15
العبارة الأخلاقية - وكذلك العبارة الجمالية - ليست بذات معنى، وإنما توهمنا أنها جملة مفيدة؛ لأن تركيبها النحوي يشبه تركيب الجمل المفيدة، فلأن قولنا «س خير» يشبه في تركيبه النحوي عبارة «س أصفر»؛ حسبنا أن العبارة الأولى حكمها حكم الثانية، مع أن العبارتين مختلفتان في تحليلهما المنطقي اختلافا شديدا؛ لأن عبارة «س خير» - منطقيا - قضية دالة على علاقة، لا على وصف شيء بصفة ما، إذ تحليلها هو: «هنالك علاقة بيني وبين س، وهذه العلاقة هي علاقة القبول والرضى»، فلو أننا تجاوزنا التركيب النحوي إلى التحليل المنطقي لكفينا أنفسنا كثيرا جدا من الخطأ، بل لكفينا أنفسنا عناء كثير جدا من الفلسفات التي لم تقم إلا على أساس الخطأ في فهمنا لمنطق اللغة، فلو حللت كثيرا من الفلسفات الضخمة؛ لوجدت أصحابها يقولون عن العالم حقائق بعينها، لا لأنهم وجدوها في العالم، بل لأنهم ظنوا وجودها في العبارات اللغوية التي يستخدمونها، فبدل أن ينظروا إلى العالم نظرة علمية، ثم يصفوا ما يجدونه، تراهم يبدءون بالعبارات اللغوية ليثبتوا للعالم ما يجدونه في اللغة، فالجملة النحوية - مثلا - التي تتركب من مبتدأ وخبر، كقولنا: «القمر مستدير» تدلهم على أنه لا بد أن يكون هنالك «عنصر» دائم ثابت اسمه «القمر»؛ لكي يتاح لنا أن نصفه بهذه الصفة أو تلك، فإن حاولت إفهامهم بأن «القمر» إن هو إلا سلسلة من حوادث تكون تاريخه، وأنه ليست له ذاتية ثابتة دائمة، لم يقبلوا منك هذا الزعم؛ لأن الجملة فيها «مبتدأ» نخبر عنه بأخبار عدة، فكيف يكون - في رأيهم - هذا الذي نخبر عنه ما لم يكن قائما هناك حقيقة ثابتة دائمة، إن تعذر على الحواس إدراكها، فالعقل كفيل بذلك؟ وانظر إلى هذه الأسماء اللامعة الآتية من قائمة الفلاسفة، واعجب أن يكونوا جميعا ممن استدلوا على خصائص العالم من خصائص اللغة: بارمنيدز، أفلاطون، سبينوزا، ليبنتز، هيجل، برادلي،
16
ظن هؤلاء جميعا أن في العالم بعض الحقائق الثابتة لمجرد أن لها أسماء في اللغة نتحدث عنها ونصفها بمختلف الصفات، فهنالك - في رأيهم - شيء ثابت كائن في العالم الخارجي قائم بذاته اسمه «خير»، وشيء آخر اسمه «جمال»، ما دامت هاتان الكلمتان موجودتين، نتحدث عنهما كما نتحدث عن المناضد والمقاعد.
5
لكننا إذا كنا نضع كلمة «خير» وكلمة «جمال» في عبارات نقولها ظنا منا أننا نتحدث عن أشياء كائنة في الخارج ندل عليها بهذين الاسمين، فنحن إنما نقول كلاما فارغا من المعنى؛ لأنه ليس في الخارج هذا الذي نزعم له الوجود المستقل، ونتحدث عنه كأنه كائن قائم بذاته مستقل عن ذات المتكلم، هذه أسماء ليست بذات مسميات، إنها كلمات لا تشير إلى شيء بذاته يمكن أن تراه العيون وتحسه الأيدي.
إذن فماذا تدل عليه كلمة «خير» أو كلمة «جميل» أو غيرها من الكلمات الدالة على «قيم» حين ترد في عبارات الحديث بين متكلم وآخر؟
إنها تدل على حالة نفسية عند المتكلم نفسه، إنها تدل على أن في المتكلم انفعالا بالحب أو بالكراهية نحو شيء بعينه، إذا نظر الرائي إلى شيء، فقال عنه: «هذا خير» أو «هذا جميل» كان بقوله هذا مشيرا إلى حالته الداخلية إزاء هذا الشيء، دون أن يدل على شيء خارج نفسه، إن الفعل الذي ينظر إليه المتكلم قائلا: «هذا الفعل خير، يظل هو هو مجموعة من حركات معينة، لا يزيد حركة ولا ينقص حركة إذا ما قال عنه القائل: إنه خير أو إنه شر، فاختلاف وصفه بالخير مرة وبالشر مرة لا يعني أبدا أن شيئا تغير في الفعل نفسه، إنما يعني أن ميلا تغير عند المتكلم فأصبح ميلا آخر، كان حبا فأصبح كراهية، أو كان استحسانا فأصبح استهجانا.
من ذلك ترى أن المناقشة العقلية مستحيلة بين رجلين اختلفا على شيء بعينه، حيث قال عنه أحدهما: إنه خير، وقال الآخر: إنه شر، أو قال عنه أحدهما: إنه جميل، وقال الآخر: إنه قبيح، وقد ضربنا لك أمثلة كثيرة في الفقرة 3 من هذا الفصل، تبين كيف تستحيل المناقشة العقلية حين يكون الاختلاف على ميل أو هوى.
إن المناقشة العقلية مستحيلة في مثل هذه الحالة؛ لأن المتكلم لا يقرر شيئا أو يصف شيئا، بحيث نستطيع أن نراجعه في تقريره أو وصفه بالرجوع إلى الشيء الخارجي نفسه لنرى هل قرر الحق ووصف الواقع أو لم يفعل، بل المتكلم هنا «يعبر» عن ذات نفسه، أو قل: إنه «ينفعل» انفعالا معينا، ويضع انفعاله هذا في كلمة يقولها مثل كلمة «خير» أو كلمة «جميل»، وبالطبع لا سبيل إلى مناقشة المنفعل في انفعاله.
অজানা পৃষ্ঠা