يقول: حتى أتو به قبرًا، كأن ضريحه حفر في قلب كل موحدٍ، يعني أن موته صعب على الموحدين؛ فكأنهم حفروا قبره في قلوبهم؛ لعظم تأثيره فيهم. وقيل: أراد أنه ليس يغيب ذكره عن قلوب الموحدين فكأنه دون فيها، ويجوز أن يريد بتشبيه قبره بقلوب الموحدين: إشارة إلى حصول النور فيه لما دفنه فيه كالنور الذي يكون في قلب المؤمن الموحد.
بمزودٍ كفن البلى من ملكه ... مغفٍ وإثمد عينه الكافور
مزود: صفة لمحذوف، أي برجل مزود.
يقول: أتوا القبر برجل مزود عن جميع ما يملكه، كفنًا يبلى وهو مغف: أي مغض عينيه. وإثمد عينيه: أي كحلهما. الكافور: أي إنه لم يحمل من ماله لنفسه إلا الكحل والكفن والحنوط.
فيه السماحة والفصاحة والتقى ... والبأس أجمع والحجا والخير
أي في الجدث. أو في المرثى، والخير هنا: الكرم. والحجا: العقل فكأنه يقول: إن هذه المعاني دفنت بدفنه.
كفل الثناء له برد حياته ... لما انطوى فكأنه منشور
انطوى: كناية عن موته. والمنشور: عن حياته.
يقول: كفل له الثناء أو الذكر برد حياته، فكأنه حي بعد الدفن والموت، يعني: أن ذكره الجميل باق بعده، فكأنه لم يمت؛ لقيام ذكره له مقام الحياة ومثله لآخر:
ردت صنائعه إليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
فكأنما عيسى بن مريم ذكره ... وكأن عازر شخصه المقبور
يقول: إن ذكره الباقي بعده، أحياه فكأن ذكره، المسيح ﵇، وكأن شخصه المقبور، عازر. وهو: الذي أحياه الله تعالى على يد السيد المسيح.
واستزاده بنو عم الميت فقال ارتجالًا:
غاضت أنامله وهن بحور ... وخبت مكايده وهن سعير
يقول: كانت أنامله في الجود كالبحور، فغار ماؤها، وكانت مكايده في الحرب سعيرًا، فخبت وطفئت.
يبكى عليه وما استقر قراره ... في اللحد حتى صافحته الحور
قراره: يرفع وينصب؛ الرفع باستقر، والنصب على الظرفية.
يقول: يبكى عليه، ومن الواجب ألا يبكى عليه؛ لأنه لم يستقر قراره حتى أتاه من الكرامة والثواب، وصافحته الحور، ويجوز أن يكون على الاستفهام والتوبيخ، أي نبكي وهو لم يستقر قراره حتى صافحته الحور.
صبرًا بني إسحاق عنه تكرمًا ... إن العظيم على العظيم صبور
نصب صبرًا: على المصدر أي اصبروا صبرًا، وتكرمًا: نصب لأنه مفعول له.
يقول: اصبروا وترفقوا عن الجزع عن هذا الميت؛ لأن قدركم عظيم، والمفجوع به عظيم، والمصيبة بمثله عظيمة، والعظيم يصبر على العظيم، فاصبروا على عظماء.
فلكل مفجوعٍ سواكم مشبهٌ ... ولكل مفقود سواه نظير
يقول: لكل مصاب نظير غيركم فإنه لا نظير لكم، ولكل مفقود غير هذا الميت نظير، فإنه لا نظير له. أي ليس في الأحياء مثلكم ولا في الأموات مثله! وقيل: إن هذا أمر عام فلكم أمثال وله نظير؛ لأن المفجوعين والمفقودين كثير.
أيام قائم سيفه في كفه ال ... يمنى وباع الموت عنه قصير
أيام: نصب بقوله لكل مفقود سواه نظير أيام.
يقول: لكل مفقود نظير أيام. وقيل: تقديره اذكر، أو اذكروا أيام.
يقول: كانقائم سيفه أيام حياته في يمناه إشارة إلى شجاعته، وكان باع الموت مع طوله واقتداره، قصير عنه!
ولطالما انهملت بماءٍ أحمرٍ ... في شفرتيه جماجمٌ ونحور
فاعل انهملت: جماجم ونحور.
يقول: لطالما انهملت جماجمٌ ونحورٌ، بماءٍ أحمر، وهو الدم. في شفرتيه: أي شفرتي سيفه.
فأعيذ إخوته برب محمدٍ ... أن يحزنوا ومحمدٌ مسرور
يقول: أعيذ إخوة الميت، برب محمد، وهو الميت، أن يحزنوا عليه، وهو مسرورٌ: أي بما أتاه الله من الثواب والكرامة، وأسباب المسرة. ويجوز أن يكون محمد الأول النبي ﷺ، والثاني الميت.
أو يرغبوا بقصورهم عن حفرةٍ ... حياه فيها منكرٌ ونكير
يقول: وأعيذهم أن يرغبوا في قصور الدنيا عن دار الآخرة، وأن ينسوا ما يلزمهم من الأعمال الصالحة، فكنى عن الآخرة بحفرة هذا الميت، الذي حياه فيها منكر ونكير، فكأنه يحثهم على الاستعداد للموت. وقيل: أراد أعيذهم أن يتركوا زيارة قبر هذا الميت، الذي حياه فيه منكر ونكير، ويلزموا قصورهم المنيفة.
نفرٌ إذا غابت غمود سيوفهم ... عنها فآجال العداة حضور
1 / 61