ولكي يكون لدى القارئ فكرة عامة عن طباع هذا الرجل، أسرد الحكاية الآتية :
كان من بين قضاته قاض اسمه «إسماعيل عبد القادر»، تعلم جيدا في القاهرة ونال حظوة كبرى عند المهدي؛ لأنه كتب تاريخا قيما عنه يشمل جميع انتصاراته وتاريخ حياته. ولما مات المهدي أمر الخليفة، إسماعيل هذا، أن يتمم عمله ويكتب عن الانتصارات ويكيل ألفاظ الملق والمداهنة للخليفة. فقال إسماعيل عبد القادر ضمن أقواله مقارنا الحالة في السودان بها في مصر، فشبه الخليفة بالخديو إسماعيل باشا المفتش. ولما وصل هذا القول إلى مسامع الخليفة، أمر القضاة في الحال ليجتمعوا لمحاكمة إسماعيل على هذا القول، الذي اعتبره الخليفة ذما في شخصه، وقال: «كيف والمهدي خليفة النبي وأنا خليفته يشبهني هذا الرجل بالخديو الذي هو من أصل تركي؟ كيف أشبه بهذا الرجل وأنا خليفة المهدي، والمهدي خليفة النبي الذي هو أعظم مخلوق على ظهر الأرض؟» وطلب إلى القضاة أن يحاكموه، فقضوا بإدانته وكبل بالأغلال وأرسل إلى الرجاف. وقال الخليفة: «ما الذي دعاه إلى التشبيه بين مصر والسودان، فإذا كان يود أن يشبه نفسه بباشا مصري، فأنا خليفة النبي لا أقبل على نفسي مطلقا أن أشبه بتركي.»
ولم يقف به غروره عند هذا الحد، بل أصدر أوامره في الحال بأن تجمع كل نسخ مؤلف هذا القاضي وتحرق، وبالفعل تم ذلك إلا نسخة واحدة - كما بلغني - احتفظ بها سكرتير الخليفة، ولو وجدت هذه النسخة الآن وترجمت إلى اللغات الإفرنجية لظهر الشيء الكثير مما كانت عليه الحركة المهدية منذ نشأتها.
وكان هذا الخليفة مغرورا جدا بقوة جيوشه، معتقدا أنه في وسعه أن يعمل كل شيء ويغزو أي بلاد. وكانت أخلاقه خليطا من اللين والشدة، وما كان يسير إلا إذا أحدث آلاما لآخرين؛ كمصادرته أموالهم أو تعذيبهم. وكانت تلك خصاله حتى أيام حياة المهدي نفسه؛ فعبد الله نفسه هو الذي سبب مذبحة الخرطوم التي قتل فيها النساء والأطفال بلا شفقة ولا رحمة.
ولما أرسل عثمان واد آدم إلى أم درمان أختي سلطان دارفور؛ البرنسيسة مريم عيسى وبخيتة، منحهما الخليفة حريتهما، ولكنه حجز غيرهما من أقاربهما النساء، وأخذ لنفسه كثيرا منهن، وأعطى توابعه أخريات. ولما علم بأن هناك من أهل دارفور من يقطن أم درمان ويريد مساعدة البرنسيستين، قبض عليهما وأعطاهما لاثنين من أمرائه، هما حبيب وخليل، وكانا على أهبة السفر إلى الرجاف، وقد حاولت أم بخيتة وهي ضريرة أن تتبع ابنتها فرفض طلبها، ومنعت بأمر الخليفة بالقوة من متابعة بنتها، حتى إنها ماتت بعد أيام قليلة وقلبها يتحرق على ابنتها. ورمت بخيتة بنفسها في النهر والباخرة لم تقلع من مكانها، ولما نجوها من مخالب الموت ماتت من التعب والبؤس بعد قليل.
وكان أحمد غراب مصري الجنسية مولودا بالخرطوم، ولكنه قبل حملة هكس باشا سافر في تجارة تاركا وراءه زوجته وهي سودانية وبنته، وقد عاد ليراهما إلا أنه في يوم عودته وقبل أن يرى أسرته، أحضر أمام الخليفة فأوضح الأسباب التي حملته على الرجوع، مظهرا رغبته في الدخول في خدمة الخليفة، فقال له: «إني أقبل ذلك بكل سرور، فلتذهب في الحال إلى الرجاف.» وجاهد في سبيل الله، وعبثا حاول هذا المسكين أن يقنع الخليفة في أن يستأذنه السماح له برؤية أولاده، فأمر الخليفة حرسه في الحال بأن يأخذوه إلى المركب المسافر على أن يراقبوه جيدا.
والخليفة عبد الله هذا هو الذي سبب هلاك آلاف الناس، وهو الذي كان يعذب الآدميين بأن يقطع أيديهم وأرجلهم تعذيبا. ولم ننس له حادثة قتله وشنقه أفراد قبيلة «البتاهين» في ساحة السوق، ولقد ذكرت كثيرا أن أصدقاءه كانوا أشد خوفا من أعدائه على حياتهم منه، وهل هناك دليل يثبت فظاعة هذا الرجل أقوى من حادثة سفكه دماء الأشراف بعد أن اتفق معهم وعقد التحالف المعروف؟
وكان كل من يدخل عنده يقف مكتوف اليدين مسبلا عينيه إلى الأرض ينتظر أمره بالجلوس. وكان هو يجلس دائما على عنجريب مفروش بحصير عليه فرو، فإذا أمر أحدا بالجلوس فإنما يكون جلوسه على الأرض مقعيا كما يقعي عند الصلاة، لا يتحرك حتى يؤذن له بالانصراف. وكان لا يسمح لأي مخلوق بأن يشخص ببصره نحوه. وقد حدث مرة أن سوريا اسمه محمد سعيد، جمعه سوء الحظ - وهو بعين واحدة لا يرى بالأخرى - بالخليفة في المسجد، فلاحظ الخليفة أن عين هذا السوري ترمقه، فدعاني وأمرني بأن أبلغه أن الخليفة لا يحب أن يراه مرة أخرى يرمق إليه.
وكانت حالته في منزله على عكس ما هو عليه من طباع؛ إذ كان لين العريكة يطيع أمر ابنه، حتى إنه في ذات يوم لما قال الولد لأبيه إنه أتم دروسه، سرعان ما أمر المعلمين بالانصراف. وقد زوج ابنه عثمان هذا بابنة عمه بنت يعقوب ولم يتجاوز من العمر سبعة عشر عاما، وأقام له أفراحا لم يسبق لها مثيل؛ فقد مدت موائد الطعام ثمانية أيام حتى تمكن كل فرد من سكان أم درمان من أن يأكل، كما أنه زين المنزل المبني بالطوب الأحمر والموجود تجاه بيت يعقوب بأفخر الرياش لكي يكون محل سكن ولده.
وبعد ذلك بقليل زوج ابنه هذا باثنتين من أقاربه، وقدم له جواري اختارهن هو بنفسه لابنه، وكان يحرم على ابنه الاتصال بالغير، كما كان يصرح دائما بأنه لا يسمح له أن تجمعه صلة نسب مع أي قبيلة أخرى.
অজানা পৃষ্ঠা