على أن من المحدثين من التفت إلى هذا التقابل التفاتا يسيرا؛ كالأستاذ الميمني، وقد ذكر في ذلك كلمة عن وجود جانبين لشيء واحد تكون له حالة خاصة بكل واحد منهما، وأن هذا سبب ما تناقض فيه قول أبي العلاء، وناقشنا هذه الكلمة، وبينا عدم وضوحها وعدم صلاحيتها لشيء من التعليل، وأن الفكرة التي فيها ليست مما يقرره أبو العلاء بإطلاقه القول في الشيء الواحد (انظر هامش ص98).
ولعله منذ كثر القول في هذا التناقض بعد المحاضرة بهذا الرأي في أبي العلاء ومناقشته في بعض المجلات الأدبية المصرية، ونشر طرف يسير منه
13
كانت للمحدثين عناية ما بهذا التناقض، فقرأت قولا مجملا لبعضهم
14
يشير فيه إلى أن كثيرا من المتناقضات التي نزعمها في حياة المعري آتية من تطور حياته الفكرية؛ فكثيرا ما ناقض الشاعر في دور الكهولة والشيخوخة ما قاله في دور الفتوة والشباب، وهذه الناحية قل من راعاها، وهو إجمال لا يمكن من مناقشة صاحب هذا القول في سعة، ولا هو مؤيد بشاهد أو دليل على تأثر هذا الاختلاف بتطور الحياة الفكرية؛ كهولة وشيخوخة وشبابا. وبحسبي هنا أن أقول: إنه ما دام تطور الحياة يؤثر في آراء الرجل، فقد وجب أن تكون دراستنا له منتهية بنا إلى مصور مختلف الألوان يمثل تغير هذه الآراء وتطورها، وألا نطلق القول بتفلسفه إطلاقا، وألا نقرر أن حياته كانت وفق مذهب فلسفي وعلى أصل ثابت ... إلخ. على أنه لم يخف أثر اختلاف أدوار الحياة على أحد، وقد حاولنا وحاول غيرنا كثيرا أن ترتب آثار أبي العلاء ترتيبا زمنيا تفصيليا دقيقا، فلم يتيسر ذلك، وهو غير متيسر تماما ما دامت تلك الفجوات في آثاره فارغة بضياع الضائع، بل نحن بعد العثور عليها جميعا لا نهتدي لذلك الترتيب الزمني المحدود المفصل لضياع معالمه. لكن قد استطاعت الدراسة الأدبية إلى حد كبير أن ترتب الموجود من آثاره ترتيبا عاما، يعين ما كان منها في زمن الشباب، وما كان منها بعد ذلك، وبخاصة توزيع هذه الآثار على العهدين الواضحين اللذين ذكرهما المعري وميزهما البحث في حياته على ما سنشير إليه فيما يلي.
وهذا الترتيب لم يؤثر في مسألة تقابل آراء الرجل؛ لأننا نجد المتقابلات في كل عهد من عهوده؛ شبابا وكهولة وشيخوخة، بل نجد المتقابلات في المكان الواحد وفي القطعة الواحدة، كما أنك تجد المتقابلات فيما لا يتغير فيه الرأي؛ لأنه أصل ثابت للتفكير؛ كمسألة المعرفة. والمذهب فيها على ما مر. ولو قد سمعنا شيئا من التفصيل لأثر الزمن في تناقض الرجل عند صاحب الإشارة السابقة لناقشناه، ولكنا نقول رغم هذا الإجمال: هل التفلسف أن يترك الرجل آراء مختلطة ضائعة المعالم، لا ندري متى وكيف قال بها؟! وهل التفلسف أن يختلف الرأي اختلافا بينا مطلقا في الأصول والأسس؟! وهل ... وهل ...! •••
وحيث قرأت تلك الإشارة عن التناقض وتأثره بتطور حياة المعري قرأت خبر محاولة في التوفيق بين متناقضات أبي العلاء، ولم يتهيأ لي أن أطلع على شيء من تفصيلها. فإن يكن هذا التوفيق عقليا منطقيا، فقد عدنا به إلى دعوى فلسفة الرجل بعد ما مضى من قول فيها، وبعدما أنسنا بطلانها، وقد خلف صاحبنا في كل حال آثارا فنية الطابع، فنية الموضوعات، فنية التناول، فلعله ليس من الحق والصواب أن نحاول رد تناقضها، والتوفيق بين متخالفها توفيقا نظريا منطقيا عقليا. وأما إن كان هذا التوفيق نفسيا فنيا فإنا لنرجوه ونتمنى أن يستطاع، وإن لم يكن يعنى أصحاب الفن بهذا التوفيق بين متناقضات متفنن؛ لأنهم لا يعنون بأن يقيموا قضايا صحيحة على النظر، ولا قياسات سليمة المقدمات مؤدية إلى النتائج، وإنما يعنى أصحاب الفن بأن يدركوا من نفسية المتفنن وشخصيته ما أدى به إلى هذا التناقض أو التقابل؛ ليفهموا بذلك مراميه، ويدركوا خواطره، وهذا البحث النفسي عن سر التقابل في معاني أبي العلاء وتأملاته الفنية هو ما قصدنا إليه، ورجونا أن نقيمه على وجه صحيح من أمر هذه النفس الجليلة، فهما لفنها وتمثلا له.
والآن قد انصرفنا عن فلسفة أبي العلاء لما أوردنا قبل ذلك من أوجه، واطمأننا إلى تفننه، ونظرنا إلى آرائه على أنها تأملات فنية، ولمحنا فيه ظاهرة التقابل بادية غالبة، بل عامة إن شئت، فما بنا بعد استبعاد تفلسفه أن نسمي هذا تناقضا أو نلتمس له تفسيرا عقليا. فلما رحنا نلتمس أسباب التقابل فيما ذكره القدامى من الأدباء لم نجد من هذه الأسباب ما يرتاح إليه الناظر المتعمق في أدب الرجل وتراثه الجليل، سواء في ذلك ما عللوا به تناقض أبي العلاء نفسه، (انظر ص95 و125)، أو ما أوردوه في التقابل مطلقا، (انظر ص127 وما بعدها)، فحق علينا بعد ذلك كله أن نلتمس السبيل الميسرة والطريق المؤدية إلى هذا التعليل والتبيين، وإنما هي - فيما أقدر - الفهم النفسي للأديب وأدبه فهما ينتفع فيه بما عرفت الحياة العلمية عن قوانا النفسية ونواميسها. وأول ما تقضي به هذه الرغبة في الفهم النفسي هو تقدير:
حال أبي العلاء الخاصة
অজানা পৃষ্ঠা