هم الناس إلا أنهم من مكارم ... يغنى بهم حضرٌ ويحدو بهم سفر
يقول: هم من الناس لأنهم مخلوقون مثلهم، ثم بين أنهم لبعد صيتهم يغنى بذكرهم الحاضرون، ويحدو به المسافرون.
بمن أضرب الأمثال أم من أقيسه ... إليك وأهل الدهر دونك والدهر؟!
يقول: لا نظير لك، فمن يضرب المثل في شأنك؟ أم من نقيسه إليك؟ وأهل الدهر والدهر دونك! وقال يمدح أخاه أبا عبادة عبيد الله بن يحيى البحتري:
ما الشوق مقتنعًا مني بذا الكمد ... حتى أكون بلا قلبٍ ولا كبد
الكمد: الحزن.
يقول: إن الشوق لا يقنع مني بهذا الحزن الشديد، حتى يجعلني بلا قلبٍ ولا كبدٍ، فأموت.
ولا الديار التي كان الحبيب بها ... تشكو إلي ولا أشكو إلى أحد
هذا البيت يفسر على وجوه: أحدها: أن يكون عطفًا على قوله: ما الشوق ومعناه: أن الشوق كما لا يرضى مني بما أقاسي من الحزن، كذلك الدار التي كان الحبيب بها، لا ترضى مني بهذا الكمد. وتمم الكلام عند قوله: كان الحبيب بها. ثم ابتدأ وقال: تشكو إلي: أي هذه الديار تشكو إلي وحشة الفراق لجهلها، وأنا لا أشكو إلى أحد لجلادتي ولكتماني الأسرار، ولأني عاقل.
والثاني: أن الديار ما شكت لأنها قد درست فضعفت عن الشكوى، لانمحاء آثارها، كما ضعفت أنا عن الشكوى، لسقوط القوة، وإن الديار ما شكت إلي لأنها ليست بناطقه فتعرب عن شكايتها.
والثالث: أن دمعي حال دون تأملي آثار البلى في الديار؛ فلهذا لم تشك إلى أحد، ولو تأملتها تشكو إلي وحشتها، وسوء إثارة الزمان عليها، ثم لا أشكو إلى أحد. أي كانت الديار خالية، ليس فيها من أشكو إليه.
ما زال كل هزيم الودق ينحلها ... والسقم ينحلني حتى حكت جسدي
الهزيم: مطر الجود الذي له صوت. من الهزيمة وهو الصوت. وقيل هو: من الهزيمة. كأنه المطر الذي يلي بعضه بعضًا. والودق: المطر الشديد.
يقول ما زال كل مطر جود شديد القطر يصيب الديار، فيعفوا رسومها، فذلك نحولها، وما زال السقم ينحلني بإذهاب لحمي حتى حكت الديار جسدي. وهذا البيت يؤكد المعنى الثاني، الذي ذكرناه في البيت.
وكلما فاض دمعي غاض مصطبري ... كأن ما سال من جفني من جلدي
يقول: كلما سال دمعي نقص اصطباري، وظهر جزعي، كأن الذي سال من الدمع من عيني سائل من جلدي. ومنه قول الآخر:
فليس الذي يجري من العين ماؤها ... ولكنه نفسٌ تذوب فتقطر
فأين من زفراتي من كلفت به ... وأين منك ابن يحيى صولة الأسد
هذا له معنيان: أحدهما: أين من زفراتي وهي الأنفاس زفرات من كلفت به؟ أي أن زفراته لا تبلغ زفراتي! وقوله: أين منك؟ أي: من صولتك. يا ابن يحيى، صولة الأسد؟ أي: أن صولته دون صولتك.
والثاني: أين من كلفت به من زفراتي؟ أي: أنه غافلٌ عنها، خالٍ منها. وأين منك صولة الأسد؟ أي: لا يبلغ صولتك، ولا يؤثر فيك شيئًا.
لما وزنت بك الدنيا فملت بها ... وبالورى قل عندي كثرة العدد
يقول: لما وزنت الدنيا وأهلها بك، فملت بهم، أي كنت أرجح منهم، فقل عندي كثرة العدد؛ لأن الاعتبار في الوزن بالفضل والمعنى لا بالعدد والذوات. ومثله للبحتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... إلى الفضل حتى عد ألفٌ بواحد
ما دار في خلد الأيام لي فرحٌ ... أبا عبادة! حتى درت في خلدي
خلد الأيام: استعارة لطيفة، ولما ذكر الخلد: وهو القلب. قال: ما دار في قلب الأيام لي سرور حتى درت في قلبي. يعني: ما سررت منذ سمعت ذكرك في زماني هذا، حتى قصدتك فسررت برؤيتك.
ملكٌ إذا امتلأت مالًا خزائنه ... أذاقها طعم ثكل الأم للولد
يقول: هو ملكٌ إذا امتلأت خزائنه من المال، أذاقها بتفريق مالها، طعم ثكل الأم لولدها.
ماضي الجنان يريه الحزم قبل غدٍ ... بقلبه ما ترى عيناه بعد غدٍ
الجنان: القلب. ومضاؤه: ذكاؤه، وحدته، وشجاعته. والحزم: رفع على أنه فاعل يريه، وينصب على أنه مفعوله الثاني، والفاعل الجنان.
يقول: إنه يرى بقلبه الأشياء قبل ما تراه العين بعد غدٍ.
ماذا البهاء ولا ذا النور من بشرٍ ... ولا السماح الذي فيه سماح يد
يقول: ليس هذا البهاء والنور اللذين فيه، من بشر، بل هو من ملك، ولا السخاء الذي فيه سخاء يد أحدٍ. بل هو سخاء أيدٍ كثيرة.
1 / 55