لكن قارن ذلك بالعبارة الثانية «س خير» فماذا ترجع إليه من صفات الشيء وعناصره لتعلم إن كان القول صوابا أو خطأ؟ لا شيء؛ لأنك في حقيقة الأمر حين تصف الشيء بأنه «خير» فأنت إنما تضفي على الشيء ما في نفسك أنت من ميل إليه، لا ما يتصف به الشيء الخارجي نفسه من صفات، وهنا يجب أن نلاحظ أن أصحاب المذهب الوضعي المنطقي حين يجعلون الجمل الأخلاقية والجمالية بغير معنى سوى التعبير عن أهواء قائليها، فهم يقصدون إلى الجمل الحملية لا الشرطية،
12
فهم إذ ينكرون أن يكون هنالك معنى لعبارة «س خير»، يوافقون بالطبع على وجود معنى للألفاظ الدالة على القيم إذا استعملت لتدل على أنها وسائل الغايات، كقولنا: «س هي الوسيلة إلى ص، فإذا كانت الوسيلة المؤدية إلى الغاية هي الخير فإن «س» خير؛ لأنها وسيلة مؤدية.» هذه عبارة لها معنى بالطبع؛ لأنها في هذه الحالة خرجت عن كونها تعبيرا عن ميل شخصي، إلى كونها تقريرا لما يمكن وقوعه، إذ يمكنك في هذه الحالة أن ترجع إلى عالم الأشياء لترى هل «س» حقا مؤدية إلى «ص»؟ وفي هذا الرجوع إلى العالم الخارجي يكون الشاهد على صدق العبارة أو بطلانها، وما دمنا قد وجدنا طريقة للتحقق من صدق العبارة أو بطلانها، فقد أصبحت عند المنطق عبارة ذات معنى.
قد يتفق الناس فيما بينهم على أن شيئا معينا «ص» غاية ينبغي أن تتحقق، وإذن فهي «خير»، ولا يكون معنى كلمة «خير» عندئذ إلا أن الناس قد اتفقوا عليه، وما دامت الغاية المنشودة قد تم الاتفاق عليها، نتج عن ذلك أن كل وسيلة مؤدية إليها تكون خيرا كذلك ، فإذا قلت بعد ذلك عن الوسيلة «س» إنها خير، قاصدا بذلك أنها وسيلة مؤدية إلى «ص» التي اتفقنا على بلوغها، كان لكلامي معنى، لكنه في الوقت نفسه لم يجعل صفة «الخير» شيئا لاصقا ملازما ل «س» في حد ذاتها، بل هي خير باعتبارها وسيلة لغيرها، وكان يمكن أن تكون الوسيلة شيئا سواها، فما كانت لتكون هي خير لنا في مثل هذه الحالة، يقول «ستيوارت مل»: «إن كل ما يمكن البرهنة على أنه خير، فإنما يمكن فيه ذلك ببيان أنه وسيلة لشيء سبق لنا أن سلمنا بأنه خير بغير برهان»، معنى ذلك أنه يستحيل علينا أن نصل في مناقشة علمية إلى نتيجة تكون فيها كلمة «خير» إلا إذا كانت هذه الكلمة بذاتها قد سبقت في المقدمات، بعبارة أخرى: يجب أن نتفق أولا على أن الشيء الفلاني خير لنصل إلى نتيجة أنه خير! وقل ذلك في سائر الألفاظ الأخلاقية ككلمة «واجب» - مثلا - فلا يمكن أن أصل إلى نتيجة مثل «واجب أن يكون للنساء حق الانتخاب» من أي عدد من المقدمات الخالية من كلمة «الوجوب»، لا يمكن - مثلا - أن أستنتج هذه النتيجة من مقدمة مثل: «كل النساء دافعات للضرائب»؛ لأن هذه الحقيقة في ذاتها لا تنتج أن يكون لهن حق الانتخاب، لا بد أن تكون هنالك مقدمة مثل «كل من يدفع الضرائب يجب أن يكون له حق الانتخاب.» بعبارة أخرى أقصر، لا يمكن في مجال الأخلاق أن نتفق على نتيجة معينة، إلا إذا سبق لنا الاتفاق عليها هي نفسها كمقدمة لا تحتاج إلى برهان!
13
الجملة الأخلاقية أو الجمالية ليست بذات معنى؛ لأنها لا تشير إلى عمل يمكن أداؤه للتحقق من صدق معناها المزعوم، ولا تكون الجملة بذات معنى إلا إذا أمكن تحويلها إلى عمل،
14
فكل جملة لا تدلك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذي لا معنى لها سواه، تكون صوتا فارغا مهما قالت لنا القواميس عن معانيها، الفكرة الواضحة هي ما يمكن ترجمته إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا ينبغي أن نقول عنه: إنه فكرة غامضة وكفى، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق، وفيما يلي أمثلة لما نريد: «الصلابة» في الجسم فكرة واضحة إذا كنت أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه بالصلابة، كأن أحاول خدشه بأجسام أخرى كثيرة، فلا ينخدش، فأقول عندئذ: إنه «صلب»، وأعد نفسي قد فهمت فكرة «الصلابة» فهما «واضحا»؛ لأنني عرفت ما نوع السلوك الذي أسلكه حين أريد ترجمة الفكرة إلى عمل، أما إذا وصفت شيئا بأنه «خير» أو بأنه «جميل»، فلست أعرف ماذا أعمل فيه بحيث يكون عملي هذا هو نفسه ما أسميه في الشيء «بالخير» أو «بالجمال»، وإذن فهاتان الكلمتان لا تدلان على شيء إطلاقا، لمجرد أنهما لا تدلان على سلوك محدد واضح يعمل ليتبين به المعنى المراد، ومن ذلك ترى أن كل مناقشة في هل هذا الشيء خير أو ليس خيرا، جميل أو ليس جميلا، لن تؤدي إلى نتيجة؛ لأنها كلمات ليست دالة على سلوك، وبالتالي ليست دالة على معنى.
و«الثقل» في جسم من الأجسام فكرة واضحة؛ لأني أعرف ماذا أعمل في الجسم لأتبين فيه ما أسميه «ثقلا»، وهو أن أزيل الحوائل التي تمنع سقوطه على الأرض، فإن سقط كان «ثقيلا»، وكانت فكرة «الثقل» واضحة؛ لأنها قد انتقلت إلى عمل منظور، لكن قارن ذلك بأن تقول عن شيء ما مثلا: إن حقيقته كامنة وراء ظواهره، وهي ليست بالتي يمكن أن تحسه الحواس، فمثل هذا الكلام فارغ من المعنى؛ لأنه غير دال على سلوك يمكن أداؤه إزاء الشيء ليتبين به المعنى المقصود.
الجملة الأخلاقية أو الجمالية ليست بذات معنى؛ ولذلك فهي لا تصلح أن تكون جزءا من علم؛ لأن الشرط الأساسي الذي يجب أن يتوافر في أية قضية علمية، هو إمكان التحقق من صدقها، ولا يكون هذا التحقق ممكنا إلا إذا كان المعنى موضوعيا يشترك فيه الناس جميعا إذا أرادوا، ولم يكن بالشعور الذاتي الشخصي الخاص بالمتكلم وحده ، إن ما يقتصر على ذات المتكلم ، لا يصلح أن يكون علما؛ لأنه ليس «معرفة» على الإطلاق، بل هو حالة شعورية وجدانية يحسها صاحبها وحده، ولقد حدد «برتراند رسل» في آخر فصل من كتابه «تاريخ الفلسفة الغربية» المعرفة الإنسانية بأنها ... هي معرفة العالم الخاضع للتجربة الحسية، وهذا العالم التجريبي هو وحده مجال العلوم على اختلافها، فإن جئت تنطق لنا بعبارة لا تشير إلى شيء من أشياء هذا العالم المحس، فأقل ما يقال فيها هو أنها خارجة عن الحدود المشروعة للعلم، إن ما تنطق به عندئذ لا يكون «معرفة» مما يمكن أن يتناقله الناس ويتبادلوه، وقل عنه بعد ذلك ما تشاء، ليست «القيم» - أخلاقية كانت أو جمالية - جزءا من المعرفة الإنسانية؛ ولذلك فالعبارة التي تحتوي على كلمة قيمية (مثل «خير» و«جميل») لا تكون بذات معنى من هذه الناحية، إننا قد نشعر بأن الرأفة خير من القسوة، لكن شعورنا هذا لا سلطان له على من لا يشاركنا فيه، «إن العلم وحده لا يستطيع إقامة الدليل على أنه من الشر إنزال القسوة بالآخرين؛ ذلك لأن كل ما يمكن معرفته إنما يجيئنا عن طريق العلم، وأما الأشياء التي من حقها أن تدخل ضمن الميدان الشعوري، فهي خارجة عن نطاق العلوم.»
অজানা পৃষ্ঠা