123

بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب. كان والله كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا أتيناه ويأتينا إذا دعوناه ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة ولا نبتدئه عظمة، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم. يعظم أهل الدين ويحب المساكين لا يطمع القوي في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله، فاشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سجوفه وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، وكأني اسمعه وهو يقول: يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات غري غيري قد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كثير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق، قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء. فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك: فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها ولا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها.

ومما يجري مجراها ويتلوها في ذكراها قصة سودة بنت عمارة الهمدانية لما قدمت على معاوية بعد موت أمير المؤمنين علي ((عليه السلام))، فجعل يؤنبها على تحريضها عليه أيام صفين وآل أمره إلى أن قال: ما حاجتك فقالت: إن الله (تعالى) مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا يزال يقدم علينا من قبلك من يسمو بمكانك ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل ويدوسنا دوس الحرمل، يسومنا الخسف ويذيقنا الحتف وهذا بسر بن ارطاة قدم علينا فقتل رجالنا وأخذ أموالنا، ولو لا الطاعة لكان فينا عز ومنعه فإن عزلته عنا شكرناك وإلا كفرناك. فقال معاوية: إياي تهددين بقومك يا سودة لقد هممت أن أحملك على قتب اشوس فأردك إليه فينفذ فيك حكمه. فأطرقت سودة ساعة ثم قالت:

পৃষ্ঠা ১৩২