مكان أرشدني إليه رفيقي.
قبل غروب الشمس بساعتين حضر حامد وزكي بثلاثة جمال ارتوت قبل حضورها، وحمل كل من الصديقين قربة مملوءة بالماء، وحال وصولهما ركب ثلاثتنا الجمال الثلاثة وسرنا في طريق شرقية شمالية معرجين إلى الناحية الشرقية، مخترقين التلال التي كانت فيما مضى وعرة جدا وعسيرا تسلقها. ولم يكد يرخي الليل سدوله حتى وصلنا إلى المستوى الفسيح بعيدين عن أنظار الناس. واصلنا رحلتنا طول الليل بدون وقوف، وكان سيرنا على الجمال بطيئا شبيها بالسير العادي. وعندما بدأ نور الفجر، بشرنا حامد بأنا قطعنا ما يقرب من نصف المسافة في طريقنا الوعرة وفي رحلتنا الخطيرة.
أضاف حامد إلى ذلك: «إنا اليوم في أخطر وأدق أيام رحلتنا؛ لأنا أصبحنا مجاورين لشاطئ النيل، وسنضطر إلى اجتياز مراع تابعة لقبائل النهر، فنسأل الله اللطيف بعباده أن يصل بنا إلى غرضنا دون وقوع عيون المراقبين علينا.»
في طول رحلتنا هذه لم يتغير منظر البلاد الخلوية الصحراوية إلا في القليل النادر، الذي نجد فيه بقاعا من الأعشاب يتخللها بعض أكمات الميموسا، أما الأرض في غالبيتها فرملية تنتشر الأحجار في بعض نواحيها.
سرنا في رحلتنا الأخيرة دون وقوف في الطريق ولم يكن لدينا من الطعام سوى التمر الذي أكلناه على ظهور جمالنا. وعندما بلغت الشمس سمت الرأس، شاهدنا قطيعا من الغنم يقوده بعض الرعاة، فاضطررنا إلى تحويل خط سيرنا حتى لا يرونا، وعندما شعرنا أنهم شاهدونا أسرع زكي بن بلال بجمله إليهم ليلتقط الأنباء. وبعد أن قابلهم، رجع إلينا فطمأننا بأنهم لا يعرفون شيئا عنا وعن هروبنا من أم درمان. تابعنا السير فشاهدنا آثار خطوات جمال وماشية وحمير، فخشينا وقوعنا في قبضة المتعقبين، ولكنا حمدنا الله لأن الناس لم يظهروا في ذلك الوقت. وبعد قليل من رحلتنا وصلنا إلى جزء منبسط فسيح من الأرض مرة أخرى.
قال لي حامد: «هل تشاهد البقعة الرمادية اللون القائمة على مئات من الياردات أمام خط سيرنا؟ تلك طريق القوافل من بربر إلى وادي حمير ودار شيفية، فإذا ما اجتزنا تلك البقعة بعيدين عن الأنظار، فليس بعد ذلك ما يخيفنا؛ لأن كل ما بين تلك البقعة والنهر عبارة عن أرض حجرية لا أثر للأقدام فيها، ولا شيء من النبات أو الأعشاب بين جهاتها؛ وإذن هي بعيدة عن أقدام الآدميين. وعلى أية حال، من الواجب عليك أن تنصت لكل تعليماتي من الآن، وأولها سير الجمال ببطء، حتى إذا ما قطعت جمالنا خمسمائة خطوة أو يزيد وصلنا إلى مكان الأثر، وبعدئذ نتحول في الطريق المؤدية إلى بربر سائرين بضع دقائق، ثم نغير سيرنا مرة أخرى إلى الجهة الشرقية .»
بعد أن انتهى حامد من ذلك القول سكت سكوت الموافقة، ثم قال لي: «هل ترى تلك الرابية الصخرية الواقعة على بعد ثلاثة أميال تقريبا؟ هناك سنجد مكانا أمينا هو الوحيد الذي نستطيع عنده تضليل متعقبينا، بحيث لا يقفون على أي أثر لأقدامنا.»
أصغينا إلى تعاليم وأوامر حامد، فاجتزنا طريق القوافل التي لا يجتازها الناس إلا في القليل، وأكبر امتياز لها اختفاء آثار العابرين. وعلى أية حال، تقابلنا في المكان المعين.
ابتسم حامد في النهاية وقال لي: «حث الجمال على المسير ولا تستغن عن أقصى مساعدة ممكنة من تلك الجمال الأمينة؛ لأنا الآن في شديد الحاجة إلى خدمتها. ومهما يكن الأمر، فقد انتهى كل شيء على خير، ووفقنا الله توفيقا عظيما.»
منذ غادرنا أم درمان لم أشاهد ابتسامة واحدة في وجه حامد قبل هذه الأخيرة، فأدركت في الحال أنا نجونا من الخطر بمحاذاتنا شاطئ النهر.
واصلنا السير وكل منا يضرب جمله الشديد التعب بدون رحمة، حتى تركنا صفا من التلال إلى يميننا ووصلنا إلى قرابة.
أما قرابة هذه فعبارة عن نجد رملي التربة، مغطاة أرضه بحجارة سوداء تختلف في حجومها من القطعة المماثلة لقبضة الرجل إلى القطعة المماثلة لرأسه. ومما تمتاز به تلك الحجارة في الأرض المذكورة أنها قائمة في صفوف منتظمة، يخيل لمن يشاهدها أن أفرادا عنوا برصفها على ذلك النسق البديع. وإلى جانب الحجارة توجد صخور فردية، يبتعد كل منها عن الآخر مسافة تكاد تكون واحدة في جميع الصخور، ولا شك في أن الجمال تعجز عن السير بسرعة في مثل ذلك الخط الحجري الصخري؛ وذلك مما يساعدنا في خطتنا ومما نعده توفيقا جديدا لنا بعثه الله لتسهيل نجاتنا.
قبل أن تغرب الشمس ظهر لنا من بعيد ذلك النيل السعيد بمياهه العذبة، فكان موقعه بين الأراضي المتجاورة شبيها بالخط الفضي اللامع وسط البقعة المعدنية بما فيها من ألوان قائمة وخضراء ورملية.
تدرجنا من أعلى النجد في طريق ملتوية يزيدها وعورة ظلام الليل، وما زلنا في سيرنا البطيء على الجمال حتى وصلنا إلى واد قائم بين تلال حجرية. وبعد وصولنا توقفنا لإراحة جمالنا التي أنزلنا السرج عنها، وكنا راغبين في السير على الأقدام ما يقرب من ساعتين حتى نصل إلى شاطئ النهر.
جلس حامد وزكي على الأرض بعد إنزال السروج عن الجمال الثلاثة، وأخذا في عملية أكل البلح بذمة وأمانة، وبينما هما يأكلان قالا لي معا: «قربنا إلى الغاية التي سعينا إليها منذ فكرنا في الهروب، فانتظر هنا مع الجمال الثلاثة لأنا (حامد وزكي) سنذهب إلى بقعة مجاورة للنهر نعرفها جيدا، وفي تلك البقعة ستلتقي بأصدقائك الذين سيسهلون لك بقية رحلة النجاة.» تركني الصديقان وبقيت وحدي متأملا في المستقبل. وقد مرت أمام مخيلتي في تلك الأثناء صور أفراد أسرتي وصورة مجسمة لوطني العزيز، وبعد أن تعبت من التفكير انطرحت بجسمي المنهوك القوى على الأرض فنمت ولم أستيقظ إلا قبل نصف الليل، فلم أجد أحدا من الصديقين (حامد وزكي)، فداخلتني الوساوس وتأكدت أن عدم حضورهما سيحول دون عبوري النهر في الفرصة الملائمة ليلا. وعلى أي حال، صبرت حتى سمعت قبل الفجر بساعتين وقع أقدام، فتبينت القادم فعرفت أنه حامد.
سألت حامدا عن الأخبار في حالة فزع وقلق فأجابني بما جلب لي اليأس قائلا: «لا شيء مطلقا، فإنا لم نتمكن من العثور على أصدقائك في المكان المعين فرجعت إليك؛ لأنك لا تستطيع البقاء هنا بمفردك بعد بزوغ الفجر؛ لأنك قريب جدا من مساكن الآدميين، فليس بدعا أن تقع عليك أنظار الرقباء؛ ولذلك عدت بعد أن تركت صديقي زكي للبحث عن أصدقائك الجدد الذين سيسهلون لك مهمتك الجديدة النيلية، فاحمل القربة المائية وجراب البلح على كتفك؛ لأني من التعب بمكان لا أستطيع معه حمل شيء أكثر من جسمي الذي تحمله قدماي. واعلم أنه يتحتم علينا الرجوع إلى قرابة؛ حيث تظل هناك إلى انتصاف النهار مختفيا بين الأحجار والصخور.»
أصغيت إلى أوامر حامد ونفذتها، فوصلت إلى النجد بعد مسير ساعة مع حامد. وبعد أن سرنا مسافة أخرى في الظلام، وقف حامد فجأة وقال لي: «قف هنا واصنع حلقة من الأحجار كتلك التي يصنعها رعاة الجمال في الشتاء لوقاية أنفسهم من البرد الشديد، وبعد الانتهاء من صنع تلك الحلقة نم في جوانبها الداخلية، وإني مسرور لأنك متين في صنعها الآن، حتى إنك تكاد تكون عربيا كأنك واحد منا نحن عرب السودان، وأؤكد أني سأحضر إليك في المساء لأرى الحال التي أنت عليها، وأما الآن فسأرجع إلى الجمال، فلا تخف ولا ترتب في أي شخص قد يراك؛ لأن رجال الناحية التي أنت فيها يعرفونني جيدا، فإذا سألني أحدهم أي سؤال أجبته بأني حضرت من شيفية لمشاهدة بعض المقيمين هنا، ومن حسن حظي وجود بعض أقارب لي في هذه الناحية.»
رجع حامد إلى الجمال وبقيت أنا وحدي في بقعة منعزلة مخيفة المنظر.
أقمت الدائرة الحجرية، وكان ارتفاعها نصف متر، ولم أجعل في الداخل مكانا لغير جسمي وقربتي وبندقيتي. فلم يكد يشتد وضح النهار حتى انسحبت إلى مغارتي الصغيرة، وحفرت في أرضها الرملية بقعة عميقة تمكنت فيها من إلقاء ظهري ومد جسمي بحيث لم يرني أحد، وفي ذلك الوقت تدفقت إلى رأسي ذكريات الماضي وآمال المستقبل، وفكرت بصفة خاصة في الماضي القريب؛ حيث غضب الخليفة عبد الله، ونقمته الشديدة علي بعد هروبي. ولم يخفف عني الفزع في ذلك التصور سوى مرور صور أحبائي وأقربائي بمخيلتي في الوقت نفسه. وما زلت أعلل النفس بالآمال والأماني رغم اشتداد العقبات وخطورة الموقف، ولكني بعد ذلك وجمت فساءلت نفسي عن التغيير الذي حدا بي إلى مظهر الخوف الجديد، وعن الداعي إلى عدم تمسكي بمبدأ الصبر. ومهما يكن الأمر، فإني كنت في أشد أوقات الخطر بعيدا عن الاستسلام الكلي للقنوط، كما كنت منذ غادرت أم درمان واثقا في حظي الحسن وتوفيق الله إياي، إلا أن ذلك لم يمنع شعوري اليوم شعورا خاصا بالخوف، وقد يرجع ذلك إلى الشبه القائم بين مغارتي الصغيرة هذه وبين القبر الذي قد يضمني في القريب العاجل. أعود فأقول: «إن القبر مصير كل حي، وإن الناس بالغين من أعمارهم ما بلغوا سيصلون إلى القبور التي ضمت آباءهم وأجدادهم من قبل، فسواء أطال عمر الإنسان أم قصر، فإنه لن يصل في النهاية إلى غير تلك الحفرة الضيقة؛ وإذن سأموت كما مات الناس ويموتون. ولكن الصعوبة في شيء واحد إذا مت هنا، وذلك موتي منبوذا مهجورا غير مودع أعزائي وأقربائي، فيا ساكن السماء ومسير الفلك الدوار لا تتخل عني، وكن رحيما بعبدك في ذلك القفر الموحش، فارحم اللهم عبدك الأثيم، ولا تعاقبني على ذنوبي؛ فقد طلبت الغفران من جلالك وأنت الواسع الغفران. اللهم ارحمني، والطف بي، واسمح لي بمشاهدة أصدقائي وأعزائي والرجوع إلى وطني العزيز مرة أخرى قبل موتي!»
بعد أن ناجيت الماضي وذكرت آمال المستقبل، التزمت الصمت مرة أخرى. وفي نهاية الأمر فكرت في الأمر - على الرغم من تأخير صاحبي - فانتهيت إلى أن الذي أنقذني في بداية رحلة النجاة قادر على إنقاذي في الختام.
مرت بمخيلتي الآمال، فذكرت أني سأعبر النهر هذه الليلة، ثم أجتاز الطريق وأصل إلى الصحراء غدا، وفي مدى يومين أو ثلاثة سأجتاز كل خطر، وأصبح في أمن كلي بحيث أستطيع الإسراع بملاقاة من تمنيت السنين الطوال أن أحظى بهم في خير.
بعد أن انتهيت من ذلك التفكير ابتسمت مرة أخرى ابتسامة مملوءة بالثقة والأمل من عطف الله وعونه، ثم مسكت معطفي الصغير ولففت به وجهي حتى أقي نفسي من حرارة الشمس ومن أنظار المراقبين، ثم بقيت منتظرا ما يقدره لي ربي وأنا على ثقة تامة في الخير. بعد مرور الظهر بقليل سمعت صوتا خفيفا، فرفعت رأسي ونظرت من خلال الأحجار المترامية فصدق ظني؛ حيث عرفت أن القادم هو حامد الذي أقبل إلي بابتسامة الصديق المخلص قائلا لي: «اسعد حالا وأبشر؛ فقد وجدنا الأصدقاء المعنيين لمرافقتك.» فطرت فرحا عندما سمعت هذا القول، وتيقنت أن نجم سعدي قد تجلى في الأفق مرة أخرى.
عندما أقبل حامد جلس خارج الكومة الحجرية، ثم قال: «تستطيع أن تفرج عن نفسك الآن وتخرج من مغارتك الضيقة هذه؛ لأني عينت لك مراقبين في الجهات المجاورة ينقلون إلينا كل ما يحدث حولنا، فلا تخش شيئا لأن صاحبنا زكي وجد الرفاق الجدد الثلاثة، وقد حضر الآن واحد منهم إلينا ليعرف مكان إقامتنا، وهم جميعا على استعداد وسيحضرون إلينا ماء، ولكني أحذرك أشد الحذر وأنصح لك بالابتعاد عن كل ما يريب؛ لأن هروبك من أم درمان أصبح معروفا في المنطقة التي نحن فيها، فتعال معي الآن أو انتظر حتى يحين الليل. وعلى أي حال فأنا ذاهب الآن، فهل تستطيع معرفة الطريق بمفردك؟ وهل ترغب في عودتي إليك لآخذك معي؟»
فأجبته: «لا داعي إلى عودتك مرة أخرى لأني أعرف الطريق، وسألتقي بك في المساء.»
عندما غربت الشمس حملت بندقيتي وقربة الماء على ظهري، وتركت البقعة التي مرت بمخيلتي فيها تذكارات مؤلمة وآمال كبار. وعندما وصلت إلى الرفاق الجدد وجدت اثنين منهم فرأيتهما غريبين عني رغم بقائي السنين الطوال في السودان بين أبنائها.
حياني ذانك الرجلان وقالا لي: «قد أرسلنا إليك صديقك أحمد واد عبد الله، ونحن من قبيلة جهيماب، وسنسير إلى النهر حيث يصل إلينا أحمد واد عبد الله نفسه لمساعدتك في اجتياز النهر، وستكون الجمال على انتظارنا في الشاطئ الثاني من النهر لتعبر بنا النهر، والآن فلتودع صديقيك القديمين لأن مهمتهما قد انتهت.» سلمت بعد ذلك على صديقي المخلصين الحميمين حامد وزكي، وشكرت لهما إخلاصهما بكلمات خارجة من أعماق القلب، ثم قلت لهما: «أودعكما وكلي ثقة في الالتقاء بكما في وقت سعيد؛ هو وقت السلم والأمن.»
أخذنا (أنا والرفيقان الجديدان) جملين وتركنا الثالث للصديقين القديمين، فارتقيت إلى ظهر الجمل وركب خلفي أحد الصديقين الجديدين.
سألت هذا الجديد: «ما اسمك؟» فأجابني قائلا: «يدعوني الناس باسم محمد، وأما اسم صديقي فإسحاق.» سألته بعدئذ: «هل تجتاز معي الصحراء يا محمد؟» فأجابني بقوله: «لا يا سيدي؛ فهناك من كلفوا بتلك المهمة. وعلى أية حال، فالخير في أن يسير الجمل سيرا بطيئا، ويحسن بك أن تغطي وجهك على الرغم من الظلام الشديد؛ فقد وردت أوامر من بربر من ثلاثة أيام بمراقبة الطرق مراقبة دقيقة، ووضعت الطرقات المائية تحت مراقبة شديدة أخرى. ومهما يكن الأمر، فلا خوف عليك من بلدنا.»
بعد أن سرنا بجملينا ما يقرب من ساعتين في طريق شرقية شمالية بانحدار شرقي، وصلنا إلى النهر، وتمكنا قبل نزول النهر من سماع أصوات الآلات المائية وكلام وضحك العبيد وزوجاتهم.
عندما وصلنا إلى كومة صغيرة من أوراق الأشجار همس محمد في أذني: «ادع الجمل للبروك ببطء ورفق حتى لا يصدر منه صوت يلفت الأنظار.»
برك الجملان على الأرض ولم يصدر منهما صوت على الإطلاق، وقد تركني الاثنان على أن يعودا مع أحمد، فبقيت منفردا في الظلام الحالك واستمررت على ذلك نحوا من ساعة، وأخيرا رأيت أربعة رجال قادمين، فأسرع أطولهم نحوي وضمني إلى صدره وعانقني طويلا قائلا لي في صوت خافت: «أنا أخوك أحمد عبد الله من قبيلة جهيماب، وأول ما أطلبه منك هو أن تصدق قولي، وهو أنك بحمد الله ناج من كل خطر، وأما أنتما يا محمد ويا إسحاق فأخليا السرجين عن ظهري الجملين في رفق وتؤدة، ولا تسمعا أحدا من الناس صوتا، ثم انفخا القربتين الفارغتين واربطاهما حول رقبتي الجملين، ثم اعبرا النهر من شاطئه في نقط ومواضع مختلفة، ثم انتظرا أوامري غدا على مقربة من دار «مقاتلة الثيران».»
التفت إلي أحمد واد عبد الله بعد ذلك قائلا: «اتبعني». وحمل أحمد سرجا وحمل الرجل الرابع سرجا آخر، ثم سارا فتبعتهما، وبعد بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ نهر النيل المقدس، حيث وجدنا في ركن صغير قاربا صغيرا يكفي بالجهد لحملنا، وقد صنع أصدقائي الجدد هذا القارب بأيديهم.
نزلنا إلى حافة النهر وركبنا القارب الصغير الذي أقلع بنا إلى حيث يريد بنا الله، وقد استغرقت عملية عبور المجرى أكثر من ساعة، وعندما وصل إلى الشاطئ الثاني صعدنا إلى الأرض، ورجع أحد الرفاق بالقارب الصغير، ثم صنع في قاع «القارب» ثقبا واسعا فغرق «القارب»؛ والغرض من ذلك هو إخفاء كل أثر لعبورنا النهر.
أما نحن فسرنا على الناحية البرية ما يقرب من نصف ساعة، وعندما وصلنا إلى بقعة خاصة طلب مني أحمد عبد الله انتظاره؛ لأنه ذهب لإحضار طبق مملوء باللبن ومقدار من الخبز.
قال لي أحمد بعد عودته بالطعام: «كل واشرب ولا تفكر في شيء؛ فقد اجتزنا الخطر. وأقسم لك بالله وبنبينا أنك ناج، وأن الله سيمتعك بملاقاة أحبائك جميعا. كنت عازما ومفكرا أن تتم رحلتك الليلة، ولكن أرى الوقت متأخرا جدا، فالخير في بقائك هنا إلى مساء الغد، وعلاوة على ذلك فإنا مضطرون إلى أن نسقي الجمال غدا. وبما أنا قريبان هنا من مساكن الناس، فسيسير بك ابن أختي «إبراهيم علي» إلى مكان بعيد نوعا لا تصل إليك فيه عيون الرقباء، فانتظرني هناك وسأحضر لك دابة تركبها. أما إذا كنت شاعرا بالقوة على قطع المسافة على قدميك، فإني أستغني عن إحضار الدابة.» فأجبته على الفور: «إني قوي ولا ريب في أني قادر على المشي فأين إبراهيم علي؟»
أجابني أحمد: «هو إلى جوارنا، وسيكون مرشدك في الصحراء المقفرة.»
كنا حقا في ليلة مظلمة يزيدها ظلاما ما في مخيلتي من وساوس أصرح بأنها ليست مرعبة كما كانت الحال قبل اجتياز النهر، والآن فلنترك الوساوس لنرجع إلى ما حدث في الرحلة، فأقول إن إبراهيم ذهب أولا بقربة فارغة في يده سائرا في طريق القوافل الموازية للنهر إلى أبي حمد، وقد تبعت صاحبي الجديد هذا. وبعد أن سرنا ما يقرب من ثلاثة أميال إنجليزية، نزل إبراهيم إلى النهر وملأ القربة، ثم غير خط السير بعد ذلك متجها إلى الطريق البرية، أما السير فكان شاقا جدا؛ لأن الحجارة الضخمة التي غطت التلال وقامت حواليها عاقت سيرنا السريع. أما عن شخصي، فكنت كاليائس في سيره أتخبط مرة نحو اليمين في ذلك الحجر وأتسكع أخرى نحو اليسار في ذلك التل، كأنما أنا في أقبح حالات السكر، وما زلنا في حالنا هذه حتى وصلنا إلى حفرة في الأرض، فأمرني إبراهيم بالوقوف عندها؛ حيث قال لي بعد صمته الطويل: «هذه هي البقعة التي عينها لي خالي، فانتظر هنا هادئا، وفي مساء الغد سأحضر الجملين لمواصلة الرحلة، وسأترك لك الخبز والماء، فأودعك الآن؛ لأني مضطر إلى القيام بجميع معداتنا، وأرجو أن ألقاك في خير غدا.» إذن بقيت وحدي مرة أخرى لا يرافقني سوى ضوء الشمس واختلاف الأفكار، ولكني على أية حال كنت محتملا ولم يكن الليل بساعاته القليلة الباقية وصباح اليوم التالي بالشيء الكثير غير المحتمل؛ لأني نجوت من الخطر بعد عبور النهر، واقتربت من الوصول إلى أحبائي ووطني. غربت شمس يومنا الجديد، وبعد غروبها بساعة سمعت صوت سير حيوانات مسرعة نحوي فنظرت بدقة، وإذا بي أجد أحمد عبد الله وفي صحبته رجلان على حمارين. أقبل أحمد مسرعا نحوي وضمني إلى صدره مبتسما، ثم قال: «الشكر لله الذي نجاك وينجيك، وأما الرجلان اللذان معي فهما شقيقاي، وقد حضرا معي ليسألا لك السلامة.»
حييت الرجلين الجديدين تحية إخلاص، ثم أدرت وجهي إلى أحمد وقلت له: «ولكني لا أفهم حقيقة ما جرى، وأدرك من شكركم المتكرر لله أني نجوت من خطر عظيم.» فأجابني أحمد: «بالطبع لم تعرف ما تم، ولم تسمع عن الخطر العظيم الذي نجوت منه بأعجوبة، فأصغ إلي أحدثك مليا! منذ ثلاثة أيام علم زكي عثمان أمير بربر - ولا نعرف المصدر الذي علم منه - أن الحامية المصرية في مورات حصلت على إمدادات جديدة كبيرة الأهمية وعظيمة الأثر رغبة في مهاجمة القوة المهدية في أبي حمد، فاضطر زكي عثمان إلى إرسال مدد يدفع غارات المصريين. وبالفعل قام اليوم من بربر ستون فارسا وثلاثمائة بيادة ومروا بمساكننا، ولا شك أنك تعرف المحاربين، إنهم يسمون الأنصار، وهم في مجموعهم ضخام الأجسام، مفترسون، أقرب إلى الوحوش - في الفتك بالناس - منهم إلى الآدميين.
أثناء مرور أولئك كنا نجهز لك قسما من خروف ذبحناه ليكون زادا لك في الطريق، فدهش الجنود عندما رأوا ما نقوم بتجهيزه، وبعد أن ارتابوا في عملنا تفرقوا ونهبوا ما نهبوا، وقد كنت حقا شديد الحذر من ناحيتهم وشديد الخوف على ما قد ينتابك من عسفهم إذا صادفوك في طريقهم، ولكني أحمد الله الآن؛ لأنهم اجتازوا الطريق إلى أبي حمد، ولتصحبهم لعنة الله وليصحبنا نصره وعونه، فلجلاله الشكر الدائم إزاء حمايته لنا.»
صحت بعد ذلك فترة هي فترة الذهول بعد نجاتي من ذلك الهول المروع، ثم سجدت في خشوع كامل للخالق الصمد الذي نجاني من ذلك الخطر العظيم بعد إذ لم نكن نتوقعه.
علمت بعد ذلك أن الجنرال كتشنر باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري وصل إلى وادي حلفا للقيام بالمناورات المعتادة، وأن الضابط ماتشل بك قاد الأورطة السودانية الثانية عشرة ومائتين من الهجانة إلى حلفا من كورسكو عن طريق مورات، وهذا سبب الإشاعة عن تقوية حامية مورات وعن الهجوم المزعوم على أبي حمد.
قال أحمد بعد ذلك: «ستتأخر الجمال قليلا؛ لأني أمرت بإسراجها في داخل الجدود أثناء مجيء الدراويش؛ خوفا من أن يستعملها الآخرون - إذا رأوها - في نقل الذخيرة وبعض الحقائب العسكرية. فإذا كنت شاعرا بالرغبة في البقاء هنا إلى صباح الغد، فإني موافقك على عملك؛ لأنا نستطيع بذلك الحصول على جمال مملوءة بالقوة.»
فأجبته على الفور: «إني لا أرغب في أي تأخير، وأفضل في جميع الأحوال القيام بالرحلة حالا؛ فإن تأخير المدد والحاجة إلى جمال كاملة القوة لا يحولان دون الإسراع في الرحيل. وعلى أية حال، فإني مملوء ثقة بأن الجمال ستصل إلينا سريعا.»
قبل منتصف الليل وصلت إلينا ثلاثة جمال صحبة اثنين قدمهما لي أحمد عبد الله قائلا لي: «هذان مرشداك الجديدان إبراهيم علي، ابن أخي، ويعقوب حسن أحد أقربائي الأخصاء، وسيسير بك هذان إلى الشيخ حامد فضاي زعيم عرب الأعراب الخاضعين للحكومة المصرية، وهذا الأخير سيعينك في الوصول إلى أسوان.»
بعد ذلك ملأنا قرب الماء وواصلنا رحلتنا، وعند البدء في الرحيل قال لي أحمد بن عبد الله: «أرجوك أن تتجاوز عن التقصير في إتمام معدات الرحلة؛ فإن الخطأ ليس من ناحيتي. ولئن حرمت من الأكل الطيب، فلديك من البلح والخبز ما يكفي لمقاومة غائلة الجوع.»
ركبنا الجمال ثلاث ساعات ونصف ساعة في طريق شرقية شمالية نحو الجانب الشرقي، وكان ذلك قبل إشراق الشمس، وعندما بزغ نور الفجر وجدنا أنفسنا في الجهة الشرقية من وادي الحمير. سمي باسم الحمير البرية التي تسكنه، ويكاد هذا الوادي يخلو من النبات.
تقدمنا في سيرنا، فدلت الطلائع على أنا في صحراء؛ حيث شاهدنا الرمال الممتدة في كل ناحية وبقايا التلال في بعض الجوانب، ولم نجد على الإطلاق شجرة أو شيئا من الزرع الأخضر. وبعد أن سرنا على تلك الحال يومين كاملين - دون استراحة على وجه عام - وصلنا إلى تلال نورابي التي كانت محتلة فيما مضى بقبائل عرب بشارن، يمتد هذا الوادي في اتجاه شمالي شرقي في معظم جهاته، وتتخلله منحدرات وعرة تقوم على جوانبها أشجار الميموسا، وفي تل جانبي من تلك التلال توجد أشجار مسماة باسم التل العام «نورانية».
حدق إبراهيم على ناظريه من أعلى الجمل، فتفقد الوادي فرآه خلوا من الناس، فنصح لنا بدخوله فدخلناه، ثم أسرعنا في إرواء جمالنا بالماء العذب وملء قربنا الثلاث. أما البئر فنازلة في قاع الوادي ما يقرب من عشرين قدما، ومتجهة إلى ناحية مركزية على بعد خمس وعشرين ياردة، والنزول إلى عمق البئر بواسطة مدرجات حجرية صلبة. وبما أن الآبار في السودان أماكن اجتماع الناس، فضلنا ترك البئر والذهاب إلى مكان في داخل الوادي، فتركناها (البئر) وواصلنا سيرنا إلى الداخل مدة لا تقل عن ثلاث ساعات مجتازين تلال نوراني.
كان الفرق عظيما بين المرشدين القدماء والجدد؛ فالسابقون كانوا ممتلئين شجاعة وإخلاصا، وعلى استعداد لتضحية حياتهم في سبيل إنقاذ حياتي، أما اللاحقون فعلى النقيض من ذلك؛ لأنهم كانوا دائما يتذمرون من عملهم الذي يخيل لي أن أحمد عبد الله أجبرهم عليه إجبارا، ولم يتأخروا عن إظهار غضبهم؛ لأنهم لا ينامون النوم الكافي ولا يأكلون الأكل الجيد. وإني أذكر جيدا أن إهمال إبراهيم علي ويعقوب حسن أدى إلى إضاعة حذائي وصندوق خاص لي في الطريق، وقد سبب لي ضياع حذائي تعبا كثيرا في المستقبل.
وصلنا في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي - الخميس - إلى أحراش أبي حمد، وقد فضلت البقاء مختبئا عن الأنظار هناك على الرغم من عداء سكانه عداء شديدا لأتباع المهدي .
ذكرت قبلا أن أحمد عبد الله أمر إبراهيم علي ويعقوب حسن بالوصول بي إلى الشيخ حامد فضاي، ولكني أضيف إلى ذلك أن هذا الرأي لم يرق في أعينهما.
جاء لي هذان الرجلان عصرا وذكرا لي المخاطر التي تتهددهما بغيابهما أياما كثيرة عن قبيلتهما. وبما أنه أصبح من المؤكد جدا وقوف الخليفة على خبر فراري وعلى قسم من الطريق التي اجتزتها، لم يكن لدي شك في أنه سيستجوب الكثيرين ممن يرتاب في مساعدتهم لي في الفرار، خصوصا من قبيلة أولئك الجدد؛ لانتمائها في الصداقة إلى الحكومة المصرية؛ وإذن ليس الخطر واقعا على هذين الرجلين فحسب، بل على صديقي المخلص أحمد عبد الله أيضا. وأخيرا اتفق رأيهما على الذهاب إلى شخص يعرفه كلاهما، وبواسطة هذا الشخص أتابع رحلتي بأمان.
تأكدت بعد ذلك أن الخير في رجوع هذين الرجلين؛ لأن بقاءهما معي مضطرين خائفين - فضلا عن عدم إخلاصهما الشديد في مهمتهما - قد يعرضني لخطر جسيم؛ وإذن قبلت بسرور طلب الرجلين. وإني لا أخفي عن القراء حقيقة كراهتي الشديدة لهما؛ لأنهما كانا مجردين عن الإخلاص غير مباليين بما قد يصيبني من شر ما داما واثقين من نجاتهما وحدهما؛ إزاء ذلك طلبت منهما الإسراع في الذهاب إلى المكان الجديد حتى يرجعا إلى قبيلتهما. ولا غرابة بعد ذلك أن يكون ابتعادهما عني فوزا جديدا لي ومصدر راحة تامة وهدوء فكري.
عند غروب الشمس حضر الرجل الجديد، وهو من قبيلة عرب أمرات، واسمه حامد جرهوش البالغ من العمر حوالي خمسين عاما. وعندما حياني حامد هذا قال لي: «يسعى كل رجل إلى مصلحته الخاصة، فمرشداك - إبراهيم ويعقوب اللذان أعرفهما معرفة تامة - يرغبان في أن أدلك على الطريق من مكاننا هذا إلى أسوان. وتأكد أني مستعد للقيام بذلك، ولكني أريد الوقوف على ما سأحصل عليه إزاء هذا العمل الشاق.» فأجبته على الفور: «سأعطيك يوم وصولنا إلى أسوان مائة وعشرين ريالا من عملة مارية تريزة ، علاوة على هدية خاصة أقدمها تبعا لما تقوم لي به في هذه الرحلة الجديدة.»
قدم لي حامد بعد ذلك يده وقال لي: «إني مرتاح إلى ذلك وأتقبل المهمة؛ فإن الله ونبينا شاهدان على صدق ما أقول. وأما عن وعدك، فإني أعرف عنصرك وأثق أن الرجل الأبيض لا يكذب، وإذن سأسير بك إلى عشيرتك في طرق جبلية غير مطروقة بأقدام الآدميين، ولا يعرفها من مخلوقات الله سوى الطير الذي يحلق في المعمور دون أن ينقل أسرار الناس إلى الناس، فاستعد للرحيل لأنا سنواصل عملنا بإذن الله بعد غروب الشمس.»
اخترت أقوى الجمال الثلاثة لمواصلة الرحلة، وأخذت قربتين مملوءتين بالماء والقسم الأكبر من البلح وكمية من الذرة، وعندما خيم الليل وصل حامد إلى المكان المعد لابتداء السفر، أما ابن حامد فسار راكبا الجمل الوحيد الذي يملكه للبحث عن غلال في روباطاب القريبة من النهر. وتبعا لذلك اضطر حامد لمرافقة ابنه سائرا على قدميه، ولم يساعده على عمله الشاق هذا سوى إرادته الصادقة وقدميه القويتين. أما إبراهيم ويعقوب فعادا إلى قبيلتهما، وبطبيعة الحال لم أودعهما وداع الحزن، ولم أذكر لهما في معرض الشكر سوى كلمات قلائل؛ لأني أكرر ما قلته قبلا عن سروري العظيم لابتعادهما عني.
بعد أن واصلنا سيرنا يومين اجتزنا في أثنائهما تلالا صخرية، وصلنا في صباح الأحد إلى بئر صغيرة تكاد تكون خالية من الماء، واسمها «شوف العين». وعلى الرغم من ظهور ابتعاد القادمين إليها، بقيت تبعا لرغبة مرشدي في مكان يبعد ساعة عن هذه النقطة.
كان طعامنا عبارة عن التمر وكمية من الخبز صنعناها بأيدينا، وأقصد بذلك أن هذا الخبز كان لوقايتنا من الهلاك جوعا؛ فإن أي مخبز أوروبي يعرض للخطر العام إذا وجد بين جدرانه رغيف من الأرغفة التي نعملها؛ لأنها في مجموعها كريهة في منظرها وطعمها؛ فطريقة صنع الخبز التي قام بها مرشدي هي جمع كمية من الحجارة حجم كل واحدة منها لا يزيد عن حجم بيضة الفرخة، وبعد تكوينها يضع عليها أفرادا صغيرة من الخشب، ثم يعجن الذرة في الماء ويضع في آنية خشبة، ثم يشعل النار في الحطب والحجارة الصغيرة بواسطة حك الصوفان على حجر الصوان.
بعد اشتعال النار في الحطب ينزع حامد الجمر من الحجارة الملتهبة ليضع عليه العجين، وبعد ذلك يرد الجمر إلى الحجارة، وبعد أن ينتهي من ذلك التقليب الناري يضرب العجين بالعصا الصغيرة حتى يزيل ما فيه من الرماد وآثار الحجارة الصغيرة.
هذا هو الخبز الذي نأكله، فإن لم نكن مدفوعين إلى أكله بلذة النظر إليه، فليس أقل من أن يدفعنا إلى تناوله جوعنا الشديد.
بعد أن ارتحنا قليلا على مقربة من البئر، واصلنا السير بضع ساعات، حتى انتهينا إلى المنحدرات الأولى لجبال عتابي الممتدة بين البحر الأحمر ونهر النيل، والتي يسكنها في ناحيتها الجنوبية عرب بشارن وأمران، وفي ناحيتها الشمالية قبيلة العبابدة.
تتفرع من بعض تلك النواحي الخالية من النبات أودية مملوءة بالغابات، يسكنها رعاة الجمال التابعون للقبائل السالفة الذكر.
اجتزنا بعد ذلك واديا قريبا غير مطروق وواصلنا رحلتنا دون راحة؛ لأني كنت شديد الرغبة في مشاهدة أعزائي في أقرب وقت ممكن أضمن في نهايته السلامة من أخطار رحلتنا المتعبة المفزعة. ورغم كوننا ناجين من كل خطر، لأنا تركنا الحدود المهدية وصرنا على الأراضي المصرية، رغم ذلك أصر مرشدي على البقاء بعيدين عن عيون الرقباء والناظرين كائنين من كانوا؛ لأنه خاف من أن تقع علينا عيون بعض التجار الذين يتعاملون مع السودان.
وبما أن منزله قائم على الحدود، وأنه كان مضطرا - لأسباب مختلفة - إلى الذهاب لبربر؛ فمن الواجب علي أن أقدر خدمته لي - في موقفه الخطير هذا - حق قدرها.
وفي الحق لم أجد بين من شاهدت في السودان رجلا أقوى عزيمة وأسمى روحا من صديقي الأخير هذا، على الرغم من ضعف جسمه. ولا ريب في أن الطعام غير النظامي والسير المتواصل في كثير من الأحايين أثر أثرا سيئا في صحة هذا المتقدم في السن. وعلاوة على ذلك شعر صاحبي حامد بالبرد الشديد الذي أوقعه أخيرا في حبائل المرض، فاضطررت إشفاقا عليه أن أعطيه عباءتي لتدفئته، وأبقيت لنفسي المعطف الصغير والحزام الصوفي الكبير. وقد وصلت بي الرغبة في سرعة الوصول إلى أسوان حدا دفعني إلى أن أعطيه جملي وأسير على قدمي العارية فوق الأحجار أربعة أيام - سبب سيري عاري القدم هو إضاعة حذائي كما قلت قبلا بواسطة إبراهيم ويعقوب - ولا ريب أن هذه الفترة أشق مراحلي من الوجهة الصحية.
خيل إلينا قبل الوصول إلى أسوان بأيام قلائل أن الجمل يتأمر علينا في اللحظة الأخيرة، وليس ذلك غريبا؛ فقد أتعبه المسير المتواصل دون راحة إلا في النادر، وعلاوة على ذلك أصيب في مقدم القدم بجرح زاد واتسع عندما اصطدم بحجر مدبب، فاضطررت إلى أن أقطع جزءا من حزامي لألف به بطن القدم والجزء المجروح من الجمل، على أن أغير هذه اللفافة كل أربع وعشرين ساعة. وقد تعلمت ذلك من رعاة الجمال من دارفور، وكل ما بيني وبينهم من خلاف أنهم يستعملون الجلد بدل الصوف.
آخر الأمر قدر الله اللطيف بعباده أن ننزل في صباح السبت 16 مارس من أعلى منحدرات طريقنا، فنشاهد نهر النيل السعيد ومدينة أسوان الممتدة على شاطئه. وبطبيعة الحال أقر بالعجز الكلي عن وصف السرور الذي ملأ قلبي بعد الشكر لله إزاء النجاة والشعور بتحريري من العبودية؛ فقد انتهت آلامي، وقضى الله على مصائبي، ونجوت حقا من أيدي البرابرة الشديدي التعصب، ووقعت عيناي أول مرة على مساكن شعب متمدين يخضع للقانون والنظام، ويأتمر حكامه بأوامر العدالة فحسب.
واتجه - ساعة وصولي إلى أسوان - قلبي الطروب إلى عرش الله الأسمى شاكرا لجلاله حمايته ويمينه المرشدة. قوبلت بأعظم مظاهر الترحيب من معسكرات الضباط الإنجليز الخاضعين لصاحب السمو الخديو، وفي مساكن الضباط المصريين الذين لم يعلموا - إلا عندما التقوا بي - أنباء رحلتي المدهشة. وقد تسابق كل من أولئك الضباط المصريين الكرام في التفريج عن كربي القديم، وفي جلب السرور الذي ينسيني آلامي ونكباتي السابقة. كان المحافظ العسكري في ذلك الحين في أسوان الكولونل هنتر باشا، وكبار ضباطه الذين أذكرهم في هذه اللحظة هم البكباشيون جاكسون وسدني وماتشل بك ووطسون. وقد قدم كل منهم أقصى ما يستطيع من مجاملة صادقة ، فشكرت لكل من أعماق قلبي ودعوت لهم بالخير. وقبل تغيير ملابسي بملابس جديدة من التي قدمها لي أولئك الضباط، طلب مني صديقي البكباشي وطسون السماح له بأخذ صورتي - وطسون هذا من أدق الرسامين - فقبلت طلبه مع الشكر.
أما عن صديقي حامد جرهوش فقد دفعت له - بواسطة بطرس بك سركيس صديقي القديم ووكيل قنصلية إنجلترا في أسوان - مائة وعشرين ريالا من عملة مارية تريزة، وقدمت لحامد علاوة على ذلك هدية مالية وبعض الملابس والأسلحة، وفوق هذا وذاك قدم له هنتر باشا عشرة جنيهات إنجليزية تذكارا لوصولي سالما إلى أسوان. وبعد ذلك ودعني وداع الإخلاص وعاد إلى قبيلته مسرورا مبتهجا.
بعد قليل من وصولي إلى أسوان وردت لي تلغرافات التهاني؛ أولها من الماجور لويس بك بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن معسكر وادي حلفا؛ وثانيها من رئيس الوكالة السياسية النمساوية في مصر، وهو البارون هولرفون أجيرج، الذي تعب كثيرا في سبيل إنقاذي؛ ثم من صديقي المخلص الماجور ونجت بك.
أول من حياني من أبناء وطني تحية شخصية هو البارون فكتور هيرنج، ثم أولاده، وقد كانوا جميعا في ذهبيتهم في النيل.
صادف وصولي يوم قيام إحدى بواخر البريد، فاغتنمت الفرصة وتمكنت بمساعدة ذي الشأن في أسوان من مواصلة رحلتي بعد ظهر اليوم المذكور (16 مارس).
رافقني جميع الضباط الإنجليز والمصريين إلى الباخرة، ووقعت الفرقة العسكرية السودانية النشيد النمساوي الوطني على موسيقاها، فذرفت عيناي الدموع حنينا إلى الوطن العزيز، ثم دخلت السفينة فارتفع الهتاف من جميع الركاب على اختلاف جنسياتهم، فشكرت لهم جزيلا، ثم شكرت للضباط المقيمين في أسوان عنايتهم بي وإخلاصهم لي. وفي الحق لم أكن مستحقا كل ذلك التكريم وهذه الحفاوة، ولم أجد - مع شعوري بالخجل الشديد - سوى تقديم الشكر والدعاء للجميع بالخير.
كان معي في سفري ماتشل بك قائد الفرقة السودانية الثانية عشرة، والذي كانت مناوراته من وادي حلفا إلى كورسكو عن طريق مورات سببا في أكل الطعام المعد لي عندما وقع عليه الجنود السودانيون، وسببا في تغيير خط سيري.
عندما وصلت مساء الأحد إلى الأقصر تجلى عطف الأوروبيين المسافرين معي مرة أخرى، وهنا تلقيت عن طريق البارون هولر تلغرافا من شقيقاتي العزيزات صادرا من عاصمة وطني العزيز (فينا)، فما أبهج تلك الساعة التي قرأت فيها تلغرافا عليه إمضاء بأسماء شقيقاتي العزيزات وعنوان فينا العزيزة!
في الساعة الخامسة من مساء الإثنين وصلنا إلى جرجا أقصى محطة جنوبية للسكك الحديدية المصرية، ومنها ركبت القطار إلى مصر، حيث وصلت الساعة السادسة من صباح الثلاثاء 19 مارس.
على الرغم من تلك الساعة المبكرة جدا في الصباح، وجدت على المحطة البارون هولرفون إيجرج وجميع موظفي السفارة النمساوية والقنصل النمساوي الدكتور كارل وترفون جورا كوشي، وهناك أيضا صديقي العزيز ونجت بك الذي لا أستطيع في كلماتي القليلة هذه أن أعبر عن شكري له، وإلى جانب أولئك شاهدت مراسل «التيمس» والأب روزينولي وآخرين غيره، ومع أولئك فوتوغرافي يأخذ الصور المختلفة.
بعد أن صرفنا بضع دقائق في تبادل التحيات، سرنا إلى السفارة النمساوية، حيث بقيت مدة طويلة ضيفا عند الرجل الطيب الشديد الإخلاص البارون هولر، الذي قام بمجهود عظيم في سبيل حريتي، والذي لم يكن عمله ناجما عن واجبه بصفته ممثل النمسا في الحكومة المصرية، ولكن كان صادرا عن عاطفة حية مشفقة على شخص أصيب بالأسر المفزع.
عندما وصلت إلى السفارة وجدت الغرفة الخاصة مزينة بأعلام وطني العزيز، ومملوءة بالأزهار والورد، وقد كتب على باب السفارة «تحية صادقة للضيف الكريم».
في ذات اليوم الذي وصلت فيه إلى مصر، تسلمت تلغرافات التهنئة - بنجاتي - من أفراد أسرتي وأصدقائي ورفقائي في المدرسة قديما، ومن صحف عديدة في أوروبا بصفة عامة والنمسا بصفة خاصة. وإني لا أنسى العطف العظيم الذي تفضل به علي صاحب السمو الملكي الدوق ولهلم أف ورتمبرج، وصاحب السمو البرنس لويس إستر هازي، وقد كان كلاهما في حملة بوسنة عندما كنت أحارب مع فرقتي العسكرية، ولا ريب في أني سأذكر دائما كلمات التشجيع التي نادى بها ذانك الرجلان العظيمان إزاء مصائبي الأولى، وكلمات التهنئة بعد الفرار من مقر الخليفة عبد الله المشهور بطغيانه.
بعد عودتي إلى مصر بقليل تشرفت بمقابلة صاحب السمو خديو مصر، الذي أنعم علي برتبة الباشوية. دخلت السودان منذ ستة عشر عاما كملازم أول في الجيش النمساوي، وعندما عينت حاكما لدارفور منحت من الحربية المصرية لقب أميرال، أما الآن فرقيت إلى درجة اللواء حسب نظام الجيش المصري.
بعد أيام قلائل من تلك المقابلة السامية كنت واقفا في شرفة السفارة متطلعا إلى جمال حديقتها في فصل الربيع، فشاهدت طيرا مائيا أليفا إلى جانب الأعشاب، فتذكرت في الحال طير فالزرفين التابع لاسكانيانوفا توريدا الكائنة في روسيا الجنوبية، ففي الحال دخلت غرفتي وكتبت له بيانا كاملا عن طير الكركي الذي أطلقه في عام 1892 والذي قتل في دار شيفية، وفي الحق كنت مسرورا جدا بكتابة خطاب تفصيلي إلى الصاحب الأصلي لذلك الطير، وما هي إلا فترة صغيرة حتى ورد لي من فالزرفين رد على خطابي يشكرني فيه جزيلا ما ذكرته عنه ويدعوني لزيارته، ولكني لسوء الحظ لم أتمكن من القيام بتلك الزيارة النفيسة؛ لأني ارتبطت بمواعيد كثيرة جدا حالت دون قبول الدعوة الجديدة.
كثرت الدعوات الرسمية والخصوصية، وتعددت الزيارات بحيث لم أستطع القيام بعمل رسمي جدي قبل مرور بضعة أسابيع.
كان أول عمل لي بطبيعة الحال كتابة تقرير رسمي مفصل أرفعه لرؤسائي الحربيين، وبعد ذلك بفترة بدأت في كتابة قصة حياتي في الأعوام الستة العشرة الأخيرة.
أما صديقي القديم وزميلي في الأسر الأب أوهروالدر الخطيب الديني في سواكن، فقد انتهز أول فرصة وحضر خصوصا إلى مصر لتحيتي، وفي الحق كان اجتماعنا سبب سرور جديد لا أستطيع وصفه، وقد شعرت براحة كلية لأني تمكنت شخصيا من تقديم شكري الجزيل لهذا الصديق المخلص إزاء ما أبداه نحوي من مساعدة وتأييد. إني أشعر بثقل في رأسي ودوران قد يعقبه الإغماء كلما أتذكر الحالة الماضية وأقارنها بالحالية، وكلما أسرد حوادث مدة اثنتي عشرة سنة قضيتها أسيرا في أقصى حالات الأسر، وإزاء ذلك كله لم أستجمع قوى تفكيري قبل مرور فترة غير قصيرة.
الآن أشعر بأني رجل من شعب متمدن ورجال مسالمين، فترجع أفكاري إلى البرابرة المتعصبين الذين عشت معهم زمنا طويلا، قاسيت فيه الآلام وواجهت المخاطر، ثم أعود فأذكر رفاقي الذين لا يزالون تحت الأسر الممض، وألقي نظرة أسى على الأمم الواقعة في حبائل الأسر، فلله أجزل الشكر على فضله العظيم؛ حيث نجاني من الخطر الفادح وأوصلني بالسلامة إلى شعب هادئ أمين.
الفصل التاسع عشر
الختام
بعد أن قضيت أكثر من ستة عشر عاما - من بينها اثنا عشر عاما في الأسر الشنيع - في أفريقيا منقطع الصلة عن العالم المتمدين، قدر لي حظي السعيد أن أعود إلى أوروبا، إلا أنه من الواجب علي أن أقول بأن تغيرا عظيما في سبيل العمران حدث في أفريقيا في هذه المدة، فكثير من المناطق التي خاطر فيها أمثال المحترمين: لفنجستون وأسيك وجرانت وبيكر وستانلي وكمرون وبراز وجنكر وشونيفورت وهولب ولينز، ومئات غيرهم بأرواحهم العزيزة في سبيل البحث عنها؛ أصبحت (المناطق) قابلة الآن للنهوض المتمشي مع المدنية. في كثير من المناطق التي قاسى فيها المكتشفون قبلا كثيرا من المخاطر، توجد الآن قوى ومحطات عسكرية تساعد على نشر الأمن وتسهيل التجارة التي تعد أهم عناصر التقدم في الجهات المذكورة.
لئن تطلعنا إلى الدول صواحب الشأن في تلك المناطق، فإنا نجد في الشرق إيطاليا وإنجلترا وألمانيا، وفي الغرب الكنغو (بلجيكا) وفرنسا وإنجلترا، وتسعى كل من تلك الدول سعيا حثيثا في زيادة النفوذ في جهات مختلفة، وترمين جميعا إلى وضع الأيدي على أفريقيا الوسطى. وقد بدأ رجال القبائل المتوحشة - الذين يعتبرون أقرب إلى الحيوان منهم إلى الإنسان - يدركون حاجياتهم الضرورية، وأن هناك أناسا ذوي مراتب سامية في أنفسهم، ويرجع ذلك إلى المقدار الذي حصلوا عليه من المدنية والتقدم. ولا شك عندي في أن الممالك الإسلامية الصغيرة الشمالية، كوادي بورنو وفلاتا، سيدرك زعماؤها حاجتهم للتعاون مع الدول العظمى في سبيل الاحتفاظ بحكمهم الوراثي.
ذكرت المناطق السابقة ولم أشر إلى الآن بشيء للبقعة التي قضيت فيها أكثر من عشر سنين، ورغبتي في ذلك منحصرة في تخصيص الذكر والكلام عند ورود اسم السودان بين المناطق الأفريقية.
والآن أقول بأنا نجد في الناحية المتوسطة من أفريقيا، بين الأراضي المذكورة أخيرا وحيال القوى الأوروبية الباسطة نفوذها في الشمال والجنوب والغرب؛ نجد في تلك الناحية السودان المصري الذي يخضع اليوم لحكم الخليفة عبد الله وأشياع المهدي، وهم أشد الحكام قساوة وأكثرهم ظلما للرعايا.
إن الأوروبي، كائنا من كان، لن يستطيع اجتياز ذلك السودان كزائر أو عامل، وأقصى ما يحدث لذلك الأوروبي لا يختلف عن أدنى ما يصيبه، سوى اختلاف جزئي لا يؤثر شيئا في النفس التي اعتادت الحرية، والتي خلقها الله في جسم الإنسان لتشعر بسعادة الحياة الهادئة البعيدة عن العسف والمظالم من ناحية الحاكم صاحب الأمر. وللإنجاز أقول بأن أقصى ما يصيب الأوروبي في السودان هو الموت، وأدنى ما ينتابه هو البقاء طول حياته أو أغلبها أسيرا مغلوبا على أمره. قد لا يجد في الحقيقة فرقا بين الموت وبين تلك الحالة المؤلمة، ولكني عن شخصي أجد اختلافا ظاهرا؛ هو تمتعي بالنجاة والحياة الحرة قبل موتي الطبيعي الهادئ.
إذن يتعرض الأوروبي السائر لتلك البلاد البعيدة عن المدنية، والممتدة جنوبا على طول النيل إلى الرجاف، وشرقا إلى غربي كسلا على مقربة من واداي؛ للموت السريع أو لعيش مرير تحيط به مظالم المستبدين.
لم يكن السودان تحت حكم مصر على مثل ما أصف من شدة على الأوروبيين، ولم نكن نحن الغربيين نتضجر من أمثال تلك المظالم، فما هي إلا عشر سنوات منذ وقع السودان في قبضة المهديين حتى شاهدنا المظالم تترى والعسف يتوالى. وإنه لمن الحق أن أصرح بأن السودان ظل أكثر من سبعين سنة - منذ دخله محمد علي - تحت حكم مصر والمصريين، فكان من ذلك العهد الطويل مفتوحا للجميع ومستعدا لقبول كل جديد تأتي به المدنية ويدعو إليه العمران.
تحت حكم المصريين انتشر التجار المصريون والأجانب على السواء في مدن السودان الرئيسية، وفي الخرطوم ذاتها كان للدول الأوروبية العظمى ممثلون محترمون من الجميع، وقد كان الأجانب من جميع الدول الأوروبية متمتعين بحق الدخول إلى السودان والخروج منه، وهم في كل من تينك الحالتين على أتم ما يتمنون من أمن وهدوء وسلم. وإلى جانب ذلك سهلت المواصلات بين السودان، وأبعد الممالك الأوروبية بواسطة الرسائل التلغرافية والبريدية المنظمة.
إن أعظم ما تمتع به السودان أثناء الحكم المصري الطويل هو قيام كل فرد بشعائره الدينية وبنشر العلوم حسبما يوحي إليه ضميره، فكنت ترى مساجد المسلمين وكنائس المسيحيين في أماكن قريبة يقصدها أبناؤها بمطلق الحرية وفي هدوء واطمئنان، كما كنت ترى مدارس المسيحيين الأوروبيين منتشرة لتعليم العلوم الحديثة، لا فرق في ذلك بين الفلسفية منها والدينية والعلمية المحضة، كانت المناطق السودانية مقطونة بقبائل مختلفة، وكان العداء في كثير من الأحيان شديدا بين رجال القبائل، ولكن حزم الحكومة المصرية أدى إلى نشر السلم بين السودانيين على وجه عام، سواء أكانوا في ذلك راضين أم مرغمين.
جاء دور المهديين فانقلب الحسن إلى سيئ، وأصبحت الحال المهدية الجديدة غير الحال المصرية الأولى، فانتشر الجزع والاضطراب في البلاد السودانية. وقد أبنت في الفصول السابقة مقدار طمع وسوء إدارة الموظفين الجدد؛ مما وصل بالبلاد إلى حد أصبح ميسورا معه نشوب الثورة.
سعيت جهدي في الفصول السابقة إلى شرح ما قام به محمد أحمد لاستغلال الموقف والظهور بين القبائل المتقاتلة؛ فقد أيقن ذلك الرجل أن السبيل الوحيدة التي توفق بين أولئك المتخاصمين هي سبيل الدين؛ فادعى أنه المهدي المرسل من الله تعالى لتحرير البلاد من النير الأجنبي، ولإحياء الدين، فكان ذلك العمل من جانب المهدي سببا رئيسيا في إيجاد خلة التعصب الديني الذميم، الذي زاد سوء الحالة في الاثنتي عشرة سنة الأخيرة، ودعا إلى تذمر لا من الأجانب فحسب، بل من السودانيين أيضا، الذين وقعوا في حبائل الفوضى والظلم.
كان من المستحيل نجاح الثورة بدون التعصب، هذا إلى أنا وقفنا به (التعصب) أمام حالة حرجة؛ هي حالة الحرب والجهاد بين المختلفين في الدين. ومن الغريب في أمر ذلك السودان أنا لم نجد حالة توازن بين التعصب الممقوت والتسامح الحميد، فكنا قريبين في حالتنا من القرون الوسطى أو ما هو أبعد أمدا.
سعيت - عندما ذكرت حياتي وأعمالي في الفصول الأولى، وعندما وقفت أمام نذير التعصب الديني - إلى السير بخطى متئدة في سبيل تعقب الأسباب الرئيسية التي دعت إلى الحالة الحاضرة. ولئن قررنا حقا أن الحالة تغيرت عما كانت عليه في زمن المهدي وأوائل حكم الخليفة عبد الله، فإنا نذكر إلى جانب ذلك أن الموقف لا يزال خطيرا، وهو في حاجة إلى الأيدي العاملة بنشاط بعد معرفة الحقائق والتفصيل، حتى يتمكن أصحاب الشأن من معرفة السبل التي يتحتم عليهم عبورها للاحتفاظ بالمدنية، ونشر ألوية العدل في ذلك الفضاء الواسع من الأمة التي هوت إلى حالة مكربة مؤلمة لا نستطيع وصفها، بعد أن ضعف فيها المستويان الرئيسيان لبقاء الأمم؛ وهما الخلقي والديني. وإلى جانب ذلك نذكر ما يطمع إليه الجميع، سواء في ذلك الوطنيون والأجانب، من عدل شامل وطمأنينة محققة.
إن أول ما يتبادر إلى ذهن المفكر في شئون السودان بعد قيام حكم المهديين هو مصير المدنية الناشئة الجديدة، التي وجدت في سني حكم المصريين منذ عهد محمد علي، فليس من شك في أن تغيير الحال وحلول الفوضى محل النظام يولدان في العقل شعورا صادقا بانقضاء كل أثر ظهر للمدينة في السودان قبل المهديين. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد اندثرت معالم المدنية رغم طراوتها وحدتها؛ والسبب الرئيسي في اندثارها هو انتقال الحكم إلى أولئك المستبدين الجهلة، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول إن سبب ضياع المدنية راجع إلى ظهور نفوذ أولئك الهمجيين، الذين أسسوا على أنقاض الحكومة السودانية المصرية السياسية نظاما جديدا كان إلى حد ما متتبعا خطوات النظام الماضي في العرض، ولكنه خالفه في الجوهر. فبدلا من الحق والعدالة والأخلاق في حكومة العهد المصري، نجد الظلم والباطل البربري والتجرد من نظم الأخلاق في حكومة المهديين وأتباعهم. وإنه لمن الواجب علي أن أقرر للقراء - غير مدفوع في ذلك بنزعة الثأر لنفسي مما قاست من ويلات، ولكني مدفوع بوازع الضمير رغبة في تقرير الحقيقة كلها - بأني لن أستطيع ذكر أمة ظلت في حياة المدنية أكثر من نصف قرن ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الهمجية غير السودان.
لنفكر لحظة واحدة في تلك القوة الجديدة التي برزت بروز الشر، ودعت إلى الفوضى في ربوع السودان، مما اعتبرها الأوروبيون بحق عقبة كأداء في سبيل المدنية الناهضة، ونذيرا بفشل المساعي الكبرى التي بذلوها في السنوات الأخيرة في الكثير من جهات تلك القارة الأفريقية الفسيحة.
سعيت في الفصول الأولى إلى تبيان أثر المهدي عندما صاح في الناس أول صيحة، وعندما ظهر نفوذه الواسع في السودان؛ فقد كان هذا الرجل سيد السودان الحقيقي، فلم يكن يصدر أمرا حتى يسرع الأتباع لتلبيته وهم على استعداد لتفديته بالقلوب والأرواح. كما أني ذكرت التعصب الذميم اللعين الذي أوجده المهدي في حياته، ثم أردفت ذلك بشرح تضاؤل ذلك التعصب بعد موته (المهدي)؛ حيث حل محل القوة الدينية نفوذ جديد للخليفة عبد الله، كان يتذرع فيه بالدين تذرعا اسميا، ولكنه في الحقيقة كان مدفوعا بنزعة الظلم التي وجدت بين جنبيه منذ عرف الفارق بين الخير والشر. ولم تكن القسوة قاصرة على الخليفة عبد الله، ولكنها تعدته إلى عرب القبائل الغربية؛ فقد حل أولئك محل الجنود المصريين؛ فأهلكوا الزرع والنسل، وحكموا السكان المنكودي الحظ بقضيب من حديد، فذاق أولئك السودانيون كل مرارة، وابتلاهم الله بشر أولئك الجدد المستبدين؛ مما جعلهم يذكرون ليل نهار فضائل الحكم المصري. ثم دفعهم أكثر من ذلك إلى التذمر المنذر بالثورة، والتطلع إلى حكومة تمنحهم الهدوء والسلم.
إنه لمن التطويل غير المحمود، بل من التكرار الممل الموجع للنفس، أن أعود لذكر الفظائع التي ارتكبها الخليفة عبد الله وأتباعه في سبيل احتفاظهم بمراكزهم الدينية والحكومية، ولكن من واجبي هنا أن أذكر لقرائي أن خمسة وسبعين في المائة - على أقل تقدير - من مجموع السكان في السودان ماتوا؛ إما بالحرب وإما بالجوع وإما بالأمراض الوبائية الفتاكة، فيبقى لنا بعد ذلك أقل من خمسة وعشرين في المائة ليسوا في حقيقتهم أحسن حالا وأفضل عيشا من الرقيق.
تذكرني كلمة الرقيق الأخيرة بذلك الطغيان البادي في تجارته في السودان. ولئن كان الرقيق في بادئ أمره مقصورا على العبيد، فإنه - بعد امتداد نفوذ عبد الله - يضم إلى دائرته العدد الكبير من مسيحيي الأحباش والسوريين والأقباط والمصريين المسلمين.
إن القسم الواسع من السودان الذي يحكمه الخليفة عبد الله اليوم قد تغير في نظامه عن الحكم المصري، ولكنه تغير لا يشرف صاحبه؛ فقد أصبحت المناطق الخصبة المثرية الآهلة بالسكان صحراء مقفرة يخاف الناس ولوجها، فإنك اليوم تجد السهول الكبرى التي وطئتها أقدام قبائل العرب الغربية شبيهة بالصحاري، لا يظهر فيها من المخلوقات غير الوحوش الضارية. أما مواطن الآدميين على شاطئ النيل، فأصبحت مقطونة ببدو القبائل المرتحلة، بعد أن طرد أولئك أصحاب البلاد الأولين أو استبقوهم لا لشيء سوى تفليح الأرض واستثمارها لخير الأسياد الجدد.
حرم السكان الأصليون من جميع وسائل الدفاع عن النفس، وأصبحوا - بعد ما نزل بهم من جور وعسف - في حالة فقدوا معها كل أمل في الحصول على العطف من ناحية أولئك الأسياد الجدد، فضعفت أو تلاشت فيهم قوة المقاومة؛ وإذن فالباقون من السكان الحاصلين على المساحات الضيقة المشرفة على النهر ليسوا أفضل من العبيد في غير حالة واحدة؛ هي حين تعريضهم للبيع في سوق الرقيق.
ما الذي يستطيع أولئك البائسون المنكوبون عمله لمهاجمة أسيادهم الجدد الأقوياء؟ إنهم أمام أحد أمرين؛ فإما التسليم والبقاء في عيش الذل، وإما الاعتراض؛ وفي تلك الحالة يلاقون آجالهم بحد السيف.
إنه لمن المغالاة والجنون المطبق أن يفكر أحد في أن المغلوبين على أمرهم في عهد الخليفة عبد الله يستطيعون إنهاء حالتهم المزرية بثورة داخلية؛ لأنهم لا يملكون شيئا من معدات الدفاع أمام قوة الحكومة الظالمة؛ وإذن لا بد من وصول العون والمدد من الخارج إلى أولئك المنكودين. وعلى السكان المحليين أن يتحققوا أن الخير في الثبات وعدم التقهقر بعد ظهور حكومة عادلة جديدة؛ لأن ظهور أي دليل من دلائل الضعف والمقاومة لروح المدنية الجديدة سيضر التقدم المقصود ضررا بليغا.
إنه لمن الواجب على السودانيين - في سبيل الاحتفاظ بتقدمهم المنشود والابتعاد عن مصائب العسف والمظالم - أن يعتقدوا أن قوة الخليفة في ضعف مستمر؛ لأن ذلك الضعف أعظم مساعد لارتفاع كلمة الحق ورجوع عصر المدنية.
عندئذ يستطيع السودانيون الوثوق في القوى الجديدة الخارجية التي ستساعدهم في تحطيم قيود العسف والتطويح بالإمبراطورية المهدية الجائرة.
إني أطلب من القارئ أن يتمهل في الحكم على ضياع نفوذ المهدي وعبد الله ومن والاهما؛ فقد يتصور البعض مما سبق أن ذلك النفوذ الشديد سيزول، ولكني أعود فأؤكد أنه غير قابل للاندراس في حد ذاته، ولكنه عرضة لذلك التدهور بمؤثر خارجي فحسب، على أن ذلك يستغرق زمنا غير قليل.
أحيل قراء الكتاب إلى الفصول الأخيرة السالفة ليعرفوا مقدار ما اتخذه عبد الله في سبيل الاحتفاظ بقوته الداخلية طول حياته حيال أعدائه الداخليين. فليس غريبا أن يظل ذلك الاعتقاد راسخا في فكر الخليفة وقابلا للتصديق عند الجميع ما دام عبد الله في أمن من أي اعتداء خارجي وتدخل أجنبي؛ وإذن من المؤكد أن هذا الرجل سيظل صاحب السلطان طول حياته. أما بعد موته فمن المحتمل، بل من المؤكد أيضا، أن انقلابا عظيما سيحدث في ربوع السودان، وأن انفجارا هائلا سيتولد بعد الضغط الطويل.
وأقرب ما يتبادر إلى الذهن هو أن ذلك الانقلاب ينتهي إلى خلع الأسرة التي عني عبد الله منذ تولى خلافة المهديين بتأسيس حكمها الثابت. ولكني لا أستطيع التأكيد بأن ذلك التغيير سيقرب السودان إلى مصادر المدنية أكثر مما هي الآن.
إذا عرفنا ذلك، وجب علينا أن نقرر أن الخير لا يتم للسودان إلا بواسطة مساعدة خارجية. ومهما يكن من شيء، فإن الغرض السابق قد لا يتفق اتفاقا رقيقا مع مقتضيات الحال في السودان اليوم.
إن الذين يرغبون في دراسة حالة السودان الحاضرة ملزمون قبل أي اعتبار آخر أن يدركوا بأن السودان اليوم ليس هو ذلك السودان في أيام إسماعيل باشا، عندما تجلت المدنية بواسطة نفوذ الحكومة المصرية، في الوقت الذي كانت فيه البقاع والأمم المختلفة المجاورة للنفوذ المصري؛ إما في درك الهمجية وإما عابدة للأوثان؛ حيث لم يستطع الأوروبي ضمان النجاة لنفسه إذا اجتاز إحداها، علاوة على أن جميع الأوروبيين لم يكونوا معروفين، ولم تكن حتى دولة واحدة من القارة الأوروبية معروفة لدى الأمم المذكورة، كما أن العرب لم يظهروا في غير القليل النادر.
كان السودان إذن زهرة تلك البقاع، والمتميز عن جميع ما جاوره بما له من مدنية ونهوض، وكان ذلك كله في العهد المصري، ولكني أقول - كما قلت قبلا - إن الهمجية تطرقت إلى جوانبه عندما جاء عهد المهديين.
كان السودان على مقدار مذكور من المدنية والنهوض، فأصبح منكودا متخبطا في طرقات الجهالة والظلم، بعد أن ألقيت مقاليد الحكم فيه إلى قوة همجية وحشية تكره النفوذين الأوروبي والعثماني على حد سواء.
تلك هي الأمة التي تعترض الطريق من النشوز المركزية القائمة على وادي النيل إلى البحر الأبيض المتوسط، كما أنها الأمة التي تضع طابعها على المناطق التي كانت في وقت من الأوقات متمتعة بالهدوء والسلم وقابلة لكل مصدر من مصادر التجارة والمدنية والنهوض. وإنه لمن المحزن أن نذكر تدهور السودان وظهور ذلك الاضمحلال جليا؛ لأن المناطق التي كانت منحطة قبلا أخذت تنهض وتقوى، في حين نرى السودان متدهورا.
أصبح من السهل وجود التبادل بين المناطق السالفة الذكر وبين العالم الخارجي وتدفق سبل التجارة بحيت لا يعترضه معترض كما كانت الحال قبلا، فأصبح كل أجنبي آمنا على حياته من الخطر في حالة اجتياز أية منطقة؛ وذلك بفضل حماية الحكومة الأوروبية. ويكاد يكون أحسن ما أذكره عن تلك المناطق، أن العناصر الهمجية القائمة فيها أصبح أفرادها يدركون أن الخطأ والجهل كل الجهل في مقاومة تيار المدنية، وأن الخير كله في التمتع بظل النهوض الحديث.
لننتقل فترة من التعميم إلى التخصيص، ونتساءل عن حقيقة الموقف الحالي في السودان، فنقول إن النفوذ المصري في الشرق السوداني يسير سيرا بطيئا جدا لاسترداد ما كان له من أراض في الجهات المجاورة لسواكن وطوكر. أما في الجنوب الشرقي فقد استولى الإيطاليون على كسلا، وأجبروا المهديين على إقامة خط دفاع قوي في الشاطئ الغربي من نهر عطبرة.
نسير مسافة إلى الجنوب فلا نجد في الوقت الحالي رغبة بين الأحباش في تغيير ما بينهم وبين الدراويش من علاقات قديمة. أما في المناطق الجبلية التابعة لفازغلو والنيل الأزرق، فقد جاهر السكان بعدائهم للخليفة ورغبتهم في الابتعاد عن طاعته.
نتجه جنوبا مسافة طويلة أخرى إلى منابع النيل، فنجد حركة جديدة للنفوذ الإنجليزي، وليس ذلك غريبا؛ ففي تلك الجهات استطاع أستيك وجرنت وبيكي تخليد أسمائهم واسم أمتهم الإنجليزية بما قاموا به من اكتشافات مجيدة، كما أنهم اكتسبوا حب الأهالي بما بذلوه من مجهود ضد الرقيق وتجارته. ولا شك أن هذه الجهات ستتصل قبل مرور وقت طويل بشاطئ النيل بواسطة سكة حديدية لا تساعد على فتح الجهات التي تجتازها فحسب، بل ستساعد على إيجاد مخرج لتجارة الخط الاستوائي الجنوبي وما جاوره من الجهات؛ وإذن للنفوذ الإنجليزي أثر ظاهر هنا. بعد ذلك نذكر ولاية الكنغو الحرة التي تمكنت في السنوات القلائل الأخيرة - بفضل ما بذلته من مجهود عظيم - من ضم مقدار كبير من الأراضي إلى نفوذها.
كان النفوذ الجديد لولاية الكنغو الحرة عظيما، فلم يقتصر على مسيو مواوبانجي، بل تعداه إلى مناطق كثيرة من مديرية بحر الغزال وفي خط الاستواء، حتى إن تلك الولاية تمكنت من التقدم إلى المكان المجاور لنفوذ الدراويش في الرجاف الكائنة على وادي النيل.
فيما وراء ذلك النفوذ نجد على مقربة من أوبانجي العليا مساعي الفرنسيين وأحلامهم؛ حيث يسعون السعي المتواصل في سبيل تحقيق آمالهم في تلك الناحية كما حققوها في جهات مختلفة من القارة الأفريقية. إذا ذهبنا بعيدا إلى الشمال الغربي، وجدنا نفوذ الخليفة في المناظر القائمة هناك معددا بعدد القبائل المختلفة التي سيصبح أفرادها، قريبا أو بعد زمن طويل، خاضعين بمحض إرادتهم للنفوذ الأوروبي الممتد إلى داخل أفريقيا من الناحيتين الغربية والشمالية.
أما في النهاية الشمالية، فستقيم القوة المصرية التي بدأ الخليفة عبد الله يدرك خطرها ويثق أنها، القوة المصرية، ستكون أول من يتقدم للتدخل في شئون إمبراطوريته المضطربة المزعزعة الأركان.
من ذلك البيان الموجز نطلع على الموقف الحالي - من الناحية الدفاعية الهجومية - للمهدي في السودان؛ فإنه كامل العدة ومتين الشهرة في داخل أملاكه ومناطق نفوذه، ولكنه مهدد من جميع الجوانب الخارجية، وهو إزاء ذلك التهديد لا يملك ما يدفع به غارة المحتاجين؛ لأن الشعب الذي يحكمه لا يخلص له بطبيعة الحال وقت الخطر، والسبب في ذلك معروف لدى القارئ؛ وهو الرغبة في التخلص من جور عبد الله بأية وسيلة، وعندي قليل من الشك في أن إمبراطورية الخليفة ستحطم ويتقلص ظلها قبل هجوم قوى أية دولة متمدينة. إذن ما الذي يجب عمله؟
هل تصبح مصر مرة أخرى الحاكمة الفعلية الحقيقية للبلاد التي كانت مصر سيدتها الشرعية ومالكتها قبل حكم المهديين؟
هل تدرك وتفهم جيدا كل مملكة من الممالك المتمدينة - السائرة مجردة عن الهوى إلى شواطئ النيل الصالحة للملاحة - أن الواجب يقضي عليها بعدم محاولة قطع أو مقاومة مصدر حياة مصر النائية بتحويل منافع الماء الراوية إلى الأراضي التي تحصل عليها كل منهن؟
هل تسعى الممالك المتمدينة سعيا شريفا في كل ما يعملنه، وتفكر كل على حدة في أن الفضيلة تقتضي التجرد عن الهوى وعدم تعريض مصالح مصر للخطر؟ هل ترضى كل مملكة رضاء المخلص الشريف بعدم التقدم لسفك الدماء، وإنفاق الأموال في سبيل غير مشروعة كل ما فيها مكسب لا يجيء إلا من اعتداء غير مشروع؟
هل تدرك كل دولة أنه من غير اللائق أن تتدخل في شئون مصر وحقوقها المشروعة؟
تلك أسئلة تدخل في دائرة السياستين العملية والتدريبية، وقد لا يكون من عملي البحث فيها ومناقشتها والإفصاح عن غوامضها.
إن كل ما أرمي إليه هو الإفصاح بآرائي المجردة عن الهوى، والتي يدفعني إلى تقريرها وازع من ضميري يذكرني دائما بأهمية وفائدة وقيمة السودان لمصر. وإني أصرح بمناصرتي لذلك الرأي ودفاعي عنه بكل ما لي من قوة.
إن الأسباب التي دفعت محمد علي إلى امتلاك السودان منذ ثلاثة أرباع قرن (نذكر القارئ المصري بأن سلاطين باشا كتب مؤلفه الذي نترجمه في عام 1895) كانت ولا تزال وستبقى وجيهة جدا، ويكفي تلخيص ذلك في أن النيل حياة مصر.
فالواجب إذن قائم في حفظ وادي النيل من أي اعتداء؛ وإذن يجب على المسئولين أن ينظروا بعين اليقظة والحذر إلى أي تقدم من جانب دولة أو دول أجنبية إلى طريق النيل العظيم؛ لأن الأمر الذي لا ريبة فيه ولا جدال هو أن إنشاء مستعمرات على شواطئ النيل أمر عظيم الخطورة؛ لأن الدولة المستعمرة في تلك الناحية قد تغلب مصالحها الشخصية ومطامعها الجديدة على مصالح مصر وسعادة المصريين وتقدمهم ورخائهم.
أذكر من الصفحات الأخيرة من كتابي في الفصل الأخير أني أشرت في مواضع متفرقة من مؤلفي إلى الأهمية العظمى التي لبحر الغزال، وقد لا يكون من التكرار ذكر ما لذلك الإقليم السوداني العظيم من أهمية، وما له من شأن بالنسبة للسودان على وجه عام.
إن ذلك الإقليم (بحر الغزال) أخصب أقاليم السودان، ومساحته في مجموعها من أكبر المساحات المنتجة. وأعظم ما يمتاز به بحر الغزال أنه يستمد ماء ريه من مجموعة جداول ومجار مائية، على أنه في كثير من نواحيه مغطى بالجبال والغابات التي تأوي إليها الأفيال. أما الوديان الواطئة فخاضعة لحكم الفيضان.
إن خصوبة تربة بحر الغزال تعد من الخيرات النادرة في السودان، فمن السهل الحصول منها على كميات كبرى من القطن والمطاط. هذا إلى كثرة ما في البلاد من أغنام وماشية.
أما عدد السكان، فأستطيع تقديره بما يتراوح بين خمسة وستة ملايين عدا، والكثيرون من أولئك يصلحون لحمل السلاح، إلا أن العداوات المستمرة بين رجال القبائل المختلفة تحول دون أي اتفاق عام بين السكان، وذلك أكبر مساعد للدولة الأجنبية على التقدم للإقليم الكبير المذكور، والحصول على نفوذ ظاهر فيه، وإنشاء قوة حربية داخلية فيه منحازة إلى جانب تلك الدولة. فمن السهل بطبيعة الحال اتحاد قوة موالية في منطقة عرفت باشتداد الشحناء بين أفرادها وتنافر رجال قبائلها المختلفين.
كل ذلك مما يغري القوة الأجنبية إلى التقدم، ولكني أعود فأذكر التقدم المجرد عن الهوى، وعساني أكون مغاليا في توقع مثل ذلك العمل من أية دولة لا ترمي لغير شيء واحد هو مد نفوذها وتوسيع سلطانها.
كانت مشراع الرق ميناء بحر الغزال منذ ظهر حكم المصريين في السودان، وقد اعتادت البواخر الصاعدة من الخرطوم اجتياز تلك الميناء في فترات دورية كل عام، ولكنها في بعض الأحيان كانت تتعطل في طريقها لما يعترضها من الأعشاب العائمة، التي كانت بين آن وآخر تسد طريق النيل الأعلى. عند الناحية الجنوبية من فاشودة مباشرة يخرج النيل من بقعة يظن أنها كانت مقر بحيرة قديمة، تعترض ذلك السير الفسيح البطيء مجار مختلفة لجداول وأنهار، وفي كثير من الأحايين تقف السدود في طريق السير السريع، فكان المسافرون في كثير من الأحيان مضطرين إلى قطع هذه السدود العشبية بالسيوف والفئوس. ومما يذكر في هذا الصدد أن بعثة السر صموئيل بيكر تأخرت عاما كاملا عن إنهاء مهمتها بسبب اعتراض تلك السدود (البعثة المذكورة استغرقت ما يقرب من أربعة أعوام من 1870 إلى 1874).
بالاطلاع على ما تقدم، نجد مركز بحر الغزال من الوجهتين الجغرافية والحربية - مع مقارنته بمراكز باقي أقاليم السودان - عظيم الأهمية؛ وإذن فوجود أية قوة أجنبية في السودان لا تنظر لغير مصالحها الشخصية ونزعاتها الاستعمارية، أو بمعنى آخر لا يهمها بقاء المصالح المصرية في السودان؛ سيجعل بقاءها (القوة الأجنبية) في مركز ممتاز يعرض مصر للخطر، بل أذهب إلى أكثر من ذلك فأقول إن ذلك البقاء سيحول دون تحقيق رغبة المصريين في استرداد أقاليمهم الأولى التي فقدوها في السودان. وفي حالة رجوع مصر إلى السودان مع بقاء تلك القوة الأجنبية، سيكون نفوذ مصر في خطر دائم؛ والسبب الرئيسي في كل ذلك هو أن القوة الخارجية التي ستدخل بحر الغزال أو تسيطر عليه ستكون صاحبة النفوذ المطلق هناك، وسيظل تحت يديها كل مورد من موارد الخير في ذلك الإقليم العظيم، الذي يعد من وجهة الرجال والمواد أكبر وأعظم أقسام وادي النيل.
تكلمت كثيرا في الصفحات السابقة عن كل ما أعرفه عن حركات ومطامع الأوروبيين في هذا الصدد. وإني لا أستبعد أن أية محاولة حربية، من جانب دولة أوروبية في سبيل الوصول إلى النيل عن طريق مشراع الرق أو بحر الحمر أو بحر العرب، ستلقى اعتراضا كبيرا من جانب المهديين. ولكن في الوقت نفسه أقرر أنه إذا حدث مثل ذلك الاعتراض وقابله نشاط من جانب القوة الأوروبية الجديدة، فالنتيجة المحتملة جدا هي ضياع مناطق المهديين من أيديهم.
لو أن الخليفة عبد الله على علم بأن الأوروبيين «البيض» الموجودين في بحر الغزال أقوى كثيرا مما يتصور، وأكثر عددا وأعظم تدريبا مما يعرف عنهم بواسطة التقارير غير المضبوطة التي تقدم إليه بين آن وآخر؛ لو أنه على علم بذلك لما تردد في مهاجمتهم قبل استفحال الخطر، وفي تلك الحال يكون مضطرا إلى إرسال مدد من جيوشه من أم درمان، وهذا العمل صعب وغير ميسور التنفيذ؛ لأن احتياطي جنوده يكاد يكون معدودا ومنحصرا في تقوية مواضع الخطر من عطبرة مقابل كسلا وفي مديرية دنقلة. هذا البيان الموجز يوضح لنا ضعف قوة الخليفة، ويثبت ما أشرت إليه سابقا عن عدم تمكن عبد الله من أي وقوف في وجه اعتداء خارجي، ولا ريب أن مثل ذلك النفوذ معرض للضياع ومهدد بالتلاشي، خصوصا إذا ذكرنا إلى جانبه العداء الشديد الموجه من سكان البلاد الداخلية لحاكمهم عبد الله.
نعود الآن عودة سطحية إلى الموقف الدرويشي في دارفور وكردوفان، فنذكر قبل كل شيء أن القوة الحالية للأمير محمود لا تتعدى بضعة آلاف من حاملي البنادق والضاربين بالرماح، وأولئك على قلتهم ليسوا في بقعة واحدة، ولكنهم موزعون في مخافر الفاشر. أما محمود نفسه فيقيم في الفاشر مع القسم الأكبر من تلك القوة، على أنه في مناوشات دائمة مع قبائل دار حجر ومسالت وتاما وبني حسين وحوتر، وقبائل أخرى في منطقتي كبكبية وكلكول.
لم يوفق الأمير محمود توفيقا متواصلا في عمله، وقد يرجع ذلك - إلى حد ما - لقلة عدد المقاتلين معه أمام أعدائه الكثيرين. ومهما يكن من شيء، فإني أذكر لتقرير الوقائع أن أحد كبار مساعدي محمود الحربيين، واسمه فضل الله، قد قتل أخيرا في معركة هجومية وهزم جنوده المحاربون معه (وعددهم ستمائة) في معركة حامية مع القبائل المعادية الثائرة. وإني أذكر جيدا أن الأوامر صدرت - في الوقت الذي غادرت فيه أم درمان - إلى الأمير محمود بإرسال قوة لتأديب الثوار من الفاشر، والظاهر أن هذه القوة نجحت نجاحا جزئيا عوض شيئا من الخسارة السالفة الذكر التي مني بها الدراويش.
قد يحسن بي أن أذكر كلمة سطحية عن القبائل المذكورة المعادية لنفوذ المهدي، فأقول إنها من الوجهة الظاهرية الصورية مستقلة؛ أي إن استقلالها اسمي، ولكنها في الواقع تدين بشيء من الطاعة إلى سلطنة واداي. وأفراد القبائل المذكورة يعدون في الوقت نفسه على شيء كثير من الولاء لأصحاب النفوذ في سلطنة واداي؛ وإذن من الخطأ الواضح أن يعتقد معتقد - كما شاع بين الكثيرين من الأوروبيين وغيرهم في السودان وخارجه - أن أولئك الثائرين كانوا عاملين تحت قيادة رابح الزبير؛ لأن هذا الزعيم السوداني (رابح) شديد العداء لواداي، ولن يسمح بأن يكون المؤتمرون بأمره على شيء - ولو قليل جدا - من الولاء لواداي. وعلاوة على ذلك، فإن نفوذ رابح هذا لا يمتد في مسافته إلى الناحية الشرقية، والمعروف والمحقق أنه (نفوذه) قائم في الأقسام الواقعة إلى جنوبي وغربي بحيرة تشاد.
على تلك الحال كانت الشئون جارية في تلك المناطق الجنوبية والغربية عندما غادرت السودان، ولم أكد أصل إلى البيئة المتمدينة حتى قرأت في الصحف تقارير وأنباء غريبة ومتناقضة في بعض المواضع عن الحال في الأقاليم المذكورة.
تكلمت كثيرا عن احتمال تقلص ظل الإمبراطورية المهدية وتلاشي نفوذها، في الوقت الذي تتقدم فيه دولة متمدينة إلى قلب السودان. ولكني بخبرتي الواسعة في السنين التي قضيتها في قلب النفوذ الدرويشي، أتقدم بمحض الإخلاص بكلمة تحذير إلى الأمة التي قضيت السنين الطوال في الإشادة بذكرها وطلب التقدم المستمر لها؛ وبمعنى آخر أريد التقدم بالنصيحة إلى الأمة التي دعوت لها بحياة ناهضة سعيدة إزاء تجديد عهد السودان المصري.
إني أذكر لها في إيجاز كلي أن المد والجزر لن ينتظرا إنسانا كما أنهما في بعض الأحيان لن يتركا فرصة البقاء لإنسان.
أريد في ختام مؤلفي أن أكون أكثر صراحة، فأقول إن مصر التي تطلعت وتتطلع إلى استرداد ما فقدته في السودان من يدي الخليفة، قد تقف في سبيلها أمة أخرى لا تكتفي باستخلاص المناطق من يدي الخليفة، بل تعمد إلى عرقلة المساعي المصرية وإلى إدخال وسائل الري الهندسية في الجهات التي تستمد منها مصر حياتها المائية، وفي ذلك خطر جسيم على مصر؛ لأن الدولة الجديدة صاحبة الوسائل الهندسية ستنظر إلى خيرها أولا فتهدد مصر تهديدا ظاهرا؛ وإذن - وهذا أخف الضررين وأهون الشرين - ستحرم الدولة الجديدة صاحبة الحق القديم من خيرات التجارة الواسعة التي كانت - تحت إدارة طيبة في السودان - مصدر ثراء ونهوض للقطر المصري صاحب الحق الشرعي، ولكل أقاليم النيل المنضوية تحت لواء مصر.
بهذه الكلمات القليلة الصادرة عن إخلاص شديد نحو الأمة التي عدت إليها بعد اثني عشر عاما من سني الأسر الشديدة على النفس؛ أتقدم في ختام مؤلفي إلى مصر. ولكني قبل الختام أشير إلى حادثة واحدة قد تساعد على رد ما فقدته مصر من حيث الأمل في الاسترداد، عندما أجبرت في شهر ديسمبر عام 1883 على الخضوع والتسليم لرجال المهدي، كنت معتزا بسيف نفيس من سيوف الوطن النمساوي، وقد حفرت عليه بحروف عربية اسمي كاملا غير منقوص في تفاصيله، ولكني حرمت مع الأسف حق حمل ذلك السيف، وبالتالي وقع بين أيدي رجال المهدي، وبطبيعة الحال لم أفكر لحظة واحدة في استرداد ذلك السيف العزيز. ولكني عندما ذهبت إلى لندن في شهر أغسطس عام 1895 لحضور المؤتمر الجغرافي، تسلمت هذا السيف بواسطة المستر جون كوك، أحد رؤساء شركة كوك، وكان ذلك في مكتبه في لدجسيت سركس. وقد ظهر لي أن المستر جون كوك اشترى ذلك السيف من وطني في الأقصر عام 1890، عندما كان مارا بباخرته في شاطئ النيل عند أسوان ، فقد شغف المستر جون باقتناء السيف لوجود الاسم العربي المحفور عليه، وبعد قليل من شرائه تمكن بواسطة صديقي الماجور ونجت من الوقوف على صاحب الاسم المحفور، وهو بطبيعة الحال اسمي.
ويخيل لي أن المهدي قدم سيفي هدية لأحد أتباعه الذين اشتركوا في الغارة على مصر تحت قيادة النجومي في عام 1889، وأنه عندما تغلب الجنرال سرفرنسيس جرنفيل على النجومي في توسكي وقع حامل سلاحي بين المقتولين أو الأسرى، وبعد ذلك أخذ أحد أفراد توسكي ذلك السلاح، ثم سار به إلى مصر ووجد بحكم الصدفة في الأقصر أثناء مرور المستر جون كوك الذي تمكن من ابتياعه كأثر عربي.
إن فقد السلاح في مجاهل دارفور ثم الحصول عليه في قلب لندن أمر مدهش جدا، وهو فوق المصادفات العادية؛ وإذن لا قنوط ولا يأس؛ فقد ترجع الأقاليم التي فقدت إلى يدي صاحبها القديم رجوعا لم يكن يخطر على بال.
عشت في خلال الأعوام الستة عشر الأخيرة عيشة مدهشة لا يكاد يتصورها العقل، وقد سعيت جهدي في أثنائها إلى الحصول على اختبارات واسعة من أبسط عيشة في أيامي العادية البعيدة عن مظاهر لها كلفة.
شرحت لقرائي في الفصول السابقة كل ما حدث لي على أبسط صورة، ولست أرمي من وراء ذلك إلى توليد الاهتمام والشعور بالخطر في قلوب المهتمين بالأسارى الأوروبيين في السودان فحسب، ولكني قصدت أكثر من ذلك أن تكون لتفاصيلي أهمية كبرى عندما يجد وقت العمل، وعندما يبحث العاملون بحثا جديا في خلاص المغلوبين على أمرهم، وعندما يسمح الله باستخدام معلوماتي ومجهوداتي في سبيل إبادة الظلم الدرويشي، وإزالة حكم سيدي الجائر وعدوي عبد الله، الذي سيظل ألد أعدائي طول الحياة التي أحياها في الدنيا.
بعد أن يزول ذلك العهد الجائر، أدعو إلى تأسيس الحكومة العادلة التي تمنيت كثيرا ظهورها في السودان، فبذلك يزول الظلم ويحل العدل والهدوء في إقليم كبير محتاج إلى المدنية الهادئة.
অজানা পৃষ্ঠা