ولكن ... ها هو ذا إبليس يصعد الدرج في أناة ورفق، ويدفع الباب في هدوء وخفة، ويخطو إلى البهو في سكون وحذر؛ فيرى، ولكنه يرى أجسادا لا تكاد تتحرك؛ ويسمع، ولكنه لا يسمع إلا مثل أنفاس النائمين؛ ويشهد، ولكنه لا يشهد إلا عيونا محدقة في الفضاء تتأمل. لم يكونوا سكارى ولا مغيبين، ولكن فكرة طارئة قد ألقيت إلى قلوبهم فإنها لتسيطر عليهم جميعا فتجمعهم على حال واحدة بين السخط والرضا، وبين الندم والاستغفار؛ وكأنما كانت على أعينهم جميعا غشاوة فانقشعت، فعادوا يرون ويسمعون ما لم يروا من قبل أو يسمعوا ...!
وجلس الشيطان إلى مائدته وحيدا وطلب طعاما، وراح يدير عينيه فيما حوله ومن حوله، ويتسمع نجوى الضمائر الخفية في أعماق أصحابها.
ورأى مائدة خضراء مبسوطة، قد تناثر عليها ها هنا وهنالك نقد وورق، ورأى كئوسا فارغة وممتلئة، ورجالا ونساء قد تحلقوا حول المائدة كتفا لكتف، وامرأة بين كل رجلين ... ولكن يدا واحدة لا تمتد إلى شيء، وفما واحدا لا ينبس بكلمة ...
وأبصر رجلا يهتز في موضعه هزة خفيفة وهو يتحدث إلى نفسه حديثا وعاه إبليس كأن قد سمعه بأذنين: «ماذا يصنع وقد خسر على المائدة كل ما كان له من مال؟ إنه ليرى ماله أمامه على المائدة ولكنه ليس من حقه؛ لأن حظه في اللعب قضى به لغيره، هو قضاء غير مشروع، ولكنه حكم العرف فما عليه إلا الطاعة!» وقالت له نفسه: «ما أنت والقمار؟ كم نهيتك فلم تنته! الآن فذق ألم الحرمان مما تملك، فلعلك لا تستمع إلى إغواء الشيطان من بعد ...»
واختلج إبليس في مجلسه اختلاجة كادت تنم عليه حين ذكر اسمه، وهم أن ينهض لولا أن أقبل عليه النادل بالطعام.
وشغل إبليس لحظة بالأكل يزدرد اللقمة بعد اللقمة لا يكاد يحرك بها فكه، وعرف لأول ما ذاق الطعام لماذا كانت شهوة البطن أول هم الإنسان!
وعاد ينظر إلى وجوه الناس ويتسمع نجوى الضمائر، فما راعه إلا هذا المقامر الرابح محدقا في الفضاء يتفكر، وإن وجهه لتتعاقب عليه ألوان شتى من الندم والخزي والحياء ... ثم لم يلبث أن نهض يجمع المال المبعثر على المائدة فيفرقه في سماره وهو يقول: «معذرة يا صحابتي! فإنما هو مالكم ليس لي حق في شيء منه، وما لعبت لأسلبكم ما تملكون، إنما هي السلوة وإزجاء الفراغ ...» وعض على شفتيه واحمر وجهه خجلا؛ إذ كان يعلم ويعلم أصحابه أنه كاذب في اعتذاره، فما قامر إلا مؤملا أن يربح، وما ربح من قبل مرة إلا وهو يعلم أنه يأخذ ما لا يملك؛ وقد ربح الليلة، ولكنه حتى ضم يديه على المال أحس كأنه يقبض على جمر، ورفت به سانحة من الخير فتعفف أن يأكل مال الناس، فخرج عنه لأهله ...!
ونظر الرجل إلى يمينه فإذا جارته مطرقة قد تغرغرت عيناها، فمال عليها وهو يهمس: «أيكون قد أغضبك ما فعلت يا سيدتي؟»
قالت المرأة: «عفوا، ليس لي شأن بذاك، ولكن أمرا يقتضيني أن أعود مسرعة إلى الدار ...!»
وهبت واقفة، فقال الرجل متلطفا: «أتأذنين أن أصحبك؟»
অজানা পৃষ্ঠা