يقول: فكرت فيما أهديه إليك، فلم أر شيئًا يقع عند قدرك، فجعلت هديتي إليك المدح الذي تعلمته منك، ومن صفاتك، فجعلته هديةً مني إليك، بعد ما كان هدية من ك إلي. ويمكن أن يكون المراد: بعثت إليك بعض ما أهديته إلي من الأموال فأهديته إليك. وقد أخذ هذا المعنى من قول ابن الرومي:
أي شيء أهد خى إليك وفي وج ... هك من كل ما تهوي القلوب ومعنى
منك يا جنة النعيم الهدايا ... أو أهدى إليك ما منك يجنى؟!
إلا أنه أخبر أنه أهدى، وابن الرومي قال: أو أهدى؟! ويحتمل أن يكون مراده: جعلت ما تريد إهداءه إلي عند ارتحالي عنك مني إليك، أي أسألك أن تمسك عنه، فتجعل إمساكك عنه بمنزلة إهدائي إليك. وقوله: وظرفها التأميلا: أي جعلت تأميلي إياك قبول هذه الهدية ظرفًا لهذه الهدية ظرفًا لهذه الهدية ومشتملًا عليه، فجعل الأمل كالظرف له. هذا ما ذكره ابن جنى.
وقال غيره: إنه لما أرد ارتحاله عنه واستقل كل هدية يبعثها إلى الممدوح جعل قبول الهدية، هدية منه إليه؛ لعلمه أن الممدوح ممن يسر بقبول المتنبي هديته، سرور من أهدي إليه الهدية، وقوله: وظرفها التأميلا: أراد به أن الأمل مشتمل على هذه الهدية ومحيط بها كإحاطة الظرف بالهدية.
برٌّ يخف على يديك قبوله ... ويكون محمله علي ثقيلا
معناه على تأويل الأول: أنه لا كلفة علي فيما أهديته إليك لأني لم أتكلف منه شيئًا، وإنما هو منك عاد إليك، ويكون تحمل شكرك على قبوله ثقيلًا علي: وعلى المعنى الآخر الذي ذكره ابن جنى: أنك إذا أمسكت عن إهداء ما عزمت عليه فلا نقص عليك؛ لأني على كل حالٍ لم أعطك شيئًا من عندي وإنما هو مالك تركته لك.
وقيل: إنما مدحي إليك برٌّ خفيف، على يديك قبوله لجلالتك، وقصوره عن محمله: علي ثقيلًا: لعظم شأن قبولك لمدحي وصغر شأنه بالنسبة إليك.
وقال أيضًا وقد حلف عليه صديقٌ ليشربن كأسًا بيده فأخذه وقال:
وأخٌ لنا بعث الطلاق أليةً ... لأعللن بهذه الخرطوم
فجعلت ردى عرسه كفارةً ... عن شربها وشربت غير أثيم
الخرطوم: اسم الخمر.
يقول: لما حلف بالطلاق أن أشرب هذا الخمر شربت غير أثيم؛ وجعلت كفارة شربي لها، ردى عليه امرأته؛ كراهة أن يحنث في يمينه! وقال أيضًا في صباه ارتجالًا وقد أصابهم المطر والريح يهجو رجلًا يقال له سوار:
بقية قومٍ آذنوا ببوار ... وأنضاء أسفارٍ كشرب عقار
آذنوا: أي أعلموا. والأنضاء: جمع نضو. وهو البعير المهزول. وأضافها إلى الأسفار، ليعلم إنما أنحلها كثرة الأسفار. والشرب: جمع شارب. والعقار: الخمر.
يقول: نحن بقية قوم قد هلك أكثرهم وآذنوا بالهلاك، وبقينا نحن على شرف الهلاك ونحن أنضاء أسفار، كأنهم من تساقطهم جماعةٌ شربوا الخمر، فصاروا سكارى. ويجوز أن يكون الأنضاء صفة لدوابهم وإبلهم فيقول: ونحن على دوابٍّ قد أهزلها كثرة الأسفار، حتى صارت كذلك.
نزلنا على حكم الرياح بمسجدٍ ... علينا لها ثوبا حصىً وغبار
ثوبا: تثنية ثوب؛ لإضافته إلى الحصا والغبار.
ويروى: بمشهد: مكان بمسجد.
خليلي ما هذا مناخًا لمثلنا ... فشدا عليها وارحلا بنهار
الهاء في عليها: ترجع إلى أنضاء الأسفار؛ إذا جعلناها دواب.
فيقول مخاطبًا لصاحبه: ليس هذا المسجد مناخًا لمثلنا، فشد على الدواب رحالها، وسروجها، وارحلا بنهار، قبل اجتنان الليل فيصعب الارتحال، ويحتمل أن يكون الكناية في عليها للرياح كأنه قال: شدا على الرياح أو على دواب كالرياح سرعة.
ولا تنكرا عصف الرياح فإنها ... قرى كل ضيفٍ بات عند سوار
يقول: لا تنكرا شدة هبوب الرياح في هذا المكان؛ لأنها طعام كل ضيفٍ بات عند هذا الرجل الذي اسمه سوار، فإن ذلك عادته لضيوفه فليس هذا بمستنكر منه. وقيل: سوار. أي سواري المسجد، أو سواري الأمطار. والأول أولى وأظهر.
وقال أيضًا في صباه يمدح أبا المنتصر: شجاع بن محمد بن الرضا الأزدي:
أرقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق ... وجوىً يزيد وعبرةٌ تترقرق
أرقٌ: مبتدأ، وخبره محذوف. وكذلك جوىً وعبرةٌ تقديره: بي أرق وعلى هنا بمعنى مع، وأراد به دوام الأرق: وهو السهاد.
يقول: بي أرق على أرقٍ. ومثلي جدير بالأرق، وبي جوىً: وهو الحزن. يزيد ولا ينقص. ولي دمعة تسيل أبدا.
1 / 22