المتكلم بعبارة مثل «س خير» أو «س جميل» هو أقرب إلى من يقول «س» بصوت مرتفع أو بصوت خفيض، أو هو أقرب إلى من يكتب كلمة «س» ثم يضع بعدها علامة تعجب ودهشة، إنه لا يقول شيئا أكثر من أن ينطق باسم شيء ما، وأما ما يضيفه إلى الاسم من صفات «الخير» أو «الجمال» فليس سوي علامة على انفعاله.
يقول الأستاذان: «أوجدن » و«ريتشاردز» في كتابهما العظيم «معنى المعنى»
17
ما يلي:
يزعم زاعمون أن كلمة «خير» أمر دال على مدرك فريد بذاته غير قابل للتحليل، وهو الذي يكون موضوع البحث في علم الأخلاق، لكننا نرى أن استعمال كلمة «خير» على هذا النحو الأخلاقي المتميز إن هو إلا وسيلة للتعبير عن انفعال المتكلم، إذ إننا حين نستعمل الكلمة في مثل هذا السياق الأخلاقي، فإنها لا تدل على شيء كائن ما كان، ولا يكون لها وظيفة رمزية [أعني أنها تكون عندئذ رمزا بغير شيء يشير إليه الرمز]، وعلى ذلك حين نستخدم الكلمة في مثل قولنا: «هذا خير»، فلسنا نزيد على الإشارة إلى شيء بقولنا «هذا»، وأما إضافة «خير» إلى اسم الإشارة فلا يغير من الأمر شيئا بالنسبة إلى ما نشير إليه، أما إذا قلنا من ناحية أخرى: «هذا أحمر»، فإضافة كلمة «أحمر» إلى اسم الإشارة «هذا» يزيد من المجال الذي يتضمنه القول، إذ يضيف إلى مجرد الإشارة إلى الشيء، إشارة أخرى إلى حقيقة اللون الأحمر ...
العبارة الأخلاقية - وكذلك العبارة الجمالية - لا تصف شيئا ولا تقرر شيئا، إنما هي تعبير عن انفعال المتكلم، وهي تقال لعلها تثير في السامع انفعالا شبيها به، كما يصيح حيوان من ذعر، فتثير الصيحة ذعرا شبيها به عند سائر أفراد الفصيلة التي تسمع الصيحة، والأمل في أن يستخدم المنفعل كلمة معينة فيثير بها انفعالا شبيها بانفعاله عند السامع، مرجعه إلى أن أبناء الجماعة الواحدة عادة يربون على طريقة واحدة، فتصطحب كلمة ما بشعور ما في عملية التربية، حتى إذا ما نطقت الكلمة بعد ذلك أحدثت في نفس سامعها نفس الشعور الذي كان قد اصطحب بها مرارا أثناء تنشئته وتربيته، وخذ مثلا لذلك كلمتين تكادان تترادفان معنى، لكنهما مختلفتان في المشاعر التي ربطتها التربية بهما في نفوس الناس، وهما كلمتا «حرية» و«إباحية»، تقول الكلمة الأولى فتحدث في نفس السامع انفعال استحسان للموقف، وتقول الكلمة الثانية فتحدث في نفسه انفعال استهجان، وقد يكون الفعل الموصوف بالحرية أو بالإباحية هو بعينه، فالتغير الشعوري ليس مرجعه إلى تغير في الطبيعة الخارجية، بل مرجعه إلى تغير في الانفعال المصاحب لهذه الكلمة أو تلك، أو خذ مثلا آخر هاتين العبارتين المترادفتين: «رغبة جنسية» و«شهوة جنسية» تر الأولى أخف وقعا في الأسماء من الثانية، حتى لتوصف الثانية دون الأولى أحيانا بأنها «شر»، وها هنا أيضا ليس الاختلاف في حقيقة خارجية، لكنه اختلاف في انفعال المتكلم في كلتا الحالين.
هذا يدل على أن الكلمة أو العبارة قد تكون لها القدرة على إثارة الانفعال دون أن يكون لها في ذاتها معنى خارجي تشير إليه برموزها المنطوقة أو المكتوبة، وإن في لغة التخاطب لكثيرا جدا من أمثال هذه الكلمات والعبارات التي يراد بها تعبير عن انفعال، ولا يراد بها أبدا أن تشير إلى مسميات في الخارج، كقولنا مثلا عند الدهشة عبارة: «يا سلام!» أو «الله! الله!» أو «ما شاء الله!» والذي نزعمه لك الآن هو أن كلمات الأخلاق والجمال، مثل «خير» و«شر» و«واجب» و«جميل» و«قبيح» كلها من هذا القبيل تعبر عن انفعال ولا تقرر شيئا عن حقائق العالم.
يقول الباحث الأخلاقي المعاصر «سير ديفد رس» في كتابه «أسس الأخلاق»
18
نقدا للنظرية الانفعالية في الأخلاق ما يلي: «إنه يستحيل على الإنسان أن يقبل شيئا دون أن يرى بفكره أنه جدير بالقبول، أعني دون أن يرى بفكره أن فيه صلاحية خاصة تجعله جديرا بالقبول ... وإلا فلو كنا نقبل الأشياء دون أن يكون فيها ما يجعلها جديرة بقبولها، كان قبولنا إياها عملا بغير معنى على الإطلاق»، وهو يريد بقوله هذا أن وصفنا للشيء بأنه «خير» ليس مقتصرا على إثارة الانفعال لمجرد ذكر كلمة «خير» صوتا أو كتابة، بل لصفة في الشيء ذاته نشير إليها بكلمة «خير»، وإذن فهي كلمة ذات معنى، ولا ينفي ذلك أن تكون أيضا كلمة مثيرة للانفعال.
অজানা পৃষ্ঠা