يقول: أتنمعم علي هذه المحبوبة التي كالظبية بالعودة الثانية إلى الوصال، التي كان إعطاؤها مرة واحدة لا ثاني لها؟ فكان وصلها كالوسمي الذي لا يتبعها الولي. فجعل الوسمي مثلًا للأول، والولي مثلًا للعودة.
ترشفت فاها سحرةً فكأنني ... ترشفت حر الوجد من بارد الظلم
إنما خص السحرة، لأنه وقت تغير الأفواه ونكهاتها، والظلم: ماء الأسنان، وبريقها.
يقول: مصصت فاها وقت السحر، فكأنني مصصت حر الوجد من أسنان بوارد. يعني: لما استعذبت ازددت عشقًا، فازداد بذلك وجدي، وحصل حر الوجد في قلبي، والبرودة في فمي، كما قال في موضع آخر وهو:
بفي برودٌ وهو في كبدي جمر!
فتاةٌ تساوي عقدها وكلامها ... ومبسمها الدري في الحسن والنظم
يقول: تشابهت منها ثلاثة أشياء وهي: عقدها المنتظم من الدر، وكلامها الشبيه: الدر، وثغرها الذي تبسمت عنه كالدر فهي مشابهته في حسنها ونظامها وهو أبلغ من قول البحتري:
فمن لؤلؤٍ تبديه عند ابتسامها ... ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه
لأنه زاد عليه ذكر العقد.
ونكهتها والمندلي وقرقفٌ ... معتقةٌ صهباء في الريح والطعم
المندلي: أراد به العود. والقرقف: الخمر. والصهباء: البيضاء المشربة حمرة، وهي صفة الخمر.
يقول: هذه الثلاثة أيضًا متشابهة وهي الرائحة: فمنها العود الذي يبخر به، ومنها الخمرة الصافية فهي متشابهة في الريح والطعم فللعود نكهتها، وللخمر طعمها، ورائحة فمها.
جفتني كأني لست أنطق قومها ... وأطعنهم والشهب في صورة الدهم
الشهب: الخيل البيض. والدهم: السود.
يقول جفتني هذه المرأة كأني لست أنطق قومها نظمًا ونثرًا، وكأني لست أطعنهم إذًا إلا على خيل دهم وشهب، وعذار قد اسودت فكأنها دهم، فكأنه يقول: لست ذليلًا في قومها مذمومًا جبانًا حتى تجفوني.
يحاذرني حتفي كأني حتفه ... وتنكزني الأفعى، فيقتلها سمي
النكرة: الغرزة بشيء مثل الإبرة. يقال: نكزته الأفعى: إذا غرزته ولم تعضه يقول: يخاف من موتي كأني موتٌ للموت! وتنكزني الأفعى فتموت! فكأني قتلتها بسمي، حتى كأني دونها، وكل ذلك إشارة إلى قوته وشجاعته.
طوال الردينيات يقصفها دمي ... وبيض السريجيات يقطعها لحمي
الردينيات: الرماح والسريجيات: السيوف. ويقصفها: يكسرها.
يقول: إن الرماح والسيوف لا تؤثر في أبدًا، ولحمي ودمي يؤثران فيها، ويكسرانها ويقطعانها. وقيل: أراد: أني عزيزٌ في قومي. فمن أراد قتلي كثر الضرب والطعن عليه، في طلب ثأري، حتى تكسر الرماح والسيوف عليه.
برتني السرى برى الدى فرددنني ... أخف على المركوب من نفسي جرمي
السرى: مؤنثة، وقد جعلها جمعًا للسرية؛ فلذلك قال: رددنني، والأولى في أخف الرفع؛ لأنه وما بعده جملة من مبتدأ وخبر، فهو وإن وقع موقع الحال فلا يتغير الإعراب من حيث الصورة، ويجوز فيه النصب على بعض الوجوه.
يقول: أنحفتني السرى حتى قطعتني كقطع السكاكين فتركتني خفيفًا غاية الخفة، حتى كأني على المركوب أخف جرمًا من نفسي؛ لأنه من أخف الأشياء.
وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي
زرقاء جوٍّ: هي زرقاء اليمامة، وكانت موصوفة بحدة البصر وقد روى شأواهما علمي: وهي تثنية الشأو، وهو الغاية. أي غايتهما علمي والتثنية للعينين أي سابقهما وهو فاعل من شاء إذا سبق وروى سأواهما علمي يقول ردني السرى خفيفًا بصيرًا أبصر من هذه المرأة؛ لأنها أبصرت بعينها، وأنا أبصر بالقلب والعلم. علمي يسبق نظر عيني فقبل إبصار العينين تبصر عيني كما هو عليه.
كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي
يقول: كأنني من خبرتي، ومعرفتي بالأرض، دحوت الأرض لكثرة تردادي بها، وكأن الإسكندر بنى سد يأجوج ومأجوج من عزمي؛ لقوته، ورفعته، ومضائه في الأمور.
لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه ... فأبدع حتى جل من دقة الفهم
أي كأن الإسكندر بنى السد من عزمي الذي صممته على قصد ابن إسحق وكأني دحوت الأرض من خبرتي بها لألقى ابن إسحاق الذي دق فهمه وعظم إبداعه حتى ارتفع أن يوصف بدقة الفهم. وهو المراد بقوله: حتى جل عن دقة الفهم. وقيل: برتني السرى بري المدى لألقى هذا الرجل.
1 / 67