يقول على المعنى الأول: كأن الكتمان زاد في جسدي، حتى فاض عنه وظهر، فصار سقمي بسبب الحب الذي كان في جسمي كتمان. يعني: أن جسمي كان سقيمًا، فلما ظهر الحب زال عني السقم إلى جسم الكتمان، فصار الكتمان سقيمًا؛ لأن إفشاء السر سقم الكتمان.
وعلى الثاني: أن الكتمان زاد حتى فضل عن جسدي، فصار سقمي بسبب الحب، منكتمًا في جسم كتمان.
كأنه يقول: كان الكتمان في جسمي، فصار الآن جسمي في الكتمان، فلكون جسمي في جسم الكتمان صار سقمي فيه، وكان الكتمان ظرفًا لي، بعد ما كنت ظرفًا له.
وقال يمدح محمد بن زريق الطرسوسي:
هذي برزت لنا فهجت رسيسًا ... ثم انصرفت وما شفيت نسيسًا!
يجوز أن يريد يا هذي فحذف حرف النداء للضرورة، ويجوز أن يكون إشارة إلى المرة الواحدة من برزت، فتكون هذه موضوعة موضع المصدر، كأنه يقول: هذه البرزة برزت لنا. والرسيس حنين الحمى وهيجانها، والنسيس: العطش. وقيل: هو الاختلاج. وقيل: هو بقية المرض. وقيل: بقية النفس.
يقول للمحبوبة: يا هذه: برزت لنا هذه البرزة الحسنة فهيجت لنا الهوى وحرارة القلوب ثم انصرفت عنا ولم تشف بقية نفوسنا التي أبقيت لنا، وبقية مرضنا الذي هيجت لنا ببروزك وما شفيت اختلاج عيوننا ولا سكنت لنا عطشًا.
وجعلت حظي منك حظي في الكرى ... وتركتني للفرقدين جليسا
هذا تفسيره على وجوه: أحدها: جعلت حظي من رؤيتك وصلك في النوم، فكما لا حظ لي منك، لا حظ لي من النوم.
والثاني: جعلت حظي منك في النوم. يعني: لا أراك إلا في النوم.
والثالث: جعلت حظي منك بلا حقيقة ولا حاصل لي، كحظي من الأحلام التي أراها في النوم! ثم قال: وتركتني جليس الفرقدين، ولا أنام من طول الفكر.
قطعت ذياك الخمار بسكرةٍ ... وأدرت من خمر الفراق كئوسا
ذياك: تصغير ذاك. يقول: كنا في خمار مع قربك، بما كنا نقاسي من بخلك بالوصل، فالآن أزلت ذلك الخمار بسكرة الفراق، فكنا نستعظم ذلك الخمار، فصار ما كنا نستعظمه صغيرًا في جنب سكرة الفراق! وصغر الخمار بقوله: ذياك لأنه صغير في مقابلة السكر، ولهذا قال: وأدرت من خمر الفراق كئوسًا. فحدث عنها هذه السكرة. أو صغره ليبين أن مدة قربها قصرت بالإضافة إلى مدة الفراق، أو يكون أراد به التعظيم كقول لبيد:
وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهة تصفر منها الأنامل
إن كنت ظاعنةً فإن مدامعي ... تكفي مزادكم وتروي العيسا
المزاد: الوعاء الذي يجعل فيه الزاد، وأراد به ها هنا سقاء الماء، لأنه من الزاد.
يقول: إن كنت مرتحلة فلا تأخذي الماء فإن دموعي تكفي مزادكم وتروي إبلكم من كثرة ما أصب من دموعي. وقيل: إنه من كفأت الإناء: إذا قلبته. أي أن مدامعي تقلب مزادكم وتريق الماء، لأن دموعي تقوم مقام المزاد فلا تحتاجون إليه.
حاشى لمثلك أن تكون بخيلةً ... ولمثل وجهك أن يكون عبوسا
ولمثل وصلك أن يكون ممنعًا ... ولمثل نيلك أن يكون خسيسا
كان الوجه أن يقول: حاشى لمثلك أن يكون بخيلًا؛ لأن لفظ مثل مذكر، إلا أنه حمل على المعنى.
يقول: معاذ الله أن تكوني بخيلة بالتقبيل عند الوداع، ولمثل وجهك أن يكون عابسًا في تلك الحال، كأنه أراد بهذه العبارات اللطيفة، أن يقول: ودعيني وقبليني ولا تبعسي وجهك، وحاشاك أن تكوني مانعةً من الوصل، وأن يكون نيلك خسيسًا حقيرًا. وكني عن إكثار النيل وبذل الوصل من غير منع بأحسن عبارة.
خودٌ جنت بيني وبين عواذلي ... حربًا وغادرت الفؤاد وطيسا
الخود: الناعمة. والوطيس: معركة الحرب. وقيل: هو تنور من حديد.
يقول: هي ناعمة وقد أوقعت حربًا بيني وبين عواذلي في حبها؛ لأنهن يلمنني وأعصيهن، فحدثت مقاتلة فؤادي معركة الحرب بيني وبين عواذلي. وقيل: أراد أنها لما أوقعت بيننا القتال وتركت فؤادي موقدًا بالنار بما فيه من حرارة التوقد والوجد والعشق فصار كالتنور.
بيضاء يمنعها تكلم دلها ... تيهًا ويمنعها الحياء تميسًا
روى يمنعها التكلم فيكون التكلم منصوبًا بيمنع. وروى تكلم فيكون فعل مضارع، والأصل: تتكلم. فحذف إحدى التاءين تخفيفًا. ومعناه: أن تتكلم، غير أنه حذف أن في اللفظ، وهو منوى في العنى. فنصب، وكذلك في تميس فلهذا نصب.
1 / 49