وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب؛ كيف عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة هذا الآدمي وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجزه أن يطرد أباه من الجنة ...؟!
وكأن قد سمع إبليس وهو في موقفه ذاك ضحكة ساخرة ردته عما هو فيه من الغيظ والحنق إلى التفكير في شأنه وشأن بني آدم جميعا: هذا آدمي يلعنه في صلواته ويقذفه برجومه، أفكان يعتصم من لعناته لو أنه سلط عليه شهواته وأغرى به هواه؟! فكيف وإن من بني آدم ملايين من أهل الغواية والضلال لا يتورعون عن منكر ولا يتحرجون من معصية، وإن الآدمي منهم ليرتكب الخطيئة طاعة لأمر الشيطان ثم يلعنه، بل إن منهم من يقارف الذنب وهو يستعيذ من الشيطان الرجيم، فكأنما ييسر لهم إبليس شهواتهم ويضاعف لهم مسراتها ليجزوه على ما قدم إليهم رجوما ولعنات؛ فإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته، وهو الشيطان الرجيم على لسان كل بشري من بني آدم، سواء منهم طائعه وعاصيه!
وظل إبليس في موقفه ذاك، مشرفا من طاقه على الدنيا، يتفكر في شأنه وشأن بني آدم، وزبانيته ماضون لما أمرهم: يخالطون أنفاس النائم، ويوسوسون في أذن اليقظان، ويؤنسون خلوة المستوحش، ويوحشون مجتمع الأحباب ...!
وهب نسيم السحر نديا رطبا يعطر الدنيا بأنفاس أهل الجنة، فاستروح منه إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه؛ وتغشته الذكرى، وعاد الزمان القهقرى أمام عينيه، فإذا هو ملك بين الملائك يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه آبيا مستكبرا أن يسجد لبشر من طين، وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يرجمه الفضاء ويلعنه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فيزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض يصنع منهم حطب جهنم، فما بشر من الناس إلا له شيطان يسعى بين يديه ... ... ثم ها هو في موقفه ذاك، تتناثر من حوله لعنات الأحياء من بني آدم جميعا، وتصك أذنيه من مكان سحيق زفرات عباده في نار جهنم تكوى جباههم وجنوبهم بما أغواهم وأضلهم سواء السبيل ...!
ولأول مرة في تاريخ البشرية استشعر إبليس لذع الندم فدمعت عيناه ...!
يا لها سخرية ...! إبليس يتوب ...!
كفاه ما اقترف منذ هبط من السماء انتقاما لكبريائه التي زعمها ديست يوم أمر أن يسجد لصلصال من حمأ مسنون!
أكانت توبة نصوحا، أم مبالغة في الانتقام، أم هو قد اشتهى أن يعيش بشرا بين البشر عمرا من عمره؛ ليذوق بعض لذات البشرية ويرى بعيني حسه كيف يفتتن بها الناس جميعا منذ كانوا، فتسرع بهم شهواتهم إلى طاعة الشيطان ...؟ •••
وطلع إبليس على الأرض فتى وسيما يمشي على قدمين مشي الناس، وشعر لأول ما لبسته البشرية أنه جائع، فعاج على ندي ساهر له به عهد؛ لأنه هو الذي أنشأه وأقامه حجرا على حجر، وطالما قضى فيه الليالي ذوات العدد من حيث لا يراه ذو عينين، ينفث الشر، ويبذر بذور الخطيئة، ويفتن في وسائل الإغواء ...
كانت مصابيح الندي ترمي أضواءها إلى بعيد، وتمد من أشعتها شركا يصيد الناس ويأخذ عليهم طريقهم؛ وكأن كل ما ينبعث منه يشعر أن هناك حركة وعملا يغريان من يلتمس إرضاء شهواته ...
অজানা পৃষ্ঠা