ويجوز أن يريد أن الحرب في سبيل الله حياة لي لكوني من الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله فكنت حيًا بما أنا فيه من الثواب.
قال ابن جنى: قلت له كيف ذلك؟ فقال الآية: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ".
ولو سقيتها بيدي نديمٍ ... أسر به لكان أبا ضبيس
نصب أبا ضبيس؛ لأنه خبر كان، واسمه: ضمير النديم وهو صديقه الذي دعاه إلى الشرب. وقيل: إنه كان صاحب المجلس والدعوة.
يقول: لو سقيت الخمر بيدي نديم لي فيه سرور وأنس لكان ذلك النديم أبا ضبيس يعني لكنت لا أشرب إلا من يده.
وقال له بعض الكلابيين: أشرب هذا الكأس سرورًا بك فأجابه ارتجالًا:
إذا ما شربت الخمر صرفًا مهنئًا ... شربنا الذي من مثله شرب الكرم
يقول: إذا شربت الخمر صرفًا أي غير ممزوج مهنأً بشربه. شربت أنا الماء الذي شرب الكرم من مثله.
وقيل: إن الكرم إذا غرس صب في مغرسه الدم فيقوى بذلك.
يقول: إذا شربت أنت الخمر شربت أنا الدم الذي شرب الكرم منه، ويدل عليه ما بعده وهو:
ألا حبذا قومٌ نداما هم القنا ... يسقونها ريًا وساقيهم العزم
يقول حبذا قوم، نداماهم الرماح، يسقون رماحهم دماء أعدائهم ريا: أي قدر ما تروى به ويكون ساقيهم العزم.
طربه لصليل السيوف لا لقرع الكئوس.
وقال أيضًا ارتجالًا:
لأحبتي أن يملئوا ... بالصافيات الأكوبا
وعليهم أن يبذلوا ... وعلي ألا أشربا
حتى تكون الباترا ... ت المسمعات فأطربا
الأكواب: جمع الكوب، وهو الإبريق بلا عروة.
يقول: لأحبائي أن يملئوا كئوسهم خمرًا، ويعرضوها علي، ولكن علي ألا أشربها حتى تصير السيوف القاطعات المغنيات في العظام، فإذا سمعت هذا الغناء فأشرب وأطرب عند ذلك! ويجوز في الباترات: الرفع، على أن تجعل يكون فعلًا حقيقيًا، وإن جعلته ناقصًا يجب رفع الباترات، ونصب المسمعات خبرًا لها.
وقال أيضًا يصف مجلسًا لابن عبد الوهاب وقد جلس ابنه ليلًا إلى جانب المصباح:
أما ترى ما أراه أيها الملك ... كأننا في سماءٍ مالها حبك
أي ما أراه أيها الملك كائنًا في مجلسك، في سماءٍ ليس لها طرائق، ولما شبه مجلسه بالسماء بين بعد ذلك وجه التشبيه فقال:
الفرقد ابنك والمصباح صاحبه ... وأنت بدر الدجى والمجلس الفلك
الهاء: في صاحبه للفرقد. وهما فرقدان.
يقول: ابنك أحد الفرقدين، والمصباح الفرقد الثاني، وأنت بدر الدجى؛ لما لك من الفضل، والمجلس هو الفلك الذي يجوز هذه الأشياء. شبه ابنه بأحد الفرقدين والمصباح بالثاني، والأب بالبدر، والمجلس بالفلك فجمع فيه أربع تشبيهات. ومثله للمخزومي:
كأن سعيدًا وأبناءه ... نجومٌ وبدرٌ إذا ما اتسق
يفتخر بشعر على أبي بكر الطائي وكان قد نام ساعة إنشاده قال: ونام أبو بكر الطائي وأبو الطيب ينشده فأنبهه:
إن القوافي لم تنمك وإنما ... محقتك حتى صرت ما لا يوجد
أي أنها لم تنمك بل أهلكتك حتى صرت غير موجود! والغرض أنه لو كان من المميزين لم ينم من شعره.
فكأن أذنك فوك حين سمعتها ... وكأنها مما سكرت المرقد
المرقد: الدواء المنوم، وقوله مما سكرت في معنى المصدر، كأنه قال: من سكرك.
يقول: كأن أذنك حين سمعت القوافي، فوك. وكأن ما أنشدته لك من الشعر، هو الدواء المرقد، فشربته وسكرت، لأن نومك من القوافي، لا من الخمرة وروى لما سكرت.
وقال يتغزل أيضًا:
كتمت حبك حتى منك تكرمةً ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
يقول: كتمت حبك حتى كتمته منك تكرمة لك، إذ في إظهاره فضيحة المحبوب، أو تكرمة لنفسه من الاستكانة للنساء، ثم أطلق كتمانه، فظهر بما دل عليه من الأمارات، كالبكاء والنحول وغير ذلك، فاستوى فيه إسراري وإعلاني؛ لأن السر في الظهور كالعلانية. ويجوز أن يكون المراد به أنهما استويا في الكتمان، والمقصد أنه لم يظهر قط، بل بقي كما كان من الإسرار.
كأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني
الهاء في كأنه: ضمير الكتمان، ودل عليه قوله: كتمت. ويجوز أن يكون راجعًا إلى الحب، أي زاد حبي حتى أسقم كتماني؛ فضعف عن حمل الكتمان. والكناية في به: ترجع إلى الحب.
1 / 48