وفي وسط الاختلاط رأيت أحد الأعداء يمر بالقرب مني ويحمل معه كيسا أحمر يحتوي على الفتائل التي نطلق بها البنادق، وكان يبدو عليه أنه يظن أنه غنم شيئا عظيما، والحق أنه كان بالنسبة إلينا شيئا عظيما؛ لأنه لا فائدة من البنادق بدون هذه الفتائل، وكان بجانبي خادم أسود لا يتركني فقلت له: «هاك يا كير فرصة تثبت بها شجاعتك التي كثيرا ما وصفتها لي ، خذ حصاني واذهب وراء هذا الرجل وأحضر منه الكيس الأحمر.»
فقفز إلى الحصان وفي يده حربة وطار به وبعد دقائق قليلة عاد ومعه الكيس الأحمر، ومعه أيضا حربة حمراء بالدم!
واختفى فرسان العدو فعملنا إشارة الاجتماع، ولكن لم يلب النداء سوى بضع مئات، فقسمتهم قسمين: أحدهما للحرس، والآخر يشتغل بجمع الذخيرة من أولئك الذين قتلوا. ووضعنا ما جمعناه على الجمال ثم سرنا إلى قرية عالية يمكن منها مشارفة السهل حولها، ثم جمعنا مقدارا من الأشواك وصنعنا بها زريبة بأسرع ما يمكننا؛ خوفا من أن يفاجئنا العدو في أي وقت. وبعد أن انتهينا من ذلك فكرنا في الجرحى الذين حملناهم إلى داخل القرية، وعملنا كل ما في استطاعتنا لتخفيف آلامهم.
وكانت الجثث مبعثرة فوق الأرض لا يحصيها العد، دع عنك من قتلوا في الغابة، والعجب أنه في هذا المكان نفسه انهزم آدم طربوش وزير السلطان حسين وقتل في المعركة.
ثم حان حين نداء الأسماء وهو واجب محزن، ووجدنا أنه قتل من ضباط المشاة الأربعة عشر، عشرة وجرح واحد، وقتل من رؤساء الجلابة: الشيخ خضر ومنجل مداني وحسن واد ستارات وسليمان واد فتح وفقي أحمد وحسيب وشكلوب. ومن الطوبجية الثلاثة عشرة لم يبق سوى واحد، أما اليوناني إسكندر الذي جرح في ديين ولم يكن جرحه قد برئ بعد فقد قتل أيضا، وجمعنا ونحن في حزننا الموتى لكي نقدم لهم آخر تجارتنا، ووجدنا بين أكداس الجثث جثة شرف الدين مطعونا في قلبه، ثم حفرنا في هذه النزة قبورا وصرنا ندفن اثنين أو ثلاثة معا في كل قبر.
أما الجرحى المساكين فلم يكن في مقدورنا أن نساعدهم كثيرا؛ فإن أولئك الذين كانت جروحهم خفيفة كانوا يشتغلون بتضميدها بأنفسهم، أما الذين كانت جروحهم خطرة فلم يكن عندنا لهم سوى الكلمات الطيبة.
وكانت رؤية هؤلاء الجرحى مما يؤلم النفس ويجعل الإنسان يشعر بعجزه التام عن تخفيف ما بهم، ورأيت أحد الخدم ومعه حقيبتي وكان بها بعض الأقمشة للتضميد، فأخذتها وجعلت أضمد بعض الجراحات، وأنا في ذلك خطر ببالي أني لم أر خادمي مرجان حسن وكان معه أحد جيادي، وكان صبيا سريا ذكيا، لم يكمل بعد السادسة عشرة من عمره، وكان هادئا شجاعا شريف النفس، فقلت للصبي الذي يحمل حقيبتي: «قل لي يا عيسى، أين مرجان الذي كان يسوق جوادي مبروك - وكنت قد وضعت في جيوب سرجه مذكراتي وخرائطي - قل لي أين هو، إنه صبي نشيط ولا بد أنه قد ركب الجواد وتمكن من الفرار.»
ولكن عيسى بدت عليه أمارات الحزن والوهن عند سؤالي هذا، فهز رأسه وشرقت عيناه بالدموع، ثم سلمني قطعة من لجام الجواد، فقلت له: «ما هذا؟!»
فقال: «مولاي، لم أحب أن أزيد حزنك، لقد وجدت مرجان قريبا من هنا راقدا على الأرض وبصدره طعنة الرمح، ولما رآني تبسم وقال: «لقد عرفت أنك ستأتي لكي تراني، ودع مولاي وقل له إني لم أجبن ولم أسلم الجواد إلا بعد أن وقعت مطعونا في صدري وقطعوا اللجام من يدي وجروا به، قل لمولاي إن مرجان كان أمينا، خذ السكين من جيبي فإنها لمولاي، أعطها له ثم سلم عليه كثيرا».»
ثم غص عيسى بريقه وسلمني السكين وهو ينشج، فآلمني هذا الخبر ألما شديدا ووهنت قواي عند سماعه، أجل يا مرجان، ما أصغر سنك! وما أشرف نفسك! وما أفدح مصيبتي في فقدان هذا الخادم الأمين، بل الصديق المخلص!
অজানা পৃষ্ঠা